أعتقد أنّ الأديب إبراهيم أصلان أحد الذين وعوا التراث المصرى، سواء فيما يتعلق بالثقافة القومية .. أو فيما يتعلق بمفهوم شعبنا للدين، الذى أطلق عليه علماء علم الاجتماع (الإسلام المصري). اعتمد أصلان في كتابة رواياته وقصصه القصيرة على تقنية فنية أثناء عملية الخلق الفنى، هى الإبداع بأسلوب فن الهمس (إنْ جاز هذا التعبير المجازى). والمقصود (بالهمس) التأكيد على نفى النقيض. أى أنّ الهمس ضد المباشرة وضد لغة الخطابة وضد كل ما هو العدو الأول للغة الفن. وإذا كانت لغة الخطابة تزول وتتبخــّـر بمجرد إطلاقها. فإنّ فن الهمس هو الذى كتب لكل الأعمال الإبداعية البديعة البقاء. وإبراهيم أصلان لأنه أعطى لفن القصة والرواية عمره. ولأنه أحبّ هذا الفن واحترمه. لذلك نجده قارئــًا من طراز رفيع للإنتاج الأدبي فى فن القصة والرواية العالمى. ويذهب ظنى أنه استفاد من روّاد الإبداع الروائى فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية .. أمثال أرنست همنجواى (1898- 1961) الروائى الأمريكى الكبير الذى تأثربه كثيرون (فى الغرب وفى الشرق). وهومؤلف الروايات البديعة (سوف تـُشرق الشمس)، (وداعًا للسلاح)، (لمن تدق الأجراس) ورائعته (العجوز والبحر) التى يبدو فيها صوت (الهمس) هو البطل الحقيقي لهذه الرواية البديعة والتى تأثربها كثيرون. وهوالحاصل على جائزة نوبل عام 1954.
و(الهمس) نجده أيضًا فى إبداع الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف (1882- 1941) والتى يُصنفها النقاد على أنها من كتاب القصة التأثيريين. ورغم المعانى الإنسانية العميقة فى إبداع جيمس جويس (1882- 1941) الروائي الايرلندي. فإنّ (صوت الهمس) هو اللحن الأساسى فى كتاباته. حتى عندما كتب روايته البديعة (عوليس) وأدان فيها اليهود وحذر من سيطرتهم على اقتصاد أيرلندا. و(صوت الهمس) نجده كذلك عند الروائى الفرنسى مارسيل بروست (1871- 1922) حتى وهو يكتب رائعته الفلسفية (البحث عن الزمن الضائع) فى 16 جزء. ويُصادفنا (صوت الهمس) فى إبداع الروائى هنرى جيمس (1843- 1916) وهو واحد من أشهر الروائيين الأمريكان. وتتميّز رواياته بمعالجته الموضوعية الواقعية لشخصياته وبتحليلها والتعمق فى دوافعها الخفية. دون أية مباشرة أواللجوء للغة الخطابة. ورغم أسلوبه المعقد الدقيق فإنّ النقاد يعتبرونه من أساتذة الصنعة الفنية. ومن رواياته (صورة سيدة)، (ماعرفته ميزى) ولعلّ أهم رواياته (جناحا الحمامة)، (السفراء) و(الإناء الذهبى) أما أشهر رواياته فهي (دورة اللولب)
وعندما نـُـبحرفى عالم الإبداع العالمى ..لابد أنْ نتوقف أمام الكاتب الأمريكى هيرمان ملفيل (1819- 1991) الذى تمكــّن ببراعة فائقة من إعادة صياغة تجاربه الحقيقية فى مغامراته البحرية. ونسج منها الجو الملائم لرواياته التي تدورحول حياة البحار وفى وصف البلاد النائية. ومن مؤلفاته (تيبى)، (أومو) وفى هاتيْن الروايتيْن جسّد المغامرات فى بحارالجنوب. وقد أثارتْ هاتان الروايتان ضده عاصفة من النقد اللاذع بسبب وصفه الواقعى لحياة الأهالى المُعدمين وهجومه على سلوك المُبشرين. أما أهم رواياته فهى رواية (موبى ديك أو الحوت) نظرًا لما تنطوى عليه من رمزية فلسفية يُـغلفها الحزن المرير.. وكل ذلك تم بلغة (فن الهمس).
فن الهمس عند أصلان:
يذهب ظنى إلى أنّ هذا التمهيد كان ضروريًا للدخول إلى عالم إبراهيم أصلان الروائى والقصصى. كما يذهب ظنى أيضًا إلى أنّ أصلان إذا كان قد استفاد من تجارب المُـبدعين الأوروبيين والأمريكان. فإنه وضع بصمته الخاصة فى كل ماكتب. و(الهمس) عنده يعتمد على بديهية يتغافل عنها بعض الكتاب .. بديهية هى المبدأ الأول عند كل مبدع أصيل: الإيحاء أشد بلاغة من الإفصاح. والهمس أكثر تأثيرًا من الصراخ. ومثل أية متوالية موسيقية، فإنه طالما انحاز(لفن الهمس) فكان طبيعيًا أنْ يعتمد على أسلوب التجميع التراكمى (المنمنمات) ومن هذا التجميع تكتمل اللوحة الإبداعية. مثلها مثل اللوحة فى الفن التشكيلى. يظل فضاؤها متسعًا ومتعددًا لكل التأويلات والمعانى والتفسيرات.
وأسلوب (المنمنمات) لايعتمد على أحداث بمعناها التقليدى. لذلك نجد الحدث/ الأحداث عند أصلان تسرى مع تيارالحياة اليومية. مثل الموجة التى تبدو عنيفة في أحيان وهادئة فى أوقات أخرى. وهذه التقنية أتاحت للمُـبدع أنْ يبتعد تمامًا عن الفواجع الميليودرامية التى يتبخرتأثيرها سريعًا. وعلى سبيل المثال فإنّ الجدة (هانم) تختفى فى بداية الصفحات الأولى فى رواية (عصافيرالنيل) (الصادرة عن دارالآداب– بيروت عام1999 فى طبعتها الأولى. وعن هيئة قصورالثقافة فى طبعتها الثانية عام2000) ولكن لأننا لسنا إزاء كتابة تقليدية .. أي لسنا إزاء كتابة تهتم بالحادثة دون دلالاتها الإنسانية. فإنّ إختفاء الجدة هانم في ص14 يظل صداه عميقــًا ومؤثرًا فى مجمل المُـنمنمات التى كوّنتْ الإطار العام للرواية .. إلى أنْ نعثر عليها (الجدة هانم) في ص225.
فهى مازالت تبحث عن بيت ابنتها نرجس. تدور مع الأزقة. وتغيب في الحارات. تفتش فى وجوه الناس «وإذا داهمها الليل تحتمى بالماء. تنام جالسة بجرمها الصغير تحت شجيرات الخروع بأوراقها العريضة المائلة على حافة النهر الساكن. تغفو وتقوم على ارتجافة الفجر الفضي عند الكوبرى الحديدي القاتم. تــُـبلل وجهها. وتمضغ قبضة من الأعشاب الرطبة وتحبو».
وإذا كان الطفل الإنسانى يبدأ (بالحبو) فكذلك تنتهى حياة الجدة هانم بالحبو. ليس بسبب عمرها المتقدم الذى تجاوز التسعين عامًا عند البعض أو المائة والأربعين عند آخرين. وإنما لأنها لا تريد أنْ تــُـصدّق أنّ ابنتها نرجس ماتت. ولاتريد أنْ تــُـصدّق أنّ ابنها عبدالرحيم مات. لذلك فهى «تبحث عن مداسها لكى تلبسه وتروح لابنتها. ثم تبحث عن المداس لكى تلبسه وتروح تبحث عن ابنها.» وهكذا تظل تبحث عن المداس لكى تروح لهما. والسبب كما قالت دلال زوجة ابنها عبد الرحيم «بيتهيأ لها إنهم عايشين.» (ص 18، 19) فالكاتب هنا تجاوز المعنى المباشر للحدث (إختفاء الجدة هانم) وإنما كثــّـف الإضاءة حول دلالاته ومعانيه الإنسانية. من خلال وعيه بمفردات الشخصية المصرية ومكوناتها.
إذْ أنّ الثقافة القومية المصرية التى توارثناها عبر آلاف السنين .. أثبتتْ عمق العلاقة الوجدانية داخل كيان منظومة الأسرة .. المُجسّدة للترابط بين الأجيال وهى ظاهرة متوارثة عن جدودنا المصريين القدماء. كما أنّ المُـبدع وهو يُمهد لاختفاء الجدة هانم استخدم آلية الإبداع الساخر بشكل فنى بديع. إذْ أنّ الجدة هانم عندما رأتْ النعش المحمول عليه ابنها عبد الرحيم سألتْ «همّ شايلين الواد عبدالرحيم ورايحين فين؟» ولأنّ أولادها وأحفادها تعمّدوا إخفاء خبر وفاته عنها. خوفــًا عليها من صدمة الفراق. فلم يُصرّحوا لها بالحقيقة. فقالت «يخيبك يا عبد الرحيم ..لازم الانتخابات رجعت تانى». وتتذكرأيام شبابها حيث أنّ «المنشاوى باشا نجح» وهكذا يلضم المبدع بساطة السرد بعمق الدلالة.
وكما حدث الخلط فى تداخل الأزمنة عند الجدة هانم. نجد أنّ هذا التداخل يأخذ أشكالاعديدة، وأيضًا بأسلوب الفن الساخر. حيث نجد (البهى عثمان) عندما أراد أنْ يشرب الماء «تناول القلة من جنب التليفزيون». (ص24) وعندما ذهبتْ نرجس لخطوبة البنت أفكار لشقيقها عبد الرحيم، فإنّ أم أفكار قـدّمتْ لها نصف تفاحة وللعريس النصف الآخر. كانت نرجس صريحة فقالت «دى طعمها جاز يا ولاد». فقالت أم العروسة «آه والنبى..دى ريحتها جاز بصحيح .. يمكن من السكينة» وسأل خال العروسة عبد الرحيم «أُمال إنت يا سى عبده .. كلتها إزاى؟» فقال عبد الرحيم «أنا إفتكرتْ إنْ التفاح طعمه كدا» وهذا– بالطبع– ما ضايق العروسة التى قالت له بعيدًا عن أهلها «يعنى لازم تعرّفهم إنك كمان .. عمرك ماكلت تفاح؟» وعندما أكد لها «أنا كنت بأهزر» لم تستوعب دعابته! (ص86) وإذا كانت (القلة) الفخار التى تتولى تبريد الماء بجانب التليفزيون، فإنه عندما انقطع تيار الكهرباء عن الشارع .. تمّ اللجوء إلى اللمبة الجاز الموضوعة على التليفزيون.
اللجوء إلى فن الهمس ساعد المُبدع على تجميع تراكمات المُـنمنمات. فنجده يُـكثف آفة الميراث. تلك الآفة التى شغلتْ البشرية وتسبّبتْ في الكثير من المآسي. كثافة صاغها أصلان فى أقل من صفحتين: أفراد العائلة يتساءلون من أحق بالأرض التى كانت فى الأصل ملكــًا للجدة عزيزة؟ وعزيزة ماتت .. الثلث ورثته ابنتها هانم جدة عبد الله عثمان .. والثلثان ورثهما ابنها عبد العزيز شقيق جدته .. خصوصًا أنّ عبد العزيز ظلّ يفلحها بنفسه. لكن عبدالعزيز مات. والعمدة أعطاها لمستأجر من معارفه. وأبناء عبد العزيز لهم الحق فى ثلثي الإيجار وهانم الثلث. لكن هانم ماتت. الثلث (إذن) يرثه أبناء هانم– نرجس وعبد الرحيم- ثلث لنرجس وثلثان لعبد الرحيم. ونرجس ماتت. المفروض أنْ يرثها عبد الله وأخوته. وعبد الرحيم مات. والمفروض أنْ ترثه دلال (زوجته) وعيالها. ودلال أخبرته (عبد الله عثمان) أنّ العمدة عبد الرحمن مات. والمستأجر القديم مات. وعياله ماتوا. ولا أحد منهم يعرف أين هى الأرض. ولامن يركبها الآن. حكاية لا أول لها ولا آخر. صحيح أنّ كل حى منهم له حق. ولو شبر فى هذه الأرض. لكن أين؟ وكيف؟ أفراد العائلة يتوسّمون فى عبد الله عثمان أنْ يذهب إلى القرية، ويحصل لهم على حقوقهم. عبدالله عثمان يمشى بجوار النهر. كان النهر ساكنــًا. وبدتْ أضواء المصابيح التى انعكستْ عليه عكرة وذاوية. فكرعبد الله عثمان أنّ الماء نائم. وفكر «يُسافريقول يامن؟» وراح يمشى ويُـفكر. (ص146، 147) هذه الكثافة الفنية أغنتْ عن الكثير من التفاصيل التى لاتـــُـضيف وعيًا ولاتــُعمّق الدلالة. خاصة أنّ المُـنمنمات المتناثرة تضافرتْ مع هذه الكثافة فى تجميع الصورة الكلية لمأساة البشر المتمسكين بآفة الميراث (من منظور دينى) بكل أبعادها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومع مراعاة أنّ كل ذلك تم من خلال فن الهمس.
الغموض الفنى:
ومثل المتوالية الموسيقية. نجد أنّ كل مفردة فى تقنيات الكتابة تلتحم بالمفردة التالية لها وهكذا: فإذا كان المبدع قد انحاز إلى فن الهمس. فهذا الفن أخذه إلى أسلوب المنمنمات. وهذا بدوره صعد به إلى أعلى درجات الكثافة الفنية. وهذه بدورها فتحتْ له آفاق الإبداع الأصيل، والذى يُمكن تلخيصه فى كلمتيْن: الغموض الفني. لأنّ هذا الغموض لصيق بجماليات الإيحاء، الذى هوأشد بلاغة من الإفصاح. وأكثر تأثيرًا من الصراخ. ولكن بشرط واحد: لابد للمبدع أنْ يضع مفاتيح حل شفرات الغموض. وإلاّتحوّل الغموض الفنى إلى مجرد (حـُـلية) لامعنى لها، لأنها لاتــُـضيف وعيًا ولاتتوقف عند أى مغزى إنسانى. وبالتالى نكون إزاء (الغموض المغلق على نفسه) كما يفعل البعض. وهوالأمر الذى وعاه أصلان فى كل كتاباته الإبداعية.
بعد المشهد السابق مباشرة. الذى جسّد الموقف الدرامى لحيرة عبد الله عثمان. الذى يتمنى مساعدة أفراد العائلة للحصول على حقوقهم فى الميراث. ولكنه لايعرف كيف؟ ولايعرف حتى اللجوء إلى من. بعد أنْ أصبحتْ الأرض أشبه بالمشاع بين أكثر من فرد. خصوصًا وأنّ العمدة أباح لنفسه توزيعها على بعض معارفه وخلصائه. بعد هذا المشهد فإنّ عبد الله عثمان يتذكر فترة مهمة من طفولته. حيث كان أطفال القرية يصطادون العصافير بطريقة فيها الكثير من القسوة. وعبد الله عثمان الطفل لم يفلح مثلهم فى اصطياد ولو عصفورة واحدة. وذات مرة عثر على عصفورة جريحة تعرج. حملها ووضعها فى الفخ (مثل الذى كان الأطفال يستخدمونه) ليوهم أمه أنه نجح فى اصطياد العصفورة. أخرج العصفورة من جيبه وفتح حلقة الفخ. حاول أنْ يجعله ينطبق على رقبة العصفورة التى صوصوتْ من الألم. عند هذه اللحظة لم يُطاوعه قلبه. وقف يُـفكرفى هذه المشكلة.
فجأة رمقته عين العصفورة بنظرة لامعة. خمشته بأظافرها الرفيعة الحادة فجرحته. العصفورة قرّرتْ الهرب والتحرر من محاولة قيدها. وبعد عدة محاولات في المطاردة، أدرك عبد الله عثمان أنّ العصفورة هدّها الإعياء. فأدرك أنها هالكة لامحالة. ثم رأى أنها تعلمتْ الطيران. وحوّمتْ مرتيْن ثم اندفعتْ تعبر الأسواروالأشجار. وتعلوفى براح السماء البعيدة وتختفى. وينتهى هذا المشهد (الذى يتذكره عبد الله عثمان من بئر الطفولة) بيد أبيه تلامس كتفيه من الخلف. فارتجف فى العتمة (من ص150 - 155) هنا نجد التوظيف الدرامى للغموض الفنى فى حركة القبضة المفاجئة، وما تلاها من خوف فى العتمة. فهذه الحركة الأخيرة مُـحمّـلة بالكثيرمن الدلالات التى تتعدد بتعدد القراءات. وإنْ كنتُ أعتقد أنّ حركة الخوف لصيقة بتحريك الضمير وهو يتذكر عذابات العصفورة. ثم دلالة ذلك بإصرار العصفورة على الطيران (= الإصرار على الحرية) وأنّ قيد العصفورة يُـقابله قيد الميراث. وأنّ عذابات العصفورة يُـقابلها حيرة عبدالله عثمان الذى لايعرف كيف يحصل لأفراد العائلة على حقهم فى الميراث. وهكذا وظــّـف أصلان الثقافة القومية المصرية. والمفهوم المصرى للإسلام إبداعيـًـا.
وعبد الله عثمان (الأستاذ الذى يضع أفراد العائلة أملهم فيه) عندما مشى فى شارع فضل الله عثمان .. رأى البنت شربات الصغيرة التى كانت تلاحقه من زمان بعينيها الشقيتيْن..والتى كانت تــُـشاركهم اللعب على شاطىء النهر بضفيرتيْها ثم اختفتْ. فى هذه المرة وجدها «كومة كبيرة من اللحم .. تجلس على الأرض حافية فى مدخل أحد البيوت دون أنْ يعرفها. ثم سمعها تقول بين الغناء والكلام: والله زمان يا سلاحى. فعرفها من عينيها ومن ابتسامتها الجميلة القديمة. ورأى وجهها يتهلل عندما أدركتْ أنه عرفها وقالت له (إتفضل) فهمس بكلمة (متشكر) وهو يشعر بشىء من العار (ص143- 144) عند الجملة الأخيرة التى ختم بها المبدع هذا المشهد.لابد للقارىء أنْ يتوقف عند دلالة معنى الشعور بالعار.. ولكن إذا رجع القارىء إلى بداية المشهد. سيجد مفتاح حل شفرة الغموض. إذْ بدأ المشهد (بالست دلال) وهى تطلب منه أنْ يُطمئنها بعد أنْ يعود من البلد. بينما شقيقه سلامه يقول له «ماتنساش موضوع الأرض» (ص 142) إذن فإنّ الكاتب من خلال الهمس وبواسطة المنمنمات وضع أمام القارىء صورتيْن متقابلتيْن ونقيضتيْن: صورة اللهفة على موضوع ميراث الأرض. وصورة البنت شربات (التى يتذكر طفولتها وعينيها الجميلتيْن وضفيرتيها وهى تلهو وتلعب على شاطئ النهر) ثم صورتها الأخيرة وهى عبارة عن «كومة من اللحم» ومع ذلك تبتهج لأنّ شخصًا ما تذكرها.
الوعى بمفردات الشخصية المصرية:
فى مجمل أعمال أصلان وجدتُ لديه الوعى العميق بمفردات الشخصية المصرية. بكل إيجابياتها وسلبياتها. وهذا الوعى جمع بين العمق الوجداني وبين التصرفات ذات الطابع النفعى المحض (براجماتية) حتى فى اللحظات التى تتطلب الخشوع أثناء تأدية فروض العبادة. كما حدث «حين تدحرجتْ بريزة فضية من جيب أحد المصلين واستقرتْ أمام محمد أفندى الرشيدى والبهى عثمان. ولأنّ البهى عثمان كان يترصد لمحمد الرشيدى. وبالتالى يعمل على رصد كل عيوبه. لذلك عندما كانا يُصليان معًا لمح (أثناء الركوع) كف محمد الرشيدى وهى تنزل على البريزة بالضبط. وقال: «سبحان ربنا الأعلى ثلاث مرات. وسحب كل منهما يده واعتدل. كانت البريزة بقدرة قادرقد اختفتْ» (ص41) والبهى عثمان الذى كتب العديد من الشكاوى ضد المصلحة التى أخرجته على المعاش فى سن الستين. بينما يرى أنّ حقه أنْ يخرج على المعاش فى سن الخامسة والستين. وإذْ بلغ به اليأس مداه بدأ يسخر علانية من مشاعر الناس ولم يعد يهتم إطلاقــًا بما يقوله فلان أوفلانة. ثم توقف تمامًا عن الذهاب إلى الجامع. (ص51)
وعندما مات البهى عثمان (زوج نرجس) ومرّ أمامها محمولا فى صندوقه الخشبى. رفعتْ نرجس وجهها بالعيون التى جفّ فيها الدمع وصاحت تــُعاتبه «كدا برضو تعملها يا بوعبد الله» فرغم أنّ الوجدان المصرى شديد الإيمان بالقدر. وأنّ «الموت حق» وأنه فى «كتاب معلوم» ومقدّر سلفــًا بالمشيئة الإلهية. رغم كل ذلك نجد أنّ كثيرين (خصوصًا بين الطبقات الشعبية) يُعبرون فى لحظة الوداع عن فاجعة الفراق. بذات الكلمات التى نطقتْ بها نرجس وهى تـُـودع زوجها «كدا برضوتعملها يا بوعبد الله» كأنما هوالذى اختار وحدّد لحظة وفاته وليس القضاء والقدر. ونرجس عندما سألتْ شقيقها عبد الرحيم عن أمه قال «بتسلم عليكى» طيب «وستك عزيزة عامله إيه؟» فكانت إجابته «زى القرده» طيب «وخالك عبد العزي.. قال «حلو» (ص65) مع ملاحظة أنّ تعبير(زى القرده) مُـستمد من الحضارة المصرية .. حيث كان القرد رمز الإله جحوتى (إله الحكمة والمعرفة). وأصلان وعى أنّ الأم المصرية عندما يـُـصاب ابنها بمرض. وتسأل عنه جارتها. ويكون الولد فى الشارع يلعب ترد عليها «آهوبيلعب زى القرد» وإذا علمنا (من أحداث الرواية) أنّ عبد الرحيم لايكره جدته عزيزة بل هو يحبها. وإذا علمنا أنّ شخصيته أقرب إلى البوهيمية. وتعلقه الدائم بالجنس المُـتجسّد فى تعدد زيجاته. تقبلنا وصفه لجدته عزيزة وأنها (زى القرده) فهو وصف يجمع بين الفكاهة والسخرية ويحمل معنى القوة والعافية المتمثلتيْن فى نشاط القرود وخاصة عند الانتقال من شجرة إلى أخرى. ويؤكد ذلك بلاغته فى وصفه لحال خاله بأنه «حلو».
ونرجس طوال أحداث الرواية تــُعامل شقيقها عبد الرحيم كما لوكانت أمه، وليست شقيقته، فهى شديدة العطف عليه والإهتمام بكل خصوصياته. لذلك عندما مرض فإنه لم يهدأ إلاّبعد أنْ أعدّتْ نرجس كوبًا من الشاى، ودعكتْ جبهته بنصف ليمونه. تمامًا كما تفعل الأم المصرية مع أطفالها. ومثلما هى عادة شعبية تندرج تحت مايُسمى بالطب الشعبى.
ولأنّ أصلان أبحر فى الوجدان الشعبى لذلك نجد تحايا المصريين تتردّد على ألسنة شخصياته فى كل صفحات الرواية مثل (العواف) عند دخول شخص على شخص آخر. فعندما زارتْ نرجس دلال زوجة شقيقها عبدالرحيم قالت لها «عواف يا دلال» فكان رد دلال «الله يعافيكى ياعمتى» (ص161، 162، 176) وهذا التعبير «عواف .. يعافيكى» كان شائعًا لدى غالبية شعبنا قبل غزو التعليم والإعلام للعقل والوجدان المصرى. وفرض تحية واحدة، تجسيدًا للشمولية والأحادية. لنفى التعددية التى تميّزتْ بها الشخصية المصرية. حتى فى ابتكار شتى التعبيرات الدالة على هذه التعددية. ومنها تعدد التحايا. مثل تحايا الصباح المتعددة وتحايا المساء. وتحايا الخروج من الحمام (نعيمًا) وتحايا الانتهاء من إخراج ما فى المعدة (شـُـفيتم) وبعد الإنتهاء من الصلاة (حرمًا) إلخ. أما لفظة (عمتى) فهى تعبير مصرى مجازى تقوله الزوجة لشقيقة زوجها، وهذا التعبير يحمل معنىً إنسانيًا عميقــًا. إذْ أنه يجعل العلاقة الأسرية أقرب إلى صلة الدم منها إلى مجرد صلة النسب.
ومن بين العادات المصرية التى وعاها أصلان. خصوصًا فى الأحياء الشعبية. أنّ أبواب الشقق غالبًا مفتوحة. لذلك عندما زار محمد أفندي الست نرجس. ومدّ إصبعه ونقر على باب الشراعة قالت «أدخل يا اللى بتخبط» (ص169) ومن ملامح الشخصية المصرية التى انتبه إليها المبدع. اقتحام أية مشكلة وعدم التردد فى ممارسة أية مهنة حتى ولو كان الشخص غير متخصص فيها مثلما حدث بعد وفاة عبد الرحيم. إذْ أنّ من تولى غسل الجسد بعد الوفاة أبو خالد وهو شخص ليست له أدنى علاقة بهذه المهنة. وكان المبرر «إنها ليست شغلانه .. وأنّ أولاد خاله أولى بالمصاريف التى سيأخذها المغسل الغريب» (ص207) ولكن أحد الذين حضروا الغسل ألحّ على أنْ تكون «الليفة ناعمة» والسبب لأنّ الليفه «لو خشنه ممكن تجرح جسد الميت لإنْ البنى آدم مننا طول ما الروح فيه ممكن يستحمل. لكن أول ماربنا يفتكره، جـِـلده يبقى رُهيف وأى شىء ممكن يؤثر فيه» (ص210) ورغم أنّ هذا الكلام عكس الحقائق العلمية، فإنّ غالبية المصريين (وهوما شاهدته بنفسى) يحرصون على ضرورة أنْ تكون «الليفه ناعمه حتى لاتجرح جسد الميت». ولأنّ الشخصية المصرية شديدة الإيمان بالغيبيات. لذلك كان لابد من خروج أى شخص غير طاهر لأنّ ليس له الحق فى حضور غـُـسل الميت «ولامؤاخذه يا جماعه إحنا فى حضرة ملائكه». (ص211)
الوعى بمفردات الشخصية القومية لابد أنْ يرتبط بالإبداع الشعبى (مجهول المؤلف) الذى صاغته الجماعة الشعبية. لذلك تترنم نرجس على رحيل شقيقها بتلك الترنيمة العذبة «نادى المنادى وسمعته بودانى. من مات شقيقه ما يعوضوش تاني» (206)
وعن الصور الفنية البديعة نجد أنّ الشخص الذى يجهش دون صوت «كأنما هو يمضغ البكاء» (ص 206) ودلال (زوجة عبدالرحيم ) عندما سألتها الجده هانم عن عبد الرحيم أخفتْ عليها خبر وفاته. فقالت الجدة من جديد «إنتى سامعانى يادلال؟» فقالت دلال «سامعاكي» كان رد دلال بصوت مخنوق. وهالها وجه العجوز وهو يطفو مضيئــًا بالخضرة. فى الجو المعتم وراء الزير ويختفى» (ص220)
ويمزج المبدع الخرافة بالسخرية ضمن مكونات الشخصية القومية. إذْ أنّ نرجس تقول لزوجها «ياريتك يا أبوعبده لما أموت. توصل لى سلك بلمبه فى التربه» ولكن زوجها يُبرر الرفض والدهشة قائلا «دى تضرب (أى اللمبه) يا وليه» فترد عليه «أبدًا .. والنبى ما يجرى لها حاجة» زوجها سكت وتهيأ له أنّ اللمبه لن تضرب. وفكر بينه وبين نفسه «صحيح: إيه اللى يخليها تضرب؟» لكن عقله راح ناحية الملكيْن: وهل يصح أنْ يكون الحساب فى نور لمبة الكهرباء أولا يصح. استغفر ربنا وهرش رجله الشمال وبدا له أنّ الموضوع غريب. ولكن نرجس ألحتْ فقالت «أسبوع واحد .. لغاية ما آخد على الضلمه» (ص28، 29) وإذا كان العلماء يُـفرّقون بين الأسطورة والخرافة. فإنّ كثيرين لايزالون يؤمنون ببعض الخراريف. مثل ذلك الرجل الذى وجد فى إحدى المقابر أسفل منزله قطعة من الرخام «وحواليها فرخة وسبع كتاكيت دهب» (ص109)
كما يعى المبدع المُـتغيرات التى حدثتْ فى الشخصية القومية. من ذلك تغلغل الأصولية الإسلامية مثلما حدث مع أحمد الرشيدى الذى كان لايعيبه إلاّعدم الصلاة التى أغضبتْ السـُـنية فى الجامع «إلى أنْ قام أولاد الحرام الذين لايعرفهم أحد بالاعتداء عليه وبهدلوه فى الشهر الكريم وساعة الإفطار. وهوّقاعد مع أولاده على الطبلية. البيت كله سمع الصوت وهو يـُـنادى مستغيثــًا «ياعم أحمد.. يا عم أحمد يا رشيدى» والرجل قام من على الأكل واندفع يُـلبى النداء صائحًا «جاى لك» وفتح باب الشقة ليُـفاجأ بضربة من (بونيه) حديد هرست ذقنه وكسرتْ عدة أسنان». (ص176) أى أنّ الجماعات الإسلامية المتشددة. ترى أنّ إقناع الناس بالصلاة يكون بواسطة العنف المادى (الضرب بالبونيه الحديد) وليس بالموعظة الحسنة. مثلما كان الواقع المصرى قبل تغلغل الأصولية الإسلامية وخاصة فى طبعتها الوهابية.
وإبراهيم أصلان لأنه أطلق عقله ووجدانه للسباحة داخل الوجدان الشعبى. لذلك فهو فى سرده الأدبي يكون مترجمًا أمينــًا (ولكن بلغة الفن) وهويُحاكى أسلوب شعبنا فى بداية الحكى.من ذلك مثلا عندما كتب «مرة النور انقطع فجأة على نرجس وهى قاعدة تتفرج على التليفزيون» (ص23) وعن الخال الكبير عبدالعزيز الذى صنع أرجوحة من حبال وربطها فى عروق السطح العالية كتب عنه «مره أكل ثمرة باذنجان رومية .. عسلية اللون قطفها بنفسه من شجيرة قصيرة خضراء» وكذلك «مرة دخل حقلا ورأى صبية يجلسون فى شبه دائرة وهم يمضغون أوراق الرجله. ويُدلكون أعضاءهم المنتصبة العارية. أخبره سالم أنهم يريدون أنْ يعرفوا هل بلغوا وصاروا رجالا أم لا» وأيضًا «مرة كان شباب يُهيجون العصافير التى تبيت فى سقف حوش الدار الكبيرة. يقبضون عليها بالطواقى المفتوحة. ويعطونه واحدة لاتلبث هى الأخرى أنْ تطير» (ص149)
إنّ الأديب هنا أعاد صياغة الأصل الشعبى. إذْ يبدأ شعبنا حكاياته قائلا «كان مرة فيه كذا» ويبدأ الكاتب الفصل الثالث هكذا «الدنيا صيف .. والبلح الأحمر طلع» (ص61) كناية عن أنّ البلح ظهر فى الأسواق. يرتبط بأسلوب الحكى الشعبى، انحياز المبدع للغة المصريين المنطوقة، أى لغة الحياة اليومية التى يتعامل بها الأمى والمتعلم، وحتى رجال الأزهر على حد قول عميد الثقافة المصرية (طه حسين) فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر. ولأنّ شخصيات أصلان من الطبقات الشعبية، وخصوصًا من حى إمبابة والكيت كات وشارع فضل الله عثمان إلخ.. لذلك فإنه يمتلك شجاعة كتابة الحواربلغة شعبنا الحية. فى كل رواياته وقصصه القصيرة. بينما يأنف كثيرون من لغة شعبنا. فعندما اختفتْ الجدة هانم .. قال البعض أنها ربما تكون قد سافرت إلى البلد. فيكون السؤال (هىّ تعرف تسافر؟) وتكون الإجابة «يمكن سألتْ حد ودلــّها» (ص19، 20) فإذا ترجمنا هذه الجملة إلى اللغة العربية تكون هكذا: «ربما سألتْ شخصًا ما وأرشدها على الطريق». وعندما انقطع تيارالكهرباء فإنّ «نرجس وقفتْ (تنكش) فى علبة الكبريت» (ص23) فكلمة (تنكش) هنا كناية بلاغية عن البحث عن شىء ما فى الظلام .. ويستخدم تعبير أنّ فلانــًا «هبد الباب» (ص26) أى أغلقه بعنف فى الترجمة العربية. ويستخدم لفظة (دوشه) (ص29) كبديل للكلمة العربية (إزعاج) ونرجس عندما كانت مشغولة. فالسبب كما قالت «أنا بأروّق الدولاب» (ص54) أى أنها تــُعيد تنظيم ترتيب الملابس فى الدولاب. وعبد الرحيم جلس على الكنبة ونشف عرقه (ص61) أى جفف عرقه بالعربى. والبهى عثمان عندما عاد من البوستة «قلع بدلة المصلحة» (ص63) كبديل للكلمة العربية (خلع) ونظرًا لأنّ كلمة (قلع) الهدوم تتكرر فى كل مناسبة فى الرواية كبديل عن كلمة (خلع) العربية. فإنّ هذا يؤكد أنّ المبدع ينحاز عن عمد للغة شعبنا .. وليست المسألة مجرد مصادفة لم تتكرر.
وعبد الرحيم يسأل عبدالله «إزيك يا واد ياعبد الله» فتكون الإجابة «كويس» (ص64) فلفظ (إزيك) يقابله فى اللغة العربية (كيف حالك) ولفظ (كويس) يقابله (أنا بخير أو بصحة جيدة إلخ) والخال عبدالعزيز كان يُعانى مشاكل صحية فى المثانة .. ولكن البهى عثمان يصف حالته الصحية قائلا «لسه الميه بتحرقه» ثم يُضيف «آهى ساعات تحرقه وساعات يروق» (ص65) فتعبير(الميه بتحرقه) هى المرادف للتعبيرالمصرى عن (حرقان البول) كبديل عن (ألم المثانة أثناء التبول).
أما كلمة (لسه) التى تتردد كثيرًا فى صفحات الرواية. فهى تتردد مئات المرات فى حوارات شعبنا فى اليوم الواحد. ولها أكثرمن استخدام رغم دلالة (الزمن) فى معظم الاستخدامات. لأنها مُستمدة من اللغة المصرية القديمة فى مرحلة تطورها الثالث، أى مرحلة اللغة القبطية للتعبير عن الزمن. لذلك نجدها (أى كلمة لسه) منتشرة فى القبطية الصعيدية فى هذا التعبير «الواد لساه ماشي» أي أنّ الولد انصرف منذ وقت قصير وهكذا. ومن استخداماتها كذلك «الواد لسه ما جاش»، «الواد دا لسه خام» (أى عديم الخبرة بالحياة) كما كتب أصلان على لسان الست أم أفكار «يابت دا لسه خام .. إنت علميه» (ص81) «هوّأنا لسه ح أستنى» (أى كم من الوقت سوف أنتظر بعد مكوثى مدة طويلة)، «الواد دا لسه صــُغيّر» كما كتب المبدع «أصلها لسه صــُغيّره» (ص83) وكتب «مراته لسه هربانة». (ص141) كناية عن الفترة الزمنية التى انقضتْ دون العثور عليها وأنها مازالت هاربة باللغة العربية. وعبد الرحيم عندما يسأل «أختى نرجس جت؟» تكون الإجابة (لسه) (ص160) وليس لها أية ترجمة عربية غير (لا) أى أنها لم تحضربعد. وأم عبد الرحيم تسأله عن صحة نرجس المريضة «الحكيم شافها؟» (آه) «يعنى قامت ولاّ لسه؟» (ص204) فيكون المعنى المقصود هنا هل شــُـفيتْ أم مازالت مريضة؟
كما يستخدم الكاتب كلمة (بس) التى ينطقها شعبنا مئات المرات فى اليوم الواحد بمعانيها المتنوعة: «هوّ حر بس لما العيال تدحك عليه.. ما ليش دعوة» (ص67) فهى هنا بمعنى (لكن) العربية مثلما جاء على لسان عبدالله «بس عصفوره لونها أزرق» (ص71) وفى سياق آخر تــُـستخدم بمعنى (فقط) مثال: موظف يعترض على مبلغ المكافأة فيقول «همّ دول بس» فكلمة (بس) هنا جمعتْ بين كلمة (فقط) العربية والمعنى الأشمل وهو الاعتراض على المبلغ الممنوح له. ويستخدم الكاتب كلمة (وله) كبديل عن كلمة (ولد) العربية مع مراعاة أنّ (وله)، (واد) تحوير حديث للأصل الهيروغليفي (ياد) للدلالة عن كلمة (الولد) وأصلان يمتلك جرأة كتابة الحوار كما ينطقه المصري دون أى تدخل. فعبد الرحيم حجز تذاكر السينما له ولخطيبته أفكار (صالة) وليس (بلكون) فقالت تعاتبه «وقاطعهم صاله كمان؟» (ص80) والخال عبدالعزيز يعترض على زواج عبد الرحيم من امرأة مُـطلقة. فيُصرعلى تطليقها منه «وضرْب عبد الرحيم بالمداس» وكلمة (المداس) تكرّرتْ فى كل مناسبة في الرواية. أي أنّ الكاتب يستخدمها عن قصد وليست المسألة مجرد صدفة. والكلمة هى البديل لكلمة (الحذاء)
ونرجس تخجل وترفض أنْ (تشلح) وتقضى حاجتها أمام البط والفراخ (ص108) وكلمة (تشلح) كبديل عن (ترفع جلبابها) وعبد الرحيم يطلب من زوجته دلال أنْ تكف عن الحديث فيقول لها «أسكتى» فترد عليه «آدينى سكت» (ص160) أي «ها أنا قد صمتتُ» أوها أنا قد توقفتُ عن الكلام عند ترجمتها للعربى إلخ.. ويقول عبد الرحيم لزوجته أيضًا «إتلهى» (ص167) أى إخرسى وفقــًا لسياق الحوار. ويستخدم تعبير «زى الفل» (ص190) كبديل للتعبي رالعربى (مثل الفل) ويستخدم كلمة (قارحه) (ص223) فى وصف المرأة التى لاتخجل، وتفعل كل ما هو لا أخلاقي وتعتبره شيئــًا عاديًا. ونرجس عندما اعتقدتْ أنّ شقيقها عبد الرحيم قد مات وهى بجواره على سرير المرض. بينما هوكان فى غفوة عميقة قالت «إخص عليك يا عبدالرحيم» (ص168) فكلمة (إخص) هنا بمعنى (خضتنى ياعبد الرحيم) والكلمة لها استخدامات أخرى مثل الأم التى تـُـعاتب طفلها على شقاوته وعلى أفعاله غير المتوقعة، فتقول له «إخص عليك» بدلامن «لقد أفزعتنى» كما أنّ هذه الكلمة تنم عن الحميمية فى أحيان كما فى المثال السابق. وتعنى السب كما فى المثال الآتى «إخص عليك وعلى اللى خلفوك» أى (يا لك من سافل أنت ومن أنجبوك) ويقول أحد شخصيات الرواية «وأنا إيه اللى يودينى البيت؟» (ص132) أى (ماهى الأسباب التى تجعلنى أذهب إلى البيت؟) لو أردنا ترجمتها إلى اللغة العربية. ومع ملاحظة أنّ (إ خ ص ى) أصلها مصرى قديم بمعنى (وضيع) أوخسيس (مصر وكنعان وإسرائيل فى العصور القديمة- تأليف دونالد ريدفورد- ترجمة بيومى قنديل- المجلس الأعلى للثقافة- رقم498- عام2004- ص165)
وكان الأديب الكبير أصلان موفقــًا (في أكثر الأحيان) وهو يكتب الكلمة المصرية حسب نطقها الصحيح وفقــًـا لقواعد كتابة اللغة المصرية. فيفصل الحرف عن الفعل وعن الضمير. كما فى اللغة القبطية واللغة الإنجليزية فيقول «ح يشوفونى» (ص132)، «أمُـال ح تروح فين» (ص133) وفلان «ح يروح فى داهية» (ص135) وزوجة سلامة تسأل زوجها «ح تنام؟» (ص136) ويكتب على لسان دلال «برتقان» (ص162) بدلا من (برتقال) ثمرة الفاكهة المعروفة. ويكتب «أعمل لك كباية شاى؟» لأنّ كثيرين وخصوصًا من يزعمون أنهم شعراء، فإنهم يشبكون الفعل مع الضمير فيكتبون (أعملك كباية شاى؟) ويتصوّرون بذلك أنهم يكتبون مايُطلقون عليه (العامية المصرية) وكتب أصلان «كان البهى ح يموت» (ص177) فى حين أنّ كثيرين يكتبونها «حيموت» وطريقة كتابة أصلان هى الأصح. لأنّ حرف ال (ح) حرف مستقبلى فى اللغة القبطية. ويتم فصله عن الفعل فنقول (ح أروح .. ح أذاكر إلخ) ورغم ذلك فإنه لايلتزم بطريقة هذه الكتابة. إذْ كتب على لسان الحاج شوقى «مش حتلاقى معلقه قد دى» (ص191) لأنّ الصحيح «موش ح تلاقى» وكتب على لسان نرجس «حتركب قطر كام يا عبدالرحيم؟» (ص90) والأصح (ح تركب)
ورغم هذه الملاحظات القليلة، فإنّ أصلان واحد من المبدعين المصريين الذين وعوا خصائص شعبنا الثقافية (بمعنى الثقافة القومية) التى ينتجها شعب من الشعوب عبر تاريخه الممتد. كما فى حالة شعبنا المصرى. وهو وعى يشمل مجمل العادات والطقوس والإبداع الشعبى، فهومثلا عندما تطلب دلال من زوجها عبد الرحيم (اللباس) الذى يرتديه. لتذهب إلى العيادة الخارجية ليكشف عليها الطبيب. لأنها نسيتْ أنْ ترتدى اللباس الخاص بها، وإذْ يعترض عبدالرحيم على طلبها تقول له «ياخويا قيمة ما أنزل لغاية الدكتور وأطلع» (ص163) فالكاتب هنا استخدم تعبير المرأة المصرية التي تقول لزوجها (ياخويا) وهو تعبير مستمد من الحضارة المصرية. ناهيك عن روح الفكاهة الساخرة فى هذا المشهد بين دلال وزوجها الذى كان على فراش الموت. كما أنه تمكن ببراعة فائقة من إعادة صياغة الواقع جماليًا. فمع أنّ إبداعه ينطلق من الواقع. إلاّ أنّ الكتابة ليست هى الواقع المباشر فقدّم للقارئ (الواقع الفنى) إنْ جاز التعبي، وكل ذلك تم من خلال الإبداع بفن الهمس وبتقنية المُـنمنمات التى تصنع التراكم الكلى. وعندما يصل القارىء إلى نهاية العمل الإبداعي، تكون هذه المنمنمات قد تغلغلتْ داخل عقله ووجدانه، فتظل الشخصيات حية نابضة لزمن طويل. كما فى كل عمل إبداعى أصيل.