بعد أن زالت غُمة المجموعة التي أطلقت على نفسها "الإخوان" ، كان المُتصور أنها قد غابت بفكرها المتطرف، إلا انه تبين أن الأشخاص هم الذين زالوا، بينما أفكارهم لازالت باقية ترعى بين جموع الناس، بمسمى جديد، تحت شعار "السلفية". حيث لازال دعاتها بلحاهم الطويلة، وجلابيبهم القصيرة ، تدعو الناس إلى هجر الحياة ومخاصمتها، والعيش فى الحياة، انتظارا للموت. متمسكين بالحروف، هاجرين تغير الأزمان والظروف. ليقفوا فى مواجهة كل دعوة للجمال الكامن فى كل إبداع، والساكن فى كل جوهر. الأمر الذى أثار النفوس الطامحة إلى الحياة السوية، بعد أن غابت عنهم يد الرقيب والحسيب. فأتى الإبداع الذى هو ضمير وصوت الأمة، ليكشف ، ويدعو وينير، بصيغته الإبداعية، الخالية من المباشرة أو الصراخ، هامسة وموحية، بالدعوة للحياة والاستمتاع ، بجوهرها، حتى آخر الأنفسا، مستنبطة من الدين ذاته، حجتهم، وضلال الآخرين، تطبيقا لقول الرسول الكريم ) إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا (. وهو ما جعله محمد إبراهيم طه جوهر أحدث إبداعاته "شيطان الخضر، الذى يُنطق شيطانها " يوسف المنعكش" كنصيحة لصديقه " خضر الصُّغير أبو طالب" {ونصيحة من أخيك يوسف، اعزف معها لحنا من مقام صبا وأنت تعبر، حتى وإن لم يكن القانون معك، اعزف بروحك، بقلبك، بوجدانك، وكن على يقين أن شكة الدبوس إن وجدت لن تؤثر في جلال اللحظة وروعتها}. فالجمال، والروح، والفطرة، هى المحرك لأحد طرفى المقابلة بين ضفتى (المزلقان)، الذى يبنى حوله معماره الروائى، ومستخدما التورية التى يحملها كلمة "القانون" والذى وإن كان يقصد به الآلة الموسيقية، إلا أنها ليست ببعيدة عن المعنى العمومية للكلمة، وكلتاهما فى موضعها.
فيستطيع المتابع لإنتاج محمد إبراهيم طه الإبداعى، أن يلحظ نظرته التأملية، النافذة إلى الجوهر، معبرا عنها بأقل الكلمات، حيث تميزت أعماله بالتركيز، غير المخل، ونافذا إلى جوهر الإنسان، الرافض للواقع المعيش، غير أن شخصيته الهادئة، والذى لا تغادر ثغره البسمة الهادئة، لا يتصور أن بداخله ذلك الرفض، حيث لجأ إلى عمليات "الهروب الاحتجاجى"، والذى نراه أصبح سمة مميزة لإبداعاته، ليتهادى الرفض عنده إلى شكل من السكينة، التى تبدو كسطح المحيط المُخبئ لما تحته من فوران. وقد بدأ ذلك منذ أن كان الهروب من الحاضر فى قصصه القصيرة، إلى مرحلة الطفولة، وكأنه يسعى للعودة إلى رحم الأم، الموحى بالأمان. كما كان الهروب فى رواياته إلى الصحراء، بما فيها من اتساع وخشونة، بينما كان الغالبية من الروائيين ينحتون بأقلامهم فى صخر الحاضر وتجهمه، فبدا ذلك فى روايتيه "دموع الإبل" – والتى سعت لتبليل جفاف الصحراء بالغناء وخطوات الإبل-. وتَعَمَقَ برفض الواقع المعيش فى " باب الدنيا" التى بلغ فيها ذروة تألقه الإبداعى. وها هو يواصل عملية الرفض، والهروب فى أحدث إبداعاته الروائية "شيطان الخضر"[1]، محلقا فى سماوات الخيال الذى يتصور معه القارئ، أنه بعيد عن عملية الرفض تلك، بينما أقدامه ثابتة على الأرض ، تستخرج منها عناصر وجوده، وإن تماهت مع العادى، والمألوف فى حياة البشر. حتى وإن كان الرفض لطائفة من المجتمع، إلا أنها تلقى بالائمة على من بيدهم "القانون".
لم يهجر محمد إبراهيم طه كتابة القصة القصيرة، وتفرغ للرواية، مثلما فعل الكثيرون من كتاب الرواية، وإنما ظل يمارس الإبداع فى الاتجاهين معا، لا من حيث الشكل فقط، وإنما من حيث حضور روح القصة القصيرة، فى الإبداع الروائى. فكما رأينا فى "باب الدنيا" حيث انطلقت الرواية من النقطة المركزية، والحدث الرئيس، والوحيد الذي قامت عليه الرواية، ثم عاد السرد إليها فى النهاية، ما قلص زمن الفعل فيها، لما يتناسب وروح القصة القصيرة. نجده فى "شيطان الخضر" أيضا يستحضر روح القصة القصيرة، وإن لم يكن هنا من حيث الشكل، وإنما من زاوية الرؤية، والرؤيا. فتتركز الرواية، وتستعرض وقوف الإنسان عند، لا باب الدنيا، وإنما عند باب الآخرة، حيث يقف السارد "الخِضْر" عند باب الآخرة ( مزلقان القطار الذى قصف عمر الكثيرين، رغم التحذير) . حيث يقف الكاتب على جوهر الحياة لدى الإنسان (المسلم) عامة، حيث دارت فلسفته، وفلسفة الحياة عنده، بان الدنيا ليست إلا معبر وممر نحو الآخرة. فانصبت دعوات الممتهنين للعمل الإسلامى، على الاستعداد للموت، وما سينالهم بعد الموت. متغافلين عما بالإسلام، ودستوره الرئيسى (القرآن) من ارتباط بالحياة، وما بها من جمال ومتعة، مدعين أن كل ما يمس الحياة، أو الدعوة إلى الاستمتاع بالجمال، إن هو إلا عمل ووسوسة الشيطان. حيث تبدأ الرواية ، حين مارس "الخضر" وقرينه "المنعكش" فى ممارسة عملية التحضير لصلاة الفجر بجامع البحر، وما ينطوى على رفض المظهر، والدخول إلى الجوهر، وما أكده الكاتب منذ البداية فى ما يشبه الإهداء فى صدر الرواية {إلى الجوهر، والحقيقة، والأصل). حيث يسأل "الخضر" "المنعكش"- الذى لايسير بغير المسجل، الذى يعيش فيه مع صوت نجاة الصغيرة بملائكيته - عما يريد سماعه من آيات الله فى قراءة ما قبل صلاة الفجر{أعرف أنه يميل إلى السور التى تدور حول قصص، أكثر مما يميل إلى آيات الأحكام، معتبرا الحياة قصة، والناس قصص متحركة على الأرض تركض نحو مصائرها، [لقد كان فى قصصهم عِبرة] ويستبقنى حين أتلو فى الآيات التى يربطها سياق قصصى ، مثل سورة يوسف والكهف وهود}. أبدع فيها الخضر صاحب الصوت الملائكى، وتجلى فى القراءة بين القرار والجواب ، وقرار القرار، وجواب الجواب. وقد اختار الكاتب لحظات السَحَرْ، التى تصفو فيها النفس، وتتواصل مع السماء ، فراح يُنشد إلاااااهى ما أعظمك فى قدرتك وعلاااااك.. إلهااااهى ما أرحمك فى غضبك ورضاااك" فتجاوب معه الخضر وراح ينغم بصوته معه. وفتح ماكينة الصوت ليخرج إلى خارج الجامع وتوافد المصلون من كل فج، وتمايل الأخرس بعينين دامعتين. وكأن النداء (حرك الحجر) كما يقال، غير أن ذلك لم يأت على هوى المشتغلين بالدين. فيصدر الأمر بمنع كل من "الخضر" والمنعكش" أو "يوسف" من البيات بالجامع، وعدم دخولهما مرة أخرى، حيث يأتى الأخرس ليبلغ الخضر بالقرار {فصنع لحية وهمية ودار حول رأسه، قلت: "خالى الحسينى؟" فأومأ براسه. قلت: ثم من؟ فنزل باللحية حتى صدره، وفتح فمه إلى آخره كأنه يتكلم بصوت جهورى، سألته إن كان يقصد سفيان العربى، فأشاح بيديه ممتعضا ثم رفعهما لأعلى مشيرا: ربنا يلطف. وأمرتى بغلق الباب جيدا من الداخل وهو يجذبه للخارج}. ويحمل "الخضر" مسؤلية ما حدث للمنعكش {حملته مسؤلية ما حدث، فقال " وما فعلته عن أمرى" وأشار بسبابته لأعلى قائلا ، إنه فقط طلب منه آية ، فاستجاب له، وجاء الهاتف يأمره بفتح الراديو ومكنة الصوت، وأشار إلى أن الصوت كان فى أذنه بالغ الوضوح " يا يوسف افعل ما تؤمر"}. وكأن دعوة الحياة هى دعوة السماء. وكانت بداية المواجهة.
على أن عشق "الخضر" للألحان . وسعادته فى امتلاك الألة الموسيقية، وسعيه لدخول مجال العلم، واقتران الكثير من الآيات القرآنية بنغمات الموسيقى، يدخلنا فى عالم الصوفية، وإعتمادهم كثيرا على النغمة ، وإيمانهم بعدم وجود الفوارق بين الجمالى والدينى، حيث يحث كلاهما إلى السمو والرُقي في مخاطبة الجمال بصيغة عشقية يكون فيها المعشوق متفرداً بذات الله، الذى اقترن فى ذهن المشتغلين بالدين بالجنة والنار، وبالثواب والعقاب، بينما دعوتهم، ترى فى الموسيقى ما يسمو بالروح، ويصل بها إلى عملية التجسيد ، الذى يخلق الحضور، والتعايش مع الله. وهو ما شعر به" الخضر، وعاشه، فى تجربته الروحية حين يتبين أن "فج النور ليس فج النور ولكنه {إنما هو سيدى وتاج راسى يحدثنى وجها لوجه....} فسأله {لا أعرف لماذا أضل الطريق؟ فقال : تسأل عنى من يُنكرنى" ، قلت " يحيطون بى من كل جانب" فقال: وقلبك راح فين؟" قلت يراك دائما.. لكن رؤية كأنه رؤيا، وتحسست كتفه وذراعيه وقلت: أريد أن أراك حقيقة كما رأيتك أول مرة، وكما أراك الآن، فقال بوهن: وهل تفرق؟ ثم رفع سبابته لأعلى "هو الأول والآخر، والظاهر والباطن" فتحسست ُ كفيه الضعيفتين بسعادة ورفعتهما إلى فمى وقبلتهما وقلت: شتان! فقال ولا شتان ولاحاجة.. ترانى بعينيك حين أطلبك، وترانى بقلبك حين تطلبنى، ونصحنى ألا إهمل الإشارات ولو فى طائر يرف بجناحيه أو زهرة تتمايل فى الهواء}.
وتتواصل وتتعدد الرؤى الصوفية الكاشفة. فبعد رؤية "فج النور" فى أكثر من مكان. حتى كان جالسا فى نهاية سرادق ، فذهب إليه ليسأله إن كان له حاجة {بادرنى بهز رأسه وضم كفيه إلى صدره بامتنان مشيرا إلى الخارج، ولما نظرت حيث أشار، رأيت ابنه إسماعيل ينتظر خارج السرادق ممسكا بركوبة بيضاء، لكننى عندما خرجت من السرادق إلى الطريق، لم أجد لها أثرا}. ويلتقيه فى موضع آخر، وفى صورة أخرى، ليتساء مندهشا معقولة؟! ألم تكن حين التقينا قارئا للقرآن؟!"، قال:" وما الفرق ؟" قلت: " شتان" فقال: " لا شتان ولا حاجة.. اقعد" وأشار إلى مصطبة صغيرة، فجلست ، ثم قال: " الأسس واحدة؛ موسيقا وقوالب ومقامات.. فسألته إن كان ما سمعت هو سورة " الرحمن" كاملة؟ فأومأ برأسه ، قلت: لكنها موسيقا، فأومأ برأسه مرة أخرى وقال:الظاهر موسيقا والجوهر تجويد، والعبرة بالجوهر.. قال ألا ترى أن الأسس واحدة موسيقى ومقامات؟ هززت رأسى فقال: كيف تَحِل هنا وتُحرم هناك؟ صرخت من الدهشة. فقال .{"ليس منا من لم يتغن بالقرآن"}.
عانى "الخِضر" ما يمكن أن يقال عنه حالات صرع. أو حالات غياب عن الوعى.فسرها رفيقه" المنعكش"، على الطريقة الصوفية بأنها عمليات "شحن" { سألت المنعكش: لِمَ أسقط؟ فقال "ليست سقطة، ومن يقول ذلك لا يفهم، هى رحلة خاطفة لعالم الغيب، وكل ما هنالك أنك تعود منهكا لدرجة التوهان. قلت: ولم الذهاب إلى عالم الغيب إذا كنت أمضيت به عشريتى الأولى؟ فقال: لازم تشحن!}.
غير أن الفكر الصوفى، وتماهيه فى الذات الإلهية، يُغضب العائشين فى النصوص والحروف، فكان العداء والرفض.
ولا شك أن تلك الرؤية الصوفية، والعيش فى عالم الخيال والتجسيد، للامرئى. وتلك المعارضات التى وجدها "الخضر، لهى نوع من الرفض للمادى، والواقعى، إلى عالم أكثر سلاما، وجمالا ومحبة. خاصة أن "الخضر" عانى منذ مولده ، من حالات الغياب، أو الغيبوبة ، التى أقر الأطباء والمشعوذ "عبد العظيم أبو عطا" أنها حالة تستمر معه طول العمر. فقد تكررت مرات الغياب عن الوعى، تلك النوبة الكبرى التى يغيب فيها، ولا يدرى من أمره شئ، وهم فقط يحاولون أن يخففوا من آثارها{ الحالة صعبة ، والعلاج مدى الحياة، لايمنع النوبات، بل ليجعلها تأتـى. إن أتت. متباعدة ومخففة لا تستغرق دقائق، وهى بلا خطورة تقريبا، إلا من كدمة أو جرح أو سنة تنكسر}. وحيث أكد أطباء النفس وجود ما يسمى ب"الاضطراب التحويلى" أو الغيبوبة التحويلية"، إذ يتحول فيه القلق والصراع النفسي بعد كبته إلى عرض عضوي ويكون ذلك بطريقة لاشعورية. ولايستطيع المريض ان يربط بين أعراضة وظروفه، فالمريض هنا يواجه اعراضه الجسدية بدلاً من الاعراض النفسية وهي بالنسبة له أعراضاً حقيقية. حيث يصبح المريض فى هذه الحالة، مثل الطالب الذى يهرب (نفسيا) إلى النوم العميق حين الخوف من الامتحان مثلا. فنحن إذن أمام حالة مرضية لنفسية مأزومة، تلجأ إلى الغيبوبة، حين تفشل فى فهم الواقع، أو عدم التواؤم معه. وقد حدثت تلك الغيبوبة فى موقفين، كانا أكبر من فهم وإدراك هذا الطفل، فى الحالة الأولى، عندما كان الولد الصغير، فى الحالة الثانية، عندما كبر قليلا.
فبدأت أولى الحالات، كما أخبره صديقه "المنعكش" والذى يكبره بعشرين عاما- وبالرغم من ذلك صارا صديقين، بل قرينين- بأنه عند موت أمه (والدة الخضر) أرسلته إلى سطوح البيت، حتى لا يرى موتها، وليقاب أباه المتوفى، وحين علم بموتها، كانت الغيبوبة الأولى، والتى كانت أول تحول فى مسيرته الحياتية، حيث خرج منها حافظا للقرآن { خرجت من النوبة الكبرى الأولى حافظا للقرآن الكريم بتلاوة حفص عن عاصم وها أنا أنجو من النوبة الكبرى , رأسي صفحة بيضاء لا أعرف ما سيدون بها، فشكرت الله في منحه ومنعه }.
وتأتى السقطة (الكبرى) الثانية، والتى تضعنا فى سؤال (سياسى) كبير، متمثلا فى تلك الدعوة (البوليسية) الغامضة، للقراءة فى عزاء، مُبهم.
فبينما يجلس الشاب الصغير ، مهلهل الثياب ، إذ بيد غليظة تُوضع على كتفه، ويسأله صاحب اليد الغليظة عن اسمه وتحقيق الشخصية، وهل له من سوابق؟ وعن سر هذه الهدوم المحروقة والاصابات فى وجهه، وبعد الكثير من الأسئلة والتحرى، يقوده مع آخرين لسيارة يتبادلون الأسئلة والتحرى، يقودونه ، دون أن يخبروه عما هو مقدم عليه، ودون أن يعرف المكان الذى يقودونه إليه، ثم يقرأ دون أن يعرف طبيعة المكان أو الشخصيات التى يقرأ لها:
{هي المرة الأولى التي أقرأ فيها في مأتم نسائي، ولا أذكر متى أنزلني الرجل الرابع من السيارة ولا من أين دخلت إلى هذا المكان، إ ذ لم يكن سرادقا بالمعنى المتعارف عليه، لكنني دخلت من باب جانبي، ثم رأيتني في بهو واسع ، أكبر من ساحة جامع البحر، لكن بمقاعد مذهبة وعشرات من النسوة جالسات في صمت إلا من شهقات حارقة، لم يكن بالبهو رجال سوى الذين يمرون بالقهوة والماء، وأنا أتلو من كابينة صغيرة}. ورغم القراءة، والتى لا يعلم هو عن المناسبة شيئا، سأل صاحب اليد الغليظة عن المناسبة {سألته عن طبيعة المناسبة، قال: مأتم، فابتعدت يدي تلقائيا عن القانون ، وسألته إن كان الميت ذكر أم أنثى، فقال : ذكر، كهلا أم شابا لأنتقي من الآيات ما يناسبه، فقال: طفل في السادسة، حفيد لعظيم، فدمعت عيناي وفهمت أن قرة عين العظيم لم يدخل الدنيا بعد، فتلوت سورة "الإنسان"، وكنت أينما وليت وجهي لا أرى سوى سيدا ت حاسرات الشعر في بدل سوداء على ملامحهن تأثر محسوب، كن متماسكات يؤدين الواجب كأنها ذكرى الأربعين أو السنوية انقلب إلى حزن موجع حين عَرضتْ الشاشات صورة لطفل صغير بوجه مضيء يركض كأنما في الجنة، فشعرت بالحزن}.
{وتوجهن إلى صدر البهو وتبادلن قبلات مواسية مع سيدة طاعنة في السن بوجه أبيض وشعر مائل للصفرة إلى جوارها شابة حزينة أدركت أنهما جدة الطفل الذي كان يرتع ببراءة على الشاشة منذ قليل وأمه}
{فشعرت بالفجيعة، وأن الموت الذي كان بالأمس لا يؤلم الأغنياء كما يوجع الفقراء ، وأن ثلاثة فواصل من التلاوة لم تكف لتحريك الدموع من محاجرها، وتليين القلوب الصلبة}.
فرأى أن تلاوة بكائية الشيخ حسن الجوخ، ما يتناسب مع الموقف، وما يكشف (لنا)عن الطبقة التى يقرأ لها :
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسانُ
هي الأيام كما شاهدتها دول ،
من سره زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذي الدار لا تُبقي على أحدٍ
ولا يدوم على حالٍ لها شانُ
فجائعُ الدهر أنواعٌ منوعةٌ
وللزمان مسرات وأحزان}
وما أن ينتهى الخضر من تلاواته، وابتهالاته، حتى تأتيه الغيبوبة الكبرى الثانية، والتى تُحدث التحول الكبير فى حياته. فلا يشعر بشئ إلا حين وجد نفسه – كما أوضحت له الممرضة "صبا"– فى المركز الطبى العالمى، الذى قضى فيه أياما، بأمر جدة الطفل المتوفى، ثم تتصل، لتسأله عما يريد، فلا يطلب إلا "الياماها" (الموتسيكل) لكنها تأمر له بشقة مجهزة، والياماها، أيضا، ثم تأتيه، الممرضة "صبا" إلى أن يتم الزواج بينهما.
فإذا ما تجاوزنا عن الدلالة السطحية التى قد يوحى بها الموقف، الذى يوحى بأن هذه السيدة (الجدة) هى السيدة سوزان مبارك، إشارة إلى وفاة حفيدها، وما أحدثه من حراك إعلامى حينها. فمن المستبعد بالطبع أن يرمى الكاتب إلى تلك الرؤية العادية والتى أشار إليها الخضر بعد التلاوة { وأن الموت الذي كان بالأمس لا يؤلم الأغنياء كما يوجع الفقراء}. فالكاتب أولا، وطبيعة الشخصية الساردة، لا ترمى إلى العظة التقليدية، الأمر الذى يقودنا إلى تأمل ذلك الحوار القصير بين "الخضر" والمنعكش" حين يأتيه "المنعكش" فى صورة طفل ببرونة، ثم يعود لشكله الحقيقى:
{سألته متعجبا: "علام تشجعني يا يوسف؟" فقال: على العبور واقتناص اللحظة. عبور ماذا؟ فقال: المزلقان!"}. فإذا كان (المزلقان) يعنى فى عموم الرؤية، العبور من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، إلا أنه هنا يعنى العبور من الفقر والحاجة، إلى الحياة بنعيمها والتمتع بلذاتها. ف"الخضر" الذى ماتت أمه وهو صغير، وسبقها أبوه، فعاش فى كنف خاله، الذى غضب عليه يوم اصطحب الألة الموسيقية "نزهة النفوس" – التى هى آلة الشيطان - ، وطرده ليعيش وحيدا فى بيت أمه، حيث يتحاور مع خاله { قلت إن نزهة النفوس" ليست شيطانا، وإنني أؤدي الصلاة في وقتها في جامع البحر، فقال: لكنها صوت الشيطان وليس من الجيد لمن يخدم القرآن أن يمكث طويلا في بيت الشيطان} يعانى الفقر والزهد فى الحياة، فأغدقت عليه السيدة (الأولى)، سُبل العيش والزواج، ليشعر بطعم الدنيا، قبل أن يغادر. فإذا كانت الرؤية العامة لتلك الأسرة (الحاكمة) هى الفساد، إلا أن رؤية الكاتب هنا، توحى بما تتمتع به من قدرة على المنح والمنع. وكانت رمزا لرغد العيش، والانعزالية عن باقى البشر. ، ولولا خشية أن يثور الشيخ فتح الباب والشيخ حسن الجوخ، والشيخ أبو بربور والشيخ سفيان العربى، والخال الشيخ الحسينى، وكل شيوخ الرواية، لقلت أنها (واهبة الحياة) لتقف –دون أن تدرك أنها تقف - فى صف الحياة، فى مقابلة صف التزمت والموت. وهر الرؤيا التى أراها تجاه الكاتب الذى حرص، مع استخدام الكثير من أسماء الأنبياء- مكتفيا بحمولتهم الدلالية- دون أن يصنع تشابها لهم – جسديا أو عمليا- حتى لا يقع تحت سطوة الشيوخ، الرائين بحرمانية تجسيد الأنبياء.
التقنية الروائية
ثمة تناقض، أو تقابل، نستطيع تلمسه فى العنوان، بين الخضر، بما استقر فى ذهن العامة، وما زرعه المشتغلون بالقرأن فى الأذهان، من تقواه الذى يصل حد النبوة، وعلمه (اللدنى) الذى به اتبعه موسى (النبى) كى يتعلم منه [ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمنى مما عُلمت رشدا][2]. وبين الشيطان، بما استقر عنه فى الأذهان من الكفر والمعصية [كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان][3]. فكانت صيغة العنوان تجمع بين الخضر، ويوسف أو "المنعكش"، فى صحبة وصداقة وتقارب فى الأفكار والرؤى. وقد تجلت تلك الرؤى، حين أراد "الخضر" أن يتعلم ، بالذهاب إلى المدرسة. فكانت المرة الأولى التى تتفق فيها رؤية "المنعكش" والمشتغلين بالدين. فعلى الرغم من إرتباط المنعكش الشديد بنجاة الصغيرة، وبكل الألحان والألوان الموسيقية، فى ردوده وتعليقاته. ففى حديث السارد مع الشيخ فتح الباب حين ذهب للعمل معه بصحبة المنعكش الذى سأله الشيخ {هيستحمل الشغل معايا" فقال المنعكش: " بكرة تعرف يا حبيبي". فاستطرد الشيخ "لا يصح العودة وأنت على ذمتي إلى فرقة "أهل الله" ولا تنسى أنك تعمل مع شيخ رفض القراءة للإذاعة، فذكره المنعكش بأن فتح الباب بنفسه ذات يوم كان ضمن فرقة شمس الدين، ووضع كفه على أذنه قائلا" وان كنت نااااااسي.. أفكرك!":}. إلا ان رأيه اتفق مع الجانب الآخر، وإن اختلفت الرؤيا فى كل منهما، وما يكشف عن الخلاف الجذرى بين الجانبين، فإذا كان أحدهما "المنعكش" يبحث عن الجوهر، فإن الطرف الآخر (الشيخ فتح الباب) يبحث عن المظهر. . حيث يرى "المنعكش" أن ذهاب "الخضر إلى المعهد، سيخضعه للعلم الدنيوى، بينما يرى الطرف الآخر، أنه من لايتناسب –شكليا- الذهاب للمدرسة، واصطحاب الشيخ له، فحين طلب الخضر من خاله أن يذهب إلى المدرسة فاستنكر، فطلب من المنعكش أن يتوسط له :
{وتوسلت إليه أن يقنعه بموضوع المدرسة، فتوقف عن السير وحدق في عينى باستنكار: " إنت عايز تروح مدرسة عشان تنسى اللي حفظته؟" تساءلت إن كانت المدارس تسحب العلم أم تمنحه؟، فتنهد قائلا: " علم المدارس معاك هيعمل قفلة، لأن علمك انت "لدنى"، قلت: " كيف؟" فباغتني بالسؤال :
انت رحت مدرسة قبل كده؟
لأ
ولا كتاب؟
ولا كتاب !
طيب قل لي حفظت القرآن ا زاي؟
لم أجد ردا}.
وإذا كانت المقابلة، بين الدين والدنيا هى جوهر العمل، فقد اعتمد على جناحين: التناص، أو المعايشة مع نصوص القرآن وأسماء الأنبياء، ثم على الفانتازيا، أو الخيال المبنى على أسس من الواقع، للتعبير عن غيبية الكثير من الرؤى.
فنراه فى موضع يورد ارتباط الموسيقى بالآذان، كما شرحه "سيدى وتاج راسى" الشيخ حسن الجوخ: { على "نزهة النفوس" عرفني أن الأذان ندا ء ، والنداء تنبيه وإيقا ظ من الغفلة والسهو،
ودعو ة إلى لقاء الجليل، و نبهني إلى فروق التوقيت، فأتى الصو ت قويا في الظهر، ورقيقا في العصر، وشفيفا في المغرب، وحزينا حد النشيج في العشاء كمن يودع حبيبا إلى مثواه الأخير، وأوصاني بالرقة وتوخى الحنان والهمس في نداء الفجر حين أوقظ الذين كتِّب عليهم النهوض من مضاجعهم}. فى تناص مع الآية 42 من سورة الزمر [ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى]. وكأن السرد تشرب القرآن والآذان، فوجد أنهما لا يختلفان عن روح الموسيقى.
وفى موضع آخر نقرأ {قبض قبضة من تراب ونثرها خلفى وقال: فأغشيناهم فهم لا يُبصرون"، ثم سألنى إن كنت الخضر ابن الصغير أبو طالب، فأومأت برأسى، قال والدتك مكة الجمَّال؟ قلت نعم ورفعت رأسى إليه والنهار يتشكل فى الأفق، فرأيته "فج النور"، غشيتنى السكينة وسألته عن ابنه اسماعيل، فقال: على رأس المياه فى الجهة الأخرى حتى لا تُغرق الجيران}. لتتناص مع الآية 96 من سورة طه [قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ]. و مع الآية رقم 9 من سورة يس [وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون]. وكذلك التناص مع الحديث القائل [ما اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيوتِ اللهِ تَعالى يَتلونَ كِتابَ اللهِ وَيَتَدارسونَه بَينَهم، إلَّا نَزَلتْ عليهمُ السَّكينةُ، وغَشِيَتهمُ الرَّحمةُ، وحَفَّتهمُ المَلائكةُ، وذكَرَهمُ اللهُ فيمَن عندَه]. كما كان السؤال {عن ابنه إسماعيل) كإشارة إلى أن السارد يتحدث إلى إبراهيم أبو الأنبياء، فضلا عن تسمية "الخضر" بيوسف كإشارة واضحة ليوسف "النبى" والذى يؤكده {وسيتداول أهلها لثلاثة آلاف عام أن الذي سقط في البئر كان صِّديقا يؤول الأحلام، ويرى لكن للخلف، ظلمه أحد عشر أخا من أبيه، وكان سجنه مفتوحا على خلاء يتيه فيه بلا مستقر او لكاسيت معلق في كتفه، وسيتداولون أنه ولد صائما ومات صائما، لم يتزوج ولم ينتبه إلى النسوة اللائي قطعن أيديهن}. وهو ما يوضح تماهى الثقافة الدينية فى السرد، كضرورة يستدعيها الموقف.
أما الجانب الفانتازى، الذى يستدعيه الحديث عن الخوارق الغيبية، فقد تجلى فى الكثير من تصرفات (أهل الخطوة) الذين يراهم السارد فى أكثر من موضع، وفى الكثير من تصرفاتهم، وبصفة خاصة فى رحلة الإسراء والمعراج، التى يصورها الكاتب بعد سهرة فى ليلة الإسراء والمعراج.. تحول التهجد إلى الغناء، حينما تعلق السامعون بحبل من نور، صعدوا به إلى السماء الدنيا، كنوع من الشفافية والسمو، بُعث فى نفوسهم، فصعدوا – دون أن يصعدوا – إلى السماوات، فإرتفع صوت الشيخ "سفيان" بالأذان فى غير ميعاد الأذان، ليعيدهم إلى الأرض من جديد راح يخطب : {ونقل أحكاما قاطعة تؤكد على أن بيوت الله للعبادة ولم تكن يوما لمثل هذا، وأن الغناء رقية الزنا، وشرك الشيطان، وخمرة العقول، يصد عن القرآن أكثر من غيره من الكلام الباطل، وما من أحد عنى بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن الهدى، علما وعملا، وقد اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على تحريم الغناء، فقال الحنفية إن الاستماع إليه فسق، والتلذذ به كفر، وسئل الإمام مالك عن الغناء فقال: إنما يفعله الفساق عندنا، وقال الشافعي: إذا جمع الرجل الناس لسماع جاريته، فهو سفيه مردود الشهادة وهو ديوث، فالغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وتواترت في حديثه أسماء كثيرة منها أبي هريرة، فاعترى الناس شعور بالخجل في عيونهم الصامتة، والإحساس المشين}. وليأت الصوت الصوفى ليستنكر فعل شيوخ السلفية {فرأيت سيدي وتاج راسى يسألني فيم القلق، بحت له بهواجسي، فقال: يحللون الموسيقا والمقامات في التجويد ويحرمونها في الغناء، وسألني: أيهما أسبق الموسيقا أم التجويد؟ قلت الموسيقى، فقال إذن لماذا يخبئون رءوسهم كالنعام؟}.
ويربط الكاتب بين الماضى والمستقبل، أو بين التراث الفارض ظله على الحاضر ثاتلا للمستقبل، الذى يرى يوسف أن "الخضر يمثله ف{حين سألته إن كان يكبر أم يصغر، نبهني إلى أننا منذ التقينا ونحن في العمر نسير في اتجاهين متضادين، يصغر هو بينما أكبر، قلت بمازح، لكنك تصغر جدا، فقال: وما الغرابة في ذلك؟ عندما تراني ممسكا بزازة في يدي، اعلم أنني أوشكت على العودة إلى الرحم}. ليتحول كل من "الخضر" و "المنعكش" إلى رمزين كاشفين، فإن كان "الخضر" - الذى له من اسمه المعروف فى تفاسير القرآن- نصيب، من العلم (اللدنى) أو الفطرى، أو الربانى، كما له من حلاوة الصوت، والقدرة الفذة على التنغيم والقراءة الموسيقية – للقرآن وللآذان- ، ليقف فى مواجهة "المنعكش" برؤية الآخرين له على أنه الشيطان. فإن كلاهما يسير فى اتجاه مخالف، فكلما كبرت واتسعت رؤية الخضر، الداعية للجمال، كلما ضاقت، وبدأت فى التلاشى، وصورة الشيطان، أو الدعوة للجمود والتمسك بالحروف، ومعانقة الدنيا.
فضلا عن أن الرؤية المستقبلية، أو رؤية الجمال فيما يراه "الخضر" هى ما يعيش ويبقى ظللت صامتا كأن على رأسي الطير، فمصمص شفتيه طالبا في رجاء ألا أهدر لحظة ستسمى بعدها بلدتي ب"مسجد الخضر"، وسيتداول أهلها لخمسة آلاف عام تالية قصتي التي انتهت ظهيرة الجمعة على المزلقان!، وقال إنه يغبطني لأنني على الأقل رأيت بعيني ما سيحدث}.
ثم تأتى النهاية المفتوحة، بعد أن تزوج كل من "الخضر" و "صبا" التى تحمل المعنى، قبل أن تكون علما على شخص بعينه، زواجا فطريا قائما على الطلب والقبول، ويعيشا حياة زوجية كاملة – دون أن ينزلق السرد إلى المادية، ودون أن يوثقاه (شرعيا) ، ليقفا فى النهاية معا أمام (المزلقان) ، دون أن يتخطياه، وكأنهما يجسدان الإنسان عامة، الذى يقف منذ ولادته أمام المزلقان، رغم تحديد الساعة الذى ذكره (مؤل الأحلام - المنعكش)(الجمعة- بعد صلاة الجمعة) التى سيعبر فيها المزلقان. وكعادته، فى كل أعماله، يصنع محمد إبراهيم طه، خلطة ، كانت هنا سحرية، تتحمل العديد من الرؤى، والكثير من التأويلات، وكأنها الحياة، بكل غموضها وسحرها وألغازها.