تحدث المشاركون في ملتقى الشعر والتشكيل عن العلاقة بين الشعري والتشكيلي ولحظات التقاطع والتجاور بينهما. كما رصد المشاركون، في الندوة التي نظمتها دار الشعر بتطوان بداية الأسبوع الجاري، مختلف اللحظات والتجارب التي جمعت بين الشعراء والتشكيليين عبر التاريخ وفي سائر الجغرافيات الشعرية والتشكيلية. ثم توج الملتقى بإبداع لوحة شعرية تشكيلية، أبدعها الشعراء والفنانون أعضاء الملتقى، في عمل فني أدائي مبتكَر.
اتفق المتدخلون في ملتقى الشعر والتشكيل، الذي أقيم بشراكة مع المعهد الوطني للفنون الجميلة، على أنه يصعب الحديث عن العلاقة بين الشعر والتشكيل بقدر ما يصعب الفصل بينهما. وانطلق الملتقى بتنظيم ندوة علمية في جلستين نقديتين، مع عرض فني بينهما وفي نهاية الملتقى. وافتتح المهدي الزواق مدير المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان فعاليات هذا الملتقى، وهو ينوه بالشراكة التي تجمع بين المعهد ودار الشعر بتطوان، بإشراف وزارة الثقافة والشباب والرياضة، عبر سلسلة من الفعاليات والبرامج والمبادرات، مدى خمس سنوات كاملة. كما ثمن الزواق أهمية انفتاح المعهد على فن الشعر، الذي ظل صديقا للفنون الجميلة، منذ البدايات. بينما شدد مدير دار الشعر بتطوان مخلص الصغير على ضرورة الإنصات إلى الشعراء والتملي في أعمال الفنانين، في هذه اللحظة المفجعة والمرعبة من تاريخ الإنسانية. وأكد مخلص الصغير أن عالمنا اليوم بات في حاجة إلى العمل الجبار للطبيبات والأطباء والممرضات والممرضين والعالمات والعلماء في مختبرات البحث عن العلاج من الفيروس، كما هو في حاجة مماثلة إلى المبدعات والمبدعين من أجل علاج جمالي من الأثر القاسي للجائحة. ودعا المتحدث إلى ضرورة توفير لقاح فني وثقافي حتى نكتسب مناعة جماعية ضد الرداءة والبشاعة والظلام، ولأجل استئناف المشروع الإنساني التنويري، ما دام النور هو الذي يجمع بين الشعري والبصري، على سند الضياء.
في الجلسة النقدية الأولى، كما أدارها أحمد مجيدو، مدير الدروس في المعهد، تحدث التشكيلي والناقد الجمالي شفيق الزكاري عن حضور الشعر في الممارسة التشكيلية العربية والمغربية على الخصوص، عبر ثلاثة محاور تاريخية كرونولوجية، استنادا إلى تجارب عينية ملموسة حول نوعية هذه العلاقة الأزلية التي كانت ولا زالت تعتبر زواجا كاثوليكيا، بتعبير المتدخل، لما تحتوي عليه من تقاطعات على مستوى الخيال والصور البلاغية الوصفية التي ترجمها التشكيليون إلى نماذج مشهدية جمالية أنتجت عمليا بثنائية إبداعية بين الشاعر والتشكيلي بشكل متواز وهما يغرفان من بعضهما البعض باستقلالية إبداعية كل من زاويته ومرجعيته الخاصة، تارة تحضر القصيدة بجزئياتها الشذرية وتارة تكاد تغيب.
وانطلاقا من هذه الفكرة تشكلت القصيدة في كيفية كتابتها وأصبحت تشكل عملا تشكيليا في حد ذاتها، كما كان الحال عليه في تجربة الشاعرين المغربيين محمد بنيس وبلبداوي اللذين استعملا الخط المغربي جسرا لتحقيق وتشكيل التركيب الجمالي لقصائدهما، بينما اتخذت هذه التجربة، بعدا مغايرا آخر شكلت فيه القصيدة غيابا مشهديا وحضورا حسيا في أعمال الفنان المغربي عبد الإله بوعود، من خلال عمله الموسوم ب "أحد عشر صندوقا" استنادا إلى ديوان الشاعر محمود درويش "أحد عشر كوكبا". وهو عبارة عن معرض قدم فيه الفنان الذي سبق ذكره صناديق مملوءة بأيقونات ثمينة لأمراء بني الأحمر آخر الطوائف الذين هجروا من الأندلس، مقارنة بتهجير وإبادة الهنود الحمر بأمريكا وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم المغتصبة من طرف الكيان الصهيون، يضيف الزكاري.
وبحسب محدثنا، لم تكن هذه التجربة إلا محاولة رمزية لغياب القصيدة في الأيقونة التشكيلية وحضورها في الكيان والوجدان العربيين. واستحضر الزكاري تجربة شخصية متقدمة تعود إلى سنة 1988، استندت إلى منطلق تاريخي تجسد في معركة وادي المخازن، أو معركة الملوك الثلاثة، عبر الاشتغال على المتن الأدبي المرتبط بالمخيال الفني من زاوية تاريخية وزمنية دقيقة تعتبر نقطة تحول في الوجود المغربي والعربي دينيا واقتصاديا وسياسيا. وهي التجربة التي تطورت في فترة التسعينيات، من خلال إعداد أنطولوجية شعرية تشكيلية مغربية، بحس جمالي تحضر فيه القصيدة في فضاء اللوحة مجاورة لصورة الشاعر ونبذة عن حياته وإنجازاته.
ولخص الشاعر والفنان التشكيلي المغربي عزيز أزغاي ورقته النقدية في عنوانها "الإبداع بأكثر من لغة". بينما رصد المتدخل بعض نقاط التلاقي الجوهرية بين الكتابة الشعرية وفني الرسم والتصوير الصباغي، كمظهرين تشكيليين، إن على مستوى المنطلقات أو الطموح أو الجدوى. "فمن حيث المنطلقات، تتكشَّفُ الممارستان معا من لحظة بياض مادي صرف ومحايد، قد يكون سندا من ورق أو قماش أو خشب أو ما شابه. وهو بياض له معنى رمزي كذلك، تجسده تلك الحالة الوجدانية الضاغطة التي تتملك المصور والشاعر معا وتسيطر عليهما لتتحول إلى نوع من المواجهة العسيرة مع مجهولِ فعلٍ يمكن أن تتشكل ملامحه في دفقة إبداعية واحدة، أو تتطلب جهدا مضاعفا وتدرجا في الزمن وإعادة المحاولة، كما قد يحدث أن تصادف عسرا عظيما ولحظة خواءٍ وعقمٍ لا تفضيان، في النهاية، إلى أي شيء. وبذلك يكون عنصر الاختلاف الأساس بينهما محصورا في أدوات الإنجاز فقط.".
أما من حيث الطموح، وانطلاقا من أن للإنسان الحرية المطلقة في إثبات ذاته بالشكل الذي يرتضيه لنفسه، وبأية وسيلة تعبيرية ممكنة، فقد قام المصور والشاعر بمحاولة استنبات هذا الحق واجتهدا، كل من جانبه، في تربيته ورعايته، بمجهود فردي صعب، إلى أن كونا لنفسيهما وضعا اعتباريا داخل مجتمعهما. وهذا الاختيار إنما يترجم، في العمق، طموحا شخصيا قد لا يخلو من أنانية فعالة تتطلبها روح الإبداع، وهي أنانية غايتها إحساس المبدع بوجوده الفعلي المضاعف، والمغاير عما تشترك فيه مشاعر العامة وفعلُها في الطبيعة. ولعل في ذلك ما يفسر سعي المصور والشاعر إلى بلوغ أقصى لحظات المغايرة والجدة في الإبداع وتقديم " أعز ما يطلب" على الأقل في تقديرهما الخاص.
بعد الجلسة النقدية الأولى، قدم الفنان التشكيلي حسن الشاعر عرضا حول فن الأداء وجمالية اللقاء بين الشعر والتشكيل، قبل أن يدعو الشعراء والتشكيليين الحاضرين إلى المشاركة في عمل تشكيلي شعري أدائي، توج بتقديم عمل فني معاصر وجديد...
في الجلسة الثانية، كما أدارتها الباحثة والمسرحية المغربية فاطمة الزهراء الصغير، استوقفنا الشاعر والباحث بوجمعة العوفي عند الخصائص البصرية للنص الشعري الحديث والمعاصر، انطلاقا من أهمية الهيئة البصرية لهذه القصيدة الجديدة، وفضائها الخطي، ومساحاتها النصية، وتشكيلاتها المكانية والخطية الكاليغرافية وإشاراتها الخارجية من عناوين، وحواشي، وهوامش، وعلامات ترقيم، وخطوط، وألوان، وأشكال، وعناصر تشكيلية، وفراغات، وبياضات، وعلامات غير لغوية وغيرها. بحيث لم تعد هذه الخصائص أو العناصر خافية على عين قارئ هذه القصيدة ومُشاهِدها، ولم تعد استعمالاتها مجرد نزوة أو ترف جمالي عابر، بل أصبحتْ واقعا جماليا جديدا في الكتابة والتداول الشعري المعاصر...
وقد عرض المتحدث لمختلف أوجه التعالق بين الشعر والتشكيل في القصيدة، رغم مظاهر الاختلاف بين أدوات اشتغال الخطاب الشعري اللغوي أو اللساني من جهة، والخطاب التشكيلي الأيقوني والبصري من جهة ثانية. وهو التعالق أو التقاطع الذي يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن علاقة الشعر بالتشكيل، ضمن التأسيس التاريخي للترابط القائم منذ أقدم العصور بين الشعر والتشكيل.
من جهته، اختار الشاعر والباحث عز الدين بوركة الحديث عن الدرجات القصوى التي وصلت إليها العلاقة بين الشعر والتشكيل، ارتباطا بآخر المقترحات التي يقدمها الشعر والفن المعاصران. وقد انطلق بوركة من أنه ليس يمكن تصور تطور أية حضارة بشرية أيّاً كانت، بمعزل عن تطوير وتطوّر شعر خاص بها. وهو ما يجعل الشعر متصلا بالتقدم الحضاري البشري ومتجذرا في وجدانه وروحانيته وحتى في تفكيره.
وكما لا ينفصل الشعر عن الروح لا يكاد ينفصل عن الجسد، أيضا. هنا، توقف المتدخل عند الفلسفات الجديدة التي اهتمت بالجسد، على أساس أن الإنسان لا يحضر في العالم إلا باعتباره جسدا لا ينفصل عن الروح. وهو ما ترجمته الانشغالات الفلسفية الجديدة مع ميرلوبونتي وفوكو وكامو وسواهم ممن انصرفوا، فلسفيا، فلسفيا، إلى الاهتمام بالجسد والانهمام به، وبتاريخه وحضوره... وهو عينه ما سيقود فنانين تشكيليين إلى القفز مباشرة نحو تعابير فنية جديدة، ما بعد حداثية، تجعل من الجسد أداتها التعبيرية بدلا عن القماش والصباغة والريشة، متأثرة بفلسفة نيتشه الجسدية، إذ تم تطوير أنماط جديدة كالبرفورمانس (فن الأداء) وفن الفيديو وفن الأرض وفن المحيط وفن الجسد... ما جعل الشعر يدخل في باراديغم جديد بصري بالأساس، حركي وأدائي، يتفاعل مع الفنون التشكيلية المعاصرة وينفعل بها.
وفي نهاية الملتقى، استأنف الشعراء والتشكيليون الاشتغال على العمل الفني المشترك، وهو يحمل توقيع كل من حسن الشاعر وشفيق الزكاري وعزيز أزغاي وبوجمعة العوفي وعز الدين بوركة ويوسف الحداد، حتى استوى واكتمل ليصير من أرقى وأهم الأعمال التشكيلية المعاصرة في المغرب الراهن.