الموت يغيّب نحات الاختفاء والقلق كريستيان بولتانسكي

 

وفاة الفنان الفرنسي كريستيان بولتانسكي عن عمر ناهز الـ76 عاما بعد صراع مع المرض.

وفي كريستيان بولتانسكي أحد أبرز الفنانين الفرنسيين المعاصرين عن 76 عاما الأربعاء، وقد أعلن عن خبر رحيله برنار بليستين المدير السابق لمتحف الفن الحديث في مركز بومبيدو في باريس الذي أقام له معرضا عام 2020.

وقال بليستين “توفي بولتانسكي الأربعاء في مستشفى كوشين في باريس، حيث مكث لبضعة أيام”، إذ “كان مريضا”، مؤكّدا بذلك معلومات أوردتها صحيفة “لوموند” الفرنسية. وأضاف “كان رجلا متواضعا، وأخفى أمر مرضه قدر استطاعته”. وطبعت محرقة اليهود هذا الفنان التشكيلي والمصوّر المولود باسم كريستيان ليبرتي بولتانسكي في الـ6 من سبتمبر 1944 لطبيب يهودي من أصل أوكراني وأم كورسيكية كاثوليكية، فعمل طوال حياته على الغياب والاختفاء والقلق من الموت. وكانت شريكة حياته فنانة تشكيلية شهيرة أيضا هي أنيت ميساجيه.

وبولتانسكي نحات فرنسي ومصوّر ورسام ومنتج ومخرج أفلام، عرف بتركيباته للتصوير الفوتوغرافي وأسلوب المفاهيم الفرنسية المعاصرة.

 

الفنان الفرنسي كريستيان بولتانسكي سخّر حياته لإنجاز أعمال تجهيزية تحارب النسيان

وعاش الفنان الفرنسي من أصل روسي طفولته في باريس أثناء الأربعينات، حينها كان والده اليهودي مُطاردا بهدف ترحيله إلى معسكرات التركيز، ولينجو بحياته، اختبأ تحت بلاط المنزل في ممر سريّ لعام ونصف، ليعيش بولتانسكي حياتين إثر ذلك، الأولى تدّعي الطبيعيّة، والأخرى مليئة بالخوف والرقابة الدائمة، خصوصا أن والده حبيس “الأسفل”، كان يستمع لما يحدث في الأعلى، لكن الخوف منع الجميع من الحديث بالأمر حتى نهاية الحرب، ما ترك أثرا على تجربة بولتانسكي الفنية التي يحاول عبرها البحث عن المُختفي والمنسي.

وفي السبعينات قام بولتانسكي باستعادة أرشيف أسرته وحصل على مئة وخمسين صورة قام بترتيبها زمنيا على جدار، محاولا تدوين ما تبقى من ذاكرته بصريّا، وذلك عبر رسم تخيّلي لجيل ماض لم يبق منه سوى صور مشوّشة بالأبيض والأسود.

وليبعث في هذه الصور الحياة اشتغل الراحل في ثمانينات القرن الماضي على توظيف تقنيات التجهيز مستخدما مسرح الظل لخلق التناقض بين النور/الظهور والظلام/الاختفاء، وأنجز حينها عملا ساحرا تظهر ضمنه أشباح طفولته، وأطياف أسرته التي طاردته في مساحات منسيّة في ذاكرته.

واستخدم الفنان الفرنسي لإنجاز هذا التجهيز مواد مهملة على وشك الاختفاء، كالأسلاك الحديدية المهترئة، وقطع النحاس المرميّة في القمامة، مجسّدا بناء هشا وحكايات ضبابيّة أشبه بالذاكرة وكيفية تكوينها، فبدا وكأنه طفل يحاول عبر ما علق في ذهنه من صور هشة إعادة تكوين العالم من حوله، هذا العالم الذي لا يحوي إلاّ ما هو منسيّ ومخرّب، ولا يكفي لرسم صورة ناصعة وواضحة، بل أشكال ضبابيّة تسائل حدود الذاكرة والمخيّلة.

وفي مجمل أعماله النحتية أو تركيباته الفوتوغرافية كان بولتانسكي متجاوزا لذاكرته الشخصية نحو ذاكرة الآخرين، طارحا أسئلة على حكايات العالم وما تبقّى منها، لتبدو أعماله ساخرة، أشبه بأسلحة خشبيّة بمواجهة ترسانة الموت، في ذات الوقت تحوي صيغة طقوسيّة تهزأ من التلاشي.

وهو ما يظهر مثلا في عمله “أرشيف الموتى السويسريين” الذي أنجزه عام 1991، والذي أظهر فيه أن النسيان نتاج خيار سياسي، فسويسرا التي اختارت الحياد ساهمت بالحفاظ على حياة مواطنيها في الحروب، مع ذلك هناك موتى في المصانع لا تحيط بهم هالة كضحايا الحروب، وهو ما كشفه عمله التجهيزي الذي يبدو وكأنه احتفال بهؤلاء الأشخاص الذين أخذ صورهم من مجلة الموتى في سويسرا، ثم ألصق كل صورة على صندوق خشبي عتيق، في انتقاد لبيروقراطية الموت، وتحوّل ضحاياه إلى صور في صحيفة، ليأتي التكرار والتشابه في العمل أشبه بمحاولة لصدم المشاهد، الذي يرى أناسا رحلوا دون أن يعرف عنهم شيئا، صورهم مرتبة ومرصوفة دون أيّ أثر يدلّ على ما اختبروه في حياتهم.

والأمر ذاته يتكرّر في عمل تجهيزي آخر جمع فيه صورا لأطفال يهود يرتدون ثياب العيد عام 1939، خالقا أثرا عاطفيا لدى المتلقي، خصوصا أنه يحيل عبر هذه الصور إلى ضحايا الهولوكوست، ليرتبك المشاهد أمام ما يراه هل هذه صور موتى أم أحياء، فضبابية الأوجه تجعلهم أقرب لأطياف تشبه من فقدوهم أو عرفوهم ولم يبق من صورهم سوى ظلال.

وأنجز الراحل مع بداية الألفية الثالثة العديد من الأعمال التجهيزية، كـ”رحيل” الذي يعود لعام 2015، ويستعير فيه من “فن النيون” والإعلانات، خالقا التناقض بين كلمة “رحيل” وبين الشكل المبهرج الذي كتبت فيه، كما أن الأسلاك المتشابكة والمرئيّة التي تبعث في الكلمة “الضوء” تُحيل إلى الاختلاف بين الشعري والميكانيكيّ، والمفهوم المتعالي المتمثل في الرحيل، والتقنيات المعاصرة التي تجعل منه قابلا للتنفيذ بلمسة واحدة، ما يخلق تناقضا وارتباكا في عقل المتلقي.

وهذا ما سعى له بولتانكسي في أعماله الأخرى، بل وطوال مسار حياته الفني، حيث شوّش علاقة المتلقي العاطفية مع الموت والرحيل والاختفاء، فبدت أعماله احتفالية وساخرة في ذات الوقت.

ولم يكتف بولتانسكي في تجاربه الأخيرة بمساحات المعارض بل لجأ أيضا إلى ما يصطلح على تسميته بـ”أرض الفن”، إذ اشتغل على فنون الفيديو مقدّما عملا تجهيزيا أنجزه في باتاغونيا في قرية بوستامنتي عام 2017 بالتعاون مع عدد من المهندسين الصوتيين لبناء ثلاثة تكوينات ضخمة، تعبرها الريح لتعزف ما يشبه غناء الحيتان التي تجتمع مرة واحدة في السنة في مكان محدّد.

ومن هناك بدا العمل الضخم أشبه بمحاولة لبعث الحياة في تلك المساحة المنسيّة عبر أغنية تعزفها الريح، أغنية شعريّة عن نحيب الذاكرة، تدفع المستمع إلى تخيّل رحلة الحيتان الوحيدة التي تحرّكها عبر المحيطات لحظة لقاء لأجل أغنية.