يقدم الباحث الهندي هنا محاولة للتأريخ للجامع الأزهر ودره التعليمي في مصر، وفي العالم الإسلامي من ورائها، وكيف أثرت التحولات السياسية المختلفة التي مرت بها مصر منذ تأسيسه على توجهاته العلمية وتحولاته الفكرية والموقفية، وعلى دوره المرموق في إثراء اللغة العربية والأدب والثقافة الإسلامية إثراءً كبيرا.

تيارات التعليم في الجامع الأزهر

منذ إنشائه حتى العصر الحديث

محمود عالم الصديقي

 

مقدمة المقال:
يعتبر الأزهر أقدم الجامعات في العالم وأكبر الجامعات الإسلامية في العالم العربي الإسلامي وأجلها اثرا في تاريخ الفكر الإنساني . قد حمل لواء المعرفة والعلم منذ تأسيسه حتى الآن. وأضاء جميع بقاع العلم بمعرفته وعلمه. وفتح أبوابه لكل طالب علم. فأقبل عليه كل متعطش للمعرفة من كل حدب وصوب، ونهل من منهله العلمي الصافي وتلون بلونه العلمي وتعطر بعطره الفكري. فأنجب الأزهر منذ تأسيسه حتى الآن عددا كبيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين الذين لا يمكن أحصاءهم والذين قاموا بإثراء اللغة العربية والأدب والثقافة الإسلامية إثراءً كبيرا، وخدموا الإسلام مع خدماتهم الإنسانية من خلال تقديم مساهماتهم العلمية القيمة، وأضاءوا جنبات الأرض علما ونورا. فله تاريخ مجيد يمثل الحياة العقلية الإسلامية التي تطورت مع تطوره وانحطت مع انحطاطه. وهذه الدراسة تحاول دراسة مسيرته التعلمية والعلمية منذ إنشائه حتى العصر الحديث.

الجامع الأزهر وإنشائه:
قد أنشأ الجامع الأزهر "جوهر الصقلي" قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عند فتح مصر للدولة الفاطمية. وبدأ بناءه يوم السبت في 24 من شهر جمادي الأول سنة 359ه (المطابق ب 980م ) وأكمل بناءه 21 من شهر رمضان 361ه (المطابق ب 22 يوليو 982م). وبناه ليكون جامعا لعبادة الله ومركزا لدعوة الفاطميين وحصنا علميا لتعزيز دولتهم. وأول جمعة جمعت فيه في شهر 23 رمضان سنة 371ه باحتفال رسمي هائل تجلت فيه أبهة الملك المعزلدين الله وعظمته التي اشتهر بها الفاطميون[1]. ووصف المقريزي هذا الاحتفال وصفا شائقا يفيض روعة وجلالا.

وقد بناه الجوهر الصقلي ليكون جامعة للدولة الفاطمية لتتمكن من نشر مذهب الشيعة – مذهب الدولة- وعقائدها. فبدأت الدراسة في الأزهر في شهر صفر سنة 365ه[2] بعد إنشائه بأربع سنوات. وافتتحت الدراسات فيه باجتماع عظيم حضره خلق كبير من المتعلمين والمعلمين. وأول كتاب دُرِّس في الأزهر هو كتاب "الاقتصار" في فقه آل البيت، الذي وضعه أبو حنيفة النعمان بن محمد القيرواني، قاضي المعز لدين الله. وكان مالكي المذهب، ثم انتحل المذهب الإسماعيلي، واخلص له. وكان من دعائم الدعوة الفاطمية.[3] وبعد وفاته عام 363ه تولى تدريس كتاب "الاقتصار" وكتبه الأخرى بالأزهر ابنه "أبو الحسن علي بن النعمان". ثم تولى التدريس في الأزهر بنو النعمان الذين تعاقبوا في قضاء مصر حتى نهاية القرن الرابع.[4] فظل الأزهر مركزا لحلقات الدروس الفقهية الإسماعيلية التي يعقدها بنو النعمان حتى سنة 369ه. ففي هذه السنة قد بدأت حلقات الدروس تتحول إلى جامعة منظمة مستقرة. وكان حَّوله إلى جامعة وزيرُ معز لدين الله "يعقوب بن كلس" الذي كان يهودي الأصل، ثم أسلم واتصل بالمعز وصار رائدا لجيشيه في فتح مصر. وألَّف كتابا في فقه آل البيت بما سمعه من المعز. ثم بدأ يدرِّس بنفسه في الأزهر هذا الكتاب الذي يعرف بـ "الرسالة الوزيرية. فهرع لسماعه عامة الناس وخاصتهم من الفقهاء والقضاة والأدباء. وفي عام 378ه المطابق بـ 988م استأذن ابن كلس الخليفة المعز بالله في تعيين بالأزهر جماعة من الفقهاء – للدرس والتدريس - الذين كان يجب عليهم يعقدوا مجالسهم بالأزهر في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر. فأذن له الخليفة. فعين الوزير سبعة وثلاثين فقيها وكان رئيسهم ومنظم حلقاتهم الفقيه "أبو يعقوب" قاضي الخندق. ورتب لهم الخليفة أرزاقا وجرايات شهرية وأنشأ لهم دارا لسكنى بجوار الأزهر وخلع عليهم في يوم الفطر، وأجرى عليهم رزقا من ماله الخاص.[5]

وظل الأزهر جامعا للعبادة وجامعة للتعلم والتعليم إلى أن قضى السلطان صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية عام 1171م ، وأسس على أنقاضها الدولة الأيوبية التي كانت سنية العقيدة، وأشاعرية المسلك في علم الكلام، وشافعية المذهب في الفقه. فعملت الدولة الأيوبية على نشر مذهبها وعقائدها وغالت في القضاء على الفقه الإسماعيلي، وعلى محو معالم المذهب الفاطمي حتى أبطلت الخطبة من الجامع الأزهر، وما زالت الخطبة معطلة فيه مائة سنة، أي من استيلاء صلاح الدين الأيوبي على مصر حتى استيلاء بيبرس عليها.[6] وقد افتى بإبطال إقامة الجمعة في الأزهر قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك الذي كان شافعي المسلك، فعمل بمقتضى مذهبه وهو امتناع إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد.[7]

شيدت الدولة الأيوبية مجموعة من المدارس لتحقيق سياستها في القضاء على المذهب الشيعي ونشر المذهب السني. فأنشأ مؤسس الدولة الأيوبية ووزير "العضد الفاطمي" المدرسة الناصرية التي تعتبر أول مدرسة بنيت في مصر لتدريس فقه الشافعية بجوار مسجد عمرو بن العاص عام 566ه المطابق ب 1170م، ومدرسة أخرى للمالكية وعرفت بإسم "دار الغزل". ثم بنى صلاح الدين الأيوبي المدرسة الصلاحية بجوار مسجد الإمام الشافعي لتدريس فقه الشافعية، والمدرسة السيوفية للفقهاء الحنفية. وكذلك أنشأ الملك العادل أخو صلاح الدين المدرسة العادلة للفقهاء المالكية. وأقام تقي الدين المدرسة التقوية. وأنشأ القاضي الفاضل المدرسة الفاضلية. ففي الدولة الأيوبية قد بنيت في القاهرة وحدها نحو ثماني عشرة مدرسة على حسب خطط المقريزي، وقد بنيت في القاهرة والفسطاط معا نحو خمسة وعشرين مدرسة[8]. وفي هذه المدارس الأيوبية جرى تدريس بعض العلوم المساعدة مثل النحو والصرف والبلاغة وعلم الهيئة، إلى جانب الفقه والحديث والتفسير والقراءات وغيرها من العلوم الشرقية.[9]

نافست هذه المدارس الأيوبية منافسة شديدة، واجتذبت إليها العلماء والأساتذة لوفرة أوقافها واستئثارها برعاية سلاطين بني أيوب وأمراءهم. وكان من أثر ذلك أن الأزهر مر خلال عصر الدولة الأيوبية بمرحلة من الركود بعد أن كان مركزا هاما للعلوم الدينية وغيرها. ويجدر بالذكر أن خطبة الجمعة قُطعت من الأزهر في عصر الدولة الأيوبية، ولكن لم يقطع منه صفته الجامعية. وما زال الأزهر جامعة إسلامية سنية في العصر الأيوبي بعد أن كان جامعة إسماعيلية في العصر الفاطمي. وخلال الدولة الأيوبية تدرَّس في الأزهر العلوم النقلية مع تدريس العلوم العقلية. غير أن الحركة الفكرية الإسلامية كانت ضعيفة في الأزهر لأنه لم يتمتع بعناية سلاطين بني أيوب وأمرائه كما تتمتع بها المدارس الأيوبية. فقويت الحركة الفكرية في المدارس الأيوبية ونشطت فيها نشاطا كبيرا، وضعفت في الأزهر. وظل الأزهر في حالة الركود العلمي، وفي حالة التعطل في إقامة الخطبة وصلاة الجمعة حتى جاء العصر المملوكي الذي تم فيه تجديد الأزهر على أيدي السلطان الظاهر بيبرس البندقداري الذي أحْيَا الخطبةَ في الأزهر وشجّع العلم فيه.

وحذا حذوه كثير من الأمراء بعده. فزاد الأمير بيك الخاندار مقصورةً كبيرة، ورتَّب فيها جماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي ومحدثا لشرح الأحاديث النبوية، ورتب فيها سبعة قراء لقراءة القرآن. ووقف على ذلك الأوقاف الكثيرة.[10] وعلى هذا النحو سار الأزهر في عناية المماليك حتى احتل المكانة الأولى في الحركة الفكرية الإسلامية. وقد ساعده على كسب المكانة الأولى في قيادة الحركة الإسلامية سقوط بغداد في أيدي المغول سنة 656 الهجرة والمطابق بـ 1258م واضمحلال معاهد العلم في بلاد الأندلس، واتخاذ السلطان الظاهر مصر مقر الخلافة العباسية. فصار الأزهر في هذه الفترة الزمنية كعبة العلم والعلماء وطلبة العلم. هذا هو السبب الذي حمل بعض الأفراد للدولة على إنشاء مجموعة من المدارس ثم الحاقها بالأزهر. ومنها المدرسة الطيبرسية التي أنشأها الأطير علاؤالدين طيبرس الخازندار عام 709- 1309م، ثم ألحقها بالأزهر على حسب قول المقريزي، والمدرسة الأفبغاوية التي أنشأها عام 740ه الأمير علاؤالدين أقبغا عبد الواحد.[11]

وفي عصر المماليك أول ما درس به من مذاهب أهل السنة كان مذهب الإمام الشافعي، ثم أدخلت إليه مذاهب أخرى تباعا.[12] وأما الكتب التي كانت تدرس فيه: فكانت كتب الحديث الستة والمسانيد: وهي مسند أحمد ومسند الشافعي وغيرهما، وكتاب عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني وشذور الذهب للشيخ جمال الدين بن هشام والمنهاج في فقه الإمام الشافعي لأبي زكريا النووي وكتاب الأربعين للشيخ محي الدين النووي والورقات في الأصول للإمام الحرمين واللمحة البدرية في النحو للشيخ أثير الدين أبي حيان وغير ذلك من الكتب مثل جامع الجوامع، والبدر المنير في تخريج الحديث."[13] كما يدل على ذلك الإجازات العلمية التي كان يمنحها الأزهر والتي أوردها القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى". وكذلك يدرَّس فيه مع هذه العلوم النقلية العلوم العقلية بما فيها الطب والفلسفة والرياضيات والجغرافية وغيرها. وأما العلماء الذين قاموا بتدريس العلوم العقلية في العصر المملوكي أشهرهم: شمس الدين الأصفهاني الذي كان إمام عصره في المعقولات وقبر بن عبد الله المتوفى سنة 8-1ه الذي يقيم في الأزهر ويدرِّس فيه العلوم العقلية.[14]

والجدير بالذكر أن القرن التاسع الهجري – الخامس عشر الميلادي يعد العصر الذهبي للأزهر. فإنه احتل مكانة مرموقة بين مدارس القاهرة وجوامعها، وأصبح المدرسة الأم أو الجامعة الإسلامية الكبرى التي لا تنافسها أية جامعة أخرى. وأصبحت أمنية كل عالم من علماء المسلمين أن يحاضر في الجامع الأزهر. وقد قام في ذلك الحين بالتدريس في الأزهر عدد كبير من العلماء المشاهير الذين يضمن تراجمهم كتاب السخاوي " الضوء اللامع" ومن أشهرهم : العلامة ابن خلدون الذي قدم مصر في سنة 784 الهجرة 1382م، ونال شرف التدريس بالجامع الأزهر. وأشار ابن خلدون إلى ذلك بقوله: "وانثال علية طلبة العلم بها اي القاهرة يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا فجلست للتدريس بالجامع الأزهر بها".[15] واتصل ابن خلدون بكثير من العلماء المؤرخين في مصر. وأدت اتصلاته بعلماء مصر ومؤرخيها إلى تكوين مدرسة كبيرة للدراسات التاريخية. ومن تلاميذ تلك المدرسة المقريزي المتوفى عام 845 الهجرة 1442م الذي كتب كتابه الشهير "خطط المقريزي" الذي صار مرجعا أساسيا لتاريخ الحركة العلمية في مصر. فالمؤرخون الذين كتبوا في تاريخ الأزهر قد اعتمدوا على خططه بما يتعلق بتاريخ الأزهر القديم. ومن أشهر المؤرخين المنتميين إلى هذه المدرسة التاريخية ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 الهجرة 1448م وأبو المحاسن بن تغري المتوفى 874 الهجرة 1470م والسخاوي المتوفى 901الهجرة 1497م وجلال الدين السيوطي وغيرهم.

الأزهر في العصر العثماني:
فظل الأزهر على هذه الحالة حتى أصابه الركود والجمود في العصر العثماني الذي بدأ منذ عام 1517م حتى عام 1798م. ففي هذا العصر العثماني سادت النزعة الصوفية في الأزهر، التي فتحت المجال لدخول كثير من الأوهام والخرافات. والسبب في ذلك أن العلوم الإسلامية الأخرى قد تعتمد على العقل والبراهين، ولكن التصوف يعتمد على الذوق والكشف، ولا يخضع للعقل ولا للمنطق. فدخل في الأزهر تحت ستار التصوف كثير من الأشياء اللادينية واللاعقلية كلجوء الأمراء والحكام إلى بعض مجاوري الأزهر للتبرك والدعوة لانتصارهم ولهزيمة عدوهم في الحرب وكشف البلاء وجلب النعم لهم وعقد ختم البخارى والقرآن عند البلاء وغير ذلك مما جنى على الحركة العلمية في الأزهر. وصار أهم مراكز المتصوفين الذين يبيتون في ساحته، ويعيشون حياة رخيصة على أوقافه.[16]

والجدير بالذكر أن الأزهر منذ تأسيسه كان مسرحا للتعصب الديني. فكان في العصر الفاطمي متعصبا للمذهب الشيعيي وفي العصر الأيوبي متعصبا للمذهب السني الأشعري. ففي العصر الأيوبي كان فيه تنافس بين الشيعة أولا، ثم بين الحنابلة ثانية، حتى أنهم لم يجتنبوا من تكفير بعضهم بعضا. فأفتى ابن حجر الهيشمي بأن ابن تيمية العالم والفقيه الحنبلي كافر لا يجوز الصلاة وراءه، وأمر القاضي العياض بإحراق كتب الإمام الغزالي لما يوجد فيها من أشياء لا يرتضي بها أهل السنة.[17] ثم كان تدريس الفقه الإسلامي في الأزهر وفقا للمذاهب الأربعة التي انحصر فيها التقليد قبل تأسيس الأزهر، فأدخل في منهجه الدراسي الشروحات والمختصرات التي ألفها العلماء والفقهاء المتأخرون في تأييد مذاهبهم الفقهية وتنظير المسائل الفرعية وفروض الفروض وفقا لقاعدة قررها إمامه من قبل. فجنى كل ذلك على الحركة العلمية في الأزهر والمعاهد التعليمة الأخرى، وقد أشار إليه ابن خلدون في مقدمته وإلى خسائر نتجت عن هذه المختصرات والشروحات.[18]

فكان الأزهر في العصور الثلاثة السابقة من العصر الفاطمي والعصر الأيوبي والعصر المملوكي محافظا على العلوم الإسلامية التي وضعت في القرن الرابع الإسلامي على أيدي العلماء والفقهاء والمفسرين والمؤرخين المتحررين وغيرهم ، بدون تقديم مساهمات جديدة قيمة في مجال العلم والمعرفة إلا البسط والإيجار للأفكار القديمة. ولكنه قد فقد روح الاحتفاظ أيضا في العصر العثماني حتى اللغة العربية التي يكرس الأزهر جميع اهتمامه على تعليمها صارت ضعيفة فاقدة التأثير، ركيكة الأسلوب معقدة العبارة غامض المفهوم لا تستطيع التعبير الحرعن شعور كاتب أوشاعر فضلا عن أداء معاني العلوم العقلية ومفاهيمها. ومن المعلوم أن اللغة العربية كانت لغة العلوم الإسلامية ولغة التعليم في الأزهر، وعندما انحطت لغة العلوم ولعة التعليم فانحط التعليم في الأزهر مع انحطاط العلوم الإسلامية .

ولم يستقر الأمر على ذلك بل أخذ القول بحرمة بعض العلوم العقلية يتسرب إلى الأزهر، كما تسرب إلى غيره من الجامعات الإسلامية تحت تأثير كتب الإمام الغزالي ولاسيما كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة" الذي كتبه في رد الفلاسفة وسلك موقف التشدد في ردهم حتى منع المسلمين عن تدريس بعض العلوم العقلية المعادية لعقائد الإسلام في زعمه. ويخبرنا الجبرتي بإهمال الأزهر ببعض العلوم العقلية. فيقول: "أنه تولى حكم مصر عام 1161 من الهجرة الوزير أحمد باشا كور، وكان ولعا بالعلوم الرياضية، فلما استقر بمصر، قابله كبار العلماء، ومنهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر، فتكلم معهم في الرياضيات، فقالوا: لا نعرف هذه العلوم، فتعجب وسكت، وقال الباشا يوما لشيخ الأزهر: "المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنتُ في غاية الشوق إلى القدوم إليها، فلما جئتُها وجدتُها كما قيل، تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه" فقال له الشيخ: يا مولاي هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف، فقال: أين هي، وأنتم أعظم علماءها وقد سألتكم عن بعض العلوم، فلم تجيبوني، وغاية تحصيلكم الفقه والوسائل ونبذتم المقاصد، فقال الشيخ، نحن لسنا أعظم علماءها، وإنما نحن المتصدرون لقضاء حوائجهم، وأغلب أهل الأزهر لا يشتغلون بالرياضيات إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم المواريث كعلم الحساب والغبار."[19]

وظل الأزهر على ذلك من إهمال تدريس العلوم العقلية من الطب والفلسفة والطبيعية حتى أنه فوجئ بأنوار العلوم العقلية التي أخذتها أوروبا من المسلمين خلال الحروب الصليبية ثم قاموا بتطويرها بعد بذل جهود جبارة. فتأثر بعض علماء الأزهر بهذه العلوم كأمثال الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، المورخ لعصر الانحطاط وإسماعيل الخشاب والشيخ حسن العطار، وأرادوا إدخالها في الأزهر غير أن طبقة المحافظين قد غلبت عليهم. فظل الأزهر على حاله من الركود العلمي حتى فقد روحه العلمية والتعليمية.

محمد علي وجهوده التعليمية في العصر الحديث:
وعندما تولى محمد على مصر أراد نهضة البلاد، فاحتاج إلى علماء أكفاء في مجال مختلفة من الهندسة والطب والفلك والطبيعية والإدارة والرياضة والحساب وغيرها. فلم يجد من يستطيعوا إيفاء ضرورة البلاد وتحقيق أغراضها. فلم يكن لمحمد علي بدَّا إلا أن ينشئ مدارس جديدة على نهج أوروبية. ومحمد علي يعرف حق المعرفة أن الأزهر برغم انحطاطه التعليمي يحتل مكانة مرموقة في مصر، ويقود الحركة الإسلامية المصرية وأن الناس ينظرون إليه بنظر الاحترام والهيبة. وإدخال الإصلاح فيه يمكن أن يثير حفيظة العلماء الأزهريين، الذين يعتبرون تدريس العلوم العقلية أو العلوم الحديثة بمثابة أكل الثمرات الممنوعة، وأن يهيج الشعور الديني في عامة الناس الذين يعتمدون على علماء الأزهر في أمور دينهم. فترك محمد علي حاكم مصر فكرة الإصلاح والتجديد في التعليم القديم من الكتاتيب والجوامع. وفضل على ذلك إنشاء مدارس جديدة على نهج أوروبي مقتبسا من التعليم القديم والتعليم الحديث الأوروبي. فوضع حجر الأساس لنظام تعليمي جديد قائم بنفسه مقتبس من الغرب والشرق.[20] وأنشأ لهذا التعليم الجديد في بادئ الأمر المدارس الخصوصية أو العالية من الطب والهندسة والألسن والفنون والصنائع. واستقدم لها اساتذة من أوروبا، وانتخب تلاميذ لها من الأزهر والمدارس الأخرى من بين الطلاب الذين كانوا متفوقين في القراءة والكتابة. وبعث بعوثا علمية إلى دول أوروبية لتلقى العلوم العالية ليتمكن أعضاءها من تدريس هذه العلوم في المدارس الحديثة بعد رجوعهم إلى البلاد. وهذه المدارس الخصوصية أدت إلى تأسيس المدارس التجهيزية أو الثانوية والمدارس الابتدائية.[21] وهذه المدارس ساعدت على ظهور ديوان المدارس الذي يعتبر أول نواة لوزارة المعارف العمومية المصرية. ولهذا الديوان دور محمود في تنظيم المدارس الحديثة وتطويرها وقد تولى رئاسته العلماء الذين كانوا متزودين بالثقافة الغربية والثقافة الشرقية.

وهذه المدارس الحديثة تُعِد التلاميذ للوظائف الحكومية ليقوموا بأداء واجباتهم الوطنية، وتزودهم بالثقافات الشرقية والغربية، وربما ترسل تلاميذها إلى دول أوروبية لتلقى العلوم العالية، ويحتلون مناصب عالية بعد رجوعهم من أوروبا إلى مصر، ويكسبون الأموال والشهرة وينالون الاحترام والعزة مما يساعد على ازدياد نفوذ هذه المدارس الجديدة بعد أن كانت تعتبر مصنعا لإعداد الجيش والضباط والموظفين للحكومة ومركزا للإلحاد والكفر. فالناس في بداية الأمر كانوا يكرهون إلحاق ابنائهم وأقرباءهم بهذه المدارس بما يشم فيها رائحة الكفر والإلحاد. ولكن عندما شاهدوا نجاح هذه المدارس في تخريج علماء أكفاء في علوم شتى، وشاهدوا نجاحهم في الحياة العلمية والحياة الدنيوية ،قد مالوا إليها بأبنائهم وأقربائهم وتمنوا لهم كل ما حققه النابهون في هذه المدارس من الجاه والمال.[22]

الصراع بين التعليم القديم والتعليم الحديث:
عاش التعليمان في بداية الأمر جنبا بجنب يخدمان الناس والبلاد بدون اصطدام واشتباك، غير ابتعاد الأزهر عن الوظائف الحكومية، وعدم اهتمامه بإعداد تلاميذه للحياة وللمجتمع الذي يعيشون فيه قد أدى إلى التقليل من النفوذ الذي يتمتع به عبر القرون منذ تأسيسه حتى حملة نابليون. وبجانب آخر أن ارتباط المدارس الجديدة بالحكومة وبوظائفها قد ادى إلى ازدياد نفوذها. وعندما ازداد نفوذ المدارس الجديدة وقَلَّ نفوذ الأزهر والتعليم القديم بدأ يصطدم أبناءهما بعضهم بعضا. فاتهم خريجو التعليم القديم أو الأزهر خريجي المدارس الجديدة بأنهم باعوا ضمائرهم وفقدوا إيمانهم وصاروا مرتدين. وكذلك اتهم خريجو المدارس الجديدة خريجي الأزهر بالجمود وقلة البضاعة في العلم والفهم. فدخل التعليمان في التنافس الذي ما زال قائما بين الأوساط العلمية حتى الآن.[23] وهذا التنافس قد أفاد التعليمين ولاسيما التعليم القديم الذي تعرض نفسه لتيارات الإصلاح والتجديد على أيدي المصلحين.

المصلحون وجهودهم الإصلاحية للجامع الأزهر:
ولكن كان هناك في كلا الفريقين علماء يريدون المصالحة بين التعليم القديم والتعليم الجديد، وحاولوا بهذا الغرض إدخال الإصلاح والتجديد في التعليم القديم ليجنوا منافع التعليم الجديد ويجتنبوا مضراته. وكان في طليعة هذه الحركة الإصلاحية التعليمية الشيخ العروسي الذي تقلد منصب مشيخة الأزهر عام 1818 بموافقة محمد علي وعلماء الأزهر الأجمعين. وظل بمنصب المشيخة حتى وافاه الأجل 1829م.[24] وهو أول عالِمِ من حاول إدخال بعض العلوم الحديثة من الطب والصحة في الأزهر، وفاتح بهذا الصدد الدكتور كلوت بك. ولكن المنية عاجلته قبل أن تتحقق فكرتُه.[25]

الشيخ حسن العطار وجهوده الإصلاحية:
ثم قاد الشيخ حسن العطار هذه الحركة الإصلاحية. لأن الشيخ حسن العطار كان له موقف إيجابي من العلوم الغربية التي شاهد بذات نفسه قوَّتَها العجيبة خلال الحملة الفرنسية التي أثرت في نفسه تأثيرا قويا. فتحمس للحضارة الغربية وعلمها، وبشر بضرورة الانتفاع بكل ذلك."[26]

ولد حسن العطار بالقاهرة سنة 1180 من الهجرة، وتلقى العلم والمعرفة عن المعاهد التقليدية من الكتَّاب والجوامع. فما زال يَجِدٌّ في المثابرة والانتفاع من فحول العلماء حتى وصل إلى الأزهر حيث بلغ من العلم والتفوق فيه ما أهَّله للتدريس بالأزهر عن تمكنٍ وجدارة. واستمر في الأزهر في التدريس حتى شهدت مصر هجوم نابليون عليها، مما أدي إلى الاضطراب والفتن فيها، فرحل الشيخ العطار من مصر إلى الصعيد، مع جماعة من العلماء الأزهريين. وعندما استقر الأمن والسلامة في البلاد رجع إلى مصر. وصار أحد أعضاء المجمع العلمي الذي أنشأه الفرنسييون لنشر العلم والمعرفة في مصر. فأول مرة قد وجد فرصة لمشاهدة تجربات علمية في المعامل الفرنسية. وكذلك أول مرة اطلع على العلوم الحديثة التي نجمت عن النهضة التعليمية. "فكان يتعجب من علوم الفرنسيين ومن كثرة كتبهم وتحريرها وقربها من العقول وسهولة الاستفادة منها."[27] فأثرت العلوم الحديثة والأفكار الغربية في نفسه تأثيرا كبيرا حتى أنه تمنى أن يكون لمصر من المعارف والعلوم ما كان للغرب.

ومنذ ذلك الحين ظل يعمل في انعاش التعليم في مصر وتطويره وازدهاره حتى نراه "ينبه الأزهريين في عصره إلى واقعهم الثقافي والتعليمي، ويبين لهم ضرورة إدخال المواد الممنوعة كالفلسفة والأدب والجغرافيا والأدب والتاريخ والعلوم الطبيعية. فبدأ يدرس الجغرافيا والأدب والتاريخ في الأزهر. وأفلح في إدخال الدراسات الأدبية في الأزهر على يد تلاميذه. وكان في مقدمتهم محمد عياد الطنطاوي الذي أوصى إليه بتدريس الأدب."[28]

وكذلك قد أفلح في تكوين جماعة مستنيرة من تلاميذه الذين يدرُّسهم العلوم العقلية في بيته، وساعد على تزودهم بالثقافة الغربية. فاقترح على محمد علي أن يجعل تلميذه الشيخ رفاعة الرافع الطهطاوي عضوا لأول البعثة العلمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا عام 1826م وأوصي تلميذه البار أن يسجل كل مشاهداته التي يرى فيها فائدة لأبناء البلاد. فقيّد الشيخ الطهطاوي في "باريس" كل أمر ذي فائدة وأهمية لأبناء البلاد عاملا على وصية أستاذه. ثم رجع الشيخ الطهطاوي من "باريس" عام 1831 إلى مصر. في ذلك الحين قامت حكومةُ محمد علي بنشر هذه المشاهدات في كتاب سمىّ بـ "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" عام 1832م. فأحدث الكتاب في الأوساط العلمية نقاشا، ولعب دورا مهما في تكوين الآراء المتعلقة بإصلاح التعليم وتحديثه في مصر. لهذا الكتاب دور محمود في النهضة التعلمية في العصر الحديث. وسنفرد الكلام عن هذا الكتاب وصاحبه. ولكن الشيء المهم الذي أريد الإشارة إليه وهو لو لم يقم الشيخ العطار باقتراح اسم الطهطاوي للبعثة العلمية، وثم بإسداء النصيحة إلى الشيخ الطهطاوي بكتابة الأمور المهمة في الباريس لتأخرت النهضة التعليمية في مصر. فيرجع فضل هذا إليه غير مباشر.

وعندما تولى مشيخة الأزهر عام 1830م قد بذل جهده لإصلاح الأزهر، وعين في امتحان مدرسة الطب خطيبا يشيد بفائدة الطب في تقدم الإنسانية.[29] وكذلك قد سعى لإدخال الإصلاح في الأزهر، وبهذا الصدد قد عقد اجتماعات وأجرى محادثات مع الدكتور كلوت بك، غير أنه رحل من هذه الدنيا عام 1834م قبل أن تتحقق أحلامه.

الشيخ رفاعة الرافع الطهطاوي وجهوده الإصلاحية:
وقد حمل آراء العطار الإصلاحية تلاميذه بعده. وكان في طليعتهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي سافر إلى فرنسا بإشارة أستاذه، ونقل كثيرا من علوم الغرب إلى العربية بعد عودته إلى مصر، وعمل في المدارس الحديثة التي أنشأها محمد علي وساهم مساهمة جبارة في تطويرها، واتخذ خطوة عملية لتقريب التعليم القديم والتعليم الجديد. وبهذا الغرض إنه اقترح على محمد علي أن ينشئ مدرسة الألسن لتدريس اللغة العربية واللغات الأجنبية ليتخرج منها المترجمون البارعون الذين سيساعدون على نقل المعارف الأجنبية والعلوم الحديثة. فأنشأ محمد على مدرسة الألسن وفوَّض إدارتها إلى الشيخ الطهطاوي الذي عين أساتذة لتدريس اللغة العربية من الأزهر وطلابها عند أنشائها. وكذلك هذه المدرسة كانت متوزعة على أقسام منها قسم لدراسة العلوم الفقهية الذي تم أنشاءه عام 1847م حيث يدرَّس الطلاب الفقه على المذهب الحنفي، ومنها قسم الترجمة الذي عين فيه مصححون ومبيضون من الأزهر. فكانت مدرسة الألسن ملتقى ثقافتين، وأول محاولة قام بها المصلحون لتقريب العلوم الغربية والعلوم الشرقية.[30]

تأثير جمال الدين الأفغاني على الحركة الإصلاحية:
ظلت الحركة الإصلاحية تعمل عملها حتى دخل جمال الدين الأفغاني مصر عام 1871 بأفكار مستنيرة يتمتع فيها العقل بحرية كاملة، ومكث في مصر نحو ثماني سنين من سنة 1871 إلى سنة 1879م مشغولا في تدريس بعض طلبة الأزهر هذه الأفكار المستنيرة. فكانت هذه من أخصب الفترات في حياته، درّس فيها بعض طلبة الأزهر العلوم التي كانت محظورة التدريس في الأزهر، وعقد حلقات الدرس في بيته وفي مقاهي مصر، واجتمع فيها طلبة الأزهر كأمثال: الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان والشيخ إبراهيم اللقاني والشيخ سعد زغلول والشيخ إبراهيم الهلباوي وغيرهم كثيرون. وقام بتدريس العلوم المحظورة وألقى محاضرات على أسباب انحطاط المسلمين من تحريم العلوم العقلية[31] وتناول هذه الأشياء بأسلوب ابن رشد ومنهجه العقلي. فظل الأفغاني في مصر ثماني سنوات يبصر العقول ويفتح الأذهان ويشحذ الهمم ويصقل العزائم ويزكي معلومات المثقفين ثم يحرضهم على الكتابة على إصلاح المجتمع والسياسة والتعليم. فهكذا لعب جمال الدين الأفغاني دورا مهما في تطوير الحركة الإصلاحية. غير أنه كان مائلا إلى السياسة. فحاول إدخال الإصلاح في المؤسسات السياسية ثم تشكيل الجامعة الإسلامية فأكثر جهوده بهذا الصدد. فتعليمه الفلسفي وموقفه السياسي أدى إلى إثارة مشاعر الجامدين وخوف السياسيين فصدر أمر الخديو توفيق بإخراجه من القطر. فأخرج منها بالقوة إلى حيدرآباد.

الشيخ محمد عبده وجهوده المشكورة في إصلاح الأزهر:
وعندما نفي جمال الدين الأفغاني من مصر عام 1879م، قاد الحركة الإصلاحية تلميذه البار الشيخ محمد عبده في مصر. فاتصل بالصحافة اتصالا قويا، واتخذها أداة لنهوض الشعب المصري من تخلفه السياسي والديني والعلمي، فتولى إدارة تحرير "الوقائع المصرية"، وكتب فيها مقالات حول إصلاح السياسة والدين والتعليم. واستمر على هذه المهمة الإصلاحية حتى وقعت الثورة العرابية التي نادي زعماؤها بتشكيل حكومة نيابية، فانضم فيها الشيخ ولعب دورا مهما في إشعال نارها. وإن كان الشيخ في بادئ الأمر يخالف تشكيل الحكومة النيابية التي يعتبرها الإصلاح الثوري في السياسة، وهو يؤمن بإجراء الإصلاح من خلال إعداد الأوضاع المثقفة الناضجة، ولكن عندما انضم الشعب بأجمعه، انغمس في الثورة العرابية التي فشلت. وبعد فشلها دخلت مصر تحت نير الاحتلال البريطاني، واتهم الشيخ بأنه من زعماء الثورة. وحُوكم، فحُكم عليه بالنفي ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. قضى شطرا منها في سورية ثم دعاه أستاذه الأفغاني إلى أوروبا، حيث اشتركا في إخراج مجلة "العروة الوثقى" التي كانت تهاجم المستعمرين هجوما عنيفا، وتحرض المسلمين على الوحدة الإسلامية.[32]

وظلت المجلة بهذه الروح الثائرة حتى نجحت البريطانية في اضطهادها والتضييق عليها، فاحتجبت بعد ظهور ثمانية عشر عددا منها في ثمانية أشهر. وعندما شاهد الشيخ عبده إخفاق الثورة العرابية، وإقفال مجلة العروة الوثقى، بدون تحقيق هدفها مال الشيخ إلى الإصلاح الديني والعقلي من خلال نشر التعليم الصحيح بين الشعوب المسلمة وتربيتها تربية دينية عقلية وتكلم بهذه الخطة التعليمية عن السيد الأفغاني ، فقال: «أنت مثبط.»[33]

وعندما عاد من المنفى حاول إقناع بعض شيوخ الأزهر مثل شيخ محمد الأنبابي بإدخال بعض الإصلاح في الأزهر.[34] كما حاول توثيق الصلة بالسلطتين: السلطة الإنجليزية والسلطة الخديوية لكي يتم ما يريد من إصلاح الأزهر.[35] فوثق الصلة بـ اللورد كرومر بجانب وقدم إليه اللائحة الإصلاحية في التعليم المصري. ولذلك نحن نراه يساهم الإنجليز ويتعاون معهم بعد عوده من المنفى لأنه " كان يرى أنه جلاء الإنجليز ﻻ يأتي بثمرة إلا من طريق استنارة الشعب وفهمه لحقوقه وواجباته، وغضبه من الاعتداء على حقوقه، وهمته في أداء واجباته.[36]  ومن جانب آخر تقرب من الخديوي عباس الثاني الذي تولى سنة 1892م، ووثق الصلة به، ثم أقنعه بإصلاح الأزهر، لأن إصلاح الأزهر ﻻ شأن للإنجليز به، كما أن تدخلهم في أمر الأزهر كان ممكنا أن يثير هياج الشعب.[37] فوثق الصلة مع الخديوي عباس الثاني وأقنعه بإصلاح الأزهر، وعرض عليه خطة الإصلاح التي تتخلص في أمر إنشاء قانون تمهيدي للإصلاح، يديره مجلس مؤلف من كبار علماء المذاهب الأربعة في الأزهر (الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي ) ليجري الإصلاح في الأزهر باقتناع شيوخه ورضا أهله؛ وليتم الإصلاح دون معارضة وإثارة للسياسيات التي عطلت الإصلاح بالأزهر زمنا طويلا. فصدر الأمر بتشكيل مجلس إدارة للأزهر عام 1895 الذي يتكون من الشيخ حسونة النواوي رئيسا والشيخ سليم البشري المالكي والشيخ يوسف الحنبلي والشيخ عبد الرحمن الشربيني وكان الشيخ محمد عبده والشيخ سلمان مندوبين عن الحكومة، فحقق مجلس الإدارة إنجازات في إصلاح الأزهر خلال مدة عضوية محمد عبده وصديقه.

والإصلاحات التي تحققت على ايدي مجلس الإدارة كانت تشتمل على: وضع قانون لمرتبات علماء الأزهر، ووضع نظام للتدريس، وفقا لهذا النظام يجب على طلبة الأزهر أن يحضر الصف، ونظام الامتحان، ووضع ﻻئحة لكساوي التشريف وتنظيم الجراية ومساكن الطلبة والإشراف الصحي، وهذه الأشياء كلها تتعلق بالإصلاحات الإدارية والشكلية. وعندما تعرض الشيخ عبده لشئ من الأساس، وهوما يدرس في الأزهر واختيار الكتب وطرق التدريس وبرامج الدراسة، واجه العقبات في هذا السبيل.[38] فلقي معارضة شديدة عنيفة من الأزهريين الذين يتزعمهم الشيخ عبد الرحمن الشربيني وكان أحد أعضاء مجلس الإدارة، ولكنه لم يحضر مجلس إدارة الأزهر لأنه عارض الإصلاح، ولم يقبل بعد ذلك عملا في إدارة الأزهر إﻻ بعد إجماع النية على إقصاء الشيخ محمد عبده من مجلس إدارة الأزهر، وإرجاع الأزهر إلى منهجه القديم.[39]

بالرغم من هذه المعارضة العنيفة عمل مجلس إدارة العمل ستة أشهر، وحقق مجلس إدارة الأزهر في إجراء بعض الإصلاحات الأساسية منها وضع نظامٍ للتدريس ونظام للامتحان وإدخال بعض المواد الجديدة وهي: الأخلاق، ومصطلح الحديث، والحساب، والجبر، والعروض والقافية، والتاريخ الإسلامي. ( مقدمة إبن خلدون ) والإنشاء ومتن اللغة ومبادئ الهندسة وتقويم البلدان وغيرها، وحرّم قراءة الحواشي في السنوات الأربع الأولى، وحرّم قراءة التقارير على الحواشي. وبذلك نهض الأزهر نهضة مباركة، لو ظلت على حالها ولم تناهضه الأحداث لكان لها في تاريخ الأزهر شأن يذكر، ولكنها كانت كلسان الشمعة أضاء حينا، ثم أنطفأ.[40] فعمل أنصار القديم برئاسة الشيخ عبد الرحمن الشربيني على إثارة الشغب بين طلاب الأزهر ضد الشيخ محمد عبده، وأشاعوا بينهم أن التطوير الحديث مخالف لأعراف الأزهر، وصوروا العلوم الحديثة التي أدخلها الشيخ محمد عبده في الأزهر في صورة الجناية على الدين،[41] وسمموا الجو حوله حتى اضطر الشيخ إلى الخروج من مجلس إدارة الأزهر. فانهارت النهضة العلمية في الأزهر بخروج الشيخ محمد عبده من مجلس إدارة الأزهر ووفاته سنة 1905م.

ثم عين الشيخ عبد الرحمن الشربيني من الحزب المناوئ القديم شيخا للجامع الأزهر بعد خروج الشيخ محمد عبده من مجلس إدارة الأزهر. فصرح شيخ الأزهر الجديد برأيه في إصلاح الأزهر قائلا: «إن غرض السلف من تأسيس الأزهر إقامة بيت الله، يعبد فيه ويؤخذ في شرعه، ويؤخذ الدين كما تركه لنا الأئمة الأربعة لهم، وأما خدمة الدين التي قام بها الأزهر وﻻ يزال يؤديها، فهي حفظ الدين ﻻ غير. وماسوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به وﻻ ينبغي له."

ولكن خطوة الشيخ محمد عبده الإصلاحية قد فتحت للأزهر أبواب الإصلاح "[42] وغلبت روحه الإصلاحية على الجامدين فتقلد بعد الشيخ عبد الرحمن الشربيني تلاميذ الشيخ محمد عبده وأتباعه على منصب مشيخة الجامع الأزهر الذين أدخلوا الإصلاح حسب ما يريد الشيخ محمد عبده. فشاهد الأزهر في القرن العشرين عدة قوانين للإصلاح والتجديد حتى أنه تحول الآن إلى جامعة إسلامية عصرية، مع الحفاظ بصفته الجامع الإسلامي، ﻻ تقل أهميته عن الجامعات العصرية في العالم. فأضيف إليه عدد من الكليات للعلوم العقلية بجانب كليات العلوم النقلية. وقد ترك الباب مفتوحا لإنشاء كليات أخرى ومعاهد عالية طبقا لحاجة التطور الزمني مسايرته.

خلاصة الدراسة

إن الأزهر الذي بُنِي كجامع لم يكن مقصورا على إقامة الشعائر والعبادة فقط. بل مازال ولا يزال جامعة للعلوم النقلية والعلوم العقلية منذ تأسيسه حتى الآن. فأضاء الأزهر -كجامعة - جميع بقاع العلم بمعرفته وعلمه. وفتح أبوابه لكل طالب علم. فأقبل عليه متعطش المعرفة من كل حدب وصوب ونهل من منهله العلمي الصافي وتلون بلونه العلمي وتعطر بعطره الفكري. فأنجب الأزهر منذ تأسيسه حتى الآن عددا كبيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين الذين لا يمكن أحصاؤهم والذين قاموا بإثراء اللغة العربية والأدب والثقافة الإسلامية إثراءً كبيرا، وخدموا الإسلام مع خدماتهم الإنسانية من خلال تقديم مساهماتهم العلمية القيمة، وأضاءوا جنبات الأرض علما ونورا. فله تاريخ مجيد يمثل الحياة العقلية الإسلامية التي تطورت مع تطوره وانحطت مع انحطاطه.

 

استاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة كشمير، سرينغر، الهند

 

 

[1] تقي الدين أحمد بن عبد القادر المقريزي، خطط المقريزي، دار الكتاب، لبنان، بيروت، ص157، ج3

[2]نفس الممصدر، ص157، ج3

[3] الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، الأزهر في ألف عام، ج3،ص39

[4][4] نفس المصدر، ج1 ص 36،

[5] أنظر: تقي الدين أحمد بن عبد القادر المقريزي، خطط المقريزي، دار الكتاب، لبنان، بيروت، ص367، ج3

[6]ص 161، ج3 : تقي الدين أحمد بن عبد القادر المقريزي، خطط المقريزي، دار الكتاب، لبنان، بيروت،

[7] : تقي الدين أحمد بن عبد القادر المقريزي، خطط المقريزي، دار الكتاب، لبنان، بيروت،ص 161، ج 3

[8] نفس المصدر، ص 216، ج 2

[9] الأزهر الشريف في العيد الألفي: لمجموعة من الؤلفين العاملة تحت بجنة الإشراف،: الأستاذ محمد السعدي فرهود، والدتور عزالدين إسماعيل، والأستاذ سعد درويش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 78

[10] الأزهر الشريف في العيد الألفي: لمجموعة من الؤلفين العاملة تحت لجنة الإشراف،: الأستاذ محمد السعدي فرهود، والدتور عزالدين إسماعيل، والأستاذ سعد درويش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 78

[11] المقريزي، ولجنة الأزهر، ص 82

[12] الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، الأزهر في ألف عام ج 2، ص 172،

[13] الأزهر الشريف في العيد الألفي: لمجموعة من الؤلفين العاملة تحت لجنة الإشراف،: الأستاذ محمد السعدي فرهود، والدتور عزالدين إسماعيل، والأستاذ سعد درويش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 184

[14] نفس المصدر ، 83

[15] نفس المصدر ص 83

[17] لدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، الأزهر في ألف عام ج 2، ص ص57-58

[18] أنظرللتفصيل: مقدمة ابن خلدون،ص

[20] محمد عزت عبد الكريم ، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، مكتبة النهضة المصرية، 1938م، ملخص من ص 556 إلى ص 561

[21] الدكتور محمد منعم خفاجي، الأزهر في ألف عام"مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ج 2، ص 422

[22] محمد عزت عبد الكريم ، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، مكتبة النهضة المصرية، 1938م، ملخص من ص: 573

[23] محمد عزت عبد الكريم ، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، مكتبة النهضة المصرية، 1938م،ص 594

[24] فوزي صالح، شيوخ الأزهر، الشركة العربية للنشر والتوزيع، ج2، ص27

[25] محمد عزت عبد الكريم ، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، مكتبة النهضة المصرية، 1938م، ص 589

[26] الخطط التوفيقية،

[27] ص 476

[28] مجموعة من الؤلفين تحت لجنة الإشراف: الدكتور محمد السعدي فرهود، والدكتور عزالدين إسماعيل، والأستاذ سعد درويش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، ص89

[29] نفس المصدر، ص 476

[30] [30] محمد عزت عبد الكريم ، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، مكتبة النهضة المصرية، 1938م، مخص من ص 329 إلى ص 337

[31]أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ملخص من 83.

[32] العروة الوثقى ص 9 - 107

[33] عبد الحليم الجندي،"الإمام محمد عبده" ص42

[34] نفس المصدر، ج3، ص 191

[35] محمد أمين، زعماء الإصلاح، ص 316

[36] نفس المصدر، 316

[37] ص 93 الأزهر الشريف في العيد الألفي

[38] أحمد أمين، زعماء الإصلاح، ص 317

[39] الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، الأزهر في ألف عام، ج2، ص93

[40] نفس المصدرص 17 ، 6 2 ، خفاجي

[41] الأزهر الشريف في العيد الألفي: لمجموعة من الؤلفين العاملة تحت لجنة الإشراف،: الأستاذ محمد السعدي فرهود، والدتور عزالدين إسماعيل، والأستاذ سعد درويش، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 96

[42] الأزهر الشريف في العيد الألفي: لمجموعة من الؤلفين العاملة تحت لجنة الإشراف،: الأستاذ محمد السعدي فرهود، والدتور عزالدين إسماعيل، والأستاذ سعد درويش، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 96 ،