تبنى الضباط الذين تولوا الحكم فى أعقاب حركتهم فى 1952 الاتجاه الاشتراكى، الذى منه انبثق الاتجاه الشيوعى، وحارب الإسلاميون. حيث كان المد الشيوعى اللينينى والماركسي، فى قمة جذوته، فرأى الكثير من الشباب فيه، الخلاص مما يعانيه، من فقر وحاجة، والخروج إلى الحياة التى يتطلعون إليها. ولما حاول السادات التحول - برؤية مغايرة- من الاشتراكية، المحمولة بالكثير من الأحقاد والضغائن، وقف الشيوعيون، فى مواجهة السادات، فافرج عن الإسلاميين، الذين كان النظام السابق قد وضعهم فى السجون، للوقوف فى مواجهة الشيوعيين.
وفى 25 فبراير 1986 وفى أثناء حكم حسنى مبارك، أو المرحلة الثالثة من حكم الضباط لمصر – إذا ما استثنينا المرحلة المؤقتة التى تولى فيها محمد نجيب زمام القيادة (يونيو 1953 – نوفمبر 1954)– قامت ما يمكن تسميتها بثورة الأمن المركزى، والتى خرج فيها الناس للشوارع، تخريبا ونهبا للمحلات والكازينوهات، بما يعتبر من أكثر ثورات (البروليتارية) والمعبرة عن ثورة الجياع، مثلما أطلق عليها السادات بعد الأحداث المشابهة فى 17-18 يناير 1977، حيث أطلق عليها انتفاضة الحرامية.
ويتضح من تلك المسيرة، نشوء حركة الجياع، مع قيام حركة الضباط ، واستمرارها عبر مسيرتها الممتدة، مع ما تعرضوا له من عذاب الجوع ، خارج الأسوار، وعذاب السجون والمعتقلات، داخل الأسوار. وتلك هى مسيرة احدث روايات المبدع "عمار على حسن" "آخر ضوء" المنشورة مسلسلة بجريدة المصرى اليوم بدءً من الأثنين 31 أغسطس 2020.
ففى عطلة الدراسة بعد السنة الأولى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. أراد السارد الهروب من معاملة أمه التى بلا قلب .. فذهب إلى رأس البر، هاربا، وهناك عمل فى أحد الكازينوهات، بخمسة وعشرين قرشا فى اليوم، يأخذ منها عشرة، فى نهاية اليوم، والباقى فى نهاية الموسم. غير أن أحد العاملين معه من العمال، اراد أن يحصل على باقى ما له، خمسة عشر جنيها، فكان جزاؤه الضرب والمد على القدمين، والتوقيع على إيصال باستلامه المبلغ، الذى لم يتسلمه، فشعر السارد بالظلم الواقع على زميله، دون أن يستطيع الدفاع عنه { ومن يومها لم تفارق عيناه مخيلتي. أبرم معي في نظرة واحدة عقدًا إلى الأبد، أن أكون لأمثاله، بذهني وخواطري، وبما أقول وما أفعل}. فنبت الفكر الشيوعى فى أعماقه، مدعوما بما عاشه مع والده
{ وحين جاء الدور عليَّ وجدتني أتحدث عن أبي. العامل البسيط، البارع في أعمال السروجية، والذي ضاق به الشارع، فقدم مهارته إلى الجيش فقبلها منه، لكنه أخذه بعيدًا إلى اليمن، حيث الجبال الوعرة والخناجر والرصاص والغربة القاسية، وحزنت لبعده عني، وتركي وحيدًا في مواجهة أم لا يلين لها قلب، حتى وهي ترى دموعي تجري على خدي، وعينيَّ مسكونة بالألم}. حيث تنضاف ماعاناه من الغربة، عن الأب الذى إقتيد إلى ما لا ناقة له فيه ولا جمل، وعن الأم التى فقدت الحنان، وعطف الأم. فارتمى فى حضن الأفكار والثورة على القائم، فانتقل للعيش فى شبرا، حيث مصانع ومعقل العمال، ليعايش العمال، ويسعى لإنشاء خلية صغيرة، لينبت له عقربا آخر يلدغ وجوده، وهو رؤية من تحمسوا للفكر والفكرة، نظريا، وعندما يأتى التطبيق العملى، يرى وجها آخر { سنعيش هنا في "شبرا الخيمة" ونعمل بكامل طاقتنا من أجل تجنيد عمال، لينضموا إلى خليتنا.
"منير" ذهب يحضر أغراضه، ولم يعد. و"معتز" مكث ثلاثة أيام يبحث عن عمل، فلم يجد، وحين وجد لم يرض بما أتيح له. أما "فريد" فقد اشتغل أـسبوعًا واحدًا، واحمرَّت يديه، وكلَّ ظهره، فقال لي في اليوم الأخير: ـ لا أقدر على الاستمرار هنا}. وتمضى به التجربة، والمزيد من الإندماج وسط ذلك التيار، وتتأكد الرؤية عن ذلك الفكر، وهو ما يدونه فى ذكرياته التى يدونها على ورق البفرة، داخل السجن { ولم أكن بعيدًا عن هذه الطريق أبدًا، بل كنت من أكثر الرفاق سيرًا فيها. في أوله كانوا جميعًا يتحدثون عن عزمهم الذي لا يلين، وتضحياتهم التي لا حدود لها، في سبيل أن تنتصر فكرتهم، وتجري بين الناس، لتصل إلى الغاية المنشودة. بعضهم قطع ثلاث خطوات فقط ثم استدار وعاد هاربًا، وبعضهم تحامل وقطع خطوات أبعد قليلًا، لكنه نكص وفر، عائدًا إلى الثرثرة}. ذلك فى الوقت الذى إعترف فيه بخيانته لأفكاره، على أرض الواقع، عندما ذهب للانغماس فى تجربة طبقة البروليتارية بشبرا الخيمة، فتسبب فى انتحار "سلوى" التى أحبته، وأنكر أمامها علاقته بالأرملة ساكنة الدور العلوى بالبناية، لتكتشف هى تلك العلاقة واستغلاله للفرصة المتاحة، لتقول له فبل أن تنتحر: {"أنت مستغل يا من تحارب المستغلين"}.
ويدخل "عبد الخالق حسن" بين جدران السجن، ليلقى من المعاملة ما يفوق قدرة البشر، وتتكشف الحقائق التى غَمُضت عليه، خاصة عن رؤية زميله بالكلية، وغريمه فى حب "أمينة"، "عاصم شداد"، أحد أفراد الجماعات الدينية المتطرفة، والذى إعتبره غريمه فى حب "أمينة"، وظن أن بينهما ما يخفيه –عاصم- ويؤرق نومه، خاصة بعد أن جاء التحول الساداتى من الفكر الشيوعى الذى كان قبله، إلى الإسلامية التى حاول بها الحرب على الشيوعيين { كنت أصارع "عاصم" ومن معه على عقول الطلاب، لكن أصحاب اللحى كانوا يكسبوننا بالنقاط في البداية، حتى اكتسحونا بعد أن جاء من وضع في أيديهم كل شيء، وسرق منا كل الأشياء، وتركنا حيارى على قارعات الطرق، فالسلطة التي كانت تميل يسارًا قليلًا، مالت يمينًا كثيرًا، وصار أصحاب اللحى أصدقاءها المقربين}. بينما تتكشف الحقيقة التى غابت عنه، فى إعترافات "عاصم" على أوراقه التى خبأها تحت بلاط السجن، ليقرأها "عبد الخالق" وليتأكد له أن "عاصم" ذاق نفس الكأس التى ساقهم إليه، بالإبلاغ عنهم للسلطات، وليكتشف "عبد الخالق" أنهما معا، لم يكونا إلا ضحية النظام، فى الحالتين فيعترف "عاصم" فى أوراقه {"صعَّرنا خدنا لأولئك الذين استعملونا عصا غليظة لضرب خصومهم، وبعد أن تخلصوا منهم استداروا إلينا، فأصبحت، أنا الذي كنت أدخل مكاتب رجال السلطة كطاووس، أشبه بحشرة ملقاة إلى جانب هذا الجدار المظلم، بل إن الحشرة مطمئنة إلى أجلها أكثر مني، فأنا أنتظر حكم الإعدام في أي لحظة، وأدرك أنه آت لا محالة، وإن رأفوا بي فتأبيدة، مع أنني ضحية في كل الأحوال، ضحية فقري، وطفولتي البائسة، والتنظيمات التي لا ترحم، وسلطة لا قلب لها تتلاعب بالجميع، ورجال عاشوا في القرون البعيدة، وتركوا لنا ما يأسرنا"}. وهو ما يقودنا إلى النهاية الحتمية، التى دمرت المجتمع، حين دمرت نفسية شبابه، داخل المعتقلات والسجون. فبعد أن كان "عاصم" قد مات تحت قسوة التعذيب بالسجن، وعندما تقرر خروج "عبد الخالق" منه، حاول الصول "مسعود"، التبرير أمامه بأنه لم يشأ أن يعذبهم، ولكنها الأوامر، وانهم يختلفون عن الجنائيين، وأنهم أناس محترمون، ومن الممكن أن يكون منهم الوزراء والقادة، ليستحضر "عبد الخالق" صورة "ميخائيل جورباتشوف" زعيم الكيان الشيوعى، والذى كان قد تولى الحكم في الاتحاد السوفيتى من منتصف الثمانينيات، وحتى سلم البلاد وقد تفتت الاتحاد السوفيتى، وأعلن إفلاسه فى 1991، لتتفجر السخرية من قول الصول "مسعود" ويبلغ "عبد الخالق" قمة يأسه ومرارته { وكتمت أنا ضحكة كانت تريد أن تنفجر في وجه الجميع، ووددت لو أخرجت لهم لساني، فنحن سنخرج من هنا إلى الفراغ، ولن يكون بوسع أي منا سوى أن يكابد من أجل أن يكسب قوته وقوت أولاده. أما ما يعتقد فيه الصول "مسعود" فقد ولى زمنه. ولو أنه رأى "الرفيق الكبير" ذا الوجه الأحمر وهو يقف مطأطأ الرأس، ثم يتقهقر صامتًا إلى الوراء، ما تصور أبدًا أن أحدًا من الذين كانوا يصرخون تحت ضرباته الموجعة سيكون ذات يوم من أهل الحكم}. وليعتبر "الرفيق الكبير" ذا الوجه الأحمر، رمز الزعماء، ورمز إنهيار الشيوعية، وفشلها فى التواجد على الأرض، ويصبح على "عبد الخالق وأمثاله، ألا يفكروا مرة أخرى خارج نطاق البحث عن لقمة العيش، وهو كل ما أرادته الأنظمة الحاكمة منذ العام 1952، التى أدت إلى موت السياسة، وإنحسارها فى دائرة ضيقة، ولفئة محددة.
التقنية الروائية
على الرغم من إتكاء الكاتب على الكثير من التواريخ، والإشارات الواقعية، والتلامس مع الواقع، بما فيها ذكر الكلية التى درس فيها، متعمدا، وذات دلالة –سنتعرف عليها- إلا ان الخيال الإبداعى لعب دورا أساسيا فى معمار الرواية، وإحكام دلالتها، لتعطى القارئ فى النهاية رؤية واضحة، وجريئة، ليست مستغربة على مسيرته الكتابية بعامة. يأتى فى مقدمتها، إختلاق شخصية "أمينة"، التى لم يلتق بها السارد، لقاء مباشرا، أو يعرف عنها شيئا، أو غريمه، الهائمان بحبها، لتظل نجمة فى العلالى، تهفو إليها القلوب وتخفق، وكأنها نجم فى العلالى، لتقف مع الأم وتصرفاتها الغريبة، وغير المنطقية – على أرض الواقع- ليدفع القارئ بذلك إلى النظر إليهما، بصفتهما الرمزية.
فإذا كنت العادة قد جرت، ان نشير إلى شخصية من شخصيات العمل، لنتعرف على رمزيتها، بعد أن نخرجها من حالتها البشرية، غير أن الكاتب هنا، خالف المألوف، وصنع من شخصيتين، رمزا واحدا، وهو الأم والحبيبة معا، حيث مثلت الأم، تلك الرؤية التى تعبر عن التجاهل، وفقدان العاطفة، تجاه من كان يجب أن تمنحها له، وكأنه تعبير إبداعى عن الغربة التى يشعر بها من يسعى إلى من يظنه ملجأ الأمان، فلا يجد منه إلا الصدود والتجاهل. ولم يكن ذلك الملجأ إلا مصر، بوضعها الذى حددته الرواية، التى أعرضت عمن سعى إليها وأراد لها الخير، فما كان منها إلا التجاهل، وفقدان التعاطف،. ولنا أن نتصور أم، تعلم أن ابنها يُعذب فى الحبس، ولا تشعر تجاهه ، ولو حتى بالتعاطف، حيث تعددت صور تجاهلها، إن لم يبلغ الشماته: { جاءني وجهها في عتمة الزنزانة التي قد أخذت تروق قليلًا، وملأ أذناي أذاها. كانت عيونها حمراء، وشعرها صار أشواكًا مسنونة، تمزع السواد. أخذت تقترب مني في حذر، وأردت للمرة الأولى أن ألقي بكامل جسدي نحوها، وأطلب منها أن تضمني في حنان، لكنها ابتعدت، وجفلت مني كعادتها، ورأيتها تتفحم كأنها في نهاية احتراق سريع، فتزيد العتمة سوادًا، لتلفني تمامًا، وتخفي عني بعض أحزاني الدفينة .... لم أعد أرى قدميَّ ولا ساقيَّ ولا جذعي المكدود، ولا ذراعيَّ الخامدين. لم أعد أراها. جاءت وسحبت حبات النور الشحيح من المكان، واختفت، وسط قهقهات مدوية، ظلت ترن في أذنيَّ. كانت تسخر مني، وكان عليَّ أن أعاندها، دون أن أنطق بما يغضبها، حتى لا تزيد في عقابي.
عاندتها وحيدًا لكن لم يكن بوسعي هنا فعل ما كنت أفعله في طفولتي، حين كانت تطردني من البيت، وتقول لي آمرة: ـ اذهب إلى أبيك.}.
{ أمي كانت تسخر مني دومًا، وتقول:ـ آخر مشوارك "صول مخلة" زي أبيك}.
ليستدعى كل ذلك كلمات الشاعرة " نور عبد الله" التى عبرت فيها عن مصر العجيبة، المتناقضة والمعاندة لأبنائها المحبين المخلصين.
"بالورقة والقلم"
خدتينى 100 ألم انا شفت فيكى مرمطة وعرفت مين اللى اتظلم
عارفة سواد العسل اهو ده اللى حالك ليه وصل
ازاى قوليلى مكملة وكل ده فيكى حصل
يا بلد معاندة نفسها يا كل حاجة وعكسها
ازاى وانا صبرى انتهى لسة بشوف فيكى امل
وعلى التوازى، تأتى صورة "أمينة" الخيال الذى يحلم به. الصورة التى يرى مصر عليها، والتى تتجسد فى عينيه، خاصة داخل جدران السجن، وكأنه يرسم الصورة المتناقضة، بين الحلم والحقيقة، بين الواقع والخيال، وكأن مصر انقسمت إلى مصر الواقعية (الأم)ن ومصر المرجوة (الحبيبة- أمينة) { كانت خطوط الدم القديم تتماهى مع قشور الطلاء الكالح، لتبدو لي وجه فتاة جميلة، تنظر إلىَّ البعيد. تزحزحت من مكاني حتى أصبحت في مواجهتها، ونظرت مليَّا في ملامحها الدقيقة فرأيتها كما أود أن أراها. إنها هي تلك التي سكنتني ولا تغادرني في أحزاني وأفراحي}.
ويعدل الكاتب فى صورة الفتاة التى راها (تخيلها) – حيث يصبح الخيال هو الواحة التى يلجأ إليها المسجون - من ثغرة فى جدار الزنزانة، فرأى فيها "أمينة" التى غادرت فجأة، ولم يعد لها من عنوان :
{ لكن الشقفة كانت قاسية على وجه "أمينة"، فنحيتها جانبًا، ولجأت إلى ظفري الطويل، فرحت أخط به خفيفًا شعر رأسها وجبينها الوضاح، وأنا منكب على الجدار كأني أؤدي آخر عمل لي في الدنيا، يتفصد عرق غزير من جلدي، وشفتيا مزمومتان في حسم، ويدي مصوبة نحو هدفها في ثبات، وصدري منشرح لأنني ساستعيد "أمينة"، لتؤنس وحشتي}.
وتظل "أمينة فى عيون "عبد الخالق" { كنت عاجزًا عن النظر طويلًا إلى عينيها، وكلما هممت أقعدني قهري، فقري، ووجه أمي الذي كان دومًا يظهر بيني وبين "أمينة"، فيحجبها عني}.
{"هل كل شيء لديَّ يدور حولك يا "أمينة" حتى لو كانت أوراقًا مجهولة في زنزانة لم ولن يدخلها أمثالك أبدًا؟"..}.
ويزيد الغريم "عصام" الصورة قدسية، حين يقول عنها {"كانت تأتيني في أحلام الليل، من كثرة اشتهائها في ساعات النهار، لكنها في كل مرة لم تمنحني نفسها. كانت تهرب، أو تتحول إلى فتاة أخرى، أو حتى شجرة أو حجر، وكنت أكمل الحلم متقلبًا في عذاب شديد، وحين أصحو في الصباح، أجد ريقي جافًا، وسروالي مبتلًا"}.
أمينة التى يكتشف من أوراق غريمه أنها لم تكن لهذا الغريم يوما، ولم تقع فى الخطيئة مطلقا، أمينة التى يلمس السارد فى نهاية الرواية، بعض وجودها البشرى، وما يكشف عن رمزيتها، حين يخبره الصول "مسعود" قبل أن يغادر، بانه تعرف على "أمينة" التى تم إجراء تحرى عنها، طبقا للمتبع، بعد أن تعرفوا على الخطاب الذى تركه "عصام" إليها، فوجدوا أنها حسنة السير والسلوك، ولم يثبت من التحريات أن لها علاقة بعصام (التيارات الدينة) أو بغيره (التيارات الشيوعية) ليسأله السارد عن عنوانها، فيخبره الصول بأنه لا يعرف لها عنوان { هل عرفت عنوانها؟
ـ لا، لكن عرفت أنها مطلقة، وترعى طفلين، ولد وبنت. كانت زوجة ضابط شرطة، وأساء معاملتها، ضربها وأهانها، خاصة حين كانت تنتابه حالات هياج عصبي شديد. دخل إلى مصحة نفسية، وعادت هي إلى بيت أبيها}. وكأننا امام إشارة تدين كل الفترة الممتدة منذ أن تولى الضباط حكم مصر.
ويعمق عمار شخوص روايته، حين يدفن رؤيتهن فى متن الرواية، دون أن ينزلق إلى التقريرية، أو المباشرة، حين يوحد بين السلطة، والمعارضة، باجنحتها المتعددة، حيث البدايات المتعثرة، ومعاناتها مع سبل العيش، التى لم تكن ميسرة. فنجد أن بدايات "عاصم شداد" المنتمى للتيارات المتشددة، وما يكشفه "عبد الخالق" من خلال قراءته لأوراقه ، وما يكشف عن كيفية صناعة الإرهاب { انحسر النور عن الزنزانة، وبدت السطور أكثر غموضًا. كان ما قرأته طيلة الساعات التي أعقبت حديثي مع "أبو شوشة" يحكي عن أيام بائسة لطفل تعصره ظروف قاسية، وغلام بارع في كتم أشواقه إلى كل لذيذ في الحياة، وأب سكير لا شغل له إلا الغياب عن الوعي، الذي يجعله يهيج ويضرب أولاده الذكور الأربعة بلا رحمة، وأم طيبة عاجزة عن حمايتهم}. وكذلك ما يقوله عن نفسه، فى أوراقه، الكاشفة عن طبيعة وأخلاق تلك الجماعات، التى عراها الكاتب فى أعمال روائية سابقة {"هذه أخر كلمات أكتبها، ولا أعرف كيف أقدر على كتابتها، لكنني سأكتبها لأتطهر، أو هكذا أظن. أنا شخص عاش في هذه الدنيا على الهامش، رغم ما يبدو عليَّ من جبروت. كنت أضعف من قشة في مهب الريح، ولهذا أطلقت لحيتي لأقوي نفسي بهؤلاء الذين يخاف منهم الكل، ويسترضيهم الحاكم، لكن لم أكن أعرف أنني أدخل المصيدة لأذهب إلى حتفي، فالحاكم أعطاهم ظهره، وبان لي أن قوتهم كانت فقط في حناجرهم الغليظة، وهنا في هذه الزنازين عرفت أنني ضعيف، وكان الوقت قد فات كي أرجع عنهم، فحين قدموني في صفوفهم لأنني كنت ماكرًا جدًا، وأعرف من أين تؤكل الكتف، كان من الصعب أن أخرج عنهم، وإلا قتلوني. خفت وترددت حتى قتلني غيرهم قتلة غير رحيمة. هم كانوا سيرمونني بالرصاص وينتهي الأمر، أما هنا في قلب العتمة والعفن والضيق، قتلوني ألف مرة}.
ولم تكن بدايات " عبد الخالق" بافضل من تلك البدايات، حيث يثربها الكاتب على مراحل خلال الرواية ، كاشفا عن ذلك البؤس الذى عاشه والده { ـ كل ما يدخل لي يذهب على بطونكم ومدارسكم، وامتلاك ورشة يحتاج إلى رأس مال، كما أنني في سن لا تتحمل المغامرة، على الأقل إن مت أو أصابني عجز الآن، سيصرف الجيش لي معاشًا}. { كان يأتي ويحكي لنا ونحن متحلقون على طبلية العشاء عن كل ما يجري له، وكانت الدموع تختنق في عينيه وصوته أحيانًا، فيكفكفها متصنعًا الابتسام. كنت أراه منكسرًا، وهناك دومًا ما يضغط عليه ليكسره، يكسر روحه وجسده، لكن لم يكن أمامه أي خيار آخر}.و { وكانت تعجبني حكمته التي أتته من كثرة الصمت حيال ثرثرة أمي، وقبلها مع مغزله وخيوطه، منذ أن كان صبيًا يعمل سروجي في ورشة كبيرة بـ "الدرب الأحمر" إلى أن وجد وظيفة بالجيش لمهارته في مهنته، التي مكنته فيما بعد من أن يدخل مكاتب بعض القيادات، ويسعى من خلالهم إلى إلحاقي بالكلية الفنية العسكرية، لكن الأيام أخذتني في طريق مختلفة}. وفى إشارة إلى جفاف الأم، عندما يكتشف الأب أن ابنه قد تقدم لكلية الاقتصاد، فيلجأ لأول مرة إلى الاستنجاد بالأم، ليكشف مدى ذلك الجفاء، وخشونة حياة الطفل الذى لم يكن طفلا { ـ هذا آخر دلعك فيه.
ابتسمت أنا متعجبًا من قولها، فأنا لم أدلل في أي يوم، وعشت شيخوختي في طفولتي، ويا ليتها كانت هانئة مع هذه المرأة، التي تحط في صدرها صخرة من جبل المقطم}.
فلم تكن المعارضة إذن، إلا رغبة فى الخروج من الضيق، إلى الاتساع، رغبة فى تحقيق العدل، والبحث عن المساواة. وهو ما لا يختلف عن تلك المبادئ التى أعلنها الضباط، حين أمسكوا بالحكم، الرغبة فى التغيير، وهو ما عبرت عنه رغبة "عبد الخالق" أمام لجنة كشف الهيئة حين أرغمه والده على التقدم للكلية الفنية العسكرية، دون أن ينطقها، حين سألوه عن سبب تقدمه {بلعت لساني الذي كان يريد أن يقول لهم بكل صراحة:
- "أريد أن أقلب نظام الحكم"}. وكذلك ما يقوله حين يكتب ذكرياته { لم أشأ أن أرده خائبًا، جاريته وأنا منقسم بين نفسي وبينه، وداخلي كان هناك انقسام آخر، فقد كنت أريد أن ألتحق بكلية مدنية، أدرس فيها علمًا يعمق معرفتي بالحياة، ويضمن لي موقعًا مرموقًا في المستقبل، وفي الوقت نفسه كنت لا أريد أن أغضب أبي، وأحلم، دون أن أخبره بحلمي، بأن أكون ضابطًا كبيرًا بوسعه أن يقود عددًا من زملائه للاستيلاء على السلطة، وإعادة ما فعله الضباط الأحرار في يوليو 1952، بعد أن أتى واحد منهم انحرف عن طريق الانحياز إلى من أعيش بينهم}، وإن كانت الإشارة هنا تُلمح إلى السادات، إلا أن رأيا آخر قد يرى أن المرحلة السابقة (أفقرت الغنى، ولم تُغن الفقير)، إلا أن حرية الكاتب تظل قائمة. وحين يتحدث عن رغبة والده فى إدخاله للسلك العسكرى، بينما فضل هو كلية الاقتصاد والعلوم السياسية {كان ينثر حكاياته، وأنا أجمعها من فمه، وأرتبها في عقلي، فتزيد المسافات بيني وبين رغبتي في الالتحاق بالدراسة العسكرية، لأصير ضابطًا بالجيش.
لم يعد هذا المسار خياري الأول، وارتضيت بالنضال السياسي بديلًا عن الانقلاب العسكري}.
وهو ما نرى معه، أن ذكر الكاتب للكلية تحديدا وصراحة، لم يكن عشوائيا، وإنما كان تحديدا لرؤيته التى ترى فى السياسة، لا فى العسكرية سبيلا لإصلاح الحال، والوصول بمصر إلى بر الأمان، وهى التى تحقق آمال تلك الطبقة، بإقامة العدل، والتوازن.
وفى النهاية، وعبر تجربة السجن.. يشعر عبد الخالق بالتسامح مع عاصم، وبالشفقة عليه. وكأننا أمام تجربة توحيد الأعداء أمام بطش الزنزانة. وهو ما يبدو فى كلمات "عبد الخالق" بعد قراءة أوراق "عاصم" بين جدران السجن: { نعم، صفحت عنه، وتمنيت لو كان قد رحل بعد أن إطمأن إلى أن رسالته قد وصلت إليها، أو ستصل إليها حتمًا. لم أعد أغار منه، ذهبت الغيرة حين اقشعر بدني، بل تزلزل، وأنا أنصت إلى ما يقال عن السوط الذي كان يأكل ظهره كل يوم، وصراخه الذي لم يصل إلى أي آذان سوى جلاديه، وجسده العاري أمام الناظرين، إلا من عورته التي يكور فوقها راحة يده، واحدة ذاهبة إلى الدبر، والأخرى إلى القبل، ولا هذه تكفي ولا تلك}.
وإذا كانت حدث الرواية يبدأ من العام 77، عام انتفاضة الخبز { لحظة دخولي من باب السجن في عام 1977} وامتدت لعام 89 (انتفاضة الأمن المركزى) { أخذوا كتبًا وأوراقًا وأخذوني معها محشورًا في عربة صدئة راحت تجرجر عجلاتها في شوارع "القاهرة" التي ودعت للتو غبش الفجر، واستعددت لصباح حار من صباحات أغسطس 1989. اعتبرت اهتزاز العربة بي، وارتجاج جسدي على هذا النحو، فرصة سانحة كي أحتفل بمرور عشر سنوات على تخرجي من الجامعة}. إلا انها لا تغفل ما كان قبلها، ومنذ بداية عهد الضباط { ـ وهل ما نحن فيه قليل؟
ـ لا، لكنه يهون أمام السلخانات التي دخلناها في الخمسينيات والستينيات .. ألم تقرأ شيئًا عن هذا؟
ـ قرأت بعضه، لكني شعرت أن فيه مبالغات شديدة. هناك من يصنع لنفسه بطولات زائفة، وهناك من يريد أن يظهر عدوه بأنه قد فقد إنسانيته.
ـ حتى لو كانت كذلك، فيكفي نصفه أو ربعه لتعرف أنه كان لا يطاق .. كان جحيمًا} . كما تمثل فى زوار الفجر، الذىن تحدثت عنه مصر، متهمة من كانوا يسمون بمراكز القوة فى نهايات الحقبة الأولى من حكم الضباط (الأحرار)، وأصبح وصفة لا تغيب فى باقى الحقب {أغمضت عيني وراق لي أن أستعيد كل ما جرى لي في الأيام الفائتة، وأن أغرق في التفاصيل لعلها تأخذ الساعات الثقيلة عني، بادئًا باللحظة التي أفزعتني طرقات مدوية على باب شقتي قبيل فجر لم يمر عليَّ مثله من قبل.}. ومن حينها، اصبح الحمل على الأعناق، للمنادة بالحرية، والعدل، تهمة لا تتوانى السلطات من سحب المحمولين إلى تعذيب السجون، حيث يلقون معاملة أشد من تلك التى يعامل بها الجنائيون، وفقكما أفاد الصول "مسعود"، مثلما حدث مع د "نبيل"، الذى يعدونه أستاذهم ، أو كبير الشيوعيين، والذى لم يستسلم للتعذيب، مهما تفننوا فيه، لا لرغبة فى التعذيب، حيث أبدى بعضهم التعاطف معهم، وإنما هى الأوامر التى لا تقبل المناقشة، حتى صرخ فيهم "د نبيل" {هو يعرف مع من يتعامل .. إنه الضابط الذي صنعته حالة الطوارئ، والأحكام العرفية، وزوار الفجر، والتجريدات القاسية، وضرب الرصاص في سويداء القلب أو في نني العين.
سكت، وكسر السكون صراخ الدكتور "نبيل"، الذي ما إن فاق من غيبوبته، حتى وقف في مواجهتهم متحديًا:
ـ "أنا أُدرِّس لقادتكم يا كلاب"}. ولم يكن الأمر يقتصر على قادة الحركات الاعتراضية، وإنما كانت المتابعة والمراقبة، على كل من تحوم حوله الشبهات { اثنا عشر عامًا وهم ورائي منذ أن حُملت على الأعناق أيام انتفاضة الخبز، وحتى انكشف أمر خليتنا الصغيرة، التي كنا نظن أنها الجذوة التي ستشعل حماس الواقفين خلف الماكينات المتجهمة يجففون العرق بأصابعهم، ورؤوسهم مشغولة بأفواه جائعة، وعيون سكنها الوجع}. ويظل نفس الحال إلى ما بعدها، بعد انتفاضة الشعب على الشرطة بداية من 25 يناير 2011 { كان هذا قبل اثني عشر عامًا، حين أخذوني بعد انحسار الجموع الهادرة عن شوارع غرقت في صقيع يناير، وبعد أن بلعت الحناجر هتافاتها المدوية، ولزم الغاضبون شقوقهم، فجاءت لحظة عقاب الذين رُفعوا فوق الأكتاف}.
إلا ان ثمة تعامل مع السجناء، قد تغير. وإن ظل الحبس والتعذيب هو المسيطر، وهو ما يوضحه "عبد الخالق" زبون السجن الدائم، فيوضح الفرق فى الحبس بين 77 و 85، وكأنى بالكاتب يعيد للسادات بعض ما لصق به سابقا :
{ كنت مدفوعًا في موقفي بما لمسته بنفسي من تغير طرأ على طريقة المعاملة في السجون. ففي حبسة 1977 كنت أقرأ وأكتب وأتريض تحت الشمس المشرقة، لكن حين أخذونا في ضربة وقائية قبل معرض الكتاب بعد أن احتججنا على مشاركة إسرائيل فيه عام 1985 قضيت خمسة وثلاثين يومًا دون أن أرى النور، فلا طوابير صباحية أو مسائية، وليس مسموحًا باستعارة أي كتب من مكتبة السجن. وكان علينا طيلة الوقت أن نتحسس موضع أقدامنا، وأن نضبط ألسنتنا لنتقي أذى المخبرين الذين يندسون داخل الزنازين، يلملون كل ما يصدر عنا، ويخبرون به من زرعوهم بيننا}.
غير أن ذكر كل ذلك الذى يدور فى السجون، وعلى مدى كل تلك الفترة، لا يعنى أن عمار على حسن، ينتصر لتلك العناصر المتطرفة، أو يتعاطف معها، وإنما العكس هو الصحيح تماما، وكأنه يوجه رسالة إلى أولى الأمر بانكم من تصنعون التطرف. فكما سبق أن ذكرنا، بتناوله للجماعات الإسلامية فى أعمال أخرى، فإنه هنا لم يكن رحيما، ولا متعاطفا، مع الجماعات الشيوعية، أو حتى اليسارية، بكشفه وتكراره، للفارق بين أقوالهم وأفعالهم. مثلما فى {هيهات أن ينتبه الذين ينسحبون من الأرض، وينكمشون هناك في البقاع الباردة، إلينا هنا، ونحن يأكلنا العذاب لأننا لا نزال ندافع عن أصحاب الياقات الزرقاء"}.و يصل إلى قمة الرفض لتلك الجماعات، حين الربط بينها وبين إنهيار التمثال الأكبر لها، فى الاتحاد السوفيتى المنهار، والذى تعايره به زوجته {وحين أعلن الرجل الكبير في "موسكو" عن التصحيح والمصارحة، وامتلأت الصحف بما يقول، قرأتْ ما في الصحف هي بإمعان، وقالت لي ذات ليلة:
ـ كبيركم أعلن إفلاسه، فمتى تعترفون بأنكم لستم على صواب؟}.
والتوضيح بأنهم أناس يعيشون الأحلام، وبعيدين عن أرض الواقع، وأنهم يقولون غير ما يفعلون {أعرف كثيرين ممن يرفعون عيونهم طيلة الوقت إلى "الاتحاد السوفيتي" باعوا بأبخس الأثمان، بعضهم تمكنت أجهزة الأمن من تجنيده، فصار يكتب عنا التقارير المنتظمة، فيقتحم بيوتنا زوار الفجر ونؤخذ إلى الزنازين، وبعضهم تحول إلى تاجر مستغل، يساهم بلا توقف في أكل أقوات الفقراء، وبعضهم ترك المعمة وسافر مثل "منير فراج" الذي ذهب للحصول على الدكتوراة من موسكو، وسيعود ضعيفًا في العلم الذي تخصص فيه، قويًا جدًا في فهم الماركسية، وبعضم لا يكف عن الثرثرة، يقول كلامًا مُركبًا عصيًّا على الفهم، أو حتى كلامًا بسيطًا حالمًا لكن أفعاله تمضي في طريق آخر، مثل "فريد سعفان"}. ويقول "عبد الخالق" بعد أن أعطاه الصول "مسعود" جريدة الوفد (اليمينية) وأخبار التعذيب تملآ الدنيا احتجاجات:
{"أين أنتم أيها الحمر؟" ..} وكأنها صرخة احتجاج على الهاربين من الحًمر.
ما كانت السجون والتعذيب، وما يؤدى إليه من الدمار النفسي الذى يقتل الروح، ويقف حائلا دون الزعامة، أو دون السياسة، إلا لتقول: إن استخدام السجون والمعتقلات، التى إعتمد عليها حكام الفترة الموضحة، كان وسيلة، لم يقصدوها، لتوحيد صفوف المعارضة، وتعاطفهم مع بعضهم البعض، ولم يخلق إلا إرهابيون جدد. ولو أنهم أرادوا إصلاحا، لسعوا إلى تفادى ومعالجة ذلك التيه الذى يعيشونه فى { ربما كنت لا أستعيدك أنت بقدر ما استدعي ما كان يقويني. أيامي التي لن تعود، هي السلوى وسط كل هذا العذاب والإخفاق. وظيفة بائسة لا تلبي طموحي في جهاز إداري عقيم، وتنظيمات تثرثر وتنشق وتتكاثر كالبق، وشكوك تلسع كإبر حامية:
"هذا مباحث" ..
"هذا برجوازي صغير" ..
"هذا رأسمالي مدسوس"..
"هذا مدعي" ..}.
وكأن عمار على حسن، عبر أحدث رواياته " آخر ضوء" يشعل الضوء، لعله يمكن أن ينير طريق المستقبل. وقبل أن يصل الجميع، مع زوجة السارد، التى {تعبت هي من تنبيهي ولومي، فاستسلمت لقدرها مع رجل عنيد مثلي، مهموم بغيرها، يفتح عينيه وهو راقد إلى جوارها ليرى الذئاب ترعى مع الغنم، ويخبرها بما رأى، فترد عليه:
ـ أنت مجنون، واهم، الذئاب ستظل ذئابًا، والغنم غنمًا}.
Em:shyehia48@gmail.com