هذا النص المدهش، جدارية هائلة غنية بالتفاصيل الملهمة، تمتد من باريس و"الأستانة" إلى قدار وصنعاء بالسعيدة "اليمن". جيوش وقطاع طرق، ثقافات وأزياء، حريم قصور وحجيج، بدايات الظهور البريطاني في ملاعب الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، ورحلة آخر ولاتها -المخنث "آق ديلك بك"-لحظة تحولات كبرى على الحافة.

الحقل المحترق (رواية العدد)

ريـان الشـيـباني

 

إلى صابرين..

 

«شلوا لكم صنعاء مع الأراضي». أغنية شعبية

 

القسم الأول

الرابع من تشرين

لم يكن قد مرّ بأوقاتٍ عصيبة، كان فيها أكثر ضياعاٌ، مثلما هو عليه الآن، مع أن النبأ المشؤوم، الذي سيقطع صلته بالعيش، لم يصل بعد: انهارت إمبراطورية الخلافة.

وفي أوقاته الأقل حلكة، كان الوالي الوسنان يصحو على طقس احتفالي مخفف، آخذًا في الاعتبار جملة التقاليد، التي بنى عليها المؤسسون إمبراطورية الستمائة عام. حتى أتى الرابع من تشرين 1918.

فتح عينيه، وهو على الأرض الرطبة بالقرب من دائرة ضباطه الأربعة. كانوا يحتسون الكونياك بفناجين القهوة، ويزجون الوقت في التدخين ولعب الكوتشينة، انتظاراً لوقت الغداء. فاقم ضياعه ضحكاتهم التي كانت كقهقهات البحارة، وقرقعة أصابعهم، وهم يتأهبون لدمغ الخاسر الأخير في ناصيته، بإبهام من سخام الفحم. قال: ما الذي نفعله هنا؟!

فرك عينيه بكفين مطويتين، على طريقة بائعي الخردة قليلي الحركة، لا كأنه الوالي الإمبراطوري، لبلد تتناسل فيه الزعامات، والولاة الاستعماريون جنباً إلى جنب مع قطاع الطرق وأسراب الجراد والمتسولين لتصير السلطة فعلاً تائهاً في حيرة الزحمة التي عليها هذا الوجود.

لم يردّ عليه أحد، لإدراكهم أن السؤال عن المكان ترفٌ في التيه الملازم لهم منذ ما يقارب أربعين شهراً، ما أورثهم عادات العتالين العاطلين وسأمهم المتطاول. نادمهم فنجاناً من الشراب وشاركهم بدون حماسة دورتين من الورق، قبل أن ينهض مزيلاً ما علق في باطن كفيه من نثار الأرضية الرطبة، وحدّق في ساعة السلسلة المعلقة على جوخه الداخلي، في تصرف لا واعٍ، قوامه العادة لا معرفة الوقت: كانت تقترب من العاشرة صباحاً.

أصلح من زيه العسكري الذي على الطراز الإنكليزي، والذي يرتديه بناءً على آخر فرمان مركزي حاول معالجة سوء الطالع، باقتفاء أثر العدو في القيافة: نياشين تربض كالقطا على ذراعيه، وجوخ أزرق وسروال شتوي من نفس اللون، حلا محل الجوخ الرمادي الذي على أساسه حازت فرقته وسام لون الحقل المحترق. لقد حافظ بهيئته الجديدة، على موقع إمبراطوريته، ليس كنافقة وحسب، وإنما كتجمع واسع للحمقى.

أعانه أحد ضباطه على لبس القفطان الأسود والطربوش الإمبراطوري اللذين كانا معلقين في مشجب الجدار الأيمن وهما القطعتان اللتان تبقتا من أمجاد أزمنة غابرة، وتنسب إليهما فضيلة تذكير الوالي بأمجاد ليالي الخلافة بصواريها الغرابيب، وتلاؤمها مع ما هو فيه وحاشيته من العزاء والنكبة.

مؤخراً تَمثّل ضباطه سلوك القائد في نومهم بكامل هندامهم حتى وهم في أسرة الزوجية؛ فصارت تصلهم إلى درفات المضاجع المحروسة جيداً رياح النقمة .. مع التهاليل الجنائزية للمجاعات، والخطو الزلق لبائعات الهوى، ورائحة نقيع التبغ في الأزقة الرطبة لخانات المسافرين، واستغاثات المتسولين الذين على وشك أن يشكلوا أكبر تحالف طبقي في البلاد. على أن هؤلاء القادة، أحرقوا -وهم في طريقهم إلى هنا-بمشاعل الزيت، آلاف الهكتارات من حقول الفلاحين الذين امتنعوا عن دفع الضرائب على محاصيلهم.

وكان أن وجد هؤلاء الضباط في طبقات الأردية التي يوجبها البروتوكول، إلى جانب منعتها لرياح تشرين القارصة، ضالتهم في الاستعداد لهرب برتوكولي أنيق.

لقد درجوا في السنوات الأخيرة على إغماض أعينهم ليلاً على إحباطات واقع أقاموا بنيانه بملاط الإنكار المتواصل، ليعوا على أنفسهم صباحاً، بمؤهلات اقتحام الثكنات وتكتيكات حرب العصابات، لا يستطيعون تذكّر، أين هم الآن، فيذهبون إلى إلهاء هواجس وجودهم، بالانكباب على لعب أوراق الكوتشينة أو بين الصفق الرتيب لأحجار الدومينو على المناضد.

كانوا في نزل أرضي معتم ببلدة قِدار. في السهل الأوسط على ارتفاع ثمانية آلاف قدم فوق سطح بحر القلزم. وكان الوالي قد وصل إلى هنا، في الصبيحة الباكرة لذلك اليوم التشريني المشؤوم، مع حراسه الأربعة، وقائد الجيش المارشال أحمد فيضي باشا، يرافقهم فوج عسكري مكون من سرية ضبطية محلية مسلحة -إلى جانب بنادقها-بمشاعل القطن وجالونات الزيت، وثلاثة مدافع بلا ذخيرة، وعشرة بغال، وعامل غسيل، وقصّاب، وفراشين اثنين وطبيب.

دخلت القوات المجللة بخبّها الكئيب بعد منتصف الليل إلى المعسكر الإمبراطوري المضروب شرق البلدة، وفي الجوار حظيرة أبقار عجفاء كانت في أزمنة أخرى تغطي حاجة البلدة من الحليب، بحيث لم يكتب لها عيش هذا الزمن الشحيح بقدرتها على الإدرار فقط، وإنما بأمعائها المستجرة لذكرى الأوقات الخصيبة.

وعلى الرابية الجرداء المجاورة التي تظلل سطحها الضيق مستودعات توتياء متجاورة، أثارت جرسة حوافر القوات، قطيع خيول عربية رابضة. بُنيت هذه الاسطبلات في القرن السادس عشر على نفقة الملك سيغيزموند الثاني، عرفاناً بأثر هذه الأفراس في تكوين سلالات خيول بولندية قوية، لكنها -بعد ثلاثة قرون وخمس وسبعين سلالة-صارت متروكة، إذ فقدت ميزتها في الخفة والسرعة، وصارت تقضي معظم أوقاتها تخب بأنفاس لاهبة، لإبعاد الغربان من على غرر نواصيها.

وكان قد حدث الأسبوع الماضي انقلاب شتوي بلا معالم، أجبر الفلاحين في سهل العاصمة صنعاء على التوجه مبكراً لحصاد الذرة القمرية الصفراء التي تمثل ميقاتاً حكومياً للجباية، وبدلاً من أن يقوم الحكّام الأجانب للبلدات بإرسال الأموال مع بريد السبت، تواترت إلى المقام السامي للوالي العام أخبار مثبّطة. كان يتمشى في حديقة قصره بحي بير العزب؛ بسرواله الداخلي الخفيف ذي الأنشوطة، وقميص قطن داخلي: هناك عصيانٌ مدني للفلاحين في منطقة السهل الأوسط. لم يخفِ تهتكه الداخلي، بل عكس على محياه أخاديد سنين عثرته في السلطة.

في آب المنصرم، احتفل بمرور عقد على توليه منصبه، بعظام نحيلة نخرة بأرضة هذا المنفى القاسي، لتخبو سريعاً روحه المتقدة. بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أُوفدته الإمبراطورية من عاصمة الخلافة إلى باريس ضمن البعثات العسكرية التي قوضت أمجادها بمغامرة الحرب الكونية الأولى، وبعد تخرجه بأشهر قليلة وعودته إلى بلده، ألقى الولع التوسعي كل أحلامه في بلد قصي، وذي منعة تطور سرمدية: السعيدة؛ البلد المهووس باستقبال الأجانب كمخلصين ثم دفنهم على ترابه كمحتلين ينتهي بهم المطاف إلى مساحة مستطيلة من التراب، إن لم يتم إخراج جثثهم بعد ذلك، لسرقة أطقم أسنانهم الذهبية، ونزع خواتم رباطهم المقدس.

كان قد وُلد في الساحل الأفريقي الشمالي، لمسيحي مرتد من مدينة (كاندية) اليونانية. حكم والده منطقة طرابلس الغرب، ما مكّن الشاب من السفر وقضاء فترة شبابه في معاهد باريس العسكرية، فاكتسب عادات كثيرة من ضمنها النهم الزائد للاطلاع، وتكلم الفرنسية بطلاقة.

بعد تخرجّه، اُختير على رأس لجنة أزمة لإخماد تمردين مسلحين، في العراق والشام، ولأنه أحرز نجاحاً نظريا في المرتين، قرر الإمبراطور الأعظم، تعيينه والياً للسعيدة، بطلب من سكانها الذين تكالبت عليهم الأوبئة، وقطّاع الطرق الذي يتحولون بطبيعة عملهم إلى أنبياء أو ملوك.

كان في السابعة والأربعين عندما وصل بلدة (قِدار) في السعيدة للمرة الأولى والياً. له مظهر مهرج بشوش، والقوام الزلق لغانية عصره (كارولينا أوتيرو)، تحيطه هالة من النعومة الغامضة، بلحية طويلة شقراء، ودلال مشوب ببعض السلوك الأرستقراطي المفهوم. مع ذلك، نُقل عن بطانته أنه عندما يتطلب الأمر منه التعامل مع السلطة بمعناها السافر، تتلبّسه رجاحة من لا تعوزه حكمة الأوغاد.

اختار له مستشاروه وكتبته العموميون موطئ قِدار لإشهار ولايته، باعتبارها المكان الأكثر إنتاجاً للفقهاء الدينيين ومُدّعيّ النبوة بشقيها السماوي والوثني. وكلهم يقدمون دعوتهم بلا ناموس مقدس، وعندما يحظون بالتقدير، لا تكون هناك تعليمات ولا كتب مقدسة، وإنما شرف محاولات متجردة، تعيدهم إلى الواجهة، كلما احتدم الصراع المسلح على السلطة.

ولأنه -دائماً ما ينتصر الفقهاء-كرّست قِدار وجودها، بالأضرحة الكبيرة المسكونة بعميان لهم من الكرامات أكثر من التي يسبغها الناس على الموتى، والمدارس الدينية التي كانت معابد حميرية ثم كنس يهودية، وأصبحت تقوم بتخريج كوكبة سنوية من الفقهاء الذين ينقسمون بمشيئة طبائعهم المتنافرة إلى ملوك وأنبياء، يعثرون على أنفسهم في نُزل وخانات المسافرين، التي تحج إليها بائعات الهوى في منتصف ليالي شظفهن.

الاصطفاء المتواتر لهذه البلدة المرتفعة، خلفت مثالب عرضية، ترسخت بعد ذلك مواخيرَ، رأى فيها الأنثروبولوجيون الأوروبيون، مكافأة صغيرة حررتهم من الخرافة المعادية للسامية التي تقول إنه لا يوجد للعرب أعضاء تناسلية. والذين لم تصلهم أخبار هذه المتعة الصغيرة تكفل بنقلها إليهم التجار اليونانيون الذين تعد واحدة من أهم فضائل مرورهم، تلقين رجال الدين مهارة التعرف على النبيذ الجيد، بِرجّ الكؤوس المُعنّقة وشمّها.

وعلى ما لدى الوالي من الوله الغريب، عرَّض نفسه لاختبار المحاسن والمثالب، أثناء فترة تمليه في القرار اللامدروس للإمبراطور الأعظم، بإرساله إلى بلد لا يُستحضر إلا بكونه معادلاً موضوعياً للمقابر. عاد للتشاور مع من سيصبح بعد ذلك أهم مستشاريه (تنساكي أفندي)، العامل السابق في قناة السويس، والمعالج الشعبي وتاجر البن المشهور. قال المستشار: نعم، لديك قِدار، فيها الكثير من الأنبياء والعاهرات، سأل الوالي المستقبلي: هل قلت العاهرات؟! فأكد له بما لا يحتمل اللبس: بائعات هوى.

كان الوالي يريد إشهار ولايته -وهي ولاية دينية هتكتها العصور-بإرهاب الزعماء المحليين بخدعة الإشعاع بالمغنيسيوم التي حققت مبتغاها في كثير من أقاليم الإمبراطورية، حين قاده تنساكي أفندي إلى الرسن السهل للقيادة قبل أن يصل.

كان قد عاد إلى الوطن من رحلته الباريسية، يتأبط آلة ساز موسيقية، أهداها له في إحدى لياليه الباريسية يهودي جزائري مهتم بتراث الشرق، فيذهب ينفس كرب أوقات ما قبل التعيين في ضفاف البوسفور المتلألئ كالحبر بأضواء اللافتات التي استبدلت حروفها العربية باللاتينية.

استخار الأوتار المشدودة للآلة الرنانة، لكن ميله الرومنطيقي أحجم عن قيادته إلى صوابه، وقاده -بدلاً عن ذلك- إلى احتضاره، وهو ينصت للزمجرة الرهيبة لأبواق السفن الضخمة الماخرة للنهر والمحملة بجثث موتى جائحة الوباء الثالث، وصرخات المحتجزين في محجر (بيوك ديريه) على مدخل النهر، محاولين إقناع السلطات أن تقيأهم هو من الدوار البحري وليس لتناولهم يخنة الخفافيش، وكان الوباء قد انتشر قبل ذلك بسنوات في دول ساحل المتوسط على حين غفلة من انبهار الأوروبيين بغرابة الشرق، ومحاولتهم إدخال الجرذان الصينية إلى تجارة المحيطات.

 وبالقرب منه، غير آبهات بانكبابه الفارغ مع نظرائه، تمر نسوة الإمبراطورية وقد حوّلتهن مقتضيات الموضة إلى أشباح، تحملن حقائب بلاستيكية عليها علامات تجارية مرموقة، ويرتدين القبعات والأثواب الأوروبية، ليعطي تبرجهن المقتصد، مؤشراً جديداً على أنهن ركلن جدران الأجنحة الفخمة للحرملك إلى الأبد.

كان يعلم في تلك المرحلة، أن جزءاً من تشائمه لا يتأتى فقط من كون قطار سن الأربعين تجاوزه، دون أن يعثر على الملقاط الذي بواسطته، ينتزع الناس شأفة شعورهم الدائم بالمحنة. في لياليه الباريسية المطيرة، كان يحرص على ارتداء بدلة بحار مخططة بالأزرق، من الوقت الذي علم أنها لم تخطط لغرض ترفيهي: وإنما لتميّز صاحبها الغريق إذا سقط في المحيط ليسهل التقاطه. هو كذلك كان غارقاً في المحيط الدّبق لتصوراته الغرائبية عن العيش، ولكي يسهل التقاطه، أو بالأحرى رمي قشة النجاة له، قدّم له اليهودي الجزائري إلى جانب آلة الساز، وصفة "قطار الأربعين"، فكان أن دفعته قوة الإيحاء إلى التشافي الجزئي، بالطريقة نفسها التي يتم فيها إعطاء المكتئبين عقاقير من دقيق القمح، ليتخلصوا من جنونهم. كانا يتنادمان أنخاب شمبانيا، ليفكّا مغاليق الأزمة الوجودية المحيقة بمن سيصبح بعد ذلك بسنوات أشهر والِ إمبراطوري، لأشرس بلد عربي، حين سكّن اليهودي من الأوجاع المزمنة لصديقه بالقول: ستأتي الأربعون، وستذوي ديدان محنتك.

 

وها هي الأربعون وسبع سنوات أخرى، لا يُرى فيها من أمجاد المزاج المخنث، إلا كونه كذلك، مع فراغات أخرى في الروح، وقلق متشبث كالصبّار في إضبارة حياته. لكنه منذ الليلة التي وطأت فيها أقدامه الساحل الشرقي لعاصمة إمبراطورية الخلافة عائداً من باريس، كانت التوصية التي سبقته إلى (الباب العالي) قد كرسته إلهاً، على غير ما كانه ورجاه. خلال سنوات دراسته الحربية الخمس عشرة، نقلت تقارير زملائه العسكريين، الذين كان التخابر على طبائع بعضهم ضمن مهامهم الوطنية، سمات مزيفة، ليظهر ملف توظيفه كالتالي: غريب، انطوائي، نحيل، قليل الكلام، متقشف، زاهد عن المتع، لم تسجل له زميلات، أو غراميات، باستثناء القليل كانت المبادرة فيها من نصيبهن، وضل طريقه لمرة واحدة للقاء تعارف بين مثليين، أثناء بحثه عن زهرة قرنبيط.

وها هو ذا-بفعل النبل الذي لم يقترفه، والسمات التي لا تشبهه-والٍ. لكن قبل أن يتوجه لتولي مهامه، تراءت له يوماً عن يوم، أرتال السوداوية في فراغ الرصيف النهري، والأسوار المتداعية لقصر السلطان أحمد، والأزهار الذاوية من الشرفات المعرشة لحدائق فلل الضفاف الأنيقة التي بُنيت في القرن السادس عشر ترضية للأميرات القاصرات لفض بكارتهن. لقد رأى الحياة زائدة وخرقاء ومهجورة كقباب كنيسة آيا صوفيا والمآذن المطفأة لمسجد السلطان سليمان، واللذين على ضخامة موقعيهما، صارا مضرباً لأمثال الجحود والنكران.

نوائب على مسافتها من قلبه، تبدو في أغوار أغواره؛ فما من شيء أكثر إنهاكاً بالنسبة له من مواصلة البحث في القضايا التي تخص الداخل، وسط هؤلاء العجزة الذين يحاولون إبراء عاهاتهم بالتبرك بغسلها تحت الفسقيات، والسياح الغربيين الأكثر ضياعاً، الذين لديهم الاستعداد لفعل أي شيء لرؤية الشرق مختلفاً، ولو كلفهم ذلك التقاط صور مؤخرات الذين يستنجون بمياه الشاذروانات الحجرية.

كانت نكسته الوطنية، كافية لقلب تصورات رأسه؛ ليرى على وجه اليقين كيف أصبحت إمبراطورية السنين المتعاقبة تمشي على رأسها، وإن كان هناك انحلال قريب الشبه بضموره؛ ففي الرايات الصفراء المتهدلة للإنذار المبكر بالجائحة، والتي نصّبت محل البيادق السوداء التي كانت حين ترتفع في الآفاق تتراءى المنايا من بعيد، قادمة فوق صهوات الجياد، لا هذا الموت المجاني الأصفر لمجرد أن تصافح أحدهم، أو تأكل من صحفته.

ولأكثر من مرة شوهد يتجول في ساحة الحمام البري، مدخلاً يديه في جيبي بنطاله. يرتاد المطاعم العتيقة التي تفتقد، من بين الأشياء الكثيرة التي تفتقدها، نكهة أطباقها التي حملت رائحة طفولته، وأتت إليه بالقسطنطينية بأسوارها الحصينة، وأباطرتها العتاة، وبعض من أقدس آثارها: لقد أضاع في نعيمه الباريسي، موائد الإمام بايولدي.. أطباق محشي الباذنجان المتروكة بعناية على نار خفيفة في مغلي زيت الزيتون.. الكباب وأوراق العنب، التي اُستبدلت بأخرى غربية ضئيلة المكونات، تقدم مقبلاتها مع الحلوى والنبيذ الفرنسي المعتّق.

هو نفسه، كان جزءاً من نكران هذه المنطقة التاريخية لنفسها؛ فلا يمكن لزيه النمساوي الذي اقتناه في إحدى جمع باريس السوداء: سترة بيضاء وسروال قرمزي، وقبعة مردودة الحواف، أن يظهره أقل عصرية في منظومة التبدلات السريعة، حين جنح بملمحه الفيكتوري إلى صفوف التائهين الباحثين عن ذواتهم داخل الحلقة المثبتة في أحد عوارض الساحة العامة، حيث يُزعم أن حصان السلطان الذي فتح عاصمة بيزنطة المنحلة كان مربوطاً فيها. انتهى داخل هذه المكابدات، إلى خلاصة مفادها أن علة وجود الإنسان في كونه لا يستطيع التعرف على نفسه؛ لذا رأى ألّا شيء يباري مشهد خرابه الداخلي، من قصور المرمر التي تعوم كبقايا سفن أتت على صواريها نوائب الأيام.

حينها، وحينها فقط.. كان أحد موظفي بريد الإمبراطورية بلباسه الرسمي، يجول على فرسه بين الوجوه المارقة السريعة التي تشبه الظلال، يبحث عن شخص يُدعى (آق ديلك بيك)، يبلغ من العمر سبعة وأربعين عاماً. يحمل إليه فرماناً ممهوراً بختم الإمبراطور الأعظم وحروفه الأولى.. ح. ع. ب، نافذاً دون رجعة، ويقتضي تعيين الأول والياً عسكريًا للسعيدة، عطفاً على رسالة طلب تدخل واضحة وصريحة مدموغة بتوقيعات أكثر من مائة زعيم محلي.

أُرشد الموظف إلى ظل رجل مقعٍ بوجهه إلى الحلقة النحاسية للعارضة المقنطرة، وللوهلة الأولى اعتقد حين رآه أنه حاوٍ، أو مروض قرود، وعلى أكثر الاحتمالات كلفة وصدقًا: قواد ظل الطريق إلى نفسه.

نزع الوالي المحتمل، وهو في مكانه، الأنبوب الفضي من غطائه المختوم بالشمع الأحمر، واستخرج عريضتي التعيين. مدّ في أوراقها اللدنة، فبرقت لأول مرة، في حياته العملية، كلمة السعيدة. أخذته همهمة صغيرة، فهز رأسه، حين قال: السعيدة.. حتى أنه لا يبدو اسم بلد. تصفح العريضة الثانية قاعداً على حافة الرصيف النهري وكانت تتضمن ملحقين؛ أحدهما متعلق باعتماد القوات العسكرية المساندة، والثاني خاص بالاستشارية وعدد أعضائها.

بعد لقائين بروتوكوليين بالإمبراطور ورئيس الوزراء تلقى توصية باتخاذ طبيب شعبي يوناني عالج مرضاه الفقراء في وقت سابق بعرق السوس يُدعى (تنساكي أفندي)، ضمن بطانة مستشاريه؛ فكان أن عقد أول استشارته معه.

وكان تنساكي أفندي قد عمل ضمن عمال حفر القنال، قبل أن يتحوّل للعيش في مرفأ الحديدة على ساحل السعيدة الغربي المطل على بحر القلزم؛ حيث أسس عيادة صغيرة وشركة ليفراتو لتصدير البن المخاوي إلى أمريكا وفرنسا وبريطانيا، لكنه غادر بعد ذلك بسنوات قليلة إلى عاصمة إمبراطورية الخلافة بعد القصف العنيف الذي طال البلدة من قبل القوات الإيطالية.

كان اللقاء بين الرجلين، في قصر على الساحل الأوروبي خصصته الإمبراطورية سكناً مؤقتاً للوالي. قدّم المضيف لمستشاره فنجان قهوة عربية، وتدارس معه بحرص حظوظه في حكم البلد الذي سيطأ ترابه بعد شهرين، محاولاً الإجابة على سؤال علة السعيدة: ما الذي يريده هؤلاء الحفاة من تكريس أنفسهم أنبياء؟! فجاءه الحل مبسطاً فوق ما تتصوره الاستراتيجيات: المال!

لكنه في خضم ارتجافات السلطة، وعى العلة المعلق على صليبها. ذلك أنه تعوزه الجرأة، للاعتراف بها، في جلبة لقاءات توليه المنصب؛ وجوده المعذب داخل جسد شرقي مفتت الأوصال، وقد ضل الطريق إلى هذا العصر.. بُعث إلى باريس، وهو في الخامسة والعشرين، ليصبح قناصاً، خارج رغبته، وجهده النظري لأن يعمل من أجل مهمة واحدة فقط: الانتماء لجسده.

ظلت أوقاته الباريسية التي قضاها بين قطع غيار الأسلحة، تقض مضجعه. ضرباً من ذكرى لجحيم لا يعرف لماذا كان يجب أن يصطلي به. في تلك الفترة كان قد لجأ إلى مقاربة ذاته، بالممارسة المتخفية للمهن التي تستطيبها نزعته المدنية. عزف في العصاري الغسقية على مدخل ممر الفنون الذي يعبر نهر السين، مقطوعات شرقية، بنقرات عذبة على آلة الساز. كان يجلس على كرسي بلا مسند، بالكاد يحفظ توازنه، ويعتمر قبعة راعي بقر، تغطي وجهه من مذلة التكييف الخاطئ لخبرته العسكرية، فيما يواصل الاختباء داخل رداء المساء الرسمي، المكون من معطف داكن وسروال مع صدرية، وربطة عنق بيضاء وقميص ذي ياقة مجنحة.

كان حينها قد وعى اهتماماته الناعمة، فأطلق شاربه الزغبي الذي غشي طرفه السفلي صدأ التدخين الشره محاولاً أن يسبر أغوار ما هو عليه من اللايقين، لكنه كان يرى ألا حاجة ملحة لإطلاق اللحية، التي قد تأخذ مكانها مستقبلاً، فيما إذا أخفق في الاستجلاء الكامل للوظائف الأنثوية للجسد الذي ظل يعذّبه.

وبنفور العشّاق الباريسيين من ألحانه، وعدم تفهمهم الممجوج، بأن موسيقى الشعوب غير الأوروبية وُجدت أيضاً للإمتاع لا لممارسة التعذيب، استطاع إقناع نفسه بصعوبة، أنه لا يمكن لأرصفة مالاكي وكونتي أن تزدحم بالقبعات الصيفية العريضة والناعمة، إن لم يتوقف عن تفخيخ الأجواء المشحونة بكبرياء العشاق وحرصهم الشديد على أذواقهم. لهذا توجه لاستكشاف وظائف أكثر قرباً، يمكن من خلالها أن يخبره جسده الغضروفي، أياً من الخلق، في هذا العالم المضطرب قد يكون.

أدار في غرفة الموتيل التي كان يقيم فيها بالحي الباريسي السابع، ولأيام عديدة حواراً بينه وبين نفسه بينما يكون منشغلاً بتصميغ شعره، ومعالجة البثور التي يخلفها ولعه المقهور بممارسة العادة السرية، كلما انتصر عضو من أعضائه لوظيفته كذكر. يقف أمام المرآة، بالقميص المجنح الذي يعطيه مظهراً بوهيمياً، ويبدأ بمخاطبة وجهه على اللوح الزجاجي الصقيل، مرةً بالصيغة المذكرة، وأخرى بالصيغة المؤنثة. ولا من يرد.

في تلك الفترة أيضاً، كان قد انخرط في نشاطات حذرة، داخل حاضنات المثليين من صالونات وحانات ومقاهي موقِدارتر وليس هاليس، وانتهى في إحدى دوائر التنفيس المكشوفة في حدائق كاروسيل دو لوفر.

لكنه رأى، في الرزايا النازلة على عالم هؤلاء، اضمحلالاً للمخنث الذي ظنه؛ فوسط الآهات والزفرات المكروبة همدت مشاعر القحب التي شاغلته في أوقات عزلته. احتضن ساقيه بذراعيه، وقد صار كتلة مشاعر متفاقمة، وحاول مواراة سوأة ما اقترفه بحق نفسه. جابهت أعضاؤه الانضغاط اللامحتمل لغريزة الفرار، أو على أقل تقدير الطلب المكتوم للنجدة.

مع اقتراب الدور منه، ومواجهة مصيره علناً، أمطرت سماء خذلانه إبراً، لتشل عليه مقدرات جسده. تزحزح قليلاً ليهيئ نفسه للحديث، فنفرت منه، في لحظة شهقة قهر، قنبلة غاز كريه منضغط، زاد من ورطته. نحى رأسه، وقد اتفق له، إلقاء جرم حرجه على العضو الجاحد. خاطب مؤخرته في سديم النشادر، وبصوت هامس: "تستحقين أكثر من ذلك، لطالما حذرتك"، وفي الجوار، كان هناك من يشعل عود ثقاب، ليدخن!

اشتعل مازوت جوفه، فاستبدل مشاعر الخزي بالكراهية، وقد رغب عنوة بطرد كل هؤلاء المهدلين رؤوسهم تحت أشجار السرو من فردوسه، بل ذهب أبعد من ذلك، ليعثر، دون سابق إنذار، على روحه العسكرية الضاربة؛ فبينما كان المعترفون يتحدّثون عن محنهم بشجاعة وإخلاص، ويدفعون بكل ما لديهم من تصميم، ليصوروا أن نضالهم المرير، لا يقل أهمية عن ثورة اقتحام الباستيل، انتابه غضب الثوار، وقد تجسدت هذه البطولات في خياله، بهيئتها العملية المحسوسة، ومثلت أمام عينيه: لا أريد أن أتزوج، ولا أن يتزوجني أحد.

تلمظ خيباته، وانتابت جذوة شعره قشعريرة خيبة، وحين تلمس خصلاته في المقدمة رأى كيف تنبت القرون في فروات الرجال. حاكمهم واحداً واحداً بناءً على سحنهم، وأخذهم إلى باستيله الذي لا يعرف الرحمة، وقبل أن يغادرهم والرغوة تملأ فمه، علّق لهم المشانق، ورأى فيهم جلياً وواضحاً (البسكويت) الذي دفع الغوغائيين للثورة.

لقد رأى في نفسه (الشعب) بالمعنى الفعلي لسورة غضبه، وكانوا على معاطفهم الجلدية ذات الياقات المجنحة، وبؤس القرن التاسع عشر الذي أجبرهم على دس أكفهم في جيوبهم، ماري أنطوانيت التي يجب إنزالها من على عرش قصر فرساي، وسحلها في شوارع باريس، حين دار رحى الحديث، وصار له أن يقول شيئاً: لا أدري، من أين أبدأ؟ ليس لي دخل بكل هذا، إنني فقط أريد أن أعرف أين يبيعون القرنبيط.

رمى هذا العالم خلف ظهره، ليستكشف بطريقته، الخصال الجديدة التي يمكن لضميره أن يجنح.. لكن -ويا للخيبات- كان يحمل ضميراً مصمتاً، لا يقول شيئاً، ويكتفي بتقريعه كلما تقدّم خطوة عملية باتجاه أن يصبح نفسه.

ووسط الشعور المتفاقم برهبة الأوضاع الجسدية التي تمليها عليه تقلبات مزاجه، رأى أن يغضب لغيريّته ولو لمرة، أن يتمرد على احتمالات وضع أزمته الداخلية على كفتي ميزان. يجب أن يذهب لأبعد مسافة، ليرى على وجه الدقة، إن كانت هناك ملامح مياه على سطح مريخه.

انتقل من عصاري ممر الفنون، إلى أمسيات اللوفر وصالوناته على الضفة الشمالية التي تتعامل مع الحب بالطريقة الواضحة نفسها، التي تبناها بعد أكثر من قرن عالم الاقتصاد الأمريكي الحاصل على نوبل (جون ناش): الحب هو في المحصلة تبادل سوائل.

هكذا استدرك الإهلاك الشديد لجماليات روحه في الدروس الصباحية لتعمير وتزييت البنادق، بالتكفير القاسي لمحو تلك التكتيكات من رأسه، ولو على هيئة قرار يكلفه الكثير من النزف: العمل بوظيفة قوّاد. قاده سأمه، دون هوادة، من فنان شوارع متخفٍ ولوطي فاشل إلى ورطة التحديق الطفولي في شخبطات مونيه ورينوار.. الزنابق البنفسجية الطافية في بحار الألوان الزيتية، والكونتيسات اللواتي أعطين للمظلات وظائف أخرى، أكثر مما يحتمل قماشها العازل للمطر.

كان يعيش على أماني معرفة نوع القوادة التي يجب أن يبرع فيها. حينئذ وبعد وقتٍ ليس بالطويل من الوقوف أمام لوحات المعارض والقرفصة البلهاء أمام رسامي الحبر الصيني الجائلين، أدرك، بلا مسوغات، خروجه من تجربة التأمل هذه بشيء لم يستطع تسميته إلا من كونه: لا شيء. فتحول إلى متخصص في تزويد محلات الموضة، ورسامي الزمن العاري، بالموديلات.

كان بهذا اللاشيء، الذي يملأ جيوبه بالعملات، مختالاً. تمكّن من شراء عصا ليس ليتكئ عليها، بعد كل هذا الإهدار في سبيل اقتفاء أثر العدم، وإنما ليضع في قصبتها المجوّفة، مركب إفاقة من مزيج الخل والأملاح العطرية، حين أصبحت تداهمه، وعلى حين غرة، نوبات إغماء متكررة، بفعل مركب التربنتين المُلين للألوان الزيتية ولعظامه.

أحد الذين شهدوا إغماءاته الأولى، قال إن زيت التربنتين بريء. ذلك إنه عندما وضع قدمه في السلالم الزلقة للفن بالاقتراب من صالونات الفنانين المستقلين ذوي الفكوك الكبيرة والشوارب المازوخية واللحى التي تعشعش فيها طيور الدوري، كان يرى كل شيء هناك رابياً عن القوانين والقواعد.

وكلما تاهت خطاه في السرادق القذرة، غرق أكثر.. وقُدّر له للمرة الأولى رؤية الغرض الكامل لأجساد النساء.. كانت فتاة في بداية العشرينيات، نحيلة وعارية ومستندة بجنبها الأيسر على مقعد خشبي طويل بأطر حديدية، ولها عانة صفراء كثيفة وآباط مجعدة غير حليقة.

ارتبك في البداية، لظنه أن التي تستند بالمقابل منه دمية مانيكان، حين أنهت سكونها، وأعطت إشارة للرسام الوقور الذي يستقرئ وضعيتها كي يتوقف، لتصلح من جلستها، وتبدأ بمخاطبته: "ما الذي تنظر إليه يا ابن العاهرة؟!".

أصابته الغشاوة، وصعّب عليه الموقف، تفسير كيف يمكن لدمية بلاستيكية أن تتكلم. لم يكن، منذ عركه العيش، قد وضع ولو لمرة، فرضية تعري إنسان لآخر، دون مضاجعة، أو تزويقة في المؤخرة. لكنها باريس، القائمة بمجدها على حطام التوقعات، لتشرع بصرع كائن شرقي جديد. انتابته رعشة مبهمة، ورانت ظلمات المحبة على قلبه، ولم تمر دقيقة واحدة، إلا وأفاق على صفعات في خده، ورجل خشن الملمح يبلل أصبعه بسائل نفاذ من أنبوبة بلاستيكية أخرجها من قصبة عصاه، مضمخا بها شاربه المغشي عليه، فيعيده إلى الحياة.

 سيتذكّر الوالي، كل ذلك، بعد سنوات مديدة، وهو على أعتاب نهاية حياته، متروكاً لأطفال المقام الملكي الشريف ليلعبوا به، ويتخذوا منه دابة يمتطونها. كان قد أعاد إليه درك انحطاطه المتأخر هذا، جزء من الأوهام التي اعتاش عليها كقواد؛ ففي إحدى العصاري الكئيبة لـ(صنعاء) عاصمة السعيدة لم يقاوم انبعاث الصوت المرتعش المُعذّب لـ(إيديت بياف) من أحد الفونغرافات البعيدة، ليرجع نجومية المغنية المخضرمة، إلى أمجاده الغابرة في تحويل المتشردين نجوماً. كان يلقي هذه الحكاية الصعبة، على الصوانات الضيقة لأطفال القصر المتنمرين، ليبيّن لهم القيمة التي كان يمثلها، متفادياً تهديداتهم بإدخال رأس زجاجة عصائر في مكان ما من جسده.

أنقاض ذاكرته الخربة تلك، ضمت لوحة (النساء الفلاحات) لفان جوخ إلى فضيلة مواهبه في صناعة الفنانين. غير أنه كان يتوهم؛ فعندما كان الفنان الهولندي يرسم تحفته في ريف لاهاي، كان هو يحصي متاعبه وغشواته المباغتة في الصالونات الباريسية؛ فالفلاحات اللواتي يجسدهن عمل جوخ، يعطين بمظهرهن البعيد، انطباعاً عفوياً، يناقض لازمة الغنج الواضحة التي عرفت بها الأعمال الفنية المقتبسة عن عاهراته.

كل ذلك التاريخ المشرف، لم يكن ليجنبه سوء الخاتمة، وقد رأى الجميع في سنواته الأخيرة كيف تسربت ذاكرته من ثقوب رأسه قطرة قطرة؛ فالأمجاد الباريسية لقوادته، كانت سابقة لبراءة اختراع الفونوغراف. وللحق، كان قد حقق خبرة لا يستهان بها في اكتشاف الأجساد الظامئة للفن، في زمن إحدى أهم سمات الموضة فيه، الاقتصاد في الأردية، نكاية بأزمنة العفاف والستر. كان من شأنه إبرام عقودًا باهظة الدفع، يلتزم بشكل صارم ببنودها، طالما التزمت موديلاته، بأحد أهم البنود المترتب عليها سريان الصفقة: ألا يتعرين في حضوره.

كان ذلك حاله، عندما قرر العودة إلى (الأستانة) عاصمة الإمبراطورية، بعد التخرج. صلى لله أن جنّبه، الفقدان الباريسي الوخيم للعذرية. لقد تمكن من هذا الفعل الخارق، في ليالي باريس التي لا تقاوم، ليس بوازعه الديني، كما تباهي بذلك كثيراً أمام بطانته، وإنما بالفوبيا العميقة من أجساد النساء، وقبيل المغادرة بأسبوع، نحت اسمه على قفل معدني، وعلقه على شباك ممر الفنون، كتأكيد على أنه مرّ من هنا رجل آخر مارست فيه الأقدار أخطاءها، وقد جلبته لدراسة تكتيكات الحرب فتعرف بدلاً عنها على أساليب الحب.

كان قد حجز تذكرة في (اثنين الفصح) على متن الباخرة القطبية (تفير) التي كانت تقوم برحلتها الاستوائية الأولى، ويفترض أن تكون معدة للشحن قبل وصول الركاب، بادئة تحركها عند الخامسة من فجر الخميس.

لكنها وصلت إلى مرفأ (سان نازير) غرباً متأخرة بساعتين، وكان قد وصل إلى جادة الميناء بالترامواي، قبل الموعد بساعة، حاملًا معه حقيبة دبلوماسية من تصميم (لويس فوتون)، على قدم موضتها قضى كل سنينه الباريسية داخلها.

كان المسافر الوحيد الذي لا يتأبط مظلة أو جريدة، حتى التحذير الذي أفردت له صحيفة (لاغاريت) صفحتها الأمامية، من أن العاصفة المدارية (زوريا) تقترب من الشاطئ الغربي، لم يأخذه على محمل الجد. اعتقد أن الصحيفة هربت إلى هذه الكارثة الطبيعية المحتملة، للتخفيف من وطأة أخبار الكساد الطويل، على قرائها، لكنه أيقن بعد ذلك خطأ الهروب إلى تصوراته العبثية لمعالجة مشاكل الواقع.

المسافرون الذين احتاطوا بسترات المطر بنسيجها الفسفوري، ولامست إبهامهم بتأهب زر إطلاق القماش الثقيل للمظلات، كما لو أنهم سيباغتون العدو، كانوا الأكثر عرضة للصيب المختلط بالدوامة المطيرة. لم يكن ببال أحد، أن رداءة الطقس الذي هبط بحمولته إلى مستوى رؤوسهم، نذيرٌ بقدوم العاصفة. أبقت السيدات ثيابهن المكشكشة، وقبعاتهن المائلة المكللة بالورود البيضاء على حواراتهن الجانبية، ليثبتن صحة التصور الأرستقراطي بأن المظلات اُبتكرت لعصور المكانة، لا أزمنة البلل. تمسك أذرعهن النحيلة بقفازاتهن الرشيقة، السيكار ذي المرشحات الطويلة، ملتزمات بالبرتوكول العاشر من دليل دافيدوف لآداب التدخين، والتي تنص حرفياً على أن: لا تسأل ولا تتكلم عن السيكار إن كان كوبيا، لكن العاصفة الهوجاء، كانت تحتاج قبل ذلك من يلقنها التقاليد.

اجتاحت المكان ريح عاتية لها صرير، أفرغت الإجراءات الاحترازية من معتنقيها، وجعلت النجاة ضربًا من ضروب الغريزة السريعة. بدأت باقتلاع القبعات المائلة، وأتت على البروتوكول العاشر من دليل التدخين، وكاد الرماد المتطاير أن يجعل من رأس إحداهن مثل شعلة عيد النصر. اللواتي كنّ مسجونات في الهياكل الفولاذية لتنانيرهن، وجدن أنفسهن يتدحرجن كبراميل النبيذ الفارغة. كاد مسافر، أن يسعف إحداهن بمظلة، عندما تذكّر أن تلك النسوة، بسحناتهن الغاضبة، وقوامهن المتصلب، رمين في بداية القرن بمظلات الباراسول بقبضاتها المصنوعة من عظم فك الحوت وأغطيتها الحريرية المحلاة الحواف بالمخرمات والهدبات وقد اعتقدن بابتذال وظائفها، بحيث إنها لم تعد من مستلزمات الزي الأنيق لسيدات أوروبا. وهكذا اخترن، وبكل كبرياء وشرف، البلل.

اقتلعت العاصفة –أيضاً- كراسي الرصيف الطولية ذات سقوف التوتياء، والغوغاء الذين أُتيح لهم فتح مظلاتهم مبكراً ليبرهنوا على ابتذال الطقوس في أوقات الكوارث، أوجدوا ذريعة لأن يظهرهم الانفجار السريع للمكان، حمقى. بعثرتهم العاصفة على الرصيف الملتمع، وهم يحاولون إنقاذ هياكل المعدن العالق بالقماش، بعيداً عن أن يروموا السلامة لأنفسهم.

بين هذه الفظاعة السائلة، قليل هم المسافرون الذين وجدوا السبيل إلى بديهتهم، حين تمكنوا في اللحظة الأخيرة من فك الأزرار الخشبية للسترات التي يرتدونها، ليفلتوا من القائمة الطويلة لضحايا التمسك الحرفي بالتقاليد.

بينما لاذ الخريج العائد إلى دياره، بالمبنى الخشبي للجمرك، لم يكن في الحقيقة قد قرر ذلك، وإنما دخل إلى القاعة ليسد جوعه بوجبة فطور سريعة قبل أن يعرف حتى أن هناك نذر عاصفة، عندما تم احتسابه زوراً في قائمة الناجين الذين يمتلكون فراسة الأرانب. عاد الجمع يفرز نفسه مرة أخرى بعد أن أذابت العاصفة تمايزهم الطبقي. التفتت راكبة درجة أولى، في منتصف عمرها، وسألته، وهي تراه محتفظاً بهندامه: كيف نجوت؟! رد عليها، دون أن يتملى في عينيها، أو يعرف الكيفية النبيلة التي كانت عليها عندما ألقت عليه السؤال: لم أخبر العاصفة عن أصلي النبيل.

وفي جلبة الرحيل، بعد أن وجدت الباخرة سبباً وجيها للتأخير، زال الفزع، وحلت محله العجلة المفهومة لركاب الدرجات الدنيا. أغلق الجميع المظلات، بمن في ذلك السيدات المبتلات اللواتي حرصن على مداراة ما تحاول الريح كشفه، وعندما بدأت أولى هبات النسيم الشفيف تلامس الوجوه كان الكل مأخوذاً بسورته. شحن المساعدون بجزع البضائع المكومة على الرصيف البحري، وأنهى الوكلاء التجاريون في الأسطول عملية التخليص للبضائع التي تركت مغلفة لأصحابها في بريد الميناء.

كان لابد من تلافي المزيد من الوقت المهدر، لأن هناك ما يقارب من ستمائة حاج مسلم، ينتظرونها في المرافئ الجنوبية كأنصاف عميان، هددوا في برقيات سابقة تلقاها رئيس النوتية بأنهم سيضطرون لركوب بواخر تجارية أجنبية أخرى، إذا تأخرت عن موعدها. مرت ثمانية أيام من الإبحار المضطرب، داخل حجرات مدفأة بالمواقد في أكثر المناطق قيظاً، وزحمة حجاج أكسبتهم عاداتهم في العبادة، ميلاً قهرياً لمعرفة الوقت والاتجاهات كل نصف ساعة.

كان قد حجز لنفسه قمرة صغيرة على الجانب الأيسر، وعهد إلى أحد المساعدين تقديم القوالب الثلجية له كل ساعتين، ليخفف عن نفسه حرارة أنابيب البخار وأجواء الرطوبة الخانقة. كان كل شيء لا يطاق بما في ذلك الملابس القطنية الداخلية، فيحاول إلهاء نفسه عارياً إلا من سرواله، بكتب الأدباء الرومنطيقيين لعصره، حين اكتشف فجأة أن سلوته ليست في الزانية مدام بوفاري.

في الليلة العاشرة لدبقه، كان يراقب من النافذة الومضات الفسفورية لقناديل البحر، عندما تناهت إليه وقع أقدام شقية وضحكات أثيرية آتية من القمرة العلوية، فتعمد إخراج رأسه، من النافذة الجانبية. عادت إليه الحياة، وقد أبصر في الأعلى منه، حبل غسيل مشدود بين نافذتين علويتين، مثقلاً بملابس نسائية وأردية حجيج بيضاء ساكنة. كان كذلك، عندما أنقذ وشاحاً أحمر تدلى مختالاً قريباً من رأسه، وكاد أن يسقط.

سحبه، وحدّق فيه، ثم أعاد الكرة إلى الأعلى، لكن لم يكن هناك أثر، سوى حركة ميتة للنسيم البحري ترافقها ضحكات رهيفة تتقافز من النافذة العلوية، وتنط كأسماك الرنكة الطائرة في المحيط. طواه على ذراعه الأيمن، وألصق لفافته في أنفه، لم يكن هناك سوى رائحة عفن شعر مبتل، على ضآلته، فتّق العبق توقه الكامن لاستكشاف ما خلف تمنّعه من إغواء.

بخبرة تدين طفولي، انتظر حتى انطلاق أذان صلاة العشاء الذي يطلقه حاج رخيم الصوت على ظهر السفينة، ليكون البشير لإجابة نداء قلبه الراكض بين ضلوعه، وضع بين طيات الوشاح قالباً من الشكولاتة السويسرية المُرّة. وفيما توجه طابور المؤمنين إلى السطح الزنخ للسفينة، بسيقانهم المبتلة، متأبطين السجادات، ويهمهمون وراء المؤذن، حجّ -الوالي المستقبلي-إلى أول قبلة حب حقيقية في حياته. صعد مرتعشاً وشاحباً السلالم الخشبية، إلى القمرة العليا. طرق بابها، فردّت عليه إحداهن بلغة غير مفهومة، فأشار لها بلغته.

فتحت الباب بطريقة مواربة، وأبقت نفسها وراءه، وعندما رأت شيئاً من وشاحها، مدّت رأسها قليلاً لترى حامله.. هكذا رأى الغريب الوجه الثلجي المحاط بالشعر البني الضارب للرمل والمتضمخ بالروائح النفاذة لمدن التفاح، وفكّر دون تمعّن: يا للجمال!

كانت امرأة في نهاية العشرينيات، بملامح أوراسية، لها طوية أجفان شهوانية وعينان خضراوان، وارتفاع في عظام الوجنة. التقطت الوشاح، وأدنت من رأسها لتحيته، وغمغمت شيئاً لا يعدو عن أن يكون شكراً. واربت الباب بهدوء حابسة أنفاسها، إلى أن سمع الغريب صدى التكة الأخيرة، يومض في دمه المهراق.

استشعر فداحة خراب الأجواء الباريسية على فحولته، لقد قتلت فيه السيولة المفرطة للحب كل نأمة. مع ذلك رأى في الغزوة الأولى للوشاح تعافيًا للشرقي الذي ظل يوخزه ولا من يدري. أتت عشية أخرى من تسهّداته، وهو يبكت نفسه متوسداً كتب الحب، حين باغته طرقٌ خجول على الباب. انسحب الدم المتجمع في وجهه إلى أطرافه. نهض بتكاسل، ظانا المساعد قدم إليه بقوالب الثلج، عندما كانت تقف في غشاوة العتمة، أسفل السلم الذي يؤدي إلى القمرة العليا، فتاة ناولته حقيبة بلاستيكية صغيرة، ومضت.

دون معرفة ما يقرره هذا التصرف بمقاييس الروح، التقط الحقيبة وبانهزام وارب الباب. ولأنه خائب الرجاء وتعس ولا يتسق له أن يحب دون أن يشعر بدبيب النمل الناخر عظامه، بادلت السيدة قوالب الشكولاتة بنسخة عربية من القرآن، وسبحة من الخشب المعطر.

احتار كيف يتعامل إزاء هذا الإيحاء الديني المغرق لتوقعاته، لكنه على أية حال، لم يكن ليفهم من هذه الهدية إلا كونها رسالة شرقية محددة الألفاظ: بحق الله، توقف.

لقد كانتا امرأتين كازاخيتين؛ الأولى في التاسعة عشرة وهي الابنة الوحيدة لفلاح كازاخي خمسيني بارز العظام يعتزم الحج، والأخرى في التاسعة والعشرين، وهي زوجته الثانية التي تحتفل معه بشهر عسلها على ظهر الرحلة إلى الأراضي المقدسة.

في أوقات عزلتهن، تستغل الشابتان التبتل الطويل للشيخ الكازاخي في الفناء الخارجي لظهر السفينة، وحرصه الوسواسي على عدم التخلف عن صلاة الجماعة، ليتصيدن النسمات العابرة للمحيطات لإطفاء شبقهن البحري. رأين ضمن حيلهن الكثيرة، في تعليق حبل غسيل بين نافذتي قمرتهن، فرصة ليست أخيرة، لتكون إطلالتهن على المحيط هادفة.

في البداية، علّقن كتب الأدعية والمأثورات التي لا يجدن فيها الابتهالات التي تخص وضعهن، ولم ينتبه أحد، فألحقن ذلك بسلال الكافيار الكازاخي الأسود، ولم ينتبه أحد، فبدأن بإخراج النعال المصنوعة من اللباد، ولا أحد، ثم الملابس الشتوية المنسوجة من فرو الثعالب، وانتهين إلى الملابس الداخلية بسخاء من يرى في هذه القطع المثيرة، دعوة يائسة أخيرة إلى مطارحة الغرام.

استجاب لهن، في الليلة العاشرة لإبحارهن، الملاك كيوبيد بجناحيه الصغيرين، وقوس الحب مشرع ومشدود بين يديه. لا، ليس كيوبيد. كان رجلاً أخرق، بملابس إمبراطور، يحمل ضجر العاهرات اللواتي يأتي عليهن العمر سريعاً، ببشرة شفافة مثل المرمر، وعظام نخرة بالكاد تسعفه على حمل أعضائه، والتذكر البطيء بأن لعضوه التناسلي وظيفة أخرى غير التبول.

كان قد توقف عن إرسال إشاراته لأمسيتين، حتى لعن اللحظة الوشاحية، التي أتت له بضيق نفس مضاعف، وقد رأى كيف تم ردعه بقسوة عن اقتفاء الأثر الضائع لرجولته، وفي الذكرى الأسبوعية الأولى لـ"اثنين" خزيه، وقد أعيته محاولات التفتيش عن إيحاءات غرامية بين دفتي مصحف وحبات سبحة معطرة، أطل برأسه ليوقف دوار الأمواج التي تميد بنخاعه، ويمنع جسده عن التهالك، حين انهمر مطر الملابس فوق رأسه، ليصير بفخامته وهيئته الإمبراطورية، شماعة متحركة تعلق عليها الملابس الداخلية لشابتين محترّتين مشبعتين بالرطوبة والبلل في سأم هذه الأزمنة.

فكّر أن يبادلهن سرواله الداخلي، لكن ماذا سيفعلن به؟! إنهن لا يردن تعويضاً عن ملابسهن، وإنما عن ساعات الحرمان الطويلة، التي صرفنها في مراقبة شيخ نذر كل لحظاته للصلاة، ونسي أن الأجساد المحرومة جديرة هي الأخرى بلحظات من التأمل. لقد أحضرن معهن، أمتعة كثيرة، وعدد من المرايا بإطاراتها المذهبة. لبسن للجدران المصمتة فساتين القطن والكتان البسيطة بموادها التركيبية، والأزياء المشجرة الخفيفة والمطرزة يدوياً بالخرز، وارتدين الحلي والدانتيل ليعبّدن طريق عهر أرواحهن بهذه العفة العائمة.

كنَّ أقرب بقوامهن المشجر إلى بساتين تفاح وزهور مدينة ألماتي منهن إلى هذه الوحدة المقفرة الجوانب في موانئ البحر الأسود.

كان (الحاج قاسم تكاييف) قد اطلع في الخريف الماضي من قريب يعمل في الملاحة، على أنباء سارة بأن الباخرة الروسية المدارية تفير قررت الإبحار إلى الشرق الأوسط؛ فاغتنم الفرصة الثمينة للسفر إلى الله برفقة نيك التي تزوجها حديثا، وابنته الوحيدة غولنارا واللاتي صنعن من هذه الرحلة المستحيلة نزهة لتعويض اضمحلال الحب في صدورهن.

فـ(نيك) المثقفة الجريئة والعارفة الفطرية بعلم الحساب، افتقدت وئامها الداخلي، وقد قطع عليها ظمأ الحب كل دروب تعافي جسدها الشهواني من توهماته، بأن "الحياة هي في مكان آخر". لهذه الأسباب، يمكن تفهّم جزعها الدائم، وهي تبحث عن مفقوداتها في الأرصفة البحرية، بين أفواج الحجيج الذين يقتضي الأمر بالضرورة الاستثمار في تبتلهم، والعشاق الضائعين وهلعهم من المحطات القادمة. رمت صنارتها، لتصطاد شيئاً، لكنها حتى الآن، بقلة خبرتها، وعزلتها الريفية، عمدت إلى اقتفاء أثر المحرومين بوضع طعم خاطئ في أفواههم. لذا رأت في زي الغريب المسافر على نفس باخرتهن، فرصة لاستجلابه بصنارة الانتماء السلالي والديني المشترك، فأرسلت إليه إشارة الحب بين دفتي مصحف وعطر سبحة.

لكن العشيق، وبالأثر الأرستقراطي الذي لا يذكر في شخصيته، فهم سهواً السطور العربية لمرسال حظه دعوة للافتراق، حتى أراه القدر، كيف ينزل الحب من السماء أحياناً، على هيئة سروال داخلي أسود مخرم المقدمة، كثير الاستعمال، ليدرك أن ساعة العمل دقت: لقد توجه الشيخ قاسم تكاييف إلى محرابه، وخلا الجو للمتيم الغريق.

كان اختيار وقت صلاة العشاء محسوباً. طرق الغريب على باب القمرة العليا، وجده غير مغلق بالرتاج، وفي الخارج، على دربزين الشرفة الصغيرة المظلم، والمطلة على الساحة الخشبية التي يؤدي فيها الحجيج صلواتهم، كانت غولنارا تقف بمنديل أسود يلف شعرها الليلي المنسدل، واضعة ذراعيها على الأنابيب، ومقفية باتجاه الساحة، حتى أنه لم يتح لها أن ترى القادم الذي دلف لتوه باب قمرتهم.

كان المكان مضاءً بمصباح زيت موضوع على رف صغير، مرتب، وتفوح منه رائحة أصص رياحين، وسُبّحات عطرة. اختلطت الروائح بدخان الكيروسين وزنخ الماء الذي تخلفه السيقان المبتلة للشيخ قاسم تكاييف وحريمه على السجاد، فأضفت على المكان طابعها الجنائزي. فتح له هذا الامتزاج، ثغرة في رأسه كان قد أغلقها في أصايل مراهقاته: رائحة المساجد. قالت نيك بالروسية: لديك فقط عشرون دقيقة، لكنه لم يفهمها، فشرحت له بالإشارات سريعاً، ثم اكتشف أن لديها لغة تركية مُكسّرة.

كانت تلبس فستاناً كازاخياً من قماش سماوي ناعم وخفيف مطرز بخيوط الذهب، ومطوقاً بحزام مظفور يبرز خصرها ونهديها النافرين، وترتدي سروالاً قصيراً من قماش منزلي، وتتصرف بشكل تقني، أوحى إليه بخلل في تصور هذه المرأة للحب.

هو أيضاً عديم الخبرة، ويريد أن يعرف ما الذي تفعله النساء، في أسرتهن، لذا بقي ذاهلاً مشدود القوام، كمن يقف أمام خياط سترته، وحين رأته خانعاً وبلا حيلة، تكفلت بخلع الأزرار الكبيرة لبذلته الزرقاء التي على واجهتها الفضية رأس المخلوع نيكولاس الثاني، كما خلصته من مشده الذهبي، والوشاح الإمبراطوري العريض، حتى بدا لها بين هذه الطيات المحكمة سيفه المعقوف، كما لو أنه جرد للمرة الأولى من غمده. قالت له، بسرعة بديهتها في المطارحة: يبدو أنك لم تستخدمه في معركة قبل هذه؟ قال لها، وهو يختنق بجفاف حلقه: لمَ يفترض أن يكون هناك دائماً قتال في هذا العالم؟

وبحساسيتها المفرطة تجاه الوقت، أعطت حسابها لكل شيء. أربع دقائق لخلع ملابسه، وثلاث دقائق لأسئلة تقنية متعلقة بأداء عضوه وصلاحيته للحب، لكنها اضطرت لأن تأخذ من وقتها التقني، لصالح أمية الغريب المفزعة وتساؤله الطفولي في وظيفة النتوءات والثقوب الكثيرة للمرأة، إلى درجة أنه اقتبس من هذه المطارحة المقدسة للغرام عبارته الشهيرة: المرأة هي إلهة الحب والثقوب الكثيرة.

هي أيضاً، أخذها الوقت، وهي تحاول اكتشاف الخداع، في قوله: "أنا قادم من باريس"، لتقصي الحال الذي وصلت إليه مدينة النجوم والأدب، وقد أصبحت مصنعاً لهذا النوع الساذج والأمّي من الرجال. قالت له، وقد أعيتها الحيلة: يبدو أن لك باريسك الخاصة، لكن لا يمكن، أن نحتسب لأنفسنا هذه الليلة على أنها باريسية.

ضاجعته كما تتضاجع الحدآن في منتصف السماء. كانت تحاول أن تلهي رغبتها العارمة في الصراخ، بقراءة ما تيسر لها من المأثور، على أنها تلهج بالدعاء في لحظة كانت تحتضر فيها من اللذة. أما هو فمنطرح وكأنه على سرير طبيب الأسنان، ومع إعجابه بما يجري، إلا أنه رأى في شهقات الحب مبالغة لا طائل منها في إظهار المشاعر.

بالمزاج الكلاسيكي له، طلب منها ألا تخلع ملابسها، لأنه مصاب بالفوبيا العميقة من أجساد النساء. قال لها ذليلاً إنه قادر على أن ينتزع الثمار التي يحتاجها، من بين أيكة ملابسها. أما وقد صارت ترتعش في الذروة، وتحاول أن تنزع عنها جلدها، أحكم سيطرته عليها زاجراً: ابعدي تفاحتيك عن فمي.

لكنها عنيدة، ولا تضيع الفرصة على نفسها، لأن هناك من لا يجيد فن الغرام. ضاجعته، كما لو أنها ستفقد أعضاءها بعد هذا النزال. سحقته في طريقها كحشرة البق، ابتلعته مثل أفعى أنكوندا، ورمته من أحشائها، لزجاً ودبقاً وفي صدره بعض النبض.

وبالرغم من أنه لم يكن الافتتاح الدموي الأول لعذريته، ظل الوالي المستقبلي، يأتي في بعض غرامياته على ذكرى هذا الحب، باعتباره ضرباً من العمليات الحسابية الدقيقة، التي قد ينجو فيها المرء من العواقب الوخيمة للحب، والتي لا تنتهي عند العثور عليك مقتولاً في سرير رجل آخر.

مجّت آخر رعشاتها على وقع الطرق الخفيف لغولنارا الطيبة معلنة انتهاء وقت ركعتي النافلة، ودخول الوقت الحرج لبحث المصلين عن أحذيتهم، وهو وقت ثمين لعاشقين فزعين. هدأت روعه قائلة إنه يمكن استثمار الارتباك الناشئ عن تشابه أحذية المصلين، والشك الذي يخلفه ارتداء المصلين لأحذية بعضهم، وهم في غمرة الانشغال بالسماء. فلامرأة تعتمد الحساب معادلًا موضوعياً للحب؛ كان العاشق قد أغلق باب قمرته، عندما شرع الشيخ قاسم تكاييف بوضع أول خطواته على السلم الذي سيقوده إلى قمرته الملغومة برائحة حب طري كسيح.

هكذا داوم العاشق، كل ليلة، على دروسه المؤقتة جيداً، حتى أتت عشية حقيقته مقمرة، وتقترب من لون جسده الجليدي الشاحب، من كثر ما لقنته هذه الرحلة من المفاهيم والأوضاع.

نهض من آخر معاشرة له في المهجع الدافئ لـنيك منهوك القوى، ويرن في صوانه صوت صلصلة سلاسل المرساة على ضفاف الشرقية للبوسفور، مأخوذاً بمشهد النورس المتعارك على اصطياد أسماك البركودة الفضية الملتمعة تحت السطح الهائج.

أطل من نافذة القمرة على يمينه، هناك إذ يقف طبيب تركي بزيه الأبيض وشعره الرمادي يتحدّث مع رئيس النوتية ذي الجسد نصف العاري الممتلئ بالشعر بينما الغليون مشتعلٌ بين شفتيه. تفحصا قوائم المسافرين، وتدارسا السجل الصحي لهم. وبجانبهما، وقف بفضول، الشيخ قاسم تكاييف، يحرك قلنسوته على رأسه، ويطلق فسوات منتنة في فضاء النسيم البحري.

عاد العاشقان ليصلحا من هيئتهما، لأنهما لم يكونا قد خلعا ملابسهما كاملة، أثناء هذه المطارحة الوداعية. كانت قد أغرمت بطراوة عوده، وحسن طويته تجاه الغرام، لكنها لم تر فيه النموذج الذي يستحق عناء وتكلفة رحلة بهذا البعد. قال لها وهو يربت على الأثر الذي خلفته الحصيرة في ركبتي بنطاله: اهربي معي. ردت عليه، وهي تدخل حلمتيها في الحمالة: لن أفرط بعذريتي مع رجل يضاجع وهو بكامل هندامه. هكذا، انتهى ماراثون الساعة السابعة والنصف مساءً، مبهماً وغريباً، وبلا جدوى، ليفترق العاشقان. دون الشعور، بتبكيت الخطيئة أو الحاجة الملحة للتكفير.

وفي قمرة القيادة توقفت الموسيقى الفرنسية المنبعثة من المذياع، والتي طبعها الكساد الطويل بطابعه الرتيب لتقدم الحب على أنه ضرب من العرض والطلب، وبدلاً من هذه الموجات الخافتة، حلت الأنغام الحلقية التي يعرفها جيداً، ومع حميمية انبعاثها أنبأته أشياء أخرى بشأن وصوله إلى الديار!

ورغم إرساله للدراسة الحربية من الأستانة، إلا أنه ولد في الساحل الشمالي الأفريقي، عندما كان تحت ولاية والده الوالي الإمبراطوري (ديلك بيك). فبعد سنوات من عدم مقدرة الشيخ ديلك، توجيه الميولات غريبة النزوع لابنه، قرر وقد عاد إلى الديار إخضاعه لجرعة جديدة من المعالجة بالصدمة.. مداواته بالتوازنات العاطفية. استخرج بما تبقى له من نفوذ لدى "الباب العالي"، منحة دراسية له إلى باريس، في محاولة يائسة للعثور ولو على جزء بسيط من القيافة الخشنة لعصره.

كان (آق ديلك بيك) النجل الثالث من جارية انكشارية حملت به في ظروف غامضة، ووضعته تحت أشجار البرتقال في حديقة قصر زوارة التاريخي الذي بنته جماعة فرسان القديس يوحنا بنمطه القوطي على طول شريط الواحات، بعد فشلها في مهمتها التبشيرية منتصف القرن السادس عشر.

كان أواخر الربيع الساحلي قد حل، ويأتي المناخ الصحراوي الجاف برياح قبلية، تصل درجة الحرارة فيها إلى حدود الجحيم، حين شرخ الحديقة المتوسطية المعفرة بالضباب الرملي، صراخ الرضيع القادم. رفضت الجارية التي جمّعت بزحارها الخادمات، فصل الحبل السري للطفل من جسدها، مشترطة حملها إلى سراي الشيخ ديلك بيك.

دخلت إليه بختيار، خادمته الأثيرة، فوجدته طاويا ساقيه فوق بعضهما، على أرضية السجاد الفارسي، ومنهمكاً بتحرير فرمان يمنع تجارة الرقيق التي كانت في أوج ازدهارها. ألقى يراعه في الدواة، عندما استأذنته بالدخول، ورفع رأسه عن الرقيع الجلدي المبسوط على منضدة منخفضة، وقال لها: ما شأنك؟! حدثته، بنبرة لاهثة، رد عليها: لتذهب بها إلى والدها الحقيقي. قالت: إنه ولد.

تحاملت الجارية بثقل جسدها، ونهضت مستندة على خادمتين، ثم دخلت الصالون مترنحة وتئن، ووقفت فوق رأس الوالي مباعدة بين ساقيها. خاطبته بعيون وحشية تقدح بالشرر، والخيط السري مطوي على يديها مثل سائس على عربته، بينما المشيمة تقطر على السجاد: إن لم تأخذ طفلك، أقسم بالله لأعيدنه إلى داخلي.

حوقل وحسبل. حاول أن يتملص بإنكار صلته به، لكنه أذعن -في النهاية-لتوحشها. أمر بقطع الحبل السري، ووضعه بجانبه، ملفوفاً بقماط أبيض مضمخ بالكافور. تلاشت الجارية مع مشيمتها في السهب اللاهب لخريف رجاج، ورأى الشيخ ديلك بيك في النازلة الجديدة مسوغاً إضافياً، لإكمال ما بدأه من صياغة فرمان تحريم تجارة العبيد.

كان على الطفل قضاء سنيه الأولى زحفاً أو حبواً أو تسلقاً يتتبع بغريزة فموية أثر أمه الجاحدة، فطوّر نوعاً من المهارة الخارقة في المص. كان يلقم فمه النتوءات الصغيرة في جدران الجص، الأصابع الخشنة للخادمات، عصي الخيزران الزلقة، وحواف الصولجانات الأميرية.

أما وقد أتيح له أن يستند على الجدران بيديه، مصّ شحمات آذان قريناته. وعلى سبيل الدعابة الخبيثة، أُستخدم وراء الجدران السميكة للحرملك، في مص كعوب وأثداء الأميرات اللواتي حرمتهن مقتضيات المكانة معرفة أن للحب رعشة. ثم بجهد ومثابرة، أصبح الابن الرؤوم بالرضاعة لكل فتيات وفتيان السراي، ليتم المقامرة بمستقبله الأمومي في لحظة ظمأ إمبراطوري.

قيل –أيضاً-على سبيل الثرثرة، أنه رضع من لبؤة القصر. لقد شجّع سوء الفهم في مسألة أصله، تفادي الشعور بالحسرة عند توظيف نسوة القصر، للهفته البريئة، بما يعوض حرمانهن المزمن، الذي صُوّر طويلًا على أنه جزء أصيل من بروتوكول سيطرة الأرستقراطية على السلطة.

بلغ الفتى في غفلة الزمن الهارب، بمهارة المص؛ قريباً من الثديات باختلاف نتوءاتها، حتى وعى والده الحاكم أن في بلاطه مراهق مخنث، مصت الدنيا عزيمته، وألانت عظامه.

أراد في البداية أن يعيد تشكيله بطريقة صلصالية ويجعله فحلاً بالقطيعة عن ماضيه الصغير الملتاع: أغدقه بأزياء الخيالة وأوشحتهم، وقلده السيوف المجوهرة المقابض، وضبط الحذو الصارم له ليلزمه كبرياء الملوك. لكن الطفل كان أبعد من أن يمتشق أسلحة خارج موهبته في استدرار الحليب من الحلمات المنسدة.

كان يملك سلاحه الخاص، ولا يحتاج إلى مجالس الكبار، ليتم الاعتراف بعبقرية القيادة في شخصيته. استشعر المعنى الحرفي لقسوة العيش، مع المحاولات الأولى لسلخه عن المجتمع الإيروتيكي للحريم، فازداد نفوراً.

عيّن له الوالي مربيًا ملتحيًا لقّنه مع أول الصفوف الدينية دروساً جانبية في المفاخذة المشروعة. أدرك الوالي خيبة مساعيه في إصلاح ما أفسده القصر. أرسله على ظهر بعير إلى مجتمعات الطوارق لاكتساب جفوة الصحراء. حبسه في أقفاص الدجاج، أدخله مدرسة نامق باشا الحربية، وبعد ليال من الهيام، عثر عليه داخل صف تعليم الموسيقى لفتيات للجالية الفرنسية، يوقوق ويحوّم مثل ديك احتبست في جوفه فسوة.

لجأ الوالي لمعالجة الفتى بالكي.. اشترى له بثمانين ليرة، أمة أفريقية ناهضة من سوق الترك. كانت معروضة جنباً إلى جنب مع أكداس التمر والعاج والزعفران.

شرح لها بالتفصيل المبتذل، كيف ستعالج الميولات السائلة لابنه بالصدمة المضادة. وبعد سنوات قليلة من اغتصابه، ستظهر في تصرفات الفتى الأعراض الأولى لفوبيا الخوف من أجساد النساء. تأكد الوالي أن فتاه الوسيم فقد نعومته، لكنه لم يكتسب مقابل ذلك أية مهارة. أقال الإمبراطور الوالي ديلك بيك في السنة التي اختفى فيها مذنب هالي، بعد جملة إخفاقات متواترة أدت إلى اشعال ثلاث ثورات عشائرية، فعاد مهزوماً وملاحقاً بالعار إلى الإمبراطورية.

وصلوا الأستانة من بلدة إزمير في الغرب. رأى الصبي لأول مرة الشرفات الظليلة المطلة على الشوارع، إذ يلذ الجلوس فيها ومشاهدة المارة من رجال ونساء وهم يتجهون إلى الأسواق لشراء فاكهة القامبو ودقيق شجرة إبراهيم. كان الرجال يضعون على رؤوسهم العمائم ويلبسون القمصان البيضاء، بينما تضع النساء غير المتزوجات الحجاب الأبيض على وجوههن، والمتزوجات الحجاب الأسود.

في العاصمة رأى الفتى الذي لا يزال يكابد أعراض ما بعد الصدمة أقرانه يتطلعون للهجرة شمالاً. كانت أوروبا التنويرية قد غزت القلاع الحصينة لإمبراطورية الخلافة، ما أمكن سماع قرعات البيانو العذبة تنسرب من شقوق قصور الأمراء الأرستقراطيين، قبل الطبقة الأقل منهم نبلاً.

ومع شيوعها، بقي تعميم المعازف رذيلة لا تتفق والمسحة الوقورة، التي تمد الإمبراطورية بثقلها. وها هي خمس عشرة سنة انقضت على تلك العودة، كافية لأن تخاطبه بلغتها، فكان عليه أن يترجل من على سطح السفينة المدارية تفير وجلاً ليس على أنغام الموسيقى الكلاسيكية الشرقية فحسب، وإنما على موسيقى شوارعية مختلطة بأنغام الفوكستر، والتي تطبع الذهن بطابعها المركّب الغريب. هو –أيضاً-غريب وبوجود مركّب.

ولم يكن قد أفاق بعد أكثر من سنة في شوارع العاصمة، وهو يحاول إعادة قراءة وتعريف واقعه، حتى رماه سوء الطالع الذي يلاحقه مثل ظله في أحراش بلد عربي، هو الآخر، غريب، وحزين، بعيد ومنكوب، ولا يزال يرزح في غياهب العصور الوسطى: السعيدة.

أخذ شهرين كاملين، لترتيب أمور الجيوش وبعثها لقمع التمردات الصغيرة في طريقه وطمأنة الزعماء المحليين بأن الإمبراطورية سوف تعوضهم عن فقدان وظائفهم كقطّاع طرق، أو قد يضفي الوجود العسكري الجديد مهابة إضافية إليها. عبّدت هذه القوات الطرقات المؤدية إلى العاصمة صنعاء تسهيلا لمرور عجلات المدافع ومد أسلاك التلغراف وربطها بالكابل البحري الدولي. وفي غضون أربعة أسابيع، كان على الوالي أن يتلقى وهو في الأستانة تحديثات يومية بالوضع العام من موظفي المنابلة والمخابرات السلكية.

أعطى الوالي الإشارة لبدء رحلة عذاباته ببرقية مشفرة حملت الرمز السري "لقد لسعتها النحلة". ارتدى ملابسه الرسمية، بينما تكفل الخدم ليلًا بحمل صناديق متاعه، واقتيد إلى المرفأ تدفعه الريح أكثر من خطاه. كان صباحٌ خريفي ساكن عندما أخذ ثلاثة من العمال الزنوج نصف العراة بيديه لكيلا يفقد توازنه أو يسقط عصا الإفاقة من إبطه. ركب القارب الخشبي الصغير مع خمسة من كبار بطانته، هم: كنعان باشا، الذي شكّل بعد سنوات جيش الجندرمة المحلي حافي القدمين، وحسن تحسين باشا الذي بفضله تم تسمية جيش الدفاع بعلي فنيلة، وعلي سعيد باشا الذي حقق الانتصار الوحيد للإمبراطورية على الإنكليز في محمية لحج، أهّله لعقد صداقة متينة مع المقيم الإنكليزي بمستعمرة عدن الذي كان يتعهده وجنوده نهاية كل شهر بعلب السجائر، فلا يكاد جنوده يستلمون نصيبهم حتى يهتفوا بأعلى أصواتهم: عاشت الملكة فيكتوريا! والمعالج الشعبي اليوناني تنساكي أفندي الملهم الروحي للوالي وصاحب نظرية الحكم بالإيحاء الداعر، ومستشار خامس من ضآلة ماضيه وضحالة مستقبله ترفعت الحاشية عن أن تحط من قدر مقامها بإرفاق اسمه إلى جانبهم، لكن الأقل جحوداً في هذه المهمة قالوا إنه كان عشيقاً خفياً للوالي.

كانت قد ألمت به في الشهر الأخير وعكة صحية من ثقل المسؤولية التي رازته. أوقف جولاته في الأزقة، ورمى العصا الذي كان يحمل إكسير غفواته المفاجئة، وبدلاً من أن يجعله المنصب أكثر انفتاحاً أغلق باب القصر الذي خصصه (الباب العالي) لإقامته المؤقتة في عاصمة الإمبراطورية.

وبدلاً من دراسة الجغرافيا السياسية والاجتماعية للبلد الذي سيحكمه، ازداد عهراً في تصوراته لمشاق المهمة. كان يقضي ثماني ساعات كاملة مختلياً بالمعالج الشعبي اليوناني تنساكي أفندي مغلقين على نفسيهما صالون الاستقبال، ولا يعلم إلا الله ما يجعلهما على هذا النحو من الارتباط. كانا كلما استطلعا كل شيء، ينتهيان إلى النتيجة الصفرية التي أغلقت عليه أبواب سلوته، وقد واجهه المعالج الشعبي بالمآل البائس: نحن ذاهبون إلى الجحيم، مع أن كل شيء هناك متجمدٌ في ثلاجة العصور الوسطى.

نام في تلك الليلة بلا رحمة تحت وقيد هذا التعبير. كانت ليلة عاصفة، تصفق درفات نوافذ مخدعه محملة بعبير قصب الذرة الشامية وحقول القطن الممتدة على طول شاطئ بحر مرمرة. استولى الرعب على قلبه، مثل العاصفة الناشبة في هدير الأمواج، والمبددة صخب الصيادين على السطح الهائج.

في منتصف الليل، استيقظ على نفسه عارياً في الممر المؤدي إلى الحمام، يهذي وجسده المتعرق يرتعش. لم يعرف على وجه الدقة الظرف الذي أجبره على خلع ملابسه كاملة. عاد إلى فراشه، وارتدى بيجامة نومه، ليفيق فجراً على حلم بمجموعة من الغرباء يركضون خلفه. كانوا يريدون وضع نحلة لاسعة في جيب سترته، وفيما هو لائذ بالفرار اصطدم بكومة من النساء مهلهلات الأردية وعلى رؤوسهن عمائم سوداء، وعلى أذرعهن المتخمة وشوم جالبة للحظ. حاول الانسراب من شقوق صفوفهن، لكن إحداهن عمدت إلى استخدام أكثر الأسلحة إلى نفسه فتكاً: التعري. ما أجبره على قطع شخيره الضارب في رئتيه.

كانت الرياح الشمالية تزأر وترسل ندف القطن ورغوة الزبد إلى نوافذ صالونه، وفي الأفق الغربي لاح نذير هطول أمطار صباحية مع لمعان خافت للبروق. كانت رطوبة الأجواء خانقة، وشعور داهم بالتعب يخذل همّته محيلا بشرته الجليدية إلى نوع من اصفرار المصابين باليرقان. استدعي الطبيب والمستشار، تنساكي أفندي بصفة استثنائية. لجأ الأخير لعلاجه سلوكياً محاولاً تغيير عاداته في الأكل والتشاؤم من النساء، لإدراكه أكثر من غيره، أن الوالي مصاب بعلة لا يمكن البرء منها: فوبيا السلطة.

وجد المعالج الشعبي أن وصفة التحفيز بالدعارة لقيت استجابة لدى الوالي فاقترب أكثر من سلوكه البوهيمي الخدّاع وكواه بذكرى قديمة لرحّالة إيطالي التقاه في الحديدة على المرفأ الغربي للسعيدة.

كانت الذكرى عن بلدة فقيرة تقبع في مرتفعات السهل الوسيط؛ أخبره الإيطالي عن نُزُلها التي تقدم الحب ساخناً مع أطباق العشاء. انعشته هذه الإلماعة، برقت عيناه وزال جزء من الاصفرار في بياضهما. تساءل بما عهد عنه من السذاجة واللطف: وهل نستطيع الإبراق لجنودنا، نبلغهم أن الوالي سيتناول وجبة عشائه بينهم؟

رد المستشار: يمكن بطريقة أو بأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا البلد لا يمتلك من أدوات التواصل سوى المرآة. قال الوالي بغرور فارغ: لا مشكلة، لقد أعدنا ربطهم بالعالم.

هكذا قدّر للوالي التعافي وقد رأى بمعاييره المقلوبة وميله للمتشردات إمكانية التنقيب في فرصة السلوى الوحيدة هذه عن نفط سعادته، عن متع أخرى لممارسة الحكم الرشيد لدولة الخلافة، دون المساس من قدرتها على القيادة. بتلك السكاكر الحامضة أقنع الوالي الطفل الذي بداخله وكأنه ذاهب لاعتلاء أفعوانيه أو تعليق أرجوحة في أوتاد البلد الذي لا يعرف سكانه بعد معنى كلمتي: لهو ومجون، وحدّد ذلك اليوم التمّوزي الفائر موعداً لتغريبته الأبدية.

كانت قد سبقته إلى الباخرة الحربية جرين لاند أربع سرايا من الفوج الأول التابع للواء الثالث بقيادة المارشال أحمد فيضي باشا، مع عدد من الخيول والبغال وثلاثة مدافع إلى جانب الصناديق المعفرة والمملوءة بالملابس وبعض الذخيرة.

كانت شمس الأصيل هامدة ولها وقع ظالم، ما أجبر الوالي على تغيير قعدته، ليعطي عاصمة الخلافة ظهره. إنه متجه لأرض الأساطير، واللبان والمر العلاجي. ساد جو من الوجوم الظاهر على الوجوه التي يؤرجحها القارب، وشاع إحساس غامض بأن هذه الرحلة ذاهبة إلى الموت، تحول بعد ذلك إلى فزع مع شق القارب الخشبي طريقه في مضايق السكون.

لكن ما بدأ في الأول اعتدالًا في مزاج الوالي المتجلل بمسحة وقار، تحول إلى سوداوية وتعرُّق مع ثقل الهواء الذي بالكاد ينسرب إلى الصدور في الزمهرير الصباحي. بعد دقائق انتشل معاونوه وجوده السئم إلى سطح السفينة فتصاعد البخار من أنبوب العادم. أطلقت الثكنة في حصن السلطان محمد الثاني ثلاث طلقات مدفعية، تحية لما عرف بعد ذلك بآخر مهمة استعمارية لإمبراطورية القرون الستة.

وباستثناء تنساكي أفندي الذي خبر أوقاتاً بحرية قاتمة، رزح الجميع تحت وطأة صمت كئيب، وقابل الوالي الاحتفال الذي أبداه الطاقم والحاشية بقدومه بنوع من الانطواء المبدد لكل جهود تصنع الحكمة. قال وهو يحدق إلى خيط الدخان الذي خلفته المدافع في السماء: وفروا قذائفكم، لا أحد يحتفل بالفناء.

وتتبع الباخرة جرين لاند التي تقلهم إلى السعيدة الأسطول البحري لصاحبة الجلالة في إنكلترا، حين أعلنت بحرية الإمبراطورية السيطرة عليها قبل ما يربو عن ثلاثة أشهر بحجة دخولها المنطقة المحظورة في مدخل مضيق الدردنيل. وهي مزيج من البواخر التجارية والحربية. وبالرغم من وجود أربعة مدافع عيار ثلاثمائة ملم على سطحها إلا أنها لم تكن قد خاضت من قبل مناورات ذات طبيعة قتالية أوسع، أما عجلاتها الجانبية الضخمة التي تدفعها بمعدل تسع عقد بحرية في كل مرة، فجعلت تكاليف تشغيلها باهظة، لذلك وبعد هذه المهمة، رفضت الإمبراطورية، فكرة عودتها إلى سواحلها، وفضلت بيعها كخردة عندما ربضت في المياه الإقليمية للسعيدة.

وقبل مرور القراصنة على هيكلها المحتضر قامت بمهمتها على أكمل وجه، طافية بأرضيتها الخشبية الواسعة، والأعداد المبالغ فيها من البحارة الذين يتولون تغذية المراجل وقيادة دفتها بمهارة منقطعة وبذخ أثاث مقصوراتها وغرفة تناول الطعام التي على طراز عصر الملكة آن، وطواقم الطهاة والندل الذين قلبوا أوراق الكوتشينة أكثر من الخس والملفوف.

قطعت الدردنيل بانسياب بطيء لتفادي الحواف الصخرية للمضيق. ضاع الأفق بعد بحر مرمرة، وبرد الهواء، فداهم الدوار الجبار قلب الوالي وحطم عزيمته. أغلق على نفسه باب قمرته وانطوى كالملدوغ في سريره ذي الكلة، وأعطى توجيهات إلى حاجبه بعدم إدخال أحد قبل الساعة الرابعة عصراً.

كان مستسلماً بالكلية لقدره وعندما تعبر الحياة في مجاله يُصلح من هجعته، يلتقط كتاباً من على طاولة المصباح، يقرأ منه ثلاثة أسطر، حينها تكون قد أنعشته الذكرى الماجنة لمضاجعات عودته من باريس. لكن هذا التذكّر الأعمى المحموم يقوده إلى مضاعفات وهزال ليس بحاجة إليهما.

كان تنساكي أفندي، قبل خوض غمار هذه الرحلة، قد كتب توصيته إلى (الباب العالي) من واقع مراقبته لنزوع الوالي وتوعكاته. تضمنت أخذ رغبات الأخير وتوقه الجامح للسلوى بعين الاعتبار، وأنه لا يمكن تقدير قبول هذه المهمة المستحيلة إلا بمكافأة تتناسب واهتمامات الرجل. جهزوا له في ردهات الباخرة صالة رقص ومنصة خشبية صغيرة لفرقة موسيقية تتكون من عازفين اثنين لآلات وترية، السنطور، والساز، وعازف درام، ومغنٍ شاب وعازفة كمان.

أدخلت عازفة الكمان ذات العشرين ربيعاً الحسناء رمش ناز الرابعة إلى الفرقة العسكرية بفرمان رسمي. وباعتبارها الفتاة الوحيدة على ظهر العابرة، تنحدر هذه المحظية الشركسية من سلالة مملوكية نبيلة عمل معظم رجالها في خيالة الإمبراطورية.

وكان (الباب العالي) قد رأى في ضمها إلى الطاقم فرصة لإغواء الوالي دون عناء إخباره بالأمر، لأن الشبهات والوشوشات عن طباعه الانعزالية الغريبة كانت قد طغت على كل الوشايات الرسمية بعيد تسنيمه رأس القيادة.

وكان على طاقم الترتيب للرحلة أن لا يظهر أنها هنا لأجل الوالي كي لا تنسد شهيته، لكن الأخير كان قد طور قرون استشعار صار بإمكانها تلمس الحيل. رآها أول مرة وهي ممسكة بآلتها كي لا تثير شكوكه، مرتدية ملابسها التقليدية المحتشمة التي تسد المجال كاملاً في وجه سوء الفهم. لكن البريق الملتمع في عينيها المكتحلتين وشعرها الكستنائي الوديع بضفيرتيه الجاسرتين التقليديتين وشى بها. هذا الإيحاء الفاضح، رمى عن الحسناء معاطفها الثمينة وحرر خصرها من الحزام المذهّب المصنوع من وبر الماعز وأنزلها إلى مقامه من كعب حذائها العالي.

لاحظت رمش ناز الرابعة كيف عرّتها نظراته الأولى، عندما كانت واقفة بين جوقة المستقبلين المصطفين على ظهر الباخرة: اليد الرقيقة التي امتدت لمصافحتها، وحدبة السلطة التي نبتت مبكراً في قوامه المتصابي. أرهفت لعينيه النجلاوين اللتين احتجتا بانطفاء الشغف داخل بؤبؤيهما، لحظة المفاجأة التي انصعق بها: في موكبه المظفر امرأة.

وعلى عكس ما ارتسم في ذاكرتها الموسيقية من أنها سترافق محارباً في ذهابه لتأديب أعتى قطّاع طرق الأرض. شهقت وكادت أن تغطي فمها بكفيها وهي تطالع إطلالته الأولى: يا للرجل المخنث!

كان قميناً بإذابة أي مظهر للرهبة، ولذا عندما جاء الدور عليها لتلقي التحية على فخامته. شزرها بالحاجبين المعقودين للوطي عصره توماس بوكانان، وقال معطياً وجهه لمستشاره المعالج الشعبي تنساكي أفندي دون وازع: أنت أحضرت هذه الشرموطة؟ قال المستشار بالعجلة التي تميّز حروفه: عازفة الكمان في فرقة حضرتك.

ابتلع الطعم رغم بقاء الخطّاف ناشباً في لسانه. مدّ لها يداً مرتخية ليشرع بسؤال البروتوكول: هل تستطيعين عزف مقطوعة "سفينة الحمقى" لشوبيرت؟ ردت وبإحكام من قبضتها على راحته، وهازّة ذراعها بطريقة بحارة متنادمين: نعم، وأستطيع – أيضاً-عزف مقطوعة موزارت "أين تدفن الجنائز حين تظل الطريق إلى المقبرة".

رشقها ببريق غريب، وفاقمت البديهة التي أبدتها عازفة الكمان من حدة وسم اللوطي بين حاجبيه وأكسبتهما وقاراً ذكياً، حين زجرها: أفلتي يدي.

مستشارو الوالي اعتبروا وجود هذه الجميلة، حاسماً في الانطواء الاكتئابي له داخل قمرته والتقلبات الغثيانية لشهيته وعزوفه اللامفهوم تجاه المتع الوفيرة التي كانت كلها طوع إرادته. ففريق التحضير، إلى جانب هذه الفرقعة الفرائحية المتحركة، أبقوا له الركن الصغير المخصص للبار تماماً كما غادره آخر قبطان إنكليزي ثمل والكأس الصغيرة للكونياك التي لم يتح لشاربها فرصة عب النخب الأخير منها.

لكن الداعر بنفسيته المعقدة خالف كل توقعاتهم، فاكتفى من كل هذا الدلال بطبق صغير من البيض المقلي بالأعشاب العطرة وشريحة مقرمشة من الخبز وعزمٍ مفتتٍ. عادت إلى سباته مشاعر الملل التي تبددت، وظللت نظرة الشفقة عتبة هجعته، لينهض عند الرابعة عصراً على فخذ ديك رومي متبّل بصلصة الزيتون.

أشاعت روحه أجواء من التهامس لدى المستشارين الذين خبروا السلطة في كل عثراتها وأتوا بسوء خاتمة الدهور على حيوان الكوالا هذا. كانوا يحاولون أن يلتقطوا إشارات تمكّنهم استنتاج أي نوع من المعارف يمكن أن يقدمونها. يرغبون في ضبابية هذا التكليف معرفة ما الذي عثر عليه الإمبراطور الأعظم ليعاقبهم بهذا الغم المبثوث. قال حسن تحسين باشا: هذا الرجل واحم.

إنها لحظة عائمة كلياً، أماتت في نفوسهم فراسة التكهّن، وأكسبتهم مع مرور السنين عددا لا يحصى من عادات تزجية الوقت: من تدخين الأركيلة طويلة النبريش، إلى لعب ورق الكوتشينة، ورمي أحجار النرد، وفرقعة أحجار الدومينو.. حتى أتى يوم الرابع من تشرين المشؤوم ذاك، وهم ضائعون في بلدة صغيرة كـ(قِدار) يحتسون الكونياك في فناجين القهوة صباحاً.

اختفى عالم الخضرة المشرق الذي يميز حوض البحر الأبيض المتوسط بما ينطوي عليه من احتضان ودود للمشاعر، وضاع الفضاء في أبعاد لا حدود لها. نهض الوالي في أصيل أحد أيام دواره بالقرب من جزر تيندوس التي ستصبح بعد سنوات قليلة ساحة معركة كونية. قال بغموضه المليء بالحيل التلمودية، متلمساً طريقه بين سياط شمس الظهيرة اللاهبة: احضروا لي سجادة.

أحضر له أحد الخدم سجادة مكّية. استفسر عن اتجاه القبلة، وبسطها بخشوع قل نظيره على السطح الساكن. صلى بركعات متأنية طويلة، وقرأ قصار السور بصوت خافت يتخلله هسهسة قحب، وقبل نهوضه انتهى إلى تمسيد وجهه ولحيته بكفين مطبقتين.

أثار المشهد جلبة مرحة، وتطايرت في أقبية الباخرة ضحكات محبوسة من أفواه الحاشية التي صارت نميمتها علنية. قال المعالج الشعبي اليوناني تنساكي أفندي وهو يجلس على قاعدة أحد المدافع، آمناً جانبه بعد أن انسلخ عن الوالي وصار مع رفقة جيدة تحفظ له بوائقه: هذا الوالي سيموت مخنوثاً.

كانت تسعة أيام، خاضت فيه الباخرة شعاب أحد أكثر المناطق الاستوائية حرارة، في الوقت الذي تكون فيه السنة أكثر قيظاً وتتحول رائحة الشواطئ الترابية إلى نوع من البخار المخم الكريه الذي يشعل الأفئدة بجذوة الحنين إلى اليابسة.

سرت الباخرة بخفة مع تحرك النسيم الذي داعب الوجوه المتعرقة ما جعل أسراباً من طيور الشنقب تغادر سبخات الحرمل بمياهها المخاطية وتحرك الأجواء التسلية والمرح التي كانت قد ركدت على السطح الدبق من أن هناك من لا يزال حياً داخل هذا التنور.

في إحدى الأماسي وقد اقتربوا من الساحل العربي، ظهر على الجهة المعاكسة مركب محمل بشحنات من البن في طريقه من المخا إلى ساحل جدة، حيث لا يفرق عمال الميناء من الزنوج بين الحجيج وأكياس البن إلا في كونهم حمولة تخضع في تسعيرة نقلها للوزن.

تناول الوالي وجبته فعاد الدفء إلى جوفه. فضَّل، على غير عادته، البقاء في السطح منشدهاً للسحر الذي يولده المشهد المنساب. وبافتراض دخوله المنطقة البربرية المنوط به ترويضها قرر أن يضع سلطاته الممنوحة محل اختبار، وقد انتابته رغبة غير مسيطر عليها لإبادة القراصنة المفترضين.. عراة الأجساد، الذين تستر أعضاءهم قطع مكرمشة من المآزر البالية، ويتمنطقون مطاوي معقوفة تنوس في خواصرهم المشدودة.

كان المشهد بانورامياً ومنفلتاً وآتيًا من تسهّدات عالم ألف ليلة وليلة. أعطى بالحكمة التي تعوزه كحاكم مطلق أوامر إيقاف هؤلاء البرابرة طمعًا في تحسن مزاجه. ساد جو احتفالي من الهرج والمرج، عزفت على إثره الفرقة مقطوعة حربية. تأهب الجميع لأول معركة في الطريق لامتلاك أرض المر والبخور، باستثناء المستشارين الخمسة، الذين صادفت المعركة الدور الحاسم لنزال "الكوتشينة"، فاختاروا المتابعة على إلهام قائدهم شذرات من جواهر علومهم.. انتهى الأمر بإطلاق المساعد الثاني للقبطان قذيفة مدفعية في الهواء لإنذار الأعداء.

وبدلاً من أن يتوقف أو يأخذ مساراً أبعد، حوّل المركب دفته ليقطع مسار الباخرة ويخلف وراءه العبق الدافئ الذي لا يقاوم للقهوة العربية وصفير احتفالي لتسعة من عبيد شاطيء مالبار، الذين قرروا استخدام الأسلحة التي يجيدون القتال بها: دلقوا كؤوساً خشبية من عرق جوز الهند دفعة واحدة، ورفعوا مآزرهم عالياً، ليشهروا للوالي المتأهب سلميتهم، أو بالأحرى أروه أي أسلحة ثقيلة متمددة بين سيقانهم، يمتلكون.

دارى الوالي هزيمته بالطريقة التي كان يجيدها، لا التي خبرتها بطانته، قالباً هزيمته إلى نصر مبين: نقّب عن البهجة الكامنة في مشهد الأعضاء المرتخية للبحارة، وفتّح مسامات إدراكه على حقيقة أنه لا شيء فوق أن يكون الإنسان مرحاً. خال نفسه مرتمياً بين زكائب الخيش المعطرة بالقهوة، يحتسي الخمرة الرديئة من كؤوسها الأكثر تعتيقاً، ويشهر عضوه الحزين في وجه كل التزامات السلطة وضروريات ممارستها.

بين هذه النية المضمرة للعربدة وتنطط جسده الشبحي مثل مصاب بالسفلس، سجّل الميزان المائي أن الباخرة أضحت على عمق اثني عشر متراً. حوّل القبطان ذراع التلغراف إلى إشارة قف، وتناهى إلى الجميع القرع الحاد لسلسلة الإنذار معطية إشارة إلى عمق المراجل التي تدفعها بعناء إلى الأمام لكي تتوقف. أبقت على تقدمها لبعض الوقت بفعل تيار المد جاثمة أخيراً في الظلمة خارج الصخور المرجانية، على بعد سبعة أميال من مرفأ الحديدة، وهي آخر نقطة إبحار لها، قبل تفكيك فولاذها فؤوساً لفلاحي الإقليم التهامي.

تم ترتيب الصفوف على السطح كما قدّر لها أن تكون ساعة الانطلاق. أخذت الفرقة الموسيقية صفها وجلس الطباخون والندل ورئيس الطهاة على الكراسي المنجّدة بالقطيفة، واصطف أربعة مستشارين على الجهة اليمنى بالمقابل من قمرة القائد. أعاد الوالي ترتيب هندامه لكن هذه المرة بمزيج من قطع ملابس عسكرية فرنسية-إمبراطورية، والتي لم يكن ليتجرأ على هذا الخلط لو كان في عصور أكثر ازدهاراً.

وعلى أحد المدافع المغطاة بالقماش الثقيل للخيم، كان يقعد تنساكي أفندي مثل طائر زمج الماء، يتسلى بفصوص بزر اللوز المر، ويمحو ثلاثة إبهامات فحمية من جبينه، هي الأثر المتبقي من خسائره الطروادية في أدوار الورق.

خرج الوالي ملتمعاً فراقه الانضباط العسكري لحاشيته وأعاد إليه رباطة جأشه بعد فوضى هذا الإبحار المنهك رغم النتوء الشاذ الذي كان عليه كبير مستشاريه. حيى الجميع بإشارة منه وتوجه إلى البار الصغير طاوياً عصاه تحت إبطه.

عدل مزاجه بكأس صغيرة من الكونياك. كانت قد عبرته قبل ساعات قليلة سحابة غم وهو يبتعد عن الساحل الأفريقي ويرنو بعينيه إلى مجموعة أكواخ خوص يخرج من بين ثغورها طوابير عمال عراة، أجسادهم محترقة، يقومون بتنظيف القناة من الرمال والسباخ، وفي محيطهم على ظهر أفراس ناهضة، يطوّف ضباط إنكليز على رؤوسهم أغطية فلينية، يصرخون ويشدون الكرابيج بأذرعهم.

ما إن لاحت الباخرة جرين لاند، حتى ركض باتجاه الساحل ضابطان يلوحان بالكرابيج ويستحثان فرسيهما لتحويل خببهما باتجاه واحة العليق، ليكونوا على مسافة أقرب من قارب خفر السواحل التابعة للبحرية الملكية. إنهما عضوان في بحرية صاحبة الجلالة، ويقومان بحراسة المصالح الإنكليزية التي تذرع العالم ذهاباً وإياباً على الطريق التجارية القديمة نفسها التي استخدمها الرومان في رحلاتهم.

ما إن وصلا بين الكداكد الخضراء؛ بان مع أحدهما كلب صيد له وبر فاتح وذيل مبتور، أفزع أسراب الجداجد التي طارت صارّة في زنخ الوحل. حمل الضابط كلبه بين ذراعيه وغاص في الطمي حتى ركبتيه وصولًا إلى القارب. جدّف باتجاه الباخرة، بينما بقي زميله الأقصر منه يراقب بمنظار ما ستؤول إليه الأمور.

رست الباخرة قريبة من الحاجز الحجري الخشن للأمواج بعد إعطاء الوالي أوامره للقبطان بالتوقف. رتّب بيته سريعاً بما يتلافى أي إخفاق في الرد على أسئلة الإنكليز اللجوجين. قال لحاشيته وهو يلقنهم أدوارهم الجديدة: يجب أن تعرفوا أننا في حرب غير معلنة مع هؤلاء. ها قد جاء الوقت الذي لا أعرفكم فيه ولا تعرفونني، لنتخلى ولو لربع ساعة عن أوهام الإمبراطورية بالمجد.

حاول يائساً انتزاع كبير مستشاريه الغارق في واحدة من أكثر أدواره الورقية استشراساً، وقد سأله: بالمناسبة، من ستكون في هذه التراجيديا الصغيرة؟! ردّ عليه بمزاج مشوش منشده لحيل الفوز: سأكون تنساكي أفندي.

كان الوالي قد أعطى نفسَه دور سائس خيل، غير أن الأدوار اختلطت لكثرة البطانة المسافرة في هذا المسرح العائم. وصل الضابط الإنكليزي لاهثاً، واعتلى الباخرة مع كلبه بعد أن رموا له شباكًا من حبال الخيش الغليظ. استقبله الوالي بالطريقة التي ينتظر بها طالب مجد نتيجة تحصيله.

أدنى الإنكليزي قبعته وتأبطها، كان ينتمي إلى نوع من الإنكليز الوقحين الذين لا يتحدثون إلا نادراً، ووقاحتهم تستند إلى ثقة مطلقة بالنفس، مصحوبة بإحساس طافر بعضويتهم في المجموعة الأوروبية. جسد مفتول فوقه زي قتالي موحد منسوج من البولستر، فيما ينضغط على وسطه بنطال صحراوي اللون مموه ببقع زيتية، ويعتمر على رأس حليقة قبعة قطن كحلية مسطحة محشوة بالفلين، كانت تستخدمها البحرية الملكية بداية القرن، وعليها الشعار القديم المكون من حلقة مرساة مخيطة بالأبيض.

صافح الضابط الرجل الذي أمامه وقدّم نفسه بإنكليزية واضحة: كولونيل ليك، من المسؤول؟ رد الوالي: لا رئيس، إننا منقولون من أماكن مختلفة. أتبع الكولونيل أسئلته الأخرى حول الوجهة، الوظائف التي يتقلدها الركّاب دون أن يرتجي الحصول على إجابات وافية عن استفهاماته المتداركة.

 رأى الوالي في نيته القول إنه راعي مواشٍ نوعاً من الخيلاء التي من نتائجها مزيدٌ من نفاذ الصبر لدى إنكليز لا يهدرون أوقاتهم، ما لم يكن الكرباج مطوياً على معاصمهم. قال بإنجليزية ركيكة أعانه فيها أحد مستشاريه: في الحقيقة، أنا تاجر كباش جوّال. كان صبر الإنكليزي وقتئذ قد نفد بالفعل، حين رد: منذ متى كان لدى تجار المواشي قيافة الأباطرة؟ قال الوالي مخفياً ارتعاشة طفيفة في ذقنه: من الوهلة التي لم تعد الشمس تغرب فيها عن مناطق سيطرة الحمقى.

فهم الضابط المقاصد العدوانية دون حاجة لأن يدقق في فذلكة الترجمان واستخدامه مصطلحات تصالحية، فقطع حبل الأكاذيب بلغة لا تحتمل المواربة: لست بحاجة لأن تخلع جلدك يا آق ديلك بيك، إنك على ظهر إحدى بواخرنا.

قال الوالي دون التملي طويلا في مأزقه: نعم، وماذا بعد؟ رد الإنكليزي: لا شيء.

تسلق الضابط سلالم الخيش، وعلى قاربه كان يجدّف ويحكي حكاية صغيرة لكلبه بملامح تفتقر للجدية: سائس مواش؟ لا، إنه يشبه قواد، أليس كذلك يا لاكي؟ لكن لا عليك، عمّا قريب سيكون هو وإمبراطورتيه ملكنا. انظر يا لاكي، ما سأقوله يستحق الاهتمام، لو لم يكن هذا الصبي ذاهباً إلى السعيدة، لعرف معنى أن تلتصق الأسواط بمعاصمنا. أليس كذلك؟

واصلت الباخرة مخر مياه الساحل العربي، وساهمت الأبخرة المتصاعدة من المستنقعات الخانقة في شتات التركيز المتفاقم للوالي ليختلط في ذاكرته الغبن المخاطي لأبوية الضابط الإنكليزي بلفحة الأريج المخم الذي تقذفه الأمواج اللزجة، حين سأله كبير مستشاريه: هل خسرت المعركة مرة أخرى؟ رد عليه باستغراب: هل قلت خسرت؟!

لكنه استطاع في ظرف قصير أن ينقلب على نفسه، مستبدلاً تجهّمه بمرحٍ مستعار. كان يتحرك على السطح الرطب للسفينة ممسكاً بقبضة سيفه كما لو أنه محارب طروادي داعٍ بطانته للنزال، لكن لا أحد يأبه له.

داهمه غبش الفجر ولم تكن قد عبرت أجفانه غفوة. خرج إلى السطح، رأى بالمنظار أول الظلال الشبحية لنكبته، مميّزاً الشريط الأمغر للشاطيء المنبسط بسكينة تولد الخوف أكثر من الرهبة. أحس كيف تنتزع الأماكن، أحشاء المرء، وقد بدت مفتقرة للجمال على هذا النحو الحاد. وفي الخلف، بعد حاجز الأمواج رأى منازل الضاحية الرملية للبلدة مثل نثار الرماد.

مزق غشاوة السهّاد، بعد وقت قصير، قارب شراعي كبير ومزخرف، على ساريته علم إمبراطورية الخلافة الذي اُستوحي كلية دون مراعاة لحقوق الملكية، من بيرق قراصنة المتوسط. أطلت من بين لمة العمائم الفروة المتأكلة لقائد الجيش المارشال أحمد فيضي باشا الذي بدا كهلاً خلافاً لآخر جلسة تشاور التقى فيها بالوالي، قبل توليه هذه المهمة.

كان منحني الظهر، أحقفَ وأصلعَ، لعينيه الباشقتين تجاعيد يتجمع فيها ماء تعبه. وإن كان يبدو مهاباً فبملامحه العجفاء لا المسؤوليات الثقيلة التي احدودب لها عاتقه. كان يحتمي بكوكبة من الحراس المحليين النبلاء ببرانيسهم البيضاء طويلة الأكمام، متمنطقين الجنابي، ويلبسون أوشحة من الخيش الخفيف، وعلى رؤوسهم عمائم بيضاء محتذين الجلود الأوروبية.

صعد مع حراسه إلى ظهر الباخرة بشبكة حبال الخيش، وبدلاً من أن يسأل عن الوالي طلب أن ينجدوه بماء معدني بارد. رأى الأخير من أمام المرآة التصرف الصفيق للمارشال فأكمل تضميخ لحيته بماء الكولونيا، ثم تبعه إلى مقصورة المؤونة وخاطبه من خلفه بنبرة هادئة: أما كان الأحرى بك تحية قائدك أولاً؟

غبّ المارشال الماء دفعة واحدة، فصار ظمؤه الماحق للثلج صداعاً ضارباً في مقدمة رأسه. التفت قائلا بما عُهد عليه من اللهفة: المعذرة يا صاحب الجلالة، من شهرين وأنا منقطع عن هذه النعمة. سأله الوالي: ألا يوجد في هذا البلد ماءٌ بارد؟ رد المارشال بحروف متصدعةٍ وهو يحاول أن ينهض: هذا إذا كان هناك بلد.

في الخارج، كانت قد اكتملت ضوضاء القوارب الشراعية محلية الصنع التي وصلت إلى مقصدها بصعوبة، بعد مناورة محسوبة مع النسيم الصباحي الدافئ المتحوّل إلى زمهرير يصهر في ذؤابته الأجساد، وعلى طول الساحل امتدت المنازل الصغيرة البيضاء، والأكواخ المبنية على النمط الأفريقي طيناً وقشاً، وأشرعة القوارب المضطربة على حاجز الأمواج، ما خلع عن الجميع أي شعور بالنظام.

بعد مداولات مع مالكي القوارب والعتالين ببشرتهم الفاحمة، أُخليت الباخرة من حمولتها، ونُقل الجميع إلى الحوض الصغير الذي يقوم فيه حاجزان بصد الأمواج، ثم تكفل العمال نصف العراة بنقل المسافرين على أكتافهم، وهم غائصون في الماء الضحل حتى منتصفهم.

أنزل الوالي بمتاهة الخيوط إلى قارب قائد الجيش، فحرص الأخير على أن يكون مقعده بالقرب ليلقن قائده جملة العظات التي استقاها من واقع عذاباته، ليطأ ساحل السعيدة دون مشقة تكرار السقوط في الفخ ذاته.

 قريبا من الوسط، كان يجلس مقرفصاً مثل آلهة أوليمبوس المعالج الشعبي اليوناني تنساكي أفندي، بهيئة الأباطرة البيزنطيين وقد اعتمر قبعة واسعة الحواف كثيرة الشرائط، ملتفا بملابسه الكتانية المختارة بعناية خبرته السابقة في طقس المناطق الاستوائية، ولحيته الأفلاطونية التي تخيطها تجعيدات من الشعر الرمادي.

كان قد احتفل بعمره الحادي والستين في الربيع المنصرم، لكن التناغم القائم بين جسمه وروحه بناه بسنوات أسفاره الطوال، ما عكس على محياه شيئًا من فتوة المحاربين. الذين عاشروه في شبابه، قالوا إن عزيمته النيرونية أخطأت طريقها من إحراق روما إلى شق القناة التي ربطت شمال العالم بجنوبه.

رسا الوالي المظفر بهزيمتين بحريتين وليالٍ من التسهيد وانطواء اكتئابي وطنين ولَّده التثاؤب الدائم لأكسل والٍ رُزئت به البشرية. كان كل شيء كامناً، إلى درجة أنه لم يستثر طوابير البجع التي ظلت على أبهتها مبرزة حوصلاتها الثابتة على صخور كاسر الأمواج. التزمت طيور الرخم ضبط النفس، وقد رأت ببصيرة بحرية ألا شيء يستحق الضوضاء، واكتفت من كل ذلك بالنظر بعيون زائغة مستخفة ورباطة جأش إلى القارب المتلاطم، قبل أن تنشغل بتنظيف أجنحتها بمناقيرها.

داهم الدوار الوالي، وقد حاول النهوض بمفرده وفشل. كانت المشاهد الجافة تنهب خياله، تفاقم تعبه، تزيد نبضه السريع المتقطع. زاد -أيضاً-من طقطقة عظامه ارتباك الأساليب التي يجب أن يتعامل بها مع هؤلاء العراة الذين قدموا لمشاهدة السيرك الذي كانه، معفرين بالرمل الأصفر الخفيف، راكضين هلعين دون أن يكون لكل ذلك معنى.

لكنه وقد وطأ الشاطئ بمحفة خشبية محمولاً على أكتاف اثنين من الحراس المحليين، مستنزف القوى مثل أم رؤوم ليلة زفاف ابنتها. زفر في الهواء مثل ثور، وقال: إلهي، إلى أين تراك حملتني!

 

  • كاتب من اليمن