كان بودي أن أكتب أيضا عن جانب مضيء في حياة الراحلين إيفلين حجاب، وكان هذا اسمها حين عرفتها في الستينيات والرائع نجيب شهاب الدين الذي زاملته في المجلس الأعلى لرعاية للفنون والآداب، وزرته لماما في سنوات عمله في باريس. لكنني – وبسبب المرض الذي أعانده كي أصل بـ(الكلمة) إلى نهاية عامها الخامس عشر – أكتفي هنا بهذه الكلمات التي اقتربت من بعض ما كنت أود أن أقوله.

نجيب شهاب الدين

إبراهيم داود

 

خبطتان فى الرأس أُصبت بهما فى يوم واحد مطلع يونيو الجارى، برحيل أعز صديقين: إيفيلين بوريه ونجيب شهاب الدين، كان الفرق بين سماع الخبرين أقل من ساعة، سافرت بجسدى لتشييع الفنانة السويسرية العظيمة فى قرية تونس بالفيوم، وسافرت ذاكرتى وروحى إلى البتانون فى محافظة المنوفية مع جثمان الشاعر الحبيب.

كان عائدًا من فرنسا منتصف الثمانينيات من القرن الماضى مكتئبًا ومرتبكًا ووحيدًا وعازفًا عن كل شىء، وكنت أبدأ حياتى مع الشعر والعمل فى القاهرة التى حرضت جيلى على التفاؤل والبهجة والثقة فى المستقبل، ومع هذا تصادقنا، وجمعتنا صلة لا علاقة لها بالوسط الثقافى، أقرب إلى صلة القربى.

جمعتنا فى البداية محبة الشاعر الزاهد وبلدياتى وبلدياته محمد جاد الرب والإذاعى والمترجم شوقى فهيم، وعدد غير قليل من دراويش وأعمدة هذا الزمان، فى البداية كان مندهشًا وحانقًا من حماسى لشعراء وكتّاب لم تكن علاقته بهم على ما يرام، بسبب تواريخ لا علاقة لى بها، أحببت نجيب شهاب الدين شاعرًا، رغم قلة إنتاجه، لأنه كان سفيرًا لقلب الدلتا الأخضر، حيث اللغة المتقشفة النافذة العريقة.

كان يحمل على ظهره حكمة الفلاحين وتحايلهم على الحزن والقهر وقلة الحيلة، كان منزعجًا من عزوفهم عن الغناء الذى حرضه على الشعر، قصائده مليئة بمفاجآت مرتبطة بالبساطة والتأمل الطويل، كان ينحت صوره وإيقاعاته من الطين والزمن والانتظار والأحلام المستحيلة: «باحلم بيومنا وأنت إيدك فى إيدى.. باحلم وحلمى قد ما أنت تريدى.. قد الحلال.. قد القمر ويزيدى.. قد الهموم اللى تبات شغلانا.. نطرت دراعى يا دراعى يانا».. ذاعت شهرته بسبب أغنية الشيخ إمام «يا مصر قومى وشدى الحيل»، وهى قصيدة عظيمة لا شك، ولكن قصائد مثل «سايس حصانك» أو «مرمر زمانى يا زمانى مرمر» أو «الابن» تشير بشكل أدق على روح وشاعرية نجيب.

لم تفرض المدينة «التى يعرفها عز المعرفة» عليه إيقاعها فى الشعر، ولم يشغله المجد الذى غيّر فى كثيرين لا يقلون موهبة عنه، وظل مخلصًا لتصوراته وطريقته فى القنص، معاركه الجانبية مع كبار شعراء العامية لم تكن بسبب الشعر، كان محقًا فى بعضها، ولكنها ظلت معارك صغيرة تعرفها الدوائر الصغيرة، كثيرون تعاملوا معه على أنه مكتئب تاريخى، ربما بسبب ردوده التى تبدو متشائمة، ولكن الذين يعرفونه ويترددون عليه كانوا يبتهجون عند سماعها.

عشرات السنوات أزوره فى شقته فى مصر القديمة التى تطل على مبرة محمد على، بابه مفتوح طوال الوقت، مغلق فقط بصفحة مطوية من جريدة، كل ما عليك أن تدفع الباب وتدخل، لا يهم لو كان نائمًا أو مستيقظًا، ستتعامل كأنك فى بيتك، تعرف المطبخ وتعرف أين يضع البن والشاى والطعام، وتعرف مكان أشرطة الكاسيت التى تحتاج إلى سماعها، هو أحد أهم سميعة الغناء فى مصر، وله طريقة فريدة فى ترتيب الألحان، والحديث عنها بفطرة ريفى كان الغناء ضروريًا لكى تستمر حياته.

لاعبو الطاولة العتاة يستمتعون باللعب معه، طريقته فى تحريك القواشيط تستند إلى خيال شاعر، هو لا يبحث عن المكسب، هو يلعب مع دماغ خصمه، يريد أن يجره إلى حوار دون لغة ومفردات، حوار ملىء بالمفاجآت والمغامرات والترقب، طاولة قديمة متقشفة يحملها معه أينما ذهب، نجيب شهاب الدين عاش حارسًا أمينًا لشىء نبيل فى الثقافة المصرية من الصعب تعريفه، وكان وجوده فى حياتنا، وفى حياتى أنا شخصيًا يبعث الطمأنينة، ويشعرنى بالسلام، تعلمت على يديه محبة الغناء المصرى، وتعرفت من خلاله على دهاليز فى التاريخ كان من الصعب أن أصل إليها بمفردى، رحل أبوإسماعيل وآسيا فى أيام الفقد الغزير.. ولكنه مستمر معى فى اللعب.