وضعية جمود
لا يظن أحد أن قضية تاريخ الأدب أصبحت من قضايا الماضي. إنها قضية جديدة على الدوام، لأنها ظلت، وستبقى، تقود أفعال المؤرخين والنقاد والمقارنين والأدباء على الدوام. وسبب هذه القيادة هو كون الأدب تتغير صورته، كل جيل، والمفيد في هذا التغير أنه يحدث فجأة. هذا ما يفسره، وبكفاءة، كتاب "عودة تاريخ الأدب" للناقد ومؤرخ الأدب الفرنسي آلان فيان، الصادر عن دار توبقال هذه السنة، بترجمة الناقد والمترجم المغربي عبد الجليل ناظم. وصدر في الأصل سنة 2017 عن دار "أرمان كولان".
يحتضن تاريخ الأدب كل أشكال الكتابة. لذلك من الطبيعي أن تعرف أصناف التأمل في هذه الأشكال حركة متسارعة، نامية وواضحة، في الجامعات، حيث تُدرس هذه القضية لطلاب السنة الأولى، وفي التأليف الحر، حيث يعرف التأليف في "تاريخ الأدب" نشاطًا ملحوظًا، من قبل مؤرخين وجامعيين.
"نحن لا ندرس الأدب، بل ندرس تاريخ الأدب"، هكذا قال أحد أساتذة الجامعة بتذمر. هذا القول الحزين كان في فترة عرف فيها تاريخ الأدب مرحلة من الجمود والتردد. وهذا القول لمؤلف الكتاب آلان فيان كأنه رد مفحم لما حدث لهذه الموضوعة المفيدة والرائعة بشكل لا يصدق: "حصل لتاريخ الأدب، ولبعض موضوعات البحث الجامعي ما يحصل للجليد عند نهاية فصل الشتاء في البلاد الباردة، في البداية، تحدث تغيرات في العمق نخمن معها وجود اهتزازات صماء وصوت كالصرير، بدون أن يظهر شيء على السطح. ثم، فجأة، ذوبان قطع ضخمة وتغير عنيف للمشهد، فإذا بالاستقرار الذي ساد أصبح في حكم النسيان".
لكن رغم ذلك لا بد من تقليب وجوه هذا الاستقرار الذي أصبح منسيًا. إن وصول موضوعة، أو فكرة ما مرحلة الجمود، ليس معناه أنها استنفدت ولم نعد في حاجة إليها، بل بالعكس لأن صوتها قد وصل إلى الأسماع ولم يعد هناك حاجة إلى الجهد للإقناع. أو، وهذا تبرير معقول، هناك استشعار ذكي للتوجه بمكتسبات الموضوعة نحو المستقبل، والاستعداد للمراحل القادمة.
موضوع رئيسي للجدالات النظرية
يثبت المؤلف أن تاريخ الأدب عرف مفارقة حقيقية. فرغم أنه أصبح، في عهد غوستاف لانسون، موضوعًا رئيسيًا لكل الجدالات النظرية والإيديولوجية، ورغم تطوره بهدوء بجوار اللسانيات، وبالتالي أصبح الموضوع الأثير للدراسات الأدبية، وشكّل العمود الفقري لتعليم الأدب... فمع ذلك لا يوجد في فرنسا كتابٌ تركيبي يقدم مبادئ ومناهج تاريخ الأدب. باستثناء بعض الكتب هي عبارة عن محاضرات ومقالات مجمعة، أو تنتمي إلى سوسيولوجيا الأدب، أو قراءة سريعة لمشاكل تاريخ الأدب. وهي أعمال صدرت بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات. وهي، حسب المؤلف، وضعية صادمة بالنظر إلى طبيعة الموضوع. في حين أن الأدوار التي يلعبها تاريخ الأدب لا يمكن حصرها، لكن يمكن ذكر أهمها، فهو يلعب دورًا نبيلًا في الحفاظ على العلاقة مع الماضي. كما أنه، من الناحية الثقافية والمجتمعية العامة، معرفة الماضي تضيء المستقبل وتقود الفعل. "وما يصح للتاريخ عامة يصح أيضًا للأدب: إن الفترتين اللتين مر منهما التصور الحاسم لتاريخ الأدب في فرنسا (ما بعد الثورة الرومانسية والعصر اللانسوني الذهبي) كانتا كذلك بالنسبة للأدب الذي تغيرت صورته بغتة".
الأدب وتاريخ الأدب: مصيران
يرغب الكُتاب بقوة في تأمل الأدب تاريخيًا، فذلك يمنحهم الشعور بكونهم ضمن مغامرة جماعية حقيقية كانوا هم أبطالها. "لذا فإن ازدهار تاريخ الأدب علامة صحية على الأدب". كما لا نغفل عنصر المقارنة. فما يحدث في الأدب من تغيرات، أو انقلابات، يدفع دارس مؤرخ الأدب، والأدباء والنقاد أيضًا، إلى تمكينهم من التفسيرات التي كانت وراء ذلك، والوعي بالنظامين القديم والجديد. هذا بالنظر دومًا إلى التحول الأدبي (التحول في الأدب) الذي نعيشه اليوم. وهو تحول، كما يؤكد المؤلف، الأكثر أهمية ربما منذ عصر النهضة.
لقد تحول الأدب، ونحن لا ندري ما سيكون عليه غدًا، لكن المؤكد أنه سيكون مختلفًا عن أدب الأمس واليوم. وتاريخ الأدب، حين يكتب عن هذا التحول، فإن أقل ما سيفعله فينا هو جعلنا نحنّ إلى الأسلوبية القديمة في الكتابة. فأدب القرن التاسع عشر، مثلًا، كان رائدًا ورائعًا في تمجيد فن الكتابة، الكتابة كفن. إن هذه الفنية هي ما تبرر فرادته الشكلية على حساب قيم أخرى مثل واجب الشهادة أو الالتزام. وبما أن مبدأ المقارنة هو مركزي في تاريخ الأدب، فإننا سنسعى، وبقوة، إلى مقارنة أدب الأمس بما يحدث في أدب اليوم من تحولات. إنه تطور شيق تقوده وسائل التواصل الاجتماعي، التي أعادت الكتابة إلى العفوية والوظيفية. لذلك يميل النقد الصحافي، والأكاديمي خصوصًا، نحو اتهام الكتاب الجدد بعدم إتقان فن الكتابة.
أدب الأمس وأدب الغد
نحن على يقين بمعرفة ما كان عليه أدب الأمس، وهذا ما يجعلنا نحاول معرفة ما سيكون عليه أدب الغد. هذه إحدى قضايا تاريخ الأدب. إنه يدفعنا بقوة إلى اكتساب هذه المعرفة: إن أدب الغد سيكون مختلفًا كليًا عن أدب الأمس واليوم. وربما لهذا السبب وحده سيتضاعف الطلب على دراسة تاريخ الأدب. لكن التساؤل سينصب حول ضرورة تجديد هذا التخصص، من حيث المفاهيم، وضرورة إبداع أدوات جديدة. هنا، يؤكد المؤلف أن هذا الموضوع يعرف ازدهارًا غير مسبوق، إنه يستقر من جديد في قلب الدراسات الأدبية، وبدون منافس. بل ولقد أصبحت له نفس مكانة الدراسات الشكلانية للنصوص، "وفي محاذاته للأسلوبية حل من الآن محل موضوع آخر (علوم اللغة)، كما لو أن المتأدبين قد أعفوا من الفحص المنتبه للأعمال الأدبية".
وتتضح هذه العودة من خلال الرجوع الواسع إلى المعتاد: التحقيق، البيوغرافيا... دون نسيان الدراسات المونوغرافية. ومن شأن ذلك أن يساعده في نجاحه الحالي. إنه سيؤدي وظيفة تربوية أنجع للمعلم والتلميذ معًا. كما أن عموم المهتمين يتزودون بمعرفة بيوغرافية وبنصوص وكتب مخصصة لمختلف جوانب الحياة الأدبية. وهكذا، حسب آلان فيان، سيُسهم "في مؤسسة الميراث الثقافي، ويمد الإحساس الشاسع بالحنين لثقافة مشتركة لجمهور ضائع ومتقادم في تطور عالمي".
يمكن اعتبار "عودة تاريخ الأدب" (والعنوان الفرنسي لا يحمل لفظة "عودة") كتابًا هائلًا في التذكير بأهم مفاهيم، وأدوات، ومناهج، ومؤلفي، ونظريات... تاريخ الأدب؛ واضعًا كل شيء من ذلك في سياقه الدقيق. وبالتالي فهو يستحق وصفه بكونه عودة جديدة لموضوع عظيم، بأدوات ومفاهيم إبستيمولوجية جديدة، من أجل تحليل أفضل للظواهر النصية، وتأويل أكثر جدارة للإبداعات الجمالية على مرّ التاريخ.
عن ضفة الثالثة