يبدو أن الناقد العراقي والطبيب النفسي المرموق الذي رحل مبكرا بسبب مضاعفات كرونا كان قد بدأ هنا دراسة تفكيكية استقصائية، لم يسعفه المرض لإكمالها، وإن استطاع عبر ما كتبه منها أن يضيء الكثير مما تنطوي عليه هذه الرواية المهمة من إلماعات وتناقضات كاشفة في آن واحد.

تحليل رواية «حياة ثقيلة»

حسين سرمك حسن

 

يستهل الروائي سلام إبراهيم القسم الأول من روايته )حياة ثقيلة( والمعنون بـ"لبناء عالم جديد" بالقول: «أجلسُ على حافةِ الستين. خلفَ النافذة، الليل أبيض. خلف النافذة تهبط الأضواء وندف الثلج من سماء بيضاء. تهبط بروية وهدوء وكأنها تنسج مأساة وحدتي، أسترخي على كرسيّ الهزاز وسط الصالة أمام نوافذها الزجاجية الثلاث العالية المشرفة على امتداد الشوارع البيضاء ونفسي منقبضة فرط البياض، يقال أن المحتضر يرى قبيل رحيله، في اللحظات الأخيرة شلالاً من الضوءِ الأبيض الذي تعشي له العيون. هذا ما أفضى به من توقف عن الحياة للحظات وعاد بتدخلٍ طبي. الشوارع خالية. زوجتي تنام في الغرفة الأخرى. صرت قليل الكلام بعد أن كنتُ لا أملُ منه» ص 5

وهو استهلال يُسرد بضمير المتكلم وهو الضمير ذو السيادة المطلقة في المنجز السردي لسلام إبراهيم، ويعبّر عن حالة اكتئاب شديدة تقلب استجابة الراوي فيه المسلمات العامة الثابتة في السلوك البشري برغم أن الأدب يقلب هذه المسلمات عادة. فالبياض الذي تعارفنا على أنّه "يفتح" النفس ويشيع الأمل والتفاؤل في النفس صار الآن دافعاً للانقباض والتشاؤم وانتظار الموت. وهو يحاول إسناد قلب استجابته للون الأبيض هذا بمثال البشر الراحلين الذين مرّوا  بتجربة "ما بعد الموت  afterdeath experience"  وهم الاشخاص الذين ماتوا ثم عادوا إلى الحياة بلا مساعدة طبّية وبعضهم نهض من مشرحة الطب العدلي (الجنائي) والذين أشار أغلبهم إلى أن شلالا من الضوء الأبيض غمرهم وهم "هناك" قبل أن يقرّروا العودة أو يُعادوا إلى "هنا". وحالة الاكتئاب هذه شاملة تتضمن خمود النشاط الإنساني والفاعلية على شتى المستويات وبضمنها الرغبة العاطفية والجنسية من خلال الإشارة إلى الزوجة التي تنام وحيدة في الغرفة المجاورة في حين "يغطس" الراوي في كرسيّه الهزّاز خلف النافذة التي تضفي على جلسته ظلال صورة السجين المتوحّد الذي فقد الرغبة في الكلام ايضا وهو أداة التواصل مع الآخرين بعد أن كان لا يملّ من الحديث كما يقول.

ولو قرأ عالم نفس غربي ما يقوله الراوي عن حاله لوضعه في خانة من يعانون من "أزمة منتصف العمر" والتي هي تحوّل في هوية الشخص وثقته بنفسه وتحصل عادة لدى من هم بين 45 إلى 65 عامًا. وتوصف بأنها أزمة نفسية ناتجة عن أحداث تسلط الضوء على تقدّم الشخص في العمر، والوفاة الحتمية، وربما عدم الإنجازات في الحياة. وقد ينتج عن هذه الأزمة الشعور بالاكتئاب الشديد، والندم، ومستويات عالية من القلق، أو الرغبة في تحقيق رغبات الشباب الضائعة أو إجراء تغييرات جذرية على نمط حياته الحالي أو الشعور بالرغبة في تغيير القرارات والأحداث الماضية. لكن انهمام الراوي بـ"ستينه" التي يجلس على حافتها وتحاصره في نومه ويقظته يتأسس على إحساس عميق سابق أو مرافق بالوحدة المدويّة. وهذا يعود أصلا إلى فعل المنجل الباسط للموت أو "المثكل" حسب الوصف الموفّق لجدّنا جلجامش. لقد رحل أحبّته واحدا تلوا الآخر وتركوه وحيداً محاصرا ببقاياهم/ صورهم: "أحملق في جدران الصالة التي امتلأت بصورهم. حشدٌ من الأحباب. حشدٌ من الوجوه المنيرة الضاحكة. حشدٌ غادر الواحد تلو الآخر هناك بعيداً في الرحم الدامي" (ص 5)

وتعني الإشارة إلى رحيل الأحبة في "الرحم الدامي" أنّ الخسارات لم تكن موتاً "مقدّراً" من الله يتكفّل له أخّاذ الأرواح بل موتاً "مُصنّعاً" من الإنسان ويكون في العادة شديد القسوة والتوحّش. ولا نعرف حتى الآن ما هي هويّة الراوي ولا طبيعة المكان/ الرحم الدامي الذي يتحدّث عنه حتى وهو يقول: "كنت أظن قبل سقوط الدكتاتور بأن همومي كلها ستزول بزواله فأتمكن من زيارة الأهل والأحباب، أرى أمكنتي الأولى وأشم هواء وتراب مدينتي". ص 5 و6

فمعاناته من الوحدة والاكتئاب وأزمة الستين من العمر يمكن أن يعاني منها أي شخص .. كما أن الديكتاتور الذي تمّ إسقاطه قد يكون أي ديكتاتور في أمريكا اللاتينية مثلا (مثل ديكتاتور الارجنتين الذي تسبّب في اختفاء 100 ألف مواطن وفرار الآلاف من وطنهم). لكن معرفتنا بأن الروائي عراقي وبأن الراوي يتحدث عن رحم دام بعيد هو العراق وكوننا متلقين عراقيين يجعلنا ندرك أنّه يتقلب على جمر وحدته الأبيض في بلد بعيد قصيّ مُثلج. وهذا يغلق دائرة التلقي ويمنع موت المؤلف وييسّر عملية الاستقبال والتأويل.

وهناك سمة فاجعة مُضافة في رحيل أولئك الأحبة وتتمثل في أن الراوي عاش طويلا وهو يحلم بخلاصهم وآفاق الحياة الكريمة مفتوحة أمامهم على مصاريعها .. فيكون خالي البال مطمئنا ومسترخي النفس لأن "المهمة" أُنجزت إذا ساغ الوصف. وكان هذا الحلم بيوم الخلاص ذاك يلاحقه ويستولي على ذهنه "سائراً أو قائماً أو جالساً أو نائماً". أمّأ الآن – ولاحظ المقابلة المقصودة المؤلمة – فإن الستين الموحشة والوحدة الخانقة تحاصره في "سكونه وحركته، ونومه ويقظته".

كان يمارس طقوس حلمه وأشواقه مع ذاته بصورة سرّية: فحين يقفز إلى حوض السباحة – وهنا تتكفّل إشارات مكانية بسيطة في حسم مرجعية هوية الراوي وانتماءاته المكانية – لا يهمه جنّيات القصص اللائي يحطن به بل يتصوّر نفسه قافزاً في نهر مدينته الطيبة وتحديداً في المكان المقابل لحيهم السكني القديم: "كنت أمارس طقوس أشواقي السرية دون بوح، فكنت أتخيلني وأنا أرمي نفسي في حوض السباحة كأنني أقفز إلى نهر الديوانية وأغط فيه، فأرى وأشم وألمس بقلبي وأنا في غمرة الماء بيوت "حي رفعت" وحدائق المعسكر في الجهة المقابلة ناسياً ما حوليّ من نساءٍ مثل جنيات القصص بلباس السباحة يعومّنَ ويقفزن ويخرجن من حوض الماء الناصع الزرقة.- ص 6"

إنّها ليست أزمة منتصف العمر .. بل أزمة خراب العمر كلّه: أن تصحو وأنت على حافة الستّين وقد فقدتَ أحباءك وصحبك المقرّبين وخسرت مستقبل مَنْ تبقى من الأحبة ومستقبلك من خلال خسارة مستقبل بلادك بأكمله وإلى الأبد عبر عودتها إلى الاحتلال بعد تخلصها منه قبل ثمانين عاماً!! فأفقد هذا الواقع المرير القاسي كل المسرّات حتى الصغيرة منها في حياة الراوي: "أنفصلُ مع كل قفزةٍ عن وجودي الغريب، مستمتعاً بالأخيلةِ التي تنهضُ من عمقِ السنين حيةً في الماءِ. لكن حتى هذه اللُعَبْ السرية فقدتها عقب الاحتلال، وزياراتي السنوية الطويلة للرحم الملتهب. فقدتها وأنا أفقد الحبيب تلو الحبيب ليتحولوا من جديد إلى خواطر وصور فوتوغرافية معلقة بالحائطِ تطلُ من سكونها على وحدتي أنا وزوجتي الحزينة". ص 6

وفي مقابلة أخرى لا يصوّرها إلّا أستاذ متخصص في أفلام الرعب يقدّم لنا الراوي لمحة مخيفة من لمحات انقلاب سمراته في علاقته بالأحبة الغائبين الذين صاروا يغطسون معه في حوض السباحة بعيونهم المفتوحة الجامدة ووجوههم الشاحبة بصفرة الموت: "متع الأشواق الصغيرة الطائرة فقدتها، فأصبحتُ كلما رميت جسدي في حوض المسبح أراهم يغوصون جواري بأجسادهم العارية وعيونهم المفتوحة. كل غطة أرى أحدهم حياً يجاورني في عمق الماء، صامتاً، مفتوح العينين، وشعر رأسه يتمدد في الماء خلفه، تمتد اللحظة الحيّة حتى ظهوري إلى السطح وضجيج السابحات والسابحين الذين يقابلوني ببسمة وتحية كلما التقت نظراتنا". ص 6

ومشكلة الناجي هو هذه الفجوة الهائلة بينه وبين مَنْ يحيطون به. بين مَنْ يده في النار وبين مَنْ يتفرّج عليه كما يقول المثل الشائع .. بين من يتقلب على ألسنة الجحيم ومَنْ يحييه بابتسامة متعاطفة. فلو قال الراوي لأحد السابحين بأنه غاص في حوض الاستحمام وغاص معه واحد من غائبيه القتلى ففسدت عليه لحظة المسرّة كيف سيردّ عليه هذا المتفرج "الطبيعي" الذي شبع سباحة وراحة؟ مشكلة الناجين أنّ لا أحد يفهم سياط العذاب التي تمزّق ظهر وجودهم.

ومعضلة الراوي الأساسية المستعصية على كل حلّ والتي جرّت خلفها كل أشكال المعاناة هي أنّ "انثكالاته" الموجعة لا تنقطع. كان يفقد الحبيب تلو الحبيب قبل الاحتلال مراهنا على مجيء يوم تسقط فيه قبضة الطغيان، ليحظى من يتبقى من الأحبة بفرص العيش المنعم والسلام الطمأنينة. لكن الطغيان استُبدل باحتلال غاشم لا يقل عنفاً ولؤما ووحشية .. ونزف الانثكالات لم يتوقف بل صار أفجع وأفظع. وصار الراوي "ناجياً" بالمعنى النفسي المهلك. الناجي بهذا المعنى هو مَنْ "يبقى" بعد موت أحبته وحيدا عاريا منخلع الأواصر ويركبه الشعور بـ"ذنب البقاء" شاعرا بغربة عنيفة عمّن يحيط به تلاحقه أخيلة الراحلين وأطيافهم التي يسهل عليه التعايش معها أكثر من الأحياء المتحرّكين حوله والذين يرتبط بهم في الظاهر: "هاهم يحيطون بيّ بعيونهم البارقةِ وبسماتهم الحارقةِ مخففينَ من وطأةِ الوحشة وثقل البياض خلف النوافذ وسكون الصالة وقفر الشوارع المغطاة بالثلج." ص 6

وهؤلاء "الناجون" المنثكلون يعيشون في ظلال ماضي التجربة الرهيبة التي خطفت أحباءهم .. ومن فرط شعورهم بذنب البقاء يتمنون وأحيانا يعتقدون بقوة أن أحباءهم لم يرحلوا أبدا. فيديمون بقاء الغائبين من خلال الصور والكتابات وشواهد الذكريات (ويمثل الأدب أعظم وسائل "الإحياء" والخلود في حياتنا وهو بذلك معالج نفسي ناجز). وحين يتصاعد الشعور بالانثكال والفقدان إلى مستوى لا يمكن للنفس البشرية تحمّله، قد يبلغ الأمر بالمنثكل تخيّل الغائب أمامه بلحمه ودمه بلا قرينة واقعية تسند هذا الوجود، فصار يرى وجوه أحبته الغائبين: "بوجوه المارة مكتشفاً لعبةً جديدةً من لعبِ الأشواق الطائرة تتلخص في الجلوس على مصطبةٍ في شارعِ المشاة وسط كوبنهاجن ومتابعة الوجوه الخاطفة فأرى شيئاً من ملامحهم في قسماتِ المارةِ، وعندما أجد وجهاً يشبه أحد الأحباب، أقوم بالسير في أثره كي أشبع عيني من ملامحهم الحية في وجهه .. لعبة متعبة فشلت في الكف عنها فأورثتني مزيدا من الأشواق المستحيلة". ص 7

ولا تستمر هذه الوجوه الحبيبة في الغوص معه في حوض السباحة بل هي تغوص معه نحو قاع النوم فتصيبه بالأرق والأحلام الكابوسية وتصبح لياليه نهارات لا يغمض له جفن فيها بلا "معاونات" تلطّف قلقه وحزنه وفي مقدمتها الخمرة ودونها يصبح ليله "أبيض" مساوياً لنهاره: "أقوم من كرسي مغموراً بالبياضِ المتدفق من النوافذِ لأملأ كأسي بالعرق الخالص، فبدون السائل الأبيض السحري لا نوم ولا راحة ولو لساعات من زحمة الوجوه الحبيبة الباسمة المحدقة بوحدتي والتي عاشرت أعوامي الغضة." ص 7

والكثيرون من الناجين يواجهون الانهيار النفسي الشديد خصوصا حين تتسبب الظروف الاجتماعية ونقص الثقافة النفسية في قمع مشاعرهم وعدم تفهّم صراعاتهم الدفينة .. وعلى الأخص أكثر حين يستمر نزف الفقدانات جارياً وسنوات العمر تحترق كما يقول الراوي. ولعلّ من العوامل الحاسمة التي أخّرت الاعلان "الرسمي" عن انهيار الراوي هو قدرته على "حكي" معاناته وتصريف صراعاته من خلال الكلمة. ولأنه يدرك سعة الشقة بين ما يعيشه من تمزقات نفسية دامية وبين "المتفرّجين" الذين يطلّون على لهيب جحيمه من بعد أو من علو، لم يجد مناصاً من أن يدعونا كمتلقين لنرافقه فعلياً في بعض أشواط رحلة عذاباته لعلنا نكتوي عن قرب بألسنة جحيمها: "طفح بيّ الكيل. أكاد أفيض بهم. فهيا معي يا من تلاحق حروفي علَّ البوح يخفف شيئاً من ضنى أشواقي المبرحة." ص 7"

****

في هذه المهمة الأولى التي تحمل عنوان "لبناء عالم جديد" ننطلق مع الراوي – كالعادة – فجراً: "استيقظتُ قبل آذان الفجر كما خططتُ. السكون يعمّ كل شيء، الفراش والجدران والبيت، ومن النافذة العريضة بانت النجوم تلهث بضوئها في صفحة السماء الصافية، نجوم طفولتي البعيدة نفسها التي كنت أتتبع جريانها في عمق السواد، لم أترك نفسي لأشجان الطفولة وسمائها فذلك يثني من عزمي- ص 8" ومع انطلاقه تحضر دائماً الأم ورائحتها العذبة بثوبها الأبيض وهي تؤدي صلاة الفجر متوحدة مع الله، ويحضر الأب برمزه: شجرة الرمان التي زرعها وهي بدورها رمز أمومي أيضا.

والغريب أنّ الراوي قد حدّد توقيتا خطيرا لمهمته التي سوف نرافقه فيها حيث كانت المدينة مشتعلة بالقتال بين المليشيات الدينية التي تسيطر على النصف الجنوبي من المدينة، وقوات الحكومة التي تسيطر على قسمها الشمالي والمركز. وتقع محلته  "حي العصري" على خط التماس بين القوّتين المتقاتلتين. ألم يكن بمقدوره أن يحدّد توقيتاً آخر بعد أن يهدأ القتال خصوصا أن أصدقاءه نصحوه بأن يلزم البيت إلى أن يهدأ الوضع. وبسرعة نقول أنّ الناجين ينم لديهم ميل لتدمير الذات وعقابها عبر سلوكيات عديدة تأخذ عادة مبرّرات وأغطية "منطقية" وأحيانا برّاقة. فالراوي ينتزع نفسه بعناء من الشجن وهاجس الخوف ويخاطب نفسه ومن خلالها نحن ويقول: "قد لا تراه أبدا"! ص 8. وينطلق بعزم لتنفيذ مهمته.

وفي هذا الخطاب يقدّم لنا "جرعة" أولى عن المهمة التي لا نعرف أين وجهتها ولا طبيعتها سوى أنها تدور الآن حول رؤية شخص غير محدّد يخشى أن يحصل ما يجعله لا يراه ابداً. مَنْ هو؟ وأين؟ وما هي علاقته بالراوي؟ وما هي أهميته التي تجعل الراوي يتحمل مخاطر قد تصل حدّ الخطف والقتل ليراه؟ وغيرها من الأسئلة الملحة التي تبحث عن جواب في أذهاننا. وكلما تحركت في داخله حفزات تربط إرادته في الانطلاق وتحاول إعادته قمع هذه الحفزات من خلال استعادة مواجهاته السابقة مع الموت، فقد ركب أشدّ الأخطار، وكاد يموت غريباً، فلماذا التردد عن إكمال مهمته؟ وبطبيعة الحال، فإن تقليب كل المبررات التي يقدّمها للخروج وسط القتال المشتعل تنهار ولا تصمد تجاه أي تبرير منطقي. وفي استطالة "نظرية" يحاول ترقيق دفاعات القارىء ومحاكمته العقلية لتصرّفه يعيدنا إلى شعور يقول أنّه انبثق لديه منذ ليل الزنزانة الأولى ويتمثل في رغبة واهنةٌ – المفترض أن تكون قوية وفق السياق النفسي للسرد - تنتابه لحظة الاستيقاظ فجر كل يوم؛ رغبة في معانقة الكل، المرأة والشجرة، العدو والصديق، الضوء والظلام، الماء والنار، التراب والعشب، الله والحشرة، حلمٌ صغيرٌ بحب جميع ما في الكون (ص 10). حلمٌ أشتعل في ليلِ قبو ضيقٍ عفن وأنا شبه عارٍ أنزف وأرتجف من شدة البرد والذعر، حلمٌ ظلَّ متوهجاً في خنادق الحرب، وبين الثوار في جبال العراق حيث نزعت فكرة قيام مدينة فاضلة بالقوة، الإحساس المبهم نفسه، إحساسٌ مجردٌ يُسقط الأسباب، الذرائع، المعنى. ينتابني الآن وأنا أتوجه نحو بغداد التي عادت مجهولة على محبّيها. إحساس استولى على كياني قبل أكثر من أربعين عاماً وهم يدفعونني على درج ينزل إلى فسحة بالكاد تسع الجسد بعد حفلة تعذيب في بناية وجدتها مهجورة وسط الديوانية جوار الجسر الرابط بين شارع السراي وشارع سينما الثورة.. في خضم هذا الشعور القديم الجديد أتساءل:

- لِمَ يحدث كل هذا؟!

- ولِمَ لا يحب الإنسان أخاه الإنسان؟!- ص 10

وهي استطالة "رومانسية" تعكس موقفا إنسانيا رائعاً ومعضلة فلسفية ونفسية عصيّة حيّرت العقل الإنساني حتى يومنا هذا ولو آمن بني البشر بهذا الموقف وحلّت الفلسفة هذه المعضلة الأزلية لعشنا في جنّة الله على أرضه. ومن النادر الفريد والفذّ أن يكون ردّ فعل السجين السياسي الذي يتعرض لأشكال مدمّرة من التعذيب الجسدي والنفسي هو موقف متسامح منفتح (أمومي) يطمح إلى أن يحتضن الكون بأسره بكل متناقضاته وتوحّداته. ولأنه يؤمن بهذه الفكرة المتضمنة في الرغبة التي تجتاحه كل صباح، الرغبة التي تقفز فوق الاسباب والذرائع فقد قرّر أن ينطلق نحو هدفه وسط المخاطر الماحقة، ليردّ بأنموذجه السلوكي مؤكدا أن بإمكان الإنسان أن يحب أخاه الإنسان، وها هو يحقن تطلّع المتلقي بـ"جرعة" أخرى حين يخاطب خيال "هدفه":

"- سأراك.. سأراك برغم كل شيء! – ص 11"

وصرنا الآن نعرف أن وجهة الراوي المكانية هي "بغداد" التي لم يعد يعرفها محبّوها .. وهناك سيرى "هدفه" الذي يندفع نحوه كفعل تطبيقي لتلك الرغبة الإنسانية العظيمة. لكن الردّ يأتيه سريعا حين يواجهه ضوء شديد السطوع يعمي بصره وصوت خشن يأمره برفع يديه وملثمون يحيطون به من جهتي الشارع وهم يوجهون فوهات بنادقهم نحو صدره (ص 11). ولكن شاباً يافعاً ينقذه من هذا الموقف الخطير، هو إبن رفيق له أيام كانوا يناضلون ضد الدكتاتور "حالمين بمجتمع لا غني فيه ولا فقير" (ص 11) . ولا أعرف ما هو حال الإنسان في مجتمع لا هو غني فيه ولا فقير؟!! وهذا الشاب اليافع وبعد أن يلوم الراوي لخروجه في هذا الوقت المتأزّم يهمس في اذنه:

"- مِثِلْكُمْ عمي أحنه نريد العدالة والمساواة ومجتمع ما به فقير!.(ص 12)

كان ردّ فعل الراوي على هذا الكلام هو رغبة في الضحك كتمها بسبب طبيعة الموقف. ومبعث هذه الرغبة الساخرة هو المقارنة التي عقدها بين الحلمين اللذين جعلهما فتى الميليشيات حلما واحدا. فقبل أيام شهد الراوي حفلة جلد علنية لمجموعة من شباب المدينة منهم أصدقاء له لأنهم كانوا يشربون الخمرة سرّاً ويتسامرون. ساقوهم نصف عراة وجلدوهم حتى الإغماء. حملة حلم المدينة الفاضلة هؤلاء "عذّبوا وقتلوا حلاقات المدينة، باعة الخمر، أسروا عشرين جنديا مسكيناً وأعدموهم أمام أنظار الناس في الساحة الفاصلة بين حي العصري وحي النهضة. ابتزوا تجار السوق وأثرياء المدينة، وقتلوا من لم يدفع." ص 12

مقابل ذلك كان حلم الراوي ورفاقه في ثمانينيات القرن الماضي حينما كانوا يرفعون السلاح بوجه الدكتاتور في الجبال مناقضا كما يقول. "لم نقتل جنديا أسيراً، بل كنا نطلق سراحه ونخّيره بين البقاء في صفوفنا، أو العودة إلى أهله، أو اللجوء إلى إيران. لم نبتز أحداً، نعالج مرضى القرى. وكنا نشارك العائلة غرفتها الوحيدة في القرى التي ليس فيها جوامع، فنقضي ليلتنا نائمين جوارهم- ص 12 و13. وقد لفت انتباهي ذكر الراوي لعملية "تخيير" الجندي الأسير، كيف يعود إلى أهله والجندي مرتبط بمهنته العسكرية حتى الموت، وسوف يُحاسب ويُحقّق معه حول أسره وعودته؟ وكيف يتم تخيير جندي من جيش مُكلّف وبالتدريب المستمر بالقتال دون مناقشة أن يلجأ إلى دولة الجيش الذي يحاربه؟! إن مسألة مناقشة عدالة الحرب ليست من مسؤولية الجندي المحترف وهو ما تقرّه جميع الجيوش.

وبعد أن ينهي مقارنته المتهكمة بين الحلمين لصالح حلمه يقول: «حثثت خطاي متشوقا للقاء "أحمد" متخيلاً شكلهُ بعدَ أكثر من عشرينَ عاماً:

- ماذا فعل به العراق في غيابي؟!- ص 13"

فنعرف الآن عبر جرعة ثالثة أن اسم "هدف" مهمته هذه هو "أحمد" الذي فارقه منذ أكثر من عقدين وأنه يبغي معرفة حاله وما الذي فعلته محن العراق بصاحبه هذا.

ومن هنا يبدأ باستعادة وعرض شريط ذكرياته مع "أحمد" الذي دعانا إلى مرافقته في مهمة زيارته في بغداد. لقد تعرّف عليه ايام كانا طالبين في إعدادية زراعة الديوانية. كان أحمد أكبر منه بأربع سنوات بسبب تأخيره في مرحلتي الدراسة الابتدائية والمتوسطة. كان الراوي محتدماً بالأفكار الثورية وبالثقافة والحوار ولذلك ابتعد عن رفاق محلته وزملائه في المدرسة لتباين الانشغالات وفقدان لغة الحوار والثقافة المشتركة وصارت علاقاته ترتبط برجال أكبر منه سنّاً كاد يتعرّض للاعتداء الجنسي على أيدي بعضهم، خصوصا أن في شكله لمسة أنثوية كما يقول. وفي تلك الأيام تعرّف على أحمد فوجد فيه بديلا لكل الصلات المفقودة. كانت علاقة نشأت سريعا ومنذ الطلب الأول من أحمد للمشي والتفسّح سوية. صارت علاقة شديدة العنفوان وتشبه الإدمان. وهذه من سمات علاقات مرحلة المراهقة التي تأتي اندفاعية ساخنة فيها من علاقات الحب بين الجنسين الكثير من الخصائص والملامح. يقول الراوي: "صِرنا نتغّيب عن المحاضرات ونهيم بين حقول الإعدادية الشاسعة الواقعة على ضفة النهر جنوب المدينة. كان رقيقا، ذا نبرة خافتة، لا يتكلم إلا عند الضرورة. بالمقابل كنتُ ثرثاراً محتشداً بالحوار والأسئلة والماركسية وقيم الثورة والمساواة. تعلقتُ بهِ بشدة، هو كذلك، سنتكاشف بودنا الفائق لاحقاً بعد توطد العلاقة وصفائها من الشوائب، كنتُ فرحاً به فها أنذا أعثر أخيراً على صديقٍ لا ينوي بيّ سوءاً، لكن في ظهيرةٍ حارةٍ وبعد أن قطعنا مسافةً في حقولِ الحلفاءِ المصفرة. استوقفني جوارَ ساقيةٍ صغيرةٍ. حملقَ في وجهيّ بارتباك وَبَلع ريقه مراتٍ قبل أن يقول:

- أنْسَوي (بَدْلِي)!- ص 15 و16"

والبدلي بالعامية العراقية تعني طلب ممارسة الاتصال الجنسي بالتناوب بين طرفين. وهو طلب شنيع ومُهين جعل الراوي ينصعق ويغلي ويطرد أحمد ويقطع علاقته به. لم يفلح أحمد في إلغاء القطيعة برغم كل محاولاته. لكن ذلك الحال لم يدم طويلا كما يقول الراوي فقد خطفه رجال الأمن وألقوه في زنزانة ضيقة تيبست بقع الدم على جدرانها وأرضيتها وعرّضوه لتعذيب جسدي ونفسي مرعب. كان ذلك في شتاء 1971 وكان في السابعة عشرة من عمره. خرج من الاعتقال مرعوبا منكسراً فاقد الثقة في كل شيء بعد أن واجه مسؤوله الحزبي وجها لوجه معترفاً عليه فصدّق أقواله.

ولعل من أخطاء الأحزاب السياسية الكبرى وآثامها الباهظة في الحياة العراقية – وهذه من سمات ما سأسمّيه هنا "الحالة العراقية" – هو زجّ الأطفال – والمراهقة هي مرحلة الطفولة المتأخرة علميا – في أتون العمل الحزبي والسياسي. ولعل الوزر الأكبر من هذه الخطيئة يتحملها المعلّمون بمختلف مستوياتهم مدرسين وأساتذة. لقد أفسد الأساتذة ومن خلفهم القادة السياسيون الذين كانوا يوجهونهم ويدفعونهم لـ "كسب" تلاميذ المدارس الصغار والمراهقين حياة جيل بأكمله. والتلميذ هو - اصطلاحيا وإجرائيا - "الذي يتلقى المعرفة وهو واقع في صميم الدهشة العقلية الأولى ممّا يجعلُ العمليات التعليمية والتربوية تواكبها ردود فعل نفسية وعقلية وسلوكية خاصة". أمّا الطالب فهو "الذي يكون قد تجاوز ردود فعلِ الدهشة المعرفية الأولى ودخل مرحلة التعمّق الناضج والتعامل مع الكليات المعرفية وممارسة أنماط من التركيب أشدَّ تعقيداً من أنماط ممارسة التلميذ". ولهذا نقول "طلبة العلم" ولا نقول "تلاميذ العلم" من المعاهد والكليات صعودا.

هؤلاء التلاميذ الذين نَسِمهم بردود الفعل المندهشة يطغى عليهم الحكم والتفكير الانفعالي، وفي هذا مقتل السياسة وتحويل العمل السياسي إلى عمل عنفي في الجانبين السلبي والإيجابي، وكلاهما سلبيّ. ففي الوقت الذي تتطلب السياسة فيه الحكم العقلاني الهادىء بل حتى الماكر أحياناً، تختنق الحركات السياسية بقواعد من "التلاميذ" تفكّر بقلوبها لا بعقولها وتتحكم فيها الأهواء . نفس هذه القواعد سوف تصبح مستقبلا "قيادات" لأن العملية التعليمية هي التي تخرّج كل المستويات القيادية المقبلة في المجتمع بعد أن يتحول التلاميذ إلى طلاب ثم قادة. هؤلاء الذين مارسوا العمل السياسي الانفعالي وهم مراهقون هم الذين تصدّوا لاحقاً لقيادة العمل السياسي في العراق كما رأينا واقعيا وكما سنرى سردياً. لقد أفسدت هذه الأحزاب القطيعية طفولة حتى هؤلاء المراهقين. فبدلا من أن ينشغلوا بالاهتمامات الجمالية المناسبة لأعمارهم ودوافعهم صار هؤلاء المراهقون الصغار يمارسون أفعالا أكبر من أعمارهم أجهضت روح الطفولة فيهم وبراءتها، وحوّلتهم إلى كيانات تهذر بالشعارات والأفكار العقائدية السياسية لفظاً، وتسلك سلوكيات طفولية هوجاء عنفت واندفاعا وحماسة مغطاة بشعارات السياسة البراقة. وإلّأ كيف نفسّر أن شخصاً يقضي الساعات وهو يستمع إلى صديق له يحدثه بحماسة عن الماركسية وقيم الثورة والمساواة فيطلب منه المضاجعة المتبادلة؟؟ كيف؟ وفي الحقيقة فإن هذا هو المتوقع – علمياً تحليليا برغم كل الأحراجات- في الاندفاعات السرّانية لعوالم المراهقة وكل أنشطة هذه المرحلة الفكرية والاجتماعية والرياضية مبطنة بقدر من الحفزات الجنسية. وإذا كان هذا العرض قد أهار في عيني الراوي صورة الصديق الحريص المؤتمن وجعله لا يختلف عن الآخرين مدّعي الثقافة الذين حاولوا اغتصابه وأظهره بمظهر الذئب الجنسي المتخفي بنعومة حمل الصداقة، فإن الضربة التالية في زنزانة الأمن كانت أعتى برغم أنها مكملة:

"خرجتُ مهزوزاً من الحياةِ نفسها،  فبينما كنتُ قبل الاعتقالِ أقاومُ المحيط ومؤامرات الرجال الذين يحاولونَ اغتصابي متباهياً في نجاحي وصلابتي، وجدتُ أنّ في استطاعة رجال الأمن فعل كل شيء في جسدي الموثوق في غرفهم الموحشة والمخيفة." ص 18

لزم الراوي بيته يومين خجلا من نفسه وأحلامه لا يقوى على مواجهة الآخرين الذين سيرى انكساره في أعينهم، ولم ير الشارع لأسبوع كما يقول - وهو تناقض. لكنه فوجىء عندما خرج من بيته إلى الحياة العامة حيث أدهشه الانقلاب الجذري في المدينة، فالجميع عادَ ينظر نحوه باحترامٍ  لمسهُ في الوجوهِ والنظراتِ وطبيعة الحديث وكأنه فعل شيئا جللاً، حتى أشقياء المدينةِ المشهورون بشذوذهم وعنفهم وسطوتهم في تلك الأيام التي لم تحكم فيها سلطة "البعث" قبضتها على المجتمع تحولوا إلى سدٍ وفّر له حمايةً كان في أمسّ الحاجة إليها في وضعه ذاك. (ص 18 و19)

يفسّر الراوي موجة الاحترام والتقدير التي لمسها من قبل أهالي المدينة بعد خروجه من المعتقل بـ"مدى عمقِ رعبِ العراقي الذي صنعَ من لحظةِ إذلالي الأولى بطولةً وكأنني المنقذُ المنتظرُ." ص19 وقد يكون في تفسير الراوي هذا جانب من الصحة، ولكنني لاحظت في مدينتنا المشتركة "الديوانية" نفسها أنّ الناس تحترم الأشقياء والقتلة الذين يُسجنون ويخرجون من السجن بعد مدة ويزورونهم في حين يخشون من أن يورّطهم الناشط السياسي الحرّ!!

قد يكون التفسير الأعمق من الناحية التحليلية هو الجسارة في مواجهة الأب الخاصي القامع ورمزه المحفور في لاشعور الأبناء، مهما كانت نوعياتهم ومستوياتهم مرتبط بالخشية والانرعاب منه. ويمكن اعتبار "السجن" واحدا من أهم رموز الأبوة الخاصية. ومن يخرق "المُحرّم" يصبح هو نفسه "محرّماً" جديرا بالرهبة والتقدير. وخارق المحرّم الذي خرج "سالماً" في الظاهر وهو الراوي هنا قد قام بجزء من مهمة "قتل الأب" التي تلوب في أعماق الأبناء؛ قام بها وفق مساراتها التصعيدية السامية التي لا يخبر الشقاة والعامة غير وجهها السلبي الدموي الذي يعني قتل الأب الفعلي (لتصبح جريمة). وقد اختطف الراوي بلا "جرم" معلن غير "خوف" السلطة الأبوية من أن يتجاسر وينفّذ عزمه على مواجعتها. إنّه في الحقيقة النفسية العميقة – وبرغم تهكّم الراوي – "غائبهم" الذي خرق المحظور وانتظروه طويلا. غائب يخشى الأب "عودته" في حين كان الجميع يخشون ظهور تسلّط الأب الفعلي. وهذا الغائب الفتي يستحق الحماية والحفاظ عليه كنزاً رمزياً. ليس هذا فحسب بل العمل على "تدريبه" لنقله إلى مرحلة الرجولة كما سنرى.

وتجربة الاعتقال المريرة هذه جعلها الراوي غطاء تبريرياً لقبول اعتذار أحمد برغم أن لا شيء يبرّر موقفه هذا، إذا ما علاقة الاعتقال بمسامحة شخص عرض عليه أحطّ العروض السلوكية؟ وإذا كانت فكرة معانقة كل شيء في الكون، الماء والنار، والله والحشرة. وحب الإنسان لأخيه الإنسان قد نمت في تجربة الاعتقال الأولى هذه كما قال الراوي آنفاً وصارت اساسا لسلوكه، فمن الأجدر أن تكون دافعاً للمسامحة وطي صفحة الماضي لا لعودة العلاقة بصورة أقوى وأشد. لقد رجعا اصدقاء بصورة أقوى من السابق ولا يكادا يفترقان كما يقول الراوي. وكثيرا ما يكون هذا ديدن العلاقات الإنسانية حيث تسبق العلاقات العاطفية الشديدة مراحل من الخلافات اللفظية وحنى البدنية  - أنموذجها الرفيع في ملحمة البشرية بين جلجامش وأنكيدو – لأن الحب الشعوري لا يفلح في إلغاء الكراهية بل في دفعها إلى اللاشعور فتسهم في تأججه وهو يكافح لإبقائها تحت قبضة الكبت كما يقول معلم فيينا. وهذا الحب هو الذي يدفعه الآن للانطلاق في مهمته الخطيرة حيث يحذره رجال السيطرات في كل مرّة: "أستاذ.. وين رايح؟.. بغداد محترگه. خطف وتفجيرات ما تخاف على حياتك؟! فيرد عليهم بأن لديه شغلا ضرورياً، وخيال أحمد يطوف حوله مع سؤال:

كيف يبدو الآن؟ وماذا فعلَ بهِ الزمانُ؟!-  ص 20"

وبين كل وقفة تحذيرية وأخرى يسترجع – ونحن معه – جانبا من شريط ذكرياته مع أحمد بعد عودة العلاقة بينهما. ومن المهم أن أنقل ما قاله الراوي نصّاً حول انشغال الصديقين بالسياسة والنضال السياسي حيث كانا يقضيان:

"النصف الأخر [= من اليوم] عن السياسة، نطالع كتب الماركسية ونحلم بيوم الثورة التي ستنصف كل فقير ومظلوم وتحقق (وطن حر وشعب سعيد). لم أكن أعرف عن نشاطه السياسي شيئاً، فقد كان قليلَ البوح كتوماً، فتصورته متصوفاً متأملاً يفكر في قضيةٍ كبيرة- ص 21" وما قلته عن خطيئة بل جريمة إقحام الأطفال المراهقين في السياسة والعمل الحزبي يستدعي التوقف عند محطات سلوكية مهمة لدى الصديقين تضيء ما قلته وتكشف بدقة التناشز بين البنية الفكرية "الفوقية" والبنية النفسية – الغريزية خصوصا- "التحتية" مستعيرين المصطلحات الماركسية المعروفة:

صار الراوي يقضي يوم عطلته بجوار أحمد الذي كان يقف مكان أبيه يبيع الخضار في السوق. يقول: "أتلصص عليه وهو يتعمد الإطباق على يدِ الشاريةِ وهو يناولها البضاعة، وعندما يستلم مبلغها، فتبرق عيناها شهوةً. سألتهُ كيفَ يتجرأ على اللمسِ، قال: خبرة سوق، من العيونِ والوجهِ والحركةِ أميز بين الراغبة وغير الراغبة.

- اللمسُ عابرٌ يشعل ولا يروي!

قلتها فصيحةً، فرد:

 - أحسن [= يقصد ممارسة العادة السرّية] من أضعف الإيمان!- ص 20 و21"

كان هذان السياسيان يعانيان من الحرمان الجنسي فيكتفي أحمد بلمس الأيدي والراوي بمضاجعة العيون، ويتبصصان على ما يظهر من الأجساد الأنثوية من العباءات، ويقضيان نصف يومهما يتخيلان عريها والكلام عن جنة الجسد المخبوء، والنصف الآخر في الحديث عن الماركسية والنضال. تفارق الصديقان بعد سنة بسبب رسوب أحمد في السنة الأولى، ففصل لتجاوز عمره الثامنة عشرة دونَ إكمال الإعدادية، وسيق جندياً إجبارياً. قبل أن يسافر إلى الثكنات أوقف صديقه وأشار نحو صبية سمراء تحمل كتبها وتمسك طرفي العباءة وتنظر بعينين قلقتين إلى الشارع والناس قائلا:

- ديرْ بالكْ عليها!. لمن أشوفها يوگع گلبي!- ص 21"

أي أن أحمد ائتمن صديقه الراوي على الفتاة التي يحبها. فما الذي فعله الراوي؟ لقد أوقعها في شباك حبّه ودبجت له الرسائل الملهوفة لكنه سئم منها سريعا؛ أي أنه "خان" صديقه. وعندما عاد أحمد سلّمه إحدى الرسائل التي قرأها الأخير بلهفة معتقدا أنها له:

"رفعَ وجهه الذي شَحَبَ بغتة وبدأ يتصبب عرقاً. فالأسطر تتغزل بيَّ وتنتهي برجاء أن لا نلتقي في شارع بل في مكانٍ أمين، غرفة في بيت بعيدا عن الرقباء كي نمد الوصال على حد تعبيرها. لم يستمر الأمر إلا دقيقة، ثم أنفجر ضاحكاً، تهالكنا على الرصيف من نوبة ضحكٍ عاصفةٍ. وعندما تمالكنا أنفسنا، نهضنا. أقتربَ مني بوجهٍ فيهِ دهشة وحب وعانقني بشدة كما فعل حينما تصالحنا مردداً:

- ولك أنت أجمل صديق وَفَي بالدِنْيا .. خرب عرضك! خرب عرضك.. يا أجمل سافل!- ص 23"

وصارت حكاية هذه الصبية (الضحية طبعاً لمراهقين) نادرة يُضرب بها المثل على "وفاء" الصديق للضحك والاستمتاع وتزجية الوقت. ولم يكن الراوي يبخل على صديقه "المغدور" بتفاصيل القبل والعناق واللمس مع الصبية "المغدورة". ً

ذات يوم فاجأ الراوي صديقه أحمد:

"-أتريد أن تضاجع امرأة؟" (ص 25)

وتصوّر وقع هذا السؤال على نفس أحمد. كانا محرومين من الممارسة الجنسية الفعلية ولم يكونا قادرين على الذهاب إلى منطقة البغاء "الرسمية" في المدينة وهي "الفوّار" لحرصهما على سمعتهما كيساريَين أولا ولعدم امتلاكهما المال الكافي ثانياً. فانحصرت أحلامهما في فتيات الثانوية والرسائل والتبصص في السوق. كانا متساويين في خط السروع من هذه الناحية ؛ ناحية الحرمان، فكيف استطاع الراوي أن يسبق صديقه في التجربة ويحصل على قصب السبق في المضاجعة ليصبح "دليلا" له يقوده إلى المكان المطلوب ويتلاعب بأعصابه متظاهراً بخبث بأن لديه قدرات لا يعرفها؟!

كان الفضل لـ"ناظم" أحد جيران الراوي ومن رواد المقهى الشعبي الذي يجلس فيه متفرجا على لعبة القمار البسيطة ليلا. ناظم كانَ يكبر الراوي بعشرةِ أعوام. شيوعي عمل فترةً قصيرة مع القيادة المركزية للحزب الشيوعي قبل انهيار "عزيز الحاج" وظهوره على شاشة التلفزيون في 1969، الذي كان أتعس يوم في حياته كما كانَ يردد أمام الراوي عشرات المرات، فظّل يحلم بقيامِ حركة كفاح مسلح جديدة تكنس البعث الذي يكن له احتقارا ًمطلقاً. ناظم هذا الذي أبدى به اهتماما شديدا بعد خروجه من المعتقل هو الذي قاده إلى تجربته الجنسية الكاملة الأولى. ولكن أين؟

كان الراوي يهتف مع نفسه بغبطةٍ:

- أخيرا سأمارس الجنس بشكل كامل مع امرأة!. 

وسار مع ناظم نحو "المبغى" المنشود. قطعنا شوارعَ غير مبلطةٍ، متربةٍ، وسخةٍ، إلى أن ولجا أزقةَ فقيرةَ، بيوتها طينية، وأبوابها متضعضعة، وفي زقاق شديد الضيق خالٍ دخلا بيتاً طينياً يصف الراوي ما شاهده فيه:

"ثمة طفلة في السادسة تقلب بيديها ورق لعب. ثوبها رث ممزق عند الكتف والخاصرة، يداها مسودتان بأظافر طويلة ينحشر تحتها الوسخ تحملق نحوي ببلاهة (...) ثم ظهرت الكتلة فتبين أنها امرأة نحيفة في أواخر الثلاثينات أو هكذا بدت لي وقتها وأنا في السابعة عشرة، ترتدي ثوباً أسودَ رث يصل حتى كاحليها، وتلف رأسها بعصابة سوداء. حنكها موشوم بوشم أخضر (..) سقطتْ عيناها الصغيرتان برموشها الذابلة في حفرتين. تحت الشمس بدت ليست ناحلة فحسب بل شديدة الهزال، ببشرةٍ شاحبةٍ كوجهِ ميت. لبَسَتْ عباءتها وخرجت، فبين لي ناظم أنها قوّادة تأتى بجاراتها الفقيرات ممن يتمكّنَ من الزوغان من البيت ليتقاسمن ثمن المضاجعة معها لسد الرمق، قال لي بينما كنا ننتظر رجوعها:

- أنت وحظك!.

ولما لزمت الصمت رمقني بعينين فيهما ظلال سخرية خفيفة قبل أن يسألني:

- إذا ما لگت تنام وياها؟!

ارتعبت من فكرة النوم مع هذا الجسد الشبح- ص 28 و29و30"

والغريب أنّ كل مظاهر البؤس هذه التي شاهداها سويّة والقهر المهلك الذي يحيط بهؤلاء البشر لم يحرّك شيئاً في بنائهما الفكري الفوقي الذي يتمحور حول هذه الطبقة المذلة المهانة مستعيرين الوصف من دستويفسكي. في رواية الجريمة والعقاب لهذا الروائي العظيم لم أقرأ استخلاصا للدرس الأساسي من قتل "راسكولينيكوف" للمرابية اليهودية "أليونا إفانوفنا" – ثم أختها "ليزافيتا" التي قدمت مصادفة وشاهدت الجريمة – من أجل تحقيق "مشروعه" الإنقاذي لنفسه ولأخته ولحبيبته سونيا. لكنه يتحطم نفسيا ويوشك على الجنون وكأنّ دستويفسكي يريد القول أنّ أي تغيير يبدأ بالدم ينتهي بالدم مهما كانت شعاراته. الغاية لا تبرّر الوسيلة، وحين يتخذ الشخص النبيل وسيلة آثمة لتحقيق غاية نبيلة، لن يفقد غايته فحسب بل سيفقد ذاته والأخطر عقله ايضا.

وحال ناظم والراوي من حيث التناقض بين الفكرة والسلوك حال مشابه في المضمون لا في الشكل طبعا. إنهما يمارسان الجنس ويحصلان على اللذة من البؤساء الذين يزعمون أنهم نذروا أرواحهم ومستقبلهم من أجلهم. وناظم رفع السلاح من أجلهم والراوي اعتقل ودُمِّر بالتعذيب في سبيلهم. كلاهما يريد أن يبني وطنا حرّاً وشعبا سعيدا لهؤلاء البؤساء. لكنه لا يتورع عن مضاجعة هؤلاء المعدمين لإشباع دوافعه الجنسية. ألم يفكر أحدهما يمنح المبلغ لهؤلاء البائسات دون الحصول على مقابل له. لكن الدافع الجنسي أقوى من الفكر.

وحين يقف العقل في حالة صراع مع الغريزة، كيف يحل الفرد ذلك؟ للجواب علينا أن نتذكر قول معلم فيينا عن أن الإنسان ليس كائنا عقلانيا بل كائن تبريري:

HUMAN BEING NOT RATIONAL ANIMAL BUT RATIONALIZED ANIMAL.

ويتلاعب اللاشعور بدوافعه الماكرة بمقدرات العقل ويسخّره لإصدار أحكام وتبريرات "منطقية" تحقق اللذة عن طريقها إشباع حفزاتها وهي تتلمظ. وببساطة يطرح ناظم تخريجا لهذا الموقف المحزن الذي وقعا فيه كما يقول الراوي: "لزمتُ الصمت بينما راح [= ناظم] يشرح محاسن وأفضال قدومنا بطريقة فريدة تناسب أفكاره وبيئة حياته التي وجدتها وقتها مثيرة للدهشة:

- احنه ثوريين ومثل ما تشوف عينك هذي العوائل فقيرة ما عدهم يلبسون، إذا لزمنا السلطة راح ننقذهم، وهذا شي بعيد مثل الحلم، لكن لمّنْ نزورهم هم نرتاح من سِمْ جسمنا وهم نساعدهم. على الأقل يشترون خبز!- ص 30"

ولو كان ناظم يمتلك أدوات المثقفين المقتدرين فقد يضع لنا "نظرية" حول هذا الأمر: تفريغ سموم الجسد (غاية) عبر مضاجعة النسوة الفقيرات الجائعات (وسيلة) كي يشترين الخبز لهن ولاطفالهن كي يبقين على قيد الحياة (غاية). وقد يوغل في شرح محاسن نظريته وتفرّدها في أنها – ولأوّل مرة – تحقّق "غايتين" بـ"وسيلة" واحدة!! وقد يندهش السادة القرّاء من تحليلي هذا فأقول إن استخدام هذه الأوالية المخادعة المخدرة للذات يتساوى فيها الأمير والفقير إذا ساغ الوصف (يقول جلجامش: يتساوى الأمير والفقير في حضرة الموت). فقد خرّج ناظم الموقف الشائك وفق تفكيره وبيئته ولكن ماذا نقول عن المعلم الأول أرسطو الذي مات وهو مصر على أنّ عدد أسنان المرأة أقل من عدد اسنان الرجل. وبرغم أنّه تزوّج مرّتين لم يتعب نفسه في أن يعد أسنان واحدة من زوجتيه!! وماذاتقول لشوبنهور فيلسوف التشاؤم وهو يصر على أن يعيش الرجل مع المرأة وبيده سوط.. ونيتشه ووو..  ولم تتوقف ممارسة الاثنين ؛ ناظم والراوي، عند هذه التجربة اليتيمة، بل تكررت كثيرا، في عشرات البيوت المنتشرة في المناطق الفقيرة.

وإذا كانت هذه وجهة نظر ناظم لتبرير سلوكهما السابق في حي متهالك مضعضع بائس هو وساكنيه، فكيف نفسّر تصرّفه في حادثة ينقلها لنا الراوي بلسانه ومفادها أنهما كانا في زيارة إلى بغداد.. ركبا من ساحة الميدان الحافلة رقم 4 التي كانت تربط وقتها ساحة الميدان بساحة النصر عبر شارع الرشيد. في زحمة الحافلة رأى الراوي صديقه ناظم "يطبق من الخلف على طالبة جامعة شابة سافرة جميلة تقف أمامه وبيدها كتبها المدرسية، كان الزحام من الشدة بحيث لا تستطيع التملص منه، فراح يمعن في حشر جسده بها وكأنه يريد الولوج فيها، لبثتُ أراقب قسماته التي تصاعدت النشوة فيها، احتدمَ، سارعتُ بالنهوضِ تاركاً لها مقعدي، فرمقني بعينين احمرتا غضباً، وعندما ترجلنا من الحافلة راح يلعن ديني، تصنعت البلاهة كاتماً ضحكتي، ومستمتعا ً بملامحه المخذولة لفشله في الوصول إلى الذروة التي كان على وشكها كما أخبرني.أتصنع الجد وأكيل له اللوم:

- ناظم عيب.. هذي مو عاهرة!. طالبة جامعة!- ص 31"

الآن يلعب الراوي مع أحمد الدور الذي لعبه ناظم معه فيقوم بقيادته إلى البيت نفسه الذي أخذه ناظم إليه في تجربته الأولى حيث الامرأة الشبح. لم يكن غير هذه الامرأة الناحلة الشاحبة متوفرة للمضاجعة آنذاك. ومع ذلك وافق أحمد على مضاجعتها ليخرج مشمئزا ويركع على ركبيته في الشارع .. ويتقيّأ..

(ملاحظة: لمن يتساءل عن مصير ناظم من السادة القرّأء أرجو مراجعة جرد الراحلين في نهاية الدراسة)

وكان الصديقان ؛ الراوي وأحمد، مسحورين بالأفكار التي "آمنا" بها، ومقتنعين مثل رفاقهم من ابناء جيلهم بقدرتهم على تغيير العالم. وفي الحقيقة هو جيل فريد في حماسته. لكنه ليس جيل السياسة بحنكتها ومكرها. وجيل البراءة هذا لا يصلح لها. ولأن الروائي سلام إبراهيم يكتب عن "الحالة العراقية" التي عاش في أتون جحيمها فإن ابسط الحوادث والوقائع التي يذكرها تكون محملة بمعانٍ مباشرة ورمزية – وهذا هو الأهم – في التعبير عن تلك الحالة وتبقى على النقّاد مسؤولية التقاط تلك الحوادث التي قد تمر مرور الكرام على العين "غير العراقية" أو العقلية المتخمة بالطروحات النقدية الغربية. سلام إبراهيم هو من اشد إن لم يكن الأشد والأدق في التعبير عن السيكولوجية العراقية بكل أبعادها، ولعل هذا ما دفع الباحث الدكتور علاء جواد كاظم إلى اعتباره مصدرا "أنثروبولوجيا/أناسياً" لا يعوّض على الدارسين قراءة أدبه. في منجز سلام السردي تجد أغلب الروافد التي تسهم في تشكيل النص بعيداً عن أطروحة "الفن للفن".. بالنسبة لي وُلد سلام – كما سنرى في القسم المقبل – حكّاءً بالفطرة .. ونما وتصلّب جذعه – وليس عوده – السردي بالتجارب الدامية فكان وهو أمر نادر الحصول الحكّاء الشاهد الحي وبطل الحكاية.

ومن الحوادث المحملة بمعانٍ هائلة ثرة في هذا القسم هي الرحلة "الجنونية" المفاجئة التي قام بها الراوي مع أحمد ولاحظ أيها السيّد القارىء أنني لم أطابق بين الراوي وسلام حتى الآن برغم القرائن القوية عن الديوانية مسقط راسه ومدينته وابتلاع المنافي له ؛ الدنمارك تحديدا وغيرها- واعتبرتُ الراوي شخصية مبتكرة من لدن الروائي سيراً مع "الموضوعية" في التحليل النقدي وعدم استباق المعطيات بالنتائج. يقول الراوي: في ليلة من تلك الليالي غادرنا المقهى، ورحنا في جولة تسكع في أرجاء المدينة إلى أن قادتنا أقدامنا إلى رصيف محطة القطار. كنّا في حالةِ نشوةٍ نودُ الطيرانَ إلى مكانٍ غير مدينتنا لمعانقةِ فقراءِ الأرض المجهولين، مفعمينَ بروح الأمميةِ التي رضعناها من الكتب الماركسية وحكايات المناضلين الأكبر سناً الذين يقصونها علينا في المقاهي. وقتها لم نكن قد سافرنا خارج حدود "الديوانية". وفي لحظة جنون قال بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ:

- لنشرد بالقطار!

صرختُ بنشوة:

- هيا بنا.. هيا بنا!.

كان قطار حمولة يقترب ببطء قادماً من بغداد في طريقة إلى البصرة، توقف على بعد أمتار من وقفتنا، فهتف بصوت عالٍ:

- هيا إلى الحرية!.

وصعدنا عربةً من عرباته المكشوفة. لم نهدأ، نصرخ ونصرخ... لم نكف عن الدوران في مساحة حوض العربة، والصراخ في نشوة:

(لبناء عالم جديد ولقبر مشعلي الحروب   في هدى أكتوبر العظيم سائراً موكب الشعوب ) كنا نصرخ بحماس ونشوة.. نصرخ بالكلمات الحالمة فيضيع صراخنا في ضجة القطار والظلام والبرية الممتدة على يميننا حتى الحدود السعودية، نقطع النشيد ونطلق أصوات مبهمة، نرقص، ندور، نهتف:

- المجد للطبقة العاملة

- المجد للفلاحين!.

تدمع عيوننا، نكاد نبكي حماسةً، ونروح نغني أغنية أممية أخرى:

- أنا.. أنا

يا سيدي أسودٌ كالليلِ.. كأعماقِ أفريقيا

                                   كأعماقِ أفريقيا

أنا.. أنا

جندي أحمل في يميني سفر جيفارا

وفي يساري أقمار گاگارين.

أقمار گاگارين.

لا لالا... لالي لالي لالي!- ص 36 و37 و38"

لم يصحوا إلا عندما دخل القطار محطة مدينة "السماوة" فسألا بعضهما عن وجهتهما!! فتلاشى حماسهما وتبدّد الحلم .. ولم يكونا يمتلكان ثمن تذكرة للعودة فاضطرا إلى انتظار قطار حمل صاعد للعودة إلى الديوانية جائعين مُنهكين.

ولو نظر مراقب عابر إلى شخصين يرقصان على سطح عربة قطار حمل وسط ظلمة الليل الحالكة ويهتفان بحياة الأممية وجيفارا وكاكارين.. فلم يقل تقييمه عن أنهما مجنونان أو أن نوبة نفسية غير طبيعية انتابتهما. وهذه "الرحلة المجنونة" هي تعبير عن انفعالات المراهقة الصاخبة التي تحفل بها مسيرة أي مراهق في الجانب الاجتماعي والنفسي وليس السياسي فحسب. وهذه الانفعالات المراهقة امتدت إلى سلوك قواعد وقيادات العمل الحزبي في العراق بشتى عقائده وأهدافه ومكوناته كما سنرى.

وهذه واحدة من سمات العمل السياسي الرئيسية في العراق. وهي كارثة بكل المقاييس أوصلت البلاد إلى حاله المخيف والمرعب في الوقت الحاضر كما سنثبت ذلك. مثل هذه المشاهد تحيلك إلى شخصية "جافروش" الروائية الجميلة التي صاغها "شعرياً" فكتور هيجو" في روايته الشهيرة "البؤساء" . لكنها لا يمكن أن تحيلك إلى اشتراطات العمل السياسي العقلاني الرصين حين يكون تلميذ القاعدة الحزبية في عمر يحتاج فيه – هو نفسه - للتربية واستكمال مستلزمات النضج.

توفي أبو أحمد فاستغاث أحمد بصديقه الراوي باكيا. كان الراوي يتضايق من من طقوس الحزن العراقي على الموتى بما تتضمنه الموت من حزن دامٍ لم يجد الراوي شبيهاً له في تجواله في مناحي الأرض: شق الثوب من الصدر حتى القدمين، لطم الصدر حد الإدماء. تجريح الخدود بالأظافر .. وهذه الطقوس – ومعها المراسم الحسينية – هي من سمات "الحالة العراقية"، وهي وريثة عادات العراقيين/ السومريين القدامى في أحزانهم على إلههم الشاب تموز/ دموزي حيث كانوا يندبون ويلطمون ويجرّحون أجسامهم بالسكاكين .. وغيرها. نقلا جثمان الأب إلى الجامع. وباتا وحيدين قربه. كان أحمد حائرا بكيفية تدبير معيشة عائلته بعد رحيل والده وهو أكبر إخوته وأخواته. لكن ما كان يهوّن عليه كما يقول الراوي هو حماستهَ للشيوعية بحيث راحت يحدث صديقه حالماً عن يوم الخلاص العام من الفقرِ بقيام الثورة، هذه الثورة المنتظرة كان أبوه يسخر منها وهو يحاورهما عن أخلاقية العدالة والحق فيورد قصة متداولة عن رمي ستالين أمه بالثلج لأنها لا تنتج مقارناً بينه وبين الأمام علي بن أبي طالب. وأعتبر نفسي ممن قرأوا كثيرا جدا عن السيرة الذاتية لستالين خصوصا كتاب إسحق دويتشر الضخم عنه. لم أجد أثرا لهذه الحادثة بل كان ستالين يحب أمّه ويرعاها وكان يرسل إليها المال بيد الرفيق "بيريا". وفي الجامع التقط الراوي كتاب "نهج البلاغة" من مكتبة الجامع قائلا أنه سوف يستعيره. لينفجر أحمد ضاحكا بقوة ويتبعه الراوي لأن الأخير كان معروفاً بأنه أبرع سارق كتب في المدينة. والسبب كما يقول هو فقر عائلته. لكن سرقة الكتب هذه سوف تستمر لديه حتى وهو يدرس في الكلية في بغداد برغم أنه يستلم مرتبا وسكنا مجانيا من الدولة وتخصيص أخواته المدرسات راتبا شهريا له!!

وبعد هذا الشوط الطويل من الاستدعاءات الذاكراتية الطويلة نسبيا يذكرنا الراوي بالمهمة من خلال تساؤله:

"- هل سأراك اليوم يا صديقي؟" (ص 48)

بعد رحيل والده، عاش أحمد في ضائقة مالية شديدة ولم يفلح في الكثير من الأعمال التي قام بها. وكان الراوي يتألم لحاله وينّهم كثيرا به حتى وهو في بغداد. لكن الحل جاء مع قيام الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث في 17 تموز عام 1973 حيث تم تعيين أحمد موظفا في استعلامات اللجنة المحلية للحزب الشيوعي. وهنا سوف يصدمنا الراوي ببعض الكشوفات التي سوف تصيبنا بالحيرة. يخاطب الراوي صديقه في حواره الداخلي:

"اكتشفتُ أنّكَ حزبي مضبوط ضبطَ العقال بحيث أخفيتَ عنّي ذلك. الإخفاء حسبتهُ لكِ. فأنتَ عكسي تماماً، فأنا ثرثار لا أسرار عندي، بل فاضح أسرار، لا تدري كم شعرتُ بالفخرِ لاكتشافي شدّة التزامكَ في حزبٍ سريٍ أحبهُ وفشلتُ في أول تجربة للعمل فيه،إذ ضعفتُ في أول اعتقال- ص 50" فإذا كان أحمد حزبيا شيوعيا مضبوطا ضبطا شديدا أخفى انتماءه عن صديقه الراوي بهذه الدرجة الشديدة حتى عام 1973، فكيف كان يهتف بحياة الأممية وجيفارا وكاكارين. في رحلتهما المجنونة؟ كيف كان ملحداً يناقش أباه بجرأة ويسخر من الدين والمرجعيات الدينية؟؟ كيف كان – ليلة وفاة والده - يعلن عن أمله في ثورة شيوعية مقبلة تحقق (الوطن الحر والشعب السعيد)؟؟.

وهناك أمر أكثر إلحاحا: الطلب المُهين الذي قدّمه أحمد لصديقه الراوي بالقيام بالمضاجعة المتبادلة أيام الدراسة الاعدادية، هل قدّمه وهو حزبي منضبط مؤمن بالفكر الماركسي؟ ولو شاءت الشروط التنظيمية أو الأقدار أن يُنقل الراوي إلى خلية حزبية شيوعية ويتفاجأ بأن مسؤوله الحزبي الجديد هو أحمد .. كيف سيكون ردّ فعله؟؟

وسوف نلاحظ أمراً أخر ملفتاً ويتمثل بملاحقة الراوي للحوادث "الجنسية" في مسيرة صديقه بعد إعلان الجبهة وتعيينه في مقر الحزب الشيوعي. من ذلك أن أحمداً قد تم ابتعاثه إلى دولة بلغاريا الاشتراكية آنذاك في دورة حزبية. وفي رسالة أرسلها أحمد للراوي حدّثه عن كل شيء.. المحاضرات وحفلات الرقص والويسكي وعلاقات الرفاق والرفيقات القادمين من كل أنحاء الأرض.. ولكنه لم يذكر له شيئا عن أي تجربة جنسية له هناك في ذلك الوسط المنفتح. وكان يتجنب الإجابة عن أسئلة صديقه الراوي عن ذلك برغم إلحاح الأخير. ولكن جاءت المناسبة في ليلة زفاف أحمد على زوجته التي كانت رفيقة من رفيقاته. في تلك الليلة طلب أحمد من الراوي – وهذا طلب غريب جدا – أن يبيت معه في بيته. اصرّ على ذلك برغم اعتراض الراوي. وبعد أن أنهى واجباته الزوجية وافترع زوجته جاء ليقول للراوي عبارة بذيئة جدا لا يمكن أن يقولها زوج سويّ عن زوجته:

" -أَكَلِته وگامَتْ تِمْشْي!- ص 52"

وبهذا يضع الزوجة في موضع المومس. وهذا من سمات "المربوطين المعصوبين" الذين لا يستطيعون إنجاز واجباتهم مع المرأة التي تذكّر بسمات الأنوثة النموذجية وهي سمات الأمومة في أعماق اللاشعور. ويتسق الإصرار الغريب لأحمد على مبيت الراوي قربه في ليلة زفافه ضمن هذا الإطار الذي إذا توغلنا في تحليله سوف يفسد الكثير من الجوانب الجمالية في هذا القسم من الرواية. ولكن المهم هو أن هذا الموقف كان فرصة للراوي ليعيد طرح سؤاله الذي ظل بلا جواب على أحمد: هل ضاجع في بلغاريا؟ فيرد عليه أحمد بعد أن حلت المنازلة الزفافية عقدة لسانه بالنفي. والسبب هو أنّه لم يكن يعرف كيف يقنع "واحدة" ويستدرجها إلى السرير أولا وأنّه يعتبر رفيقاته أخوات ثانياً. وهذا حال "المربوطين" أيضا الذين يعتقل الوجدان الآثم اندفاعاتهم الجنسية بـ"أمثلة" النموذج الجنسي ولكنه يستطيع أن ينطلق في خيالاته ليلوّث وبسهولة هذا النموذج نفسه، وهذا ما اعترف به أحمد حين قال له أنّه كان يمارس العادة السرّية على رفيقة برازيلية لديها عجيزة (طيز.. حسب تعبيره العامي) مذهلة لكنه كان جباناً (ص 52 و53).

بعد انهيار صفقة الجبهة الوطنية بين حزب البعث والحزب الشيوعي في العراق وبدء حملة التصفية الدامية ضد الشيوعيين اختفى أحمد وزوجته من الديوانية في حين اعتقل الراوي ثلاث مرّأت. انقطعت أخبار أحمد عن الراوي تماما لكن شقيق الراوي الأصغر "كفاح" – والآن نستطيع القول باطمئنان أنّ الراوي هو الروائي سلام إبراهيم من خلال ذكر اسم شقيقه الشهيد كفاح - الذي يصغره بثلاث سنوات والذي استشهد تحت التعذيب لاحقاً اخبره بأنه شاهد صاحبه أي أحمد في منطقة الحيدرخانه في بغداد يتلفت مذعوراً وقد أطال شعره وشاربيه، وحين أمسكه من كتفه من الخلف كاد يسقط من الرعب. كان أحمد يرتجف ووجهه أصفر مثل الليمونة. (ص 54) كان حال أحمد يصدق عليه قول إبن سهل الأندلسي: كاد المريبُ أن يقول: خذوني. وقد أصدر كفاح حكماّ استشرافياً دقيقاً حين قال لسلام:

"- صاحبك منتهي، قضية وقت .. راح نشوف!" (ص 55)

ولكن سلام رفض ما توقعه كفاح من انهيار أحمد وطرح مبررات لرفضه سوف تصدم الناقد الدقيق والقارئ المتابع وتهزّ أركان تسلسل حوادث الحكاية. يخاطب سلام طيف أحمد في حواره الداخلي الرافض:

" أنتَ [= أحمد] مثلا مَنْ ساهم وبشكل مباشر في تحول "كفاح" من الدين إلى الماركسية، حينما كنتَ تزورني يومياً في سنةِ دراستنا الأولى بإعدادية الزراعة، كنت تتعمدْ فتحَ الحوار في كل جلسةٍ معهُ عن جدوى الدين وتسهب في شرحِ فكرة كيف يخدر الناس؟!. وتسخر منه وهو يؤدي طقوس الصلاة، كان وقتها في الأول المتوسط، يعني لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وقليلاً .. قليلاً سحرهُ كلامكَ عن المساواةِ والحريةِ ومحو الفقر في العراقِ والعالمِ، فكسبته إلى الشبيبة الشيوعية. وها هو يتوقع لك مصيراً بائساً!- ص 55"

هل يمكن أن تتفق هذه المعلومات مع تسلسل أحداث حكاية أحمد التي قصّها علينا الراوي حتى الآن؟ كيف يكون أحمد هو الذي أسهم في تحويل كفاح من الالتزام الديني إلى الحزب الشيوعي، وكسبه إلى تنظيم الشبيبة الشيوعية .. وفي بيت سلام، وفي السنة الأولى من دراسة سلام وأحمد في إعدادية الزراعة، وسلام يقول إنّه لم يعرف بأنّ أحمد كان منتمياً للحزب الشيوعي إلا في عام 1973 وقت قيام الجبهة الوطنية؟؟ كان سلام يعرف أن أحمد شيوعي منظم وهو في الصف الأول من إعدادية الزراعة!!

وقد حصل ما توقعه كفاح، فبعد أشهر قليلة جاء الخبر اليقين إلى سلام وهو أنّ أحمد قد وقّع هو وزوجته مادة البراءة (200) بعد أن زارهم رجال الأمن في بيتهم بوساطة من قريب حزبي (بعثي) له. كان وقع الخبر على سلام – كما يقول – صاعقاً لأنه كان يعتقد أنّ أحمد مؤمن حقيقي بفكره وأنّه اخفى انتماءه في أحلك الظروف (كيف أخفى أحمد انتماءه وكان يناقش اباه جهارا عن الإلحاد والماركسية وستالين ويقنع كفاح بالماركسية ويكسبه إلى الشبيبة الشيوعية؟! هل نسيانات سلام هذه سببها أنّه وضع أحمد كـ"مثل أعلى"؟). لا يعلم سلام بأنّ أجهزة المخابرات تسير على قاعدة في علم النفس بأن الفرد كلما كان متعصباً لفكرة ما كلما كان معنى ذلك أنّه يقاوم عكسها ويكبته ويصرف طاقة نفسية كبيرة في عملية الكبت هذه، فيكون انهيار الكثير منهم في الواقع في مرحلة الانتظار قبل وقت الانهيار الفعلي وعلى اساس مبدأ "أن انتظار الموت أسوأ من الموت نفسه". ووسط سخط سلام العارم على أحمد قرّر الذهاب إلى بغداد مع صديق له لمقابلته.

كان سلام يغلي غضباً. ومن بيت أهل زوجة أحمد قرروا الخروج لشرب الخمرة. وخلال هذه الجلسة انفجر سلام في حديث طويل عن خيانة أحمد له كصديق وإنّه أوهمه طوالَ علاقتهما بشخصية المناضل المخلص بصمته الأسمنتي ونظراته المتأملة. ولا أستطيع الجزم بأن هاتين الصفتين: الصمت الإسمنتي والنظرات المتأملة هي جزء من صفات المناضل المخلص. فقد تحصل حتى لدى المضطربين نفسيا. ولم أستطع – اعتماداً على القدر من الحوادث التي قصّها سلام عن سيرة أحمد – بأنه يتمتع بأي صفة من صفات المناضل المخلص.. فالحوادث البارزة تذكرنا قسراً بحادثة العرض الجنسي والتبصصلت التحرشية في السوق وعذاباته بعد موت أبيه والرحلة المجنونة وعمله في اللجنة المحلية ودورة بلغاريا الحزبية وغيرها من الأمور العديدة. على العكس من ذلك فإن سلام بالاعتقالات والمطاردات المتكررة حتى وهو خارج التنظيم الحزبي الفعلي هو الذي يمكن لنا أن نطلق عليه وصف المناضل الشيوعي المخلص مقارنة بأحمد. هل كان سلام يقوم من حيث لا يدري بعملية "إسقاط" لاشعورية لتصوّراته عن المناضل المخلص على أحمد؟ وهل قام – من حيث لا يدري أيضاً /لاشعوريا- بتوسيع عملية الإسقاط هذه لتشمل "آثامه" هو أيضا حيث اعتبر توقيع أحمد لمادة البراءة المميتة واعترافاته "وقعة غبراء" كما يصفها وهو نفسه كان قد صدّق اعترافات مسؤوله الحزبي ووقع صك البراءة والفارق أن أحمد وقعها في البيت وهو متزوج وسلام في أقبية الأمن وهو فرد بلا مسؤوليات عائلية مباشرة هذه المسؤوليات والارتباطات ستجعله يتخذ موقفا مغايرا لما يريده أحد رفاقه في بيروت في القسم المقبل؟ ولولا عملية الإسقاط هذه ومحاولة بناء صورة "المناضل" الأنموذجية العصيّة على سلام لما كان انفعاله مفرطا في تلك الجلسة يبكي (هل كان سلام يبكي ذاته المنجرحة؟!) ويصرخ ويلوم ويشكو إلى أن سقط في عدم السكر. والخمرة كمُذيب للأنا الأعلى/الضمير تساعد كثيرا في إرخاء القيود المنطقية وتفجير الصراعات الذاتية المكبوتة.

بعد جلسة الحساب تلك لم يلتق سلام بأحمد سوى مرةٍ واحدةٍ حين زار أحمد مدينتهما الديوانية. تسكعا في أرجائها أكثر من أربع ساعات استعادا فيها تفاصيل ذكريات تلك الأيام المضيئة التي اندثرت مقارنة بعتمة تلك السنة 1980 التي سماها سلام بحق "بوابة ليل العراق الطويل" الذي لم ينتهِ حتى اليوم. كان سلام في تلك المدة يواصل الصلة برفاق أحمد المتخفين في بغداد ويوفّر لهم ما يستطيع من مساعدة برغم أن هذا التصرّف قد يودي به إلى التهلكة بسبب توقيعه مادة البراءة المميتة. ومن بين المساعدات التي كان يقوم بها هي نقل جريدة "طريق الشعب" جريدة الحزب الشيوعي، إليهم، والتي تحوّلت إلى جريدة سرّية صغيرة الحجم. كان أحمد يتهرّب من اي ذكرى عن عملهما السياسي السابق إلى أن وصلا باب بيته.. حينها دسّ سلام في كفّ أحمد جريدة طريق الشعب ملفوفة كحجم طرف الإصبع وحين فضّها أحمد اصفر وجهه وكاد ينهار. وسلام نفسه يتساءل كم كان قاسيا وجلفاً على أحمد. وفعلا .. لا يمكن تفسير هذا التصرف سوى أنّه تصرّف "سادي" لأن سلام نفسه ذكر لنا قبل صفحات أن المادة (200) التي وقعها أحمد تنص على معاقبة من ينتمي لأي تنظيم سياسي غير حزب البعث العربي الاشتراكي بالإعدام. ولو كان هناك مراقب محايد يرقب المشهد لتوقّع أنّ سلام هو من رجال الأمن الذين ينصبون مصيدة لتوريط أحمد وإنهائه.

ومن المنطلق نفسه قد يندهش القارىء لسلوك سلام العام في علاقته بتنظيم الحزب. فما كان يقوم به من مساعدة للرفاق الشيوعيين المختفين من ملاحقات السلطة التصفوية الدموية وإيصال جريدة الحزب السرّية "طريق الشعب" إليهم وإيواء وإخفاء أحدهم.. هذه كلها تصرفات توصله إلى الإعدام حسب المادة التي وقعها حين صادق على اعترافات مسؤوله خلال اعتقاله الأول. كيف سيبرر تصرفاته تلك؟ بل كيف سيبرّرها للقرّاء: شخص لا علاقة له بالتنظيم يقوم بمهمات خطيرة قد لا يقوم بها الكثيرون من المنتمين أنفسهم. في هذا الدور إحساس بالبطولة و - ضمنا – بالدور الأبوي. وهي محاولة لغسل مشاعر الذنب والانكسار التي لحقت بالذات الفردية في تجربة الانهيار الأول. ولعلّ "آنا فرويد" قد تحدثت بصورة مستفيضة عن هذه الظاهرة كأوالية دفاعية نفسية في كتابها "الأنا وأواليات الدفاع". وسلوك سلام المفرط هذا ينطوي تحت خيمة سلسلة سلوكياته تجاه أحمد وبضمنها جلسة المحاسبة.

وكل هذه الذكريات استعادها سلام وهو ينطلق فجرا نحو مرآب السيارات أو خلال انتظاره لانطلاق السيارة أو جلوسه في المقعد الأمامي في طريقه للوصول إلى صديقه الحبيب "أحمد" بعد أكثر من 27 عاماً من الفراق. وهي رحلة "جنونية" ثانية أو عاشرة من رحلات سلام الكثيرة (سندباد المهمات) كما سنرى. وقد حاولت نظم سلسلة الذكريات هذه برغم الوقفات "الاعتراضية" الكثيرة كي يسهل على السادة القراء ملاحقتها بعد أن قرأوها متناثرة كسلسلة من "الاستعادات / الفلاشباكات" تقع كوقفات استرجاع ذاكراتي أو حوار داخلي بين مشاهد التعامل مع العالم الخارجي.

الآن ينطلق سلام إلى بغداد. وإذا كان قد قدّم لنا لقطات سريعة عبر مقارناته بين وضع سابق طغياني قامع دموي وحاضر فاقه قسوة ودموية ووحشية تسيّدت فيها قوى الاحتلال القذرة ذات الخبرة العريضة في تنظيم "فرق الموت" لقطع الرؤوس وتصنيع الاقتتالات الداخلية عبر حركات "معارضة" مسلّحة تجعل المواطنين يلجأون إلى قوى المحتل والسلطة للاحتماء بها (في السفادور كانت فرق الموت تقطع رؤوس المواطنين بالمناشير.. في إحدى الحوادث قطعوا رؤوس القساوسة المعارضين ووضعوها بين أيديهم وهم جالسون إلى مائدة الطعام) وفوق ذلك كانت الميليشيات المسلحة تعيث فسادا في الأرض.. نقل سلام تعليقات عسكريي السيطرات حول رحلته الخطيرة ونقمة سائق التاكسي الذي أوصله إلى المرآب. لكن التصوير/الشهادة المهمة من سلام وهو كما قلت لا ينطبق عليه وصف السارد أو الروائي بقدر ما ينطبق عليه وصف "الشاهد الحكّاء".. ففي كل أعماله كان سلام هو "بطله" إذا جاز التعبير حتى وهو مهزوم محطم.. و"البطل" في العمل الفني هو الذي تلتم عنده عُقد الأحداث ولا تتحرك حلّاً أو تعقيداً إلّا انطلاقاً منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. وسلام هو "عقدة" حكاية شعبه.. وسندباد رحلاته المهولة ورمز "حالته" الصدوق الحي النابض. مسيرة سلام هي مسيرة جيل أو جيلين من أجيال شعبه كانت الأكثر تعبيرا عن خلاصة مسيرته لتاريخية وتحولاتها والشاهد على أحداث خمسة عقود لم يستطع أي حكّاء آخر بلوغ مقدرته الفذّة في الحفاظ على صندوق ذاكرتها الأسود. ومن المؤسف كما سأتوقف عند ذلك قريبا أنّ أغلب النقّاد قد توقفوا عند الجانب الجنسي من "اعترافاته" في حين أن "أدب الاعترافات الأكبر" المتفرد الذي قدّمه سلام كان في جوانب أخرى أخطر وأكثر حسماً.

في تصويره لحال سائق السيارة التي أقلته إلى بغداد وسط المخاطر وتوقعات الموت والركاب الثلاثة الذي احتلوا الكرسي الخلفي العريض شهادة تفوق ما يمكن أن يطرحه أي "مؤرّخ". فالمؤرّخ يوصف بأنه "موضوعي" وأمين كلّما كان بارد المشاعر وقام بتحييد عواطفه الشخصية. وفي هذا مقاربة لخدعة "الناقد الموضوعي" بمعنى الناقد الحديدي الذي يتناول العمل الفني وكأنه "يؤرّخ". وهذا ما لم أستطع القيام به بل لا يستطيع القيام به أي ناقد إلا بحدود ضئيلة. الناقد يكون ذاتياً كاملا عند خط البداية ثم – ومع سيره مع النص وتحليله – يحاول أن يمتلك زمام الموضوعية. وسلام كان "يؤرخ" ما يشاهده من أحوال شعبه ولكن من "قلبه".. نعم.. ومن أعماق "قلبه".. ولهذا تأتي الشهادة حيّة حقيقية ومشهديّة بعين سينمائية لا بعين فوتوغرافية كما يحصل لدى المؤرخ. ويكفي أن ننقل ما سطّره سلام عن حال ركاب العربة العراقيين وهي تنطلق نحو بغداد "التي لم يعد يعرفها محبّوها" في رحلة الموت ومخاوفهم المرعبة من المرور بـ"مثلث الموت":

"أدخلَ مفتاح التشغيل وأداره فتعالى صوت المحرك لكنه لم يتحرك. بل لهج  في ترديد دعاء طويل:

- اللهم احفظنا من كل مكروه  

 اللهم أعمي عنا عيون الأشرار

اللهم!.

فتصاعدتْ أصوات من خلف ظهري تردد أدعية، وآيات قرآنية، حملقتُ في وجه السائق كان يتوسل متهدج النبرة يكاد ينشج، وشفتاه ترتجفان بمفردات الدعاء التي يلفظها ببطء شديد. التفت ُإلى الحوض الخلفي، فهالتني الوجوه، زادت شحوباً على شحوبها. تردد آيات من القرآن، حتى الشاب الذي بدا متماسكاً أصابهُ الجو بالعدوى، فراح هو الآخر يردّد أدعية بقسمات ضارعة مستسلمة، وكأننا مقبلون على الموت. غمرني لغط (لاحظ مفردة "لغط" هنا) الأدعية والآيات فأخذني بعيداً إلى محطات رعب عمري الضاجة بالقمع والتهديد بالموت في كل الأمكنة التي سبقت وصولي إلى الدنمارك فلم أرَ رعباً كالرعبِ المرتسم على وجوه الركاب الأربعة. رعبٌ أملس مطلق لم أشعر به لا في نفسي وأنا تحت القصف في جبهة الحرب مع إيران، ولا في وجوه زملائي الجنود رغم أنه يخطف منا في الشهر واحدا أو اثنين في أوقات هدوء الجبهة، ولا في وجوه الثوار في الجبل حينما نُحاصَر ويكون الموت على بعد أمتار، ولا حتى في سراديب الأمن العامة والاستخبارات العسكرية التي حللت في ظلمتها وعفنها ورعبها مرات. كنت لا أعرف ما يجري بالضبط، ولم أستوعب بَعْدُ الهول الذي يعيشون به والذي بدا محفوراً في أرواحهم.. هاهو يتجلى في أصواتهم وهم يتضّرعون إلى الخالق وقديسيهم من أئمة الشيعة، مستنجدين بمن لم يستطيعوا النجاة بأنفسهم يوم الطف في العاشر من عاشوراء، يستنجدونَ بوجوهٍ مشلولةٍ، مرتجفةِ الشفاه والسيارة لم تتحرك بعد. قلت مع نفسي:

- إنهم في لحظة رعبٍ فاقت لحظة رعب العراقي أيام الدكتاتور.

وتساءلتُ بصمتٍ:

- أية فظائع وأهوال جرت تحت أنظارهم منذ الاحتلال؟!.

ـ أية؟!..

أستمر لغط الأدعية والتمتمة والتضرع دقائقَ خمساً، إلى أن قطعها السائق بالقول وهو يضغط على دواسة البنزين:

- رددوا الشهادة!.

نطقوها بوضوح وبصوت عالٍ، ومع آخر فقرة أردف:

- الله كريم. الأعمار بيد الله!.

قلت مع نفسي:

- يبدو أنه الموت إذن!.

تحرّكت السيارة وَعَبرتْ الباب الواسع وأخذت الطريق المعبّد القديم المتوجه نحو الحلة، والسائق يبرر الأمر قائلا:

- ندخل الطريق السريع قرب الحلة أسلم!.

فاستفهمتُ فرد:

- طريق الدغارة ملغوم لو سلابه لو مليشيات!.

قلت مع نفسي:

- لا طريق آمن إذن!.

وهذا ما بددَّ شيئاَ من غرابة خوفهم الأملس من موت يلوح في الطرق والمدن والقرى المنتشرة على الطريق- ص 43 و44 و45"

كانت هذه مشاعر عيّنة من العراقيين المرعوبين المحاصرين بالموت والخراب مع كل خطوة. وهي من سمات "الحالة العراقية". يقول صموئيل نوح كريمر وهو من أشهر وأكثر الباحثين تعمّقاً في التراث السومري أنّ أكبر قدر من المراثي عُثر عليه في أرض سومر وخصوصا مراثي المدن التي يتحسّر كاتبها "الشاعر المجهول" – وملحمة جلجامش كتبها شاعر مجهول وهل ستجد البشر بعد مئات السنين لوحا إلكترونيا لشاعر مجهول هو سلام إبراهيم؟؟ - على مدينته التي تمّ حرقها وسلبت بيوتها ومتاجرها ونُثرت جثث سكانها في الطرقات.. بعد خمسة آلاف سنة سيواجه سلام وركاب السيارة مشهدا مروّعاً صار يوميا في العراق آنذاك: عراقيون تم قطع رؤوسهم على الشارع العام وقرب معسكرات القوات الأمريكية وقاطعي الرؤوس الملثمون يتنقلون بكل حرّية تذكرك بسطوة فرق الموت في تجارب الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية (وليس اللاتينية فاللاتينيون هم الذين ذبحوا سكان القارة الأصليين!). يقول سلام الشاهد:

" السيارةُ ضَجّتْ بالأدعيةِ من جديد. السائقُ أطفأ المسجل الذي لم أنتبه له طوالَ الطريقِ. كان يردّد مراثٍ حسينية بصوتٍ عذبٍ مصحوبٍ بإيقاعِ ضربِ الصدور.

 ورددَ:

- الله الساتر!.

سألتهُ:

- شكو؟!.

- راح نوصل اللطيفية!.

تأملتُ وجوههم؛ السائق والمرأة وزوجها والشاب، كانتْ شاحبةً تبسمل وتردد بلغطٍ مبهمٍ ما يقيها الشر القادم. وجوهٌ لها نفس إيقاعِ رعبكَ حينما سقطتْ الورقة السرية من كفك المفتوح المرتخي، احتجتُ مخاضَ عمرٍ شرسٍ كي أفهم؛ أن ذلك ليسَ جبناً، بل تشبث غريزي بالحياةِ. السيارات تسير بسرعةٍ جنونيةٍ في كلا الاتجاهين. لاحتْ أمامنا سيارات متوقفة، فأبطأ السائق من سرعتهِ، وراح يستعيذ بالله متضرعاً، كي لا تكون الزحمة نقطةَ تفتيش طيارة، من التي تقيمها مليشيات متشددة تتنكر بزي جيش أو شرطة تقوم بخطفِ وقتلِ من تنتقيه من الركابِ، أشتدّ رعب الركاب حينما ظهرتْ جثثِ رجالٍ حزّتْ أعناقهم مرميةً على جانبِ الطريقِ جوارَ سيارتين كبيرتين متوقفتين، وجمهرة من النساءِ يلتففنَ بعباءاتٍ سود ينخرطنَ بعويلٍ هستيري وإلى جانبهنَ وقفَ بقيةَ الركابِ من الرجالِ ممن لم يذبحوا. أجهشتْ الأمُ بينما ردد الرجال:

- لا حول ولا قوة إلا بالله، لا الله إلا الله.. لا الله إلا الله.

ضغطَ السائقُ على دواسةِ البنزين قائلاً:

- الله سِتَرْنْا لوْ واصْلِينْ قَبِلْ رُبِعْ ساعة چانْ رِحْنا!.  

وأشارَ بيدهِ نحو سيارةِ حمولة من نوع Toyto، مكتظة عربتها الخلفيةِ برجالٍ ملثمينَ تنهب الطريق الزراعي في اتجاه البساتين الكثيفة مثيرةً عاصفةً من الغبارِ مردفاً:

- شُوفُوهْمْ ذبْحْوا الناسْ وشْرْدَوا!. لا الله إلا الله- ص 61 و62 و63"

قتلت فرق الموت الأمريكية في بلدان أمريكا اللاتينية وأغلبها أنظمة ماركسية: 200 ألف في غواتيمالا، 75 ألف (و8آلاف مختفٍ) في السلفادور، 3 آلاف قتيل و60 ألف معتقل في شيلي، وقبلها مليون مواطن شيوعي أو مناصر للحزب الشيوعي في أندونيسيا، 200 ألف في تيمور الشرقية، 3 ملايين ونصف في فيتنام، 600 ألف في لاوس، مليونان في كمبوديا، نصف إلى 3 مليون في بنغلاديش بإشراف كيسنجر، وووووووووووو.. وكل ذلك لم يردع قيادة الحزب الشيوعي العراقي من التعاون مع المحتل وحتى الدخول في مجلس الحكم!!

لكن كيف كانت مشاعر سلام وسط موجات الرعب الخانقة التي تجتاح ركاب السيارة والسائق في فضاء السيارة الصغير؟ يكرّر سلام أنّه لم يكن مكترثاً ولم يشعر بالرعب مثل الباقين، وأنّه كان ينظر إلى بساتين النخيل على جانبي الطريق والشمس الساطعة بذهبها المنهمر (ص 62): "لا أدعي الشجاعة ولكن لم أكن خائفاً. وبتعبيرٍ أدقَ كنتُ فارغ الإحساس كأنني أشاهد فلماً في التلفاز".

ولعل الوصف الأخير: "فراغ الإحساس والفرجة كمراقب محايد" هو الذي سيمسك به المحلل النفسي حين يقرأ عمل سلام هذا ويجعله متسقاً مع مشاعره وسط بياض الهم والقلق والاكتئاب في غرفته في الدنمارك. فهي تتفق مع واحدة من أهم سمات "الناجين" النفسية: التبلّد العاطقي واللااكتراث النفسي في أعتى مواقف التهديد وأبشع مشاهد الموت، وهذه السمة على مستوى اللاشعور تساوي نسبيا القيام بالفعل نفسه. وهذه ملاحظة خطيرة جدا يكون لها عادة تاثير مدمّر في التحكّم وبصورة مستترة بسلوك وتوجهات الناجي الاجتماعية والنفسية وحتى الاختيارات الجمالية. يتساءل سلام:

"-هل كنتُ غير مصدقٍ ما رأيتُ من مشاهد ذبحٍ؟!. أم جلّدني المخاض لكثرةِ ما رأيتُ وحملتُ من قتلى في جبهات الحرب؟!. 

-هل مات حسّي بحيث بتُ عاجزاً عن مشاركةٍ الناس فواجعهم إذ لم يرفَّ لي جفنٌ لعويلِ النساءِ جوار الجثث، ونحيب الأم وتضرع الركاب في السيارة.. هل؟!. أم أن عالمك يا "أحمد" فصلني عن المحيط والناس وأحالني إلى كائنٍ يخرج من زمن مضى؟! لا أدري، ما كان يهمني في تلك اللحظات أكثر من أي شيء آخر هو الوصول إليك، والذي كنتُ واثقاً منهُ، بالرغم من كل ما يجري!.- ص 63"

وقبيل وصول سلام إلى بغداد إنسحب إلى ذاته قليلاً ليرى طيف صديقه أحمد مانحا إياه أبعاداً أسطورية محلقاً فوق الحقول والبساتين الراكضة خلف نافذة السيارة، مغسولا بضوء الشمس الاصفر اللاهث (ص 63).. وهذا التصعيد في الصورة الشخصية هو استمرار لموقف نفسي داخلي عميق كانت مقدمّاته في العلاقة المتينة بينه وبين أحمد التي بدأت بخلاف لعرض مُهين أعقبه علاقة غير متوازنة نفسيا من ناحية "أمثلة" سلام لصديقه والصعود به إلى مرتبة "المناضل المخلص الحرّ" بلا أدنى مبرّرات داعمة في عملية نفسية داخلية يُسقط فيها سلام موقفه في الحاجة إلى صياغة الذات في صورة الأنموذج الأبوي المقتدر الذي انجرح في تجربة الاعتقال والانهيار الأولى..

والآن.. وصل سلام عند باب بيت "أحمد" الذي كان في الزيارة السابقة ؛ زيارة "جلسة المحاسبة" قبل سبعة وعشرين عاماً، حَسَن البناء ذا بوابة حديدية كبيرة، فصار ذا باب حديدي صدىء نصف موارب. ومنذ اللحظات الأولى واجهته علامات الأحزان والثكل وهي من سمات "الحالة العراقية": عبارة "يا حسين يا شهيد كربلاء". ومن عمقِ الدار يأتي خافتاً صوت مراثٍ حسينيةٍ تندبُ واقعةَ كربلاء. لقد تغيّر كل شيء، الإنسان والحجر؛ وأهم ما تغيّر هو أحمد. في لقطة "شقاوة" جميلة يدقّ سلام الباب ثلاث مرّات وهي إشارة بينهما منذ أيام الشباب، فعرف أحمد صاحب الطرقات وهبّ لاحتضانه بقوّة:

"سلّومي .. حبيبي .. ما أصدّػ.."

لقد تغيّر أحمد: جاء بلحية بيضاء طويلة، وجسد هزيل، بشرة متخشبة ملأتها الغضون، وأجفان ذابلة.. ولم يبق من أحمد الأمس سوى بريق عينيه الذي لم يصبه الذبول. والأهم في التغيير هو الطلاق النهائي مع الماركسية والشيوعية التي آمن بها الاثنان واعتقدا بتغيير العالم و "بناء عالم جديد" من خلالها. لقد أصبح أحمد متديّناً إسلامياً!!

والشيوعيون العرب هم الذين طلعوا علينا بخلطة عجيبة غريبة هي "الشيوعي المتديّن" وخلقوا لها منظّرين ونظريات. وبهذا يكونون هم أنفسهم الذين مهّدوا لقواعدهم هذا الارتداد التلفيقي بل قلْ "الانتهازي" الذي يسطّح الأمور بل ويسفّه الثوابت الفكرية الماركسية الأساسية ويصدر عن عقل تلفيقي (وبالمناسبة "الذرائعية" سمة من سمات الحالة العراقية في جانبها الفكري قديما منذ زمن السومريين وحتى زمن الأحزاب السياسية في وقتنا الحاضر) . إنّ إيمان الماركسي بالدين خصوصا والعوامل الروحية عموما يعني تقويض المادة الديالكتيكية والمادة التاريخية وحتى الاقتصاد السياسي وهي المكونات التقليدية الثلاثة للفكر الماركسي. وعودوا واقرأوا أسس الماديتين الديالكتيكية والتاريخية لتدركوا أن لا مجال أبداً أن يزعم الماركسي الشيوعي أنّه شيوعي "يخاف الله" ويؤدي الفروض الدينية ويدخل في حركة المجتمعات عاملاً "أفيونياً" آخر "من الخارج" يلغي عوامل التغيير "الداخلية" المتمثلة في علاقات الانتاج وقوى الانتاج وغيرها.

وكنّا نتساءل بمرارة كيف استولت أحزاب دينية كانت هامشية على الغالبية المطلقة من أصوات الناخبين العراقيين في الانتخابات الأولى في حين لم يحصل الحزب الشيوعي ذو الثمانين عاماً فعلياً، مضمخة بدماء الشهداء على أي صوت !! لكن هذه المرارة تخف ولا تختفي عندما نضع في اعتبارنا الكيفية التي أسهمت فيها الحركات الوطنية التقدمية و "المتحضرة" العراقية نفسها في خلق "الجموع أو الحشود" التي تصلح بنيتها النفسية والاجتماعية لأي حماسة "قطيعية" . تصوّر لافتة هائلة الحجم تُعلّق في مدخل شارع المتنبي في بغداد تحمل العبارات التالية:

( الحزب الشيوعي العراقي يعزّي صاحب العصر والزمان الإمام المهدي الغائب عجّل الله فرجه باستشهاد الإمام الحسين "ع" ) (7)

وضعْ هنا ألف علامة استفهام تثير الدهشة والمرارة .

إن خطورة التربية السياسية التي اضطلعت بها الأحزاب السياسية الثورية في العراق – وهي مفارقة عجيبة، مضحكة ومبكية في الوقت نفسه - وتتمثل في أنها أسست لبنية نفسية وعقلية صالحة لأي فكرة "جموعية" تنتعش فيها اشتراطات الحشد. ولهذا شهد العمل السياسي العراقي ظاهرة خطيرة قلما شهدتها أقطار المعمورة وتتمثل في سهولة تحوّل الشيوعي إلى بعثي ثم إلى إسلامي.. وفي كل هذه التيارات – ويا للعجب المدوّخ – ينشط، بل "يستبسل" المناضل السابق ليصل إلى المواقع القيادية العليا!!. وفي جلسة خاصة مع المبدع الكبير "مظفر النواب" في شقته بدمشق ذكر لي اسم شخصية سياسية بارزة جدا كانت شيوعية تقاتل معهم في الأهوار ثم "تبرّأت" وصارت قيادية بعثية ثم أصبحت قيادية إسلامية!! وكنتُ أتساءل ومازلتُ هل تستطيع القاعدة الشعبية العريضة من المنتمين للحزب الشيوعي وهم من الطبقات المسحوقة من العمال والفلاحين والكسبة والطلبة وغيرهم قراءة رأس المال – إنجيل الحركة الشيوعية كما كان يوصف – بأجزائه الأربعة الضخمة ثم تمثله وتحليله ونقده؟! .

ولو سرنا صعوداً ضمن إطار الهيكل التنظيمي للحزب الشيوعي فسنجد أن قادة الخلايا وأعضاء اللجان المحلية وهم يأتون من القاعدة الشعبية هذه بطبيعة الحال لم يكونوا يحملون مؤهلات علمية كافية تتيح لهم قراءة واستيعاب رأس المال بأجزائه الأربعة الضخمة. وفي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وجدنا أعضاء لهم قدرة متميزة على قراءة الموروث الماركسي لكنهم كانوا يفاجئوننا – بين وقت وآخر - بأطروحات تفضح وبعمق تسترهم بالمصطلحات أمام "المعدمين" ثقافياً، أكثر من تسلحهم بفهم الأفكار الجذرية والحاسمة . فهذا قيادي شهير يعلن أن علي بن أبي طالب هو أول شيوعي في التاريخ لأنه قال ذات مرة : ما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غني !! 

ولعلّ هذا من الأسباب التي جعلت أحمد لا يعود إلى الحزب الشيوعي بعد الاحتلال وسقوط الدكتاتورية التي ورّطته بالتوقيع على المادة (200) المميتة واختار الاتجاه الديني وبنى مكتبة صغيرة في حديقةِ البيت يبيع فيها الكتب الدينية، وصور الأئمة، وأقراص ترب الصلاة والسبْحات (ص 66). وها هو ينهي صلاته ويدعو سلام – ضمناً - إلى أن يستقر على ساحل الدين كملاذ أخير.

وإذا كان أحمد قد تغيّر جذريّاً بهذا التحوّل الكبير الذي قد لا يكون جوهرياً فكرياً ولكن للتكفير عن مشاعر الذنب فالعراقي "حيوان مذنب" وهي من سمات الحالة العراقية" منذ فجر التاريخ ولعل من الدلائل الخطيرة على ذلك هو أنّ العراقي هو الوحيد بين بشر الأرض الذي خُلق – أسطوريّاً – من "طين ودم" وليس من "طين وماء" حسب أسطورة الخليقة وقد أُخذ الدم من عروق إله متمرّد "مذنب"، الإله "كنغو" ومزجته الإلاهة مامي مع طين الفرات لتخلق الإنسان العراقي الأوّل لـ"يحمل العبء عن الآلهة" الصغرى !! التي ثارت بسبب التعب ولم يكن مذنبا ليتحمل عبئها!!.. أقول إذا كان أحمد قد "تغيّر" فإن سلام قد "تغيّر" نسبيّاً أيضا. تذكّرْ ثورة سلام العنيفة على أحمد في جلسة المحاسبة بعد أن أخذته العاطفة والسُّكر وقال لأحمد ساخراً:

- ليش بالبيت.. يعني عمرك النضالي تنزعه في بيتك.. ليش؟!- ص 59"

وكان لزاماً عليه أن يكون أكثر سخطاً أو بسخط مماثل وهو يرى أحمد وقد نزع عمره النضالي ثانية بلحيته البيضاء الطويلة وأدعيته الدينية المتواصلة اتي يتمتم بها وصور الأئمة المحاط بها على الجدران ومكتبة "المذهب" التي افتتحها وهو يدعوه للرسو على ساحل الدين بعد ذلك التمرّد العنيف في الإلحاد والترويج للفكر الماركسي. لكن الطاقة النفسية لدى الفرد تتهاود مع تقدّم العمر فيصبح همّه البحث عن ملاذ. فكيف بفرد لم يتقدّم به العمر سنوات بل عقوداً بفعل الانثكالات المتكررة التي استنزفت كل شيء لديه؟! كان سلام الآن وهو يجد أحمداً غارقاً في لغطِ (ولاحظ نفس المفردة "لغط" مرتبطة بوصف الأدعية هنا أيضا) أدعيته مطبقَ الأجفانِ يتضرع إلى الخالقِ والقديسين. يحسده على "السلام الروحي العميق الذي هو فيه" . وبخلاف السابق لم يكن لديه لومٌ ولا عتاب كما كان أحمد يظن ويخشى، بل كان سلام يغبطه في أعماقه على السكينة الغامرة قسماته التي غضّنتها السنون. "فبعدَ عناء العمر، الكل منا يبحثُ عن ساحلٍ" (ص 65).

وصحيح أن سلام ردّ على دعوة أحمد إلى الاستقرار الفكري والروحي بأنّه "مايزال بينَ بين" و "أنّه لم يزل في البحر واللجة" فإن هذا الجواب نفسه يشي باهتزاز المكوّنات اليقينية السابقة التي كادت توصلهما إلى "الجنون" في مرحلة سابقة..

أمضى سلام نهاراً وليلة واحدة مع رفيق عمره أحمد.. تحدّثا فيه عن كل شيء.. عن أولاد أحمد الثلاثة وبناتكه الست، عن عملكه والمكتبة التي بناها في حديقةِ البيت يبيع فيها الكتب الدينية، والشغل ماشي، عن جهاده زمنَ الحصارٍ حيث صارت اللقمةُ صعبةً، عن تنقلهَ بين مهنٍ عجيبةٍ غريبةٍ، حمّال، نجّار، حدّاد، ماسح سيارات، صبّاغ أحذية، وعمل زوجته كخياطةٍ، وأولاده في شتى المهنِ، والبيت الذي سترهم.. استعادا ذكريات المراهقة الساخنة وهي الذكريات التي تنحفر على صفحة الذاكرة الغضة إلى الأبد عادة وفي مقدمتها ذكرى التلميذة السمراء التي أوصاه بها أحمد وهو يذهب إلى العسكرية.

ولأنّ اللاوعي لا ينام ولا يغفو.. فقد أرسل أحمد رسالة تتسق مع موقفه الجديد ودعوته لسلام حين كلمه بخفوت عن مصير صديقهما المشترك "عبد الله أبو التمن" الذي بقى شيوعياً ولم تغيّره الظروف، فعادَ للعملِ بعدَ الاحتلالِ وسقوط الدكتاتور في مقر اللجنة المركزية في ساحةِ الأندلسِ، وقبلَ شهرين خطفتهُ مليشياتٍ مجهولةٍ، ليعثروا بعد شهرٍ على جثتهِ مشوهةً في مجمع قمامة بطرفِ بغدادَ (ص 67).

ولم يناما حتى الفجر.. وعاد سلام إلى الديوانية على وعد أن يتلاقيا بعد أسبوعبن.

لكن..

لم يُتح المثكل المُصنّع لهما تحقيق هذا الوعد.. فقد قُتل أحمد بعد أيام.. اتصلت زوجة أحمد بسلام باكية وهي تخبره بمقتل زوجها: أمطره مسلحون ملثمون نزلوا من سيارة جيب صغيرة بالرصاص وهو جالس وسط كتبه ولاذوا بالفرار.. لماذا؟؟ إبحث عن "المستفيد" العميق..

وسؤال الـ"لماذا" هذا يصبح سؤالا مرفّهاً فالأهمية هنا تكمن في انخلاع جزء عزيز من "الأنا" يُشعر المثكول ولأوّل مرّة بأنّه يمكن أن يموت. فاللاشعور لا يفنى وفيه إحساس ثابت بالخلود. ولهذا لا يتعظ الإنسان من "الموت" وهو يرى أو يسمع بالآلاف المؤلفة التي تموت وتُقتل كل لحظة.. متى يشعر بأنّه قابل للفناء؟ حين يفقد عزيزاً شكّل جزءاً من "أناه" الشخصي. كمْ قطعة انخلعت من "أنا" سلام إبراهيم الشخصي؟ كمْ؟؟ وكم قطعة انخلعت من أنا العراقي الشخصي.. كمْ؟؟ وليس مثل القطعة التي سطّرها سلام في مشهد وداعه الأخير لجسد الشهيد أحمد المثقب بالرصاص قطعة تعبّر ببلاغة مسنّنة تقطّع القلب:

" كانَ صوتِ زوجته المتهدج يذبحني بخبره:

- صديقك راح مات قتلوه بالمكتبة!

أمطره مسلحون ملثمون نزلوا من سيارة جيب صغيرة بالرصاص وهو جالس وسط كتبه ولاذوا بالفرار، طفقت أنحب وهي تضيف:

- الدفن باچر بالنجف الساعة وحده الظهر!.  

أمام باب المغسل وقف سبعة رجال. في ركن الجدار وقفت زوجته وحولها أولادها وبناتها ناحبين. عبرتُ العتبة. تجمهرَ الرجال حول دكة الغسل. أفسحوا لي ممراً. فوقع بصري على جسده ممداً عارياً مثقباً بالرصاصِ. اقتربتُ منهُ. توقفَ شيخٌ ملتح كان يهمُ بغرف طاسةِ ماءِ من حوضِ الغسلِ. كانَ سليم الوجه، يبدو وكأنه يغفو. ركعتُ على ركبتي جواره ونزلتُ إليه ودمعي يصّبُ. لامستْ شفتيَّ جبهته العريضة. شممتهُ من عنقهِ. انتصبتُ. رجعتُ خطوتين. باشرَ الرجلُ بغسله.

 وبغتةً شهقتُ. خانتني قوايَّ، فتهالكتُ جالساً. حملوني من كتفيّ إلى خارجِ المغسلِ وأجلسوني على مقعدٍ من حجرٍ مركون إلى الجدارِ تحتَ الشمسِ وأماميَّ امتدتْ شواهدَ القبور حتى الأفق و طيفكَ بوجهه الفتي إلى جواري على عربةِ قطارِ حمولةٍ تمخرُ عبابَ ليلِ الجنوبِ يرقصُ هازاً بذراعه الأيمن يتوعد ويهدد الوجود وينشد معي:

- لبناءِ عالمٍ جديد.. ولقبرِ مشعلي الحروبّ!- ص 68 و69"

ومع جسد أحمد الذي سوف يُدفن بعد قليل.. هل سيدفن سلام شعار "لبناء عالم جديد" محمّلاً بأحلام جيل كامل أو جيلين كاملينكما هو حال الشعارات والأحلام العراقية الأخرى؟؟

حول العنوان: هل هو ثريا النص؟

من الصعب الانتقال من ذلك المشهد الماساوي للوداع الأخير إلى التناول النقدي "الباهت". انتظرتُ عدة ساعات للعودة إلى الكتابة. ذكّرني هذا المشهد بكل أخوتي وأحبتي الراحلين استشهاداً أو موتاً بطرق أخرى وآخرهم أخي الأصغر الحبيب واسمه "أحمد" أيضاً أحد ضحايا مؤامرة وباء كورونا.

لقد تطرّف -  وكالعادة – أغلب النقّاد وهم يتلقفون الأطروحة الغربية عن دور العنوان في النصّ والتي صاغها – عراقياً - المبدع الراحل "محمود عبد الوهّاب" في كتابه الصغير المميّز "ثريا النص" (دار الشؤون الثقافية/ 1995). ضربت أمثلة كثيرة أعود لواحد منها ثم أقدّم واحداً جديداً. لو أخذنا قصة "المئذنة" للقاص "محمّد خضيّر" من مجموعته الشهيرة "المملكة السوداء" وركزنا على إيحاءات عنوانها فإن أقرب تأويل يرد إلى ذهن المتلقي هو أنّه سوف يطالع موضوعاً دينياً أو روحيّاً. لكن القصة تدور حول مومس سابقة تائبة سئمة في سرداب بيت الزوجية وتتشوّق لزيارة غرفتها القديمة في بيت البغاء. وحين تذهب إلى هناك تشاهد من نافذة هذه الغرفة "مئذنة" بنت على رأسها أعشاشها اللقالق. إنّ التعامل مع عنوان النص على طريقة "المكتوب يُعرف من عنوانه" وأنّه ثريا تضيء كل زوايا النص قبل فتح بابه والولوج في غرفه وممراته خطأ كبير. ولكي يسهل على القارئ العودة إلى المصدر، هناك قصة أخرى من نفس المجموعة هي "أمنية القرد" عنوانها يخدع القارىء حتما ويربكه إذا تعامل معه على أساس أنه "ثريا النص". فالقرد موجود لكن الأمنية للفتاة وليس له محملة بحفزات وصراعات نفسية معقّدة.

وقُلْ مثل ذلك عن عنوان نصّ سلام هذا : "لبناء عالم جديد".. فما يوحي إليه هذا العنوان عند البداية هو سعي أو مشروع بناء عالم جديد. وهذا فقط. لكن كيف ؟ ومَنْ يضطلع ببناء هذا العالم الجديد؟ وكيف سيصبح؟ وما هي ملابساته؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة، فلا أحد يستطيع تحديد ذلك.. وإذا توقّع القراءة نهاية متفائلة في بناء هذا العالم الجديد فسوف يُصدم مع إجهاض هذا العالم و "دفنه" مع جثة أحمد..

إنّ الطريقة السليمة للتعامل مع العنوان من وجهة نظري، هو تأمّل أوّلي في إيحاءاته ثم إكمال النص والعودة إلى وضعه ضمن إطار الصورة الكلّية (الجشطلت – Gestalt) للنص.

_________

وقد عادت إلى ذهني ملابسات هذه الأطروحة "العنوان ثريا النص" حين طالعتُ القسم الثاني من الرواية الذي يحمل عنوان "وينك يا بلدي" حيث استعجلتُ وتساءلتُ : لماذا لم يستخدم سلام تعبير: وينك يا وطني؟ والعراقيون يستخدمون تعبير "وطني" أكثر من تعبير "بلدي". لكن مع قراءة النص اتضح السبب المتسق مع سياق النص كما سنرى.

يستهل سلام هذا القسم بالقول:

" انتزعتُ نفسي بعناءٍ من الفراشِ عازماً على زيارتها. فقد مرَّ أسبوعان كنتُ فيها متردداً أَلومُ نفسي تارةً لقبولي بالمهمةِ وأشجعها في أخرى قائلاً في سرّي:

- لعلَّ زيارتي تبرّد قلبها!.

الغرفةُ معتمةٌ. لبثتُ على حافةِ مجرى الضوء مهدوداً أحاولُ التماسكَ كي أقوم بارتداء ملابسي. عاودني اللومُ:

- أي مهمة ثقيلة وافقتَ على أدائها!.

همستُ لنفسي بخفوتٍ متأرجحاً على حافةِ الوهنِ. شددتُ جسدي لثوانٍ لكنهُ انحلّ من جديد. فتهالكتُ على كرسي بمواجهة النافذة، ورحتُ أحملق شارداً ببقايا حديقة أبي وشجرة النارنج الوارفة جوار الجدار الخلفي للدكان الذي بنوه في سنين الحصار، لديّ أكثر من عشر ساعات عن الموعد الذي اتفقنا عليه تلفونياً، كانَ صوتها ناعماً يشف بالشوقِ وهي ترحب بيّ وتقول:

- وأخيرا ستتحقق أمنية عمري!. 

وأرتجفَ صوتها مهتزاً بنبرتهِ الخافتةِ وهي تضيف:

- أريد التفاصيل كلها.. كلها!.

واختنقتْ بالكلماتِ. أصابتني عدواها فكدتُ أنهدّ ناحباً. ودعتها بارتباك وأغلقتُ الخط- ص 70 و71"