كتب عنه المستشرقون وتجاهله العرب.. من هو ابن فضلان الرحالة البغدادي ومكتشف مجاهل آسيا وأوروبا؟
ابن فضلان حظي بإحياء ذكراه في الأرض التي قصدها، وهي اليوم جمهوريّة تتارستان في ظل صمت مطبق عراقي وعربي. تحلّ هذه الأيام ذكرى مرور 11 قرنا على انطلاقة الرحّالة البغدادي أحمد بن فضلان في بعثة رسمية من مدينة السلام إلى مجاهل شمالي أوروبا، من أجل نشر الثقافة العربية الإسلامية واكتشاف أطراف عالم القرون الوسطى يوم كانت بغداد العباسية مركزه وحاضرته الكبرى.
استغرقت الرحلة 11 شهرا، واخترقت أراضي عدد من الدول الحالية التي كانت المعلومات عن تاريخها القديم شبه غائبة، وقد أثار الأسى في نفوس المعنيين بالتراث الحضاري في العراق أن ذكرى هذه الرحلة مرّت ولم تنتبه الجهات الحكومية والمؤسسات المختصة إلى أهمّية إحيائها، رغم الدعوات المبكرة إلى ذلك، ضمن مسلسل ما يعانيه الإرث الحضاري العراقي المادي والمعنوي من إهمال.
من هو ابن فضلان؟
هو أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد من رجال قائد جيش الخلافة العباسية محمد بن سلمان، ثم من كبار شخصيات بلاط الخليفة المقتدر بالله العباسي.
ويقول الباحث المحقق الراحل الدكتور سامي الدهان في مقدمة تحقيقه لـ"رسالة ابن فضلان"، الصادرة عن المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1959، "عند ياقوت الحموي اسمه ابن فضلان وأنه كان على ثقافة دينية وأدب رفيع وأسلوب جميل وورع في الخلق وحب لنشر الإسلام"، ويقول عنه أيضا "أن يبلغ رجل في عصره ما بلغ إليه في رحلة بعيدة يصل فيها إلى أرض البلغار والروس، وأن يرى العجائب في ذلك الزمان ومصاعب المواصلات"، فهذا يعني أن الرحلة مهمة وأن نجاحها ارتبط بهذا الرحالة.
واشتهر العرب في ذلك الزمان بحبهم للسفر والترحال واستكشاف العالم ونقل علومه ومعارفه، ويذكر الدكتور الدهان في مقدمته أن الرسالة كانت قبل نشره لها قد "طبعت مرة واحدة بالعربية وصدرت عنها دراسات ومقالات بالألمانية والروسية والإنجليزية" ما يعني أن ابن فضلان ظُلم "ظلما كبيرا في الأقطار العربية فلم ينهض له ناشر أو محقق يجمع شتات التعليقات" حين كتب عنه المستشرقون في العقود الماضية أكثر مما كتب عنه العرب.
البداية
والبعثة-الرحلة التي عُهد بها إلى ابن فضلان جعلته يكتشف مجاهل شمال شرقي أوروبا ويسهم بنشر الثقافة العربية الإسلامية فيها، كما يقول الباحث حسين محمد عجيل الذي يعدّ واحدًا من أكثر المهتمين بدراسة التاريخ الثقافي والحضاري العراقي في عصوره الوسيطة والحديثة، استنادًا إلى المخطوطات والوثائق والمواد الأرشيفية المتنوعة، وله العديد من المقالات والدراسات البحثية والكتب في هذا المجال، فضلًا عن اشتغاله في تحقيق مخطوطات التراث العربي ودراستها.
ويضيف عجيل أن ابن فضلان في رحلته "حمل إلى ذلك المكان القصي في أطراف العالم المغمور آنذاك مشعل التنوير الحضاري الذي كانت تمثله بغداد في ذروة مجدها، وأسفرت عن تدوين وقائعها المثيرة في كتاب خالد نجت مخطوطته الوحيدة من أهوال الزمان مبتورة النهاية".
ويوضح الباحث، وهو مدير تحرير مجلة (المورد) العراقية التراثية الفصليّة المحكّمة، البداية الأولى لأسباب الرحلة فيقول "بناء على طلب (ألمش بن يَلْطَوار) ملك الصّقالبة، من الخليفة العبّاسي المقتدر بالله أن يمدّ مملكته بمعلّمين ومرشدين ضمن بعثة دبلوماسيّة عالية المستوى، تُفقِّه شعبَه بالدّين الإسلاميّ وتعلّمهم، وتساعد المملكة على تحصين نفسها بوسائل الحماية القويّة من ممالك معادية تحيط بها"، وبناء على هذا الطلب أو الدعوة "اختار الخليفة أحمدَ بن فضلان من بين أعضاء البعثة -المكوّنة من 5 رجال من رجال الدولة فضلًا عن مساعدين آخرين- لقراءة رسالته على الملك وحمل هداياه إليه، وللإشراف على المعلّمين والمرشدين"، مبينا أنه كانت للصقالبة مملكة تاريخيّة تقع على ضفاف نهر الفولغا في روسيا الاتحادية الآن في مطلع القرن العاشر للميلاد، ثمّ أزالها المغول في القرن 13 للميلاد، وهي الآن تقع في أراضي جمهورية تتارسان التابعة لروسيا الاتحادية.
وعن بدايات هذه البعثة التي نقلت إلى العالم الحديث تفاصيل دقيقة وتاريخا مجهولًا لشعوب آسيوية وأوروبية متعددة، يقول الباحث "لقد انطلقت من بغداد، يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة 309هـ، الموافق ليوم 21 يونيو/حزيران سنة 921م، في رحلة طويلة وشديدة الخطورة، استغرقت 11 شهرًا، قطع فيها أعضاء البعثة آلاف الأميال بين الوديان والجبال والبراري والمفازات والأنهار الكبيرة".
وبيّن أنها بعد مغادرة العراق بدأت بـ"كرمانشاه، همذان، الري، سمنان، دامغان، نيسابور، سرخس، آمل، مرو، بلاد ما وراء النهر، بخارى، خوارزم"، ليخترق أعضاء البعثة بعد ذلك "أراضي وقفارًا ممتدة وسهوبًا ثلجية تقطنها قبائل الترك الوثنية آنذاك، ثمّ ليجوبوا خلال مجاهل جنوبي روسيا، عابرين أنهارًا كبرى خطرة ومناطق شاسعة يغطيها الجليد، مختلطين بشعوب وقبائل وممالك متباينة الثقافات والعادات والمعتقدات".
ويتحدث عن صعوبات الرحلة في الطريق الطويل لتصل إلى "المقصد القصيّ في أرض مملكة الصقالبة على نهر الفولغا، يوم الأحد 12 محرّم من سنة 310هـ، الموافق ليوم 12 مايو/أيار من سنة 922م".
وذكر الباحث عجيل أنه بعد مراجعة الطريق بالعودة إلى نصوص ابن فضلان وإلى الكتب الجغرافية العربية التي بيّنت مسار التنقل وحركة القوافل، يظهر أن مجموع الدول التي قطعتها البعثة "6 دول هي العراق، إيران، تركمانستان، أوزبكستان، كازاخستان، وروسيا الاتحادية، فضلًا عن جمهوريّتين في الاتحاد الروسي حاليًّا هما: جمهورية باشقورتوستان التي أطلق ابن فضلان على سكّانها في رحلته تسمية (الباشغرد)، وجمهورية تتارستان التي تقع في أراضيها حاليًّا أطلال مدينة بُلغار حيث المكان الذي استقبلت فيه البعثة، وهي على مسافة قريبة من عاصمتها قازان المدينة الثالثة مساحة من مدن روسيا الاتحادية اليوم، وكان الصقالبة يسكنون هذه الأراضي آنذاك قبل أن تصبح موطن شعب آخر".
فضل ياقوت الحموي
ويؤكد عجيل أن أمر البعثة ورحلة ابن فضلان لم يكونا ليعرفا وأنها كادت أن تندثر وتضيع لولا حدوث أمرين لحسن الحظ، "الأول العثور على مخطوطة رحلة ابن فضلان في مشهد بإيران سنة 1924″، والأمر الثاني الأسبق من هذا الحدث -كما يذكر الباحث- هو فضل الجغرافي المشهور ياقوت الحموي (المتوفّى سنة 626هـ= 1228م) على المؤرّخين المعاصرين، إذ عرّف "بذلك الرحّالة البغدادي وبعثته، حين نقل مقاطع مطولة من الرحلة، في كتابه الشهير (معجم البلدان) الذي ظلّ المصدر الأساس لكلّ من جاء بعده، ذاكرًا اسم الرحالة إلى الجدّ الرابع، ومعرّفًا باقتضاب بصفته الاجتماعية، مبيّنًا طبيعة مهمّته، ومسار بعثته، وعودته إلى بغداد".
وقال إن ما ذكره الحموي جعل عددا من المستشرقين، ولا سيما الروس منهم، في مفتتح القرن 19 "يتنبهون إلى أهمية هذه الرحلة، لكشفها عن بعض مجاهل التاريخ البعيد لأقوام آسيوية وأوروبية لا يُعرف عنها شيء موثّق في المصادر الموازية"، ولذلك حظيت مقولة الحموي، ثمّ هذه المخطوطة النادرة التي عُثر عليها في إيران باهتمام المؤرّخين والباحثين الأجانب قبل العرب، وتُرجمت إلى معظم اللغات الحيّة، ثمّ حُقّقت نسختها العربية وصدرت عن مجمع اللغة العربيّة بدمشق سنة 1959، ونُشرت في أكثر من طبعة. ويعبّر الباحث عجيل عن أسفه لأن طبعات الرحلة نُشرت كلّها خارج العراق، "وذلك يثير أكثر من علامة استفهام مؤلمة عن سبب هذا التجاهل المؤسّساتي الرسمي لشخصية أثارت اهتمام العالم كلّه إلا البلاد التي ينتمي لها".
فن وسينما وأدب
لقد تولّى ابن فضلان كتابة وقائع رحلته بعد عودته إلى بغداد، كما يقول الباحث عجيل، فقدّم "توثيقا مبكّرًا لتاريخ منطقة بِكْر من عالم القرون الوسطى تقع في أقصاه، مازجا فيها بين الجانب التسجيلي، وإن كان عامًّا إطاريًّا غير مفصّل في الرحلة، وهو ما يهمّ المؤرّخ المعني بالبعد الزمني موشّحًا بوصف المكان، والشّخوص الفاعلين، والوقائع والأحداث والربط السببي بينها، من جهة، وبين غنى الجانب الخاص بعلم الإنسان وعلوم الجغرافيا والاجتماع والاقتصاد، من جهة ثانية".
وقال إن الرحالة يمتلك لغة "رشيقة لمّاحة، فيها كثير من الحيوية والذكاء والطرافة، وتجاوز عند تدوينه رحلته الحدود الرسمية التي كان يمكن أن تقيّده، بوصفه عضوًا بارزًا في بعثة دبلوماسية دولية، يحمل رسالة ملك أكبر إمبراطورية في ذلك الزمان، إلى كتابة رحلة ممتعة سبك فيها بمهارة فيضًا من المعلومات والمشاهدات العيانية، فبدت كأنّها قطعة أدبية يغلب عليها الحوار والوصف والترقّب والتشويق والسرد القَصصي الحي والانتقالات المثيرة"، وهو ما يعني أنه تمكن من المزج بين الوصف والشعر وتوصيف الفنان لما رآه، حتى إنه وصف بالأديب عند بعض من قرأ المخطوطة من المستشرقين لأن طريقة كتابته "فتحت الباب لظهور نمط كتابي جديد هو أدب الرحلة".
وأوضح أن الرحلة ألهمت مخيلة فنانين كبار، "ومن نماذج ذلك لوحة شهيرة للرسّام الروسي هنري سميرادسكي (1843-1902م)، محفوظة في المتحف التاريخي بموسكو حاليًّا، ورواية (أكلة الأموات) للأميركي مايكل كرايتون الصادرة سنة 1976 التي حقّقت أرقام مبيعات غير مسبوقة، ثمّ أنتجت فيلمًا هوليوديًّا شهيرًا سنة 1999 بعنوان (المحارب الثّالث عشر) مثّل فيه دور ابن فضلان الممثل الإسباني أنطونيو بانديراس، وشارك معه النجم المصري الراحل عمر الشريف، ثمّ أُنتجت مسلسلًا عربيًّا بعنوان (سقف العالم).
احتفاء عالمي
ويبدي الباحث عجيل استغرابه من عدم الاهتمام بهذا الحدث في الداخل العربي، والأهم في الداخل العراقي، لأن الرحالة عراقي عربي بامتياز، وله الفضل في نشر الثقافة العربية والتعريف بحضارات العالم الأخرى، ويقول "حظي ابن فضلان بإحياء ذكراه في الأرض التي قصدها، وهي اليوم جمهورية تتارستان ذات الأغلبية المسلمة بروسيا الاتحادية، التي قرّر برلمانها سنة 2010م عدّ يوم وصوله إلى أراضيها (في 12 مايو/أيار من كلّ عام) اليوم الوطنيّ لها، وأخذت تنفّذ مشروعًا طموحًا بكلفة 100 مليون دولار، للتّنقيب عن الآثار في أطلال مدينة بلغار العاصمة القديمة لمملكة الصقالبة".
وذكر أن حكومة تتارستان تعمل هناك على إعادة بناء أو ترميم المساجد والمآذن التاريخية والمباني القديمة في أطلال المدينة، وإقامة متحف كبير باسم ابن فضلان يضمّ مصاحف ومخطوطات ولقى أثريّة، يتوسّطه أكبر مصحف في العالم، فضلًا عن فسيفساء كبيرة نُفّذت بإيطاليا تمثّل مشهد وصول بعثة ابن فضلان ولقائه بالملك، ولحظة قراءته عليه كتاب الخليفة العباسي، مبيّنًا أن ما يحدث في تلك البلاد، وما لا يحدث في وطن ابن فضلان يتسبب بغصّة كبيرة لدى الشغوفين بالتاريخ والتراث لأن مثل هذه الاحتفالات كان ينبغي أن تحدث هنا أيضا.
وقد عبّر الباحث عجيل عن أسفه على ذلك قائلا "كنت أترقّب منذ زمن حلول ذكرى مرور 11 قرنًا على انطلاق الرحلة، متطلّعًا إلى أن تنهض الجهات الثقافية العراقية الرسمية بواجباتها حيال هذه المناسبة الحضارية التي تتمنّى دول في العالم أنّ لديها شيئًا من هذا الميراث الجليل، لتحييه في احتفالات باهرة تكون محطّ فخر لشعبها".
وأشار إلى أنه بوصفه مهتمًّا بتاريخ البلاد وتراثها الحضاري قدّم قبل عامين من حلول هذه الذكرى مقترحًا لوزارة الثقافة "لتنظيم فعاليات عدة بالتنسيق مع وزارات الثقافة في الدول الخمس الأخرى التي مرّت بها البعثة فضلًا عن الجمهوريّتين الروسيّتين، بمفردات تليق بفرادتها وبسمعة البلاد وبتطلّعات نخبها"، منها "إصدار طابع تذكاري يخلّد الرحالة وكتابه الفريد وتحويل مسار رحلة البعثة بين بغداد وبُلغار بمحطّات المدن التّاريخيّة العظيمة التي اخترقتها، إلى مسار ومزار سياحي عالمي، أشبه بطريق الحرير".
وأكد أن الاستجابة جاءت بعد سنتين في ظل الواقع العراقي الذي يهمل كل شيء، بنشر "خبر على موقع الوزارة الإلكتروني عن المقترح الذي قدمته لا غير". وبذلك مرّت ذكرى هذا الحدث التاريخي والحضاريّ في بلاد ابن فضلان، من دون أي نشاط أو فعالية لإحياء ذكراه أو استذكار مغامرته المعرفية التي احتفى بها العالم.