تكتب الباحثة الإيطالية أن أدب الخيال العلمي قادر من خلال سرد مستقبل محتمل، على الحديث عن الحاضر وعن الماضي، حيث لا يمكن تخيل المستقبل بدون خبرة الماضي. هكذا يتيح جمع الأسطورة والعلم رسم سيناريوهات يتم فيها اقتراح واستكشاف المعضلات الأخلاقية الأبدية للإنسان وأسئلته الوجودية الأبدية من زوايا جديدة.

تقاطعات العلم والدين والأساطير القابلة للتحقق

في رواية الخيال العلمي

إليـزا فـيريـرو

 

بعد جدال طويل وخلافات مريرة تم الاعتراف أخيرًا برواية الخيال العلمي نوعًا أدبيًا مستقلًا، لكن هذا الاعتراف لم يضع حدًا للجدل والخلاف حول هذا النوع الأدبي الجديد، فمازالت الخلافات محتدمة بين النقاد والباحثين حول تاريخ ظهوره وتعريفه العلمي الدقيق. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن رواية الخيال العلمي ظهرت في سياق الأدب المكتوب باللغة الإنجليزية. يتفق معظم النقاد مع الكاتب والناقد البريطاني "بريان الديس" على أن تاريخ ميلاد الخيال العلمي يبدأ من عام نشر رواية "ماري شيلي" فرانكشتاين، أي في عام 1818،[1] والتي أعقبتها في نهاية القرن التاسع عشر أعمال كاتبين عظيمين آخرين من كتاب رواية الخيال العلمي، وهما الفرنسي جول فيرن، مؤلف "رحلة إلى مركز الأرض" (1864) و"من الأرض إلى القمر" (1865)، والبريطاني إتش جي ويلز صاحب كتاب "حرب العوالم" (1898)، إلى جانب أعمال الأمريكيين إدغار آلان بو وآرثر كونان دويل.

رسخ الخيال العلمي نفسه كنوع أدبي جديد في 5 أبريل 1926، عندما أسس "هوغو غيرنسباك" Amazing "Stories، أو " قصص مدهشة" وهي أول مجلة أدبية مخصصة لهذا النوع من الأدب. سك غيرنسباك أيضًا المصطلح الجديد science fiction، أي أدب الخيال العلمي، والذي سيتم تداوله لاحقًا في جميع اللغات الأخرى.

في جنوب أوروبا وكذلك في العالم العربي، وصل الخيال العلمي متأخراً بحوالي ثلاثين عاماً، وفي تقديرات أخرى حوالي نصف قرن. في إيطاليا، على سبيل المثال، تم تدشين هذا النوع الأدبي وإقرار مصطلح الخيال العلمي في عام 1952 مع ولادة المجلة المتخصصة  Urania . أما في العالم العربي فإن أول عمل وصف بأنه أدب للخيال العلمي كان رواية "قاهر الزمن"، للكاتب نهاد شريف (1930-2011) والتي نُشرت عام 1972.[2] ومع ذلك، حتى بالنسبة للخيال العلمي باللغة العربية، لم يكن من الممكن تحديد التاريخ الدقيق الذي ظهر فيه مصطلح الخيال العلمي ومن كان أول من استخدمه.[3]

بعيدًا عن الجدل الدائر حول أول نص أسس لأدب الخيال العلمي بشكل عام أو في كل لغة على حدة، يتفق العديد من النقاد على وجود أعمال سبقت ما سيتم تعريفه لاحقًا على أنه خيال علمي لأنها تحتوي بالفعل على بعض العناصر المميزة لهذا النوع الأدبي الجديد. بالنسبة للخيال العلمي الأنجلو ساكسوني، يمكننا الاستشهاد برحلات جاليفر لجوناثان سويفت (1726)، وبالنسبة للخيال العلمي العربي "في سنة مليون" (1953) و"رحلة إلى الغد"  (1958) لتوفيق الحكيم وبالنسبة للخيال العلمي الإيطالي روايات "إميليو سالغاري" (1862-1911)، لكن العديد من النقاد يعودون إلى تواريخ أبعد من ذلك بكثير، مدعين أن جذور الخيال العلمي تمتد إلى الأساطير والحكايات الشعبية والقصص الخيالية، مثل قصص ألف ليلة وليلة، أو في أدب الرحلات، مثل  Il  Milione  لماركو بولو، ناهيك عن كوميديا دانتي أليغييري، وحتى القصص الواردة في الكتاب المقدس. بالتأكيد، تشترك كل هذه الأعمال مع الخيال العلمي في غرائبية عالمها. وهو ما جعل الكثيرين يؤكدون على انحدار الخيال العلمي من سلف مازال يتمتع بالحضور وهو الحكاية الخرافية،[4] ولكن هناك من يؤكد على أن هذا نوعًا مختلفا من الكتابة يمكن أن نطلق عليه "الحكاية الخيالية الحديثة" وهو مختلف تمامًا عن الخيال العلمي.

بعيدًا عن سؤال البدايات الدقيقة لنوع الخيال العلمي، والذي لا يمكن حسمه هنا بالتأكيد، يبرز سؤال: ما الذي يميز رواية الخيال العلمي عن  غيرها الأنواع الأدبية الأخرى وما هي القيم الجمالية التي تتركز عليها لتحقيق نجاحها؟

كما ذكرنا سابقًا، مازال  تعريف رواية الخيال العلمي موضع نقاش، حيث "لم يتمكن أحد من العثور حتى على تعريف دقيق بعض الشيء ".[5] ومع ذلك، من الممكن البحث عن سماته الأساسية والضرورية، والتي بدونها لن تكون رواية الخيال العلمي نوعًا أدبيً مستقلًا. لسنوات عديدة أهمل النقاد الأدبيون هذا النوع تمامًا، ولم يعتبروه أدبيًا على الإطلاق، بل نوعًا من السرد الثانوي المكتوب بهدف التسلية والهروب من الواقع، ويكون موجها في الغالب لجمهور الشباب من المراهقين. بالطبع، هذا النوع من الخيال العلمي موجود أيضًا، لكنه ليس النوع الذي نتحدث عنه هنا. فمثلًا إذا تناولنا رواية الخيال العلمي العربي نجد أنه، كما يؤكد روفين سنير: "يمكن تقسيمه إلى شقين: الأول يقدم ببساطة قيمة ترفيهية ويتم نشره لجذب عدد كبير من القراء ولضمان ربح سريع وسهل. أما الجزء الثاني فيمثل شكلاً من الأدب الذي يحاول بوعي الانتماء إلى السياق الجمالي الأدبي من خلال تقديم صياغات جديدة للكتابة دون أن تخرج عن قواعدها المقبولة والمعترف بها من المجتمع الأدبي الذي تنتمي إليه".[6] يمكن أن يكون هذا الحكم صالحًا لرواية الخيال العلمي العالمي وللأدب بشكل عام: المجال الأول هو الترفيه الخالص، والثاني هو الأدب بحد ذاته، وهذا الأخير هو الذي سنتناوله في هذه المقالة.

كان أول من حاول تعريف أدب الخيال العلمي بطريقة علمية هو هوغو غيرنسباك، الذي سك مصطلح الخيال العلمي وأسس مجلة Amazing Stories: "أقصد بالخيال العلمي نصوصًا مثل قصص Jules Verne، ومثل قصص HG Wells، و قصصEdgar Allan Poe. .. روايات رائعة ممزوجة بالحقائق العلمية والرؤى الجمالية والنبوءات ".[7] وفقًا لكينجسلي أميس، "الخيال العلمي هو ذلك النوع من السرد النثري الذي يتعامل مع المواقف التي لا يمكن أن تحدث في العالم المعروف اليوم، ولكن يمكن تصورها على أساس الابتكارات العلمية أو التكنولوجية سواء من أصل بشري أو خارج كوكب الأرض."[8] وفقًا لإدموند كريسبين، فإن "قصة الخيال العلمي تفترض مسبقًا وجود تقنية، أو تأثير تكنولوجي، أو تدخل في النظام الطبيعي، وهو الأمر الذي لم تختبره الإنسانية بشكل ملموس حتى وقت كتابة القصة."[9] في حين أن هذه الأوصاف لا تزال غامضة للغاية، إلا أنها تشير إلى العناصر الثلاثة المكونة للخيال العلمي: الخيال الذي يسحر، والعلوم، والرؤية الجمالية التي تتنبأ وتستشرف المستقبل. يجمع مصطلح أدب الخيال العلمي بحد ذاته عنصرين من هذه العناصر الأساسية: العلم والسرد الذي ابتكره الخيال. ومع ذلك، فهذه الأوصاف غير مرضية واختزالية، ويمكن أن تؤدي إلى تحيز متكرر آخر ضد الخيال العلمي، أي أنه مجرد منشور علمي في شكل سردي أو، بعبارة أخرى، أداة سردية تجعل تفسير الأفكار العلمية الجديدة والاكتشافات التقنية الجديدة أكثر سهولة وجاذبية، أو هو مجرد تأمل في دور العلم والتكنولوجيا في المجتمع البشري. يلعب هذا البعد بالتأكيد دورًا في الخيال العلمي وهو الذي يسمح لنا بالتمييز بين الخيال العلمي الصعب والخيال العلمي الناعم، أي بين الخيال العلمي الذي يولي اهتمامًا كبيرًا للدقة التقنية العلمية والخيال العلمي الأكثر اهتمامًا بالجوانب التاريخية والأنثروبولوجية والاجتماعية وأقل في المعقولية العلمية.

لكن لينو الداني، يحذرنا من ذلك المنحى حيث إن "الخيال العلمي ليس، كما يعتقد الكثيرون، علمًا متأنقًا في زي الخيال، بل العكس تمامًا، إنه خيال محض يتخفى بأقنعة صياغات عقلانية".[10] وبحسب نهاد شريف، أبو الخيال العلمي العربي، فإن "الغرض من هذا الأدب ليس فقط إيصال هذه المعلومات إلى الصغار والكبار على حد سواء، [...] ولكن دفع عقولهم إلى التفكير في آفاق أوسع وأكثر حرية تمامًا. "[11] وفقًا لعصام بهى، فإن الهدف الأساسي للخيال العلمي هو إطلاق العنان لخيال القارئ إلى أقصى حد (وفي هذا يبدو أقرب إلى التراث الشعبي والفلكلوري أكثر من التراث الأدبي الرسمي) وذلك لنقله [...] إلى عوالم غير عادية، أو لجعله يصل، من خلال الرسائل التي يحتويها الخيال العلمي، إلى عمق الجوهر العقلاني والروحي للقارئ نفسه ".[12] وبالتالي، فإن الخيال العلمي ليس فقط "صالة ألعاب رياضية مجهزة جيدًا بالفرضيات حول المستقبل"،[13] ولكنه يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير: يمكننا أن نقول بشكل معقول أن أعمق مرجعية للخيال العلمي هي المرجعية الفلسفية.

وفقًا لإريكو باسارو، "يرتبط الخيال العلمي، في خلق أكوان خيالية، ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة، أو، على الأقل، لأولئك المفكرين الذين، بمرور الوقت، يطمحون إلى إنشاء رؤية واسعة وممتازة ومتماسكة للعالم، هي إذن رؤية فلسفية أو "نظام" قادر على احتضان كل جانب من جوانب وجود الأفراد والمجتمعات ".[14] "وفقًا لنظرية النموذج المعرفي التي اقترحها "توماس كون" في كتابه "بنية الثورات العلمية" فإن أدب الخيال العلمي ليس إلا إبداع نماذج معرفية جديدة."[15] "منذ عدة سنوات، أصبح الخيال العلمي الأداة المثالية والمميزة للتحولات الغنوصية المتعلقة بالفلسفة التي تبحث في طبيعة المعرفة نفسها، وهي الحركة المعرفية التي سيطرت على ربع القرن الماضي."[16]

باختصار، الأسئلة والموضوعات النموذجية للخيال العلمي هي أيضًا الأسئلة والموضوعات النموذجية للفلسفة: "يمكن أن يشكل هذا تحديدًا قصة الخيال العلمي، وهي سلسلة من التجارب الذهنية القادرة على الاختبار، وأحيانًا افتراض وإظهار انتائج  بعض الأسئلة الفلسفية ".[17] يكفي أن نستشهد هنا بمثال من النص الذي افتتحه إسحاق أسيموف والذي يتعامل مع معضلات الروبوتيات ويمثل، في التحليل النهائي، انعكاسًا لما هو الوعي: "هل هناك خصوصية بشرية - وعي، أوشعور بالهوية، أو الروح، كما يدعوها عظيموف في قصة أنا الروبوت - تشكل فرقًا لا يمكن تجاوزه بين البشر وما صنعوه بأيديهم، أو هل من الممكن تصور تكنولوجيا تستطيع أن تقتحم ذلك البعد الذي تم اعتباره حتى الآن إنسانيًا خالصًا؟ "[18] السؤال إذن الذي يطرحه هذا النوع من السرد هو: ما هو الإنسان، وما الذي يجعله فريدًا، وما إذا كان من الممكن أن يتجاوز حدود وجوده أو أن يتغلب على الموت. ويقودنا سؤال الهوية إلى سؤال الآخر، الذي حاول أيضًا أدب الخيال العلمي الاشتباك معه من خلال من أعمال لا تعد ولا تحصى تتناول المواجهة مع حضارات غريبة تنتمي لعوالم أخرى.

ولعل أهم ما تناوله أدب الخيال العلمي هو الواقع نفسه، فقد طرح الكثير من التساؤلات حول بنية الزمان والمكان في الوعي والوجود وذلك من خلال الأعمال التي تحكي عن السفر بين النجوم، أو السفر عبر الزمن، أو الأكوان الموازية وتاريخ العالم البديل. ولعل أفضل من تناول كل هذه القضايا هو الكاتب فيليب ك. ديك (1928-1982)، مؤلف الكتاب الذي ألهم بشكل غير مباشر فيلم Blade runner الشهير حتى أن دايك تنازل عن حقوقه في الفيلم لاحقًا.

من الطبيعي أن يفضي هذا النوع من الأسئلة الوجودية إلى الفضاء الديني اللاهوتي، ولكن البعض يذهب إلى أن هذا لم يحدث في حالة أدب الخيال العلمي، حيث يدعي بعض النقاد أن الدين هو الغائب الأكبر في عوالم هذا النوع الأدبي الجديد، فثمة علاقة إشكالية بين مؤلفي الخيال العلمي والدين بصيغه وصياغاته المتعددة للزمان والمكان، كما أن كُتاب هذا النوع الأدبي كثيرًا ما يعلنون إلحادهم.[19]

إلا أن النصوص ذاتها تؤكد غير ذلك، فعلى الرغم من الخصام البادي على السطح بين العلم والدين الذي يجعل الخيال في كل منهما يمضي في اتجاه معاكس للآخر هناك العديد من الإشارات غير المباشرة للأديان وتاريخها مما يؤكد أن الخيال الديني والعملمي متقاطعان ويغذي كل منهما الآخر، نجد هذا في محاولات إثبات الإعجاز العلمي في النصوص الدينية، كما نجد أيضا في روايات الخيال العلمي توظيف للإشارات والرموز الدينية، كما هو الحال في سلسلة Dune التي كتبها فرانك هربرت، حيث كانت البيئة الصحراوية، ولغة السكان الأصليين، وقصة بطل الرواية تردد صدى قصة النبي محمد وعوالمها ذات الطبيعة العربية الإسلامية، كذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن أعطى إسحاق أعظيموف بطلي قصة الروبوتات اسمي نبيين من الكتاب المقدس، هما إيليا ودانيال.

مشكلة الخلق، وتمرد المخلوق على خالقه حاضرة باستمرار في الروايات التي تتناول الذكاء الاصطناعي للروبوتات والآلات. كيف لا نتذكر الروبوت في Blade Runner الذي يطلب من خالقه حسابًا لميتاته؟ تظل كل هذه الإشارات، مع ذلك، "اقتباسات"  وتناصات مع الخيال الديني وليس فرضيات حول مستقبل الديانات البشرية المعروفة اليوم. حيث إن مؤلفي الخيال العلمي لا يستطيعون تخيل مستقبل لهذه الأديان، رغم أن الجانب الديني حاضر بقوة من خلال المعضلات الأخلاقية التي يشترك فيها الدين مع الفلسفة. لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا، لأن الخيال العلمي، من خلال تخيل المستقبل، إنما يتحدث فعليًا عن الحاضر: "تشكل الروايات الواقعية (الخيال الواقعي) وصفا للواقع الحالي، من خلال إنتاج محاكاة له. الخيال التاريخي، من ناحية أخرى، يقدم تمثيل للواقع الراهن من خلال إنتاج محاكاة لتاريخه. الخيال الأدبي (Fantasy)، هو وصف للواقع الحالي من خلال صورة بديلة ممكنة له. وأخيرًا، هناك الخيال العلمي الذي يهدف إلى وصف الواقع الحالي من خلال الاستقراء لمستقبلها الافتراضي مبني على فرضية خيالية".[20]

"في نهاية المطاف، فإن أدب الخيال العلمي متجذر في واقعه، ومرتبط بعصره حيث  من خلال الأحلام والتوقعات والمخاوف لجيل معين."[21] ولعل هذا يفسر لماذا كان الخيال العلمي حتى الخمسينيات من القرن الماضي أقرب إلى اليوتوبيا، وعندما أصبح الحلم بمستقبل أكثر إنصافًا وديمقراطية موضع تساؤل وشك متزايد، تحرك الخيال العلمي نحو الديستوبيا وانتقاد المجتمع الحالي متنكراً في صورة خيال عن المستقبل،[22] متبعًا نماذج من أول أعمال الديستوبيا العظيمة مثل "عالم جديد شجاع" (1932) لألدوس هكسلي، 1984 (1949) لجورج أورويل و"فهرنهايت 451" (1953) لراي برادبري. أدب الخيال العلمي اليوم، تحت تأثير التغيرات المناخية، والكوارث الاقتصادية، ومؤخرًا الوباء، يبدو مهتمًا بشكل متزايد بنهاية الزمان، حيث يتحول إلى خيال علمي أكثر ترويعًا من أساطير القيامة الأخروية وما تفننت في تصويره من عذابات ومصائر مظلمة.[23]

يتناول الخيال العلمي المستقبل من أجل الحديث عن الحاضر ويفعل ذلك موظفًا لغة الأسطورة المحتشدة بالرمزية التي يمكن أن تتعامل مع الموضوعات الفلسفية العظيمة في جميع الأوقا، لأن " الخيال العلمي معرفة ذات مفتاح أسطوري، تمضي في اتجاه يتتبع بدقة الدور الذي لعبته الأسطورة في التكهنات الفلسفية منذ أفلاطون".[24] ومع ذلك، فإن الأسطورة موجهة إلى المستقبل وليس إلى الماضي.

قد نتساءل بعد كل هذا ما الذي ينجزه الخيال العلمي بالضبط ولا ينجزه جنس أدبي آخر، و ربما أيضًا بعمق وإتقان أكبر. فحكاية بينوكيو  على سبيل المثال تتساءل عن ماهية "الإنسان"،  والعلاقة بين المخلوق والخالق، والهوية والآخر بنفس القدر الذي تتناول به روايات عظيموف ذات القضايا من خلال الروبوتات، ما الذي يميز الخيال العلمي إذن؟ تكمن الإجابة في الطابع التنبؤي للخيال العلمي الذي يستمده من القدرة التنبؤية للعلم. لا أحد يتوقع أن تتحقق قصة بينوكيو، لكن التطورات العلمية في مجال الذكاء الاصطناعي موجودة أمامنا لتظهر لنا أن أخلاقيات الروبوتات (المتعلقة بالروبوتات أو بالعلاقة مع الروبوتات) ستكون يومًا ما حقيقة يومية للإنسانية. ليس من قبيل المصادفة أن الخيال العلمي ولد نتيجة الثورة العلمية والصناعية ثم أصبح "أدب القرن العشرين".[25] من بين أمور أخرى، هذا يفسر أيضًا تأخر وصول أدب الخيال العلمي إلى أماكن مثل إيطاليا والعالم العربي: " رواية الخيال العلمي ابنة الثورة الصناعية، والخيال العلمي بلا شك منتج "غربي" يصل متأخرًا، خاصة إلى البلدان الأقل نموًا، بنفس درجة التأخير الذي وصلت به الابتكارات العلمية والتكنولوجية التي ولدت خلال هذا الحدث التاريخي ".[26]  يفسر الطابع "الغربي" للخيال العلمي أيضًا الرفض المبدئي لهذا النوع الجديد من قبل النقاد العرب: "رواية الخيال العلمي الحديثة هي، إلى حد بعيد، بالنسبة للعالم العربي، شكلًا أدبيًا مستوردًا، وهو التطور الأكثر إثارة للجدل والمدهش لذلك. النوع الذي صنعه الثقافة العربية بعد أن حدث تأثير الحداثة في عصر النهضة ".[27] لقد استغرق العالم العربي بعض الوقت "لإعادة صياغته، بدعوى الخصوصية ومحاولة التغلب على أشكال الهيمنة الثقافية".[28]

سمحت القدرة التنبؤية للعلم لأدب الخيال العلمي بالتطور من خطاب أسطوري فلسفي بحت حول المستقبل إلى نبوءة قابلة للتحقق في المستقبل، وهنا تكمن قوة وجاذبية أدب الخيال العلمي على وجه التحديد في قدرته على انتاج صورة للمستقبل تحمل في داخلها كل أسباب تحققها وتحولها إلى واقع، وهو ما يجعلها مختلفة عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى. فأدب الخيال العلمي قادر، في نفس الوقت، ومن خلال سرد مستقبل محتمل، على الحديث عن الحاضر وعن الماضي، حيث لا يمكن للمرء أن يتخيل المستقبل بدون خبرة الماضي. هكذا يتيح الجمع بين الأسطورة والنبوة والعلم للخيال لهذا الجنس الأدبي رسم سيناريوهات يتم فيها اقتراح واستكشاف المعضلات الأخلاقية الأبدية للإنسان وأسئلته الوجودية الأبدية من زوايا جديدة.

 

[1] B. W. Aldiss, Billion Year Spree: The History of Science Fiction, Doubleday, 1973. Aldiss's view is also shared by Brian Stableford (Proto Science Fiction, in P. Nicholls, J. Clute (eds.), The Encyclopedia of Science Fiction, vol. 2, Granada, St. Albans, 1979, pp. 476-478) and Paul Alkon (Science Fiction Before 1900: Imagination Discovers Technology, Routledge, London 1994, p. 1), while Patrick Parrinder (Science Fiction: A Critical Guide, Longman, London-New York, 1979, p. 11) locates the first work of science fiction in H.G. Wells' novel The War of the Worlds.

[2] A. Barbaro, Marginality as A Genre: Science Fiction in Arabic Literature and the Case of the Egyptian Writer Nihād Šarīf, in Marges et marginalité dans la littérature arabphone contemporaine, Finnish Academy, Helsinki, 2012, pp. 37-47.

[3] محمد أحمد مصطفى، أدب الخيال العلمي العربي: الراهن والمستقبل، مجلة النقد العربي الفصول، ٧١، صيف-خريف ٢٠٠٧، ص ٧٨-٩٧.  

[4] H. Warner Jr., A Wealth of Fable: The History of Science Fiction Fandom in the 1950s, Fanhistorica, New York 1976; A.I. Berger, The Magic That Works: John W. Campbell and the American Response to Technology, Borgo Press, San Bernardino 1993.

[5] C. Fruttero e C. Lucentini, Introduzione in AA.VV., L’ora di fantascienza, Einaudi, Torino 1994, p. VI.

[6] R. Snir, The Emergence of Science Fiction in Arabic Literature, in “Der Islam”, 2000, pp. 263-284.

[7] H. Gernsback, dal primo editoriale di Amazing stories, aprile 1926.

[8] K. Amis, Nuove mappe dell’inferno, tr. It. Bompiani, Milano 1962, p. 23.

[9] E. Crispin, Introduction, in AA.VV., Best sf: Science Fiction Stories, Faber and Faber, London, 1955, p.9.

[10] L. Aldani, La fantascienza, La Tribuna Editrice, Piacenza 1962, p. 4.

[11] N. Sharīf, Al-dawr al-ḥayawī li-adab al-khayāl al-‘ilmī fī thaqāfatinā al-‘ilmiyya, Al-maktaba al-akādīmiyya, al-Qāhira, 1997, p. 31.

[12] ‘I. Bahà, Al-Khayāl al-‘ilmī wa-ru’à al-mustaqbal, in “Majallat al-naqd al-adabī al-Fuṣūl, 2, gennaio-febbraio-marzo 1982, p. 59.

[13] G. O. Longo, Il robot tra scienza e fantascienza, in Filosofia della fantascienza, Mimesis Edizioni, Milano – Udine 2018, p. 54.

[14] E. Passaro, La filosofia di Dune, in Filosofia della fantascienza, Mimesis Edizioni, Milano – Udine 2018, p. 67.

[15] A. Tortoreto, Filosofia e fantascienza, in Filosofia della fantascienza, Mimesis Edizioni, Milano – Udine 2018, p. 16.

[16] F. La Polla, Fantascienza: dal presente al futuro, in Filosofia della fantascienza, Mimesis Edizioni, Milano – Udine 2018, p. 59.

[17] A. Tortoreto, Filosofia e fantascienza, cit., p. 16.

[18] C.S. Bertuglia, F. Vaio, Complessità e modelli, Bollati-Boringhieri, Torino 2011.

[19] F. Mendlesohn, Religion and Science Fiction, in E. James, F. Mendlesohn (eds.), The Cambridge Companion to Science Fiction,Cambridge University Press, Cambridge 2003, pp. 264-275.

[20] H.B. Franklin, Future Perfect: American Science Fiction of the Nineteenth Century, Rutgers University Press, New York 1995, p. 3.

[21] C. Pagetti, Il senso del futuro, Mimesis, Milano 2012, p. VIII.

[22] S. Torres, Les temps recomposés du film de science-fiction, L’Harmattan-Les Presses de l’Université Laval, Paris 2004.

[23] D. Arona, L’ossessiva frequenza dei segni e dei sogni, in Filosofia della fantascienza, Mimesis Edizioni, Milano – Udine 2018, p. 179-192.

[24] A. Tortoreto, Filosofia e fantascienza, cit., p. 16.

[25] Maḥmūd Qāsim, Al-Khayāl al-‘ilmī, adab al-qarn al-‘ishrīn, Al-hay’a al-‘ilmiyya al-‘āmma li-l-kitāb, al-Qāhira 1993.

[26] A. Barbaro, La fantascienza nella letteratura araba, Carocci editore, Roma 2013, p. 83.

[27] A. Barbaro, La fantascienza nella letteratura araba, cit., p. 74.

[28] A. Barbaro, La fantascienza nella letteratura araba, cit., p. 83.