سلوك النصب والاحتيال على المال:
في ظل تفكك المنظومة القيمية لمجتمع من المجتمعات تظهر سلوكيات وشخصيات تمتاز بالفهلوة والضحك على ذقون الآخرين تسعى بكل وسيلة لجمع المال بطريقة اللطف المزيف، والخطف المستتر بمناكش حريرية، أو مطارق حديدية بوجه ملاك أو مظهر وحش، وخصوصا في عصر العولمة الرأسمالية وهيمنه قيمها وسيادة ثقافتها في العالم. حيث تعمل مؤسسات ضخمة وعقول كونية من اجل جمع المال من الشعوب والأفراد، من أبناء الوطن أو من خارجه، من الأشقاء أو الغرباء فذلك لايهم ما زال يدر مالاً!!!
وكما يذكر كارل ماركس:- «إن الرأسمال ينفر من الصخب والمنازعات، وهو بطبعه، هذا صحيح جدا، ورغم ذلك فليست هذه الحقيقة كلها. إن الرأسمال يكره فقدان الكسب كما يكره الكسب الضئيل، وكما تكره الطبيعة الفراغ، وليكن مضمونا 10%، عند إذ، يمكن استخدام الرأسمال في كل مكان. إما إذا كان 20% مضمونا، فانه يتحمس ويحمى، وإذا كان 50% كان جسورا جنوني التهور، وعند 100% يدوس بقدميه جميع الشرائع البشرية، وعند 200% لا يكون ثمة جريمة لا يجرؤ على ارتكابها، حتى لو تعرض للمشنقة. وهكذا يكون الفوضى والشقاق ملائمين للربح فانه يشجعهما كليهما.»(1)
وان ما يحصل في عراقنا اليوم خير نموذج ومثال على نهج وسلوكية الفرد حيث أحرز عراق اليوم درجات متقدمة في هذا المجال حيث النهب والسلب والاختلاس والفوضى والشقاق بكافة أنواعه الطائفية والعرقية نظرا للظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد في عهد الدكتاتورية والاحتلال، وحقيقة الدافع الحقيقي للرأسمال الأمريكي المسلح في احتلال العراق، ومقدار أرباحه التي تزيد على 200% واندفاعه في ارتكاب اشد الجرائم وحشية في التاريخ البشري، ورعايته لكل الفتن والقلاقل والاضطرابات لأنهما أكثر الأوضاع ملائمة للسلب والنهب بمستوى دولي عبر ماأسمياه بـ«الفوضى الخلاقة»!! لتخلق المال لأصحاب رؤوس الأموال والموت والعذاب للناس الأبرياء افردا وشعوبا. ومن أهم هذه الأساليب للحصول على المال على مستوى الأفراد وهو ما يهمنا هنا سلوك النصب والاحتيال والذي يعرفه د .أكرم زيدان:- «استخدام التضليلfalsification» من اجل الحصول على أموال الآخرين أو الامتلاك بالباطل لأشياء ذات قيمة مادية عن طريق الغش والخداع والمراوغة والنزيف واختلاق الأكاذيب والمعاذير وتبديل الواقع والمبالغة والتهويل، بجاذبية مصطنعة تشد أنظار وإسماع الآخرين، بما يضمن استثارة دوافعهم وانفعالاتهم وعواطفهم»(2). إن لهذه السلوكية أنواعاً وأشكالاً وأساليب مختلفة ينتجها المحتال ويسلكها تبعا لإمكانياته وقدراته الذاتية وخصائصه النفسية حيث يرى انه بارعُ ومتمكنُ في أساليب الاحتيال أكثر من غيره، وطبعا تتحكم في الأسلوب المحتال الظروف المحيطة به، ومنها طبيعة النظام القائم ومتانة أو هشاشة القيم الاجتماعية وسهولة أو صعوبة اختراقها وتجاوزها، وطبيعة الثقافة السائدة وطبيعة شخصية المنصوب عليه أو الضحية . والذي غالبا مايسعى برجله نحو النصاب أو المحتال وكما يقول د. أكرم زيدان «المحتالون على المال لا يطاردون ضحاياهم وإنما الضحايا الطامعون هم الذين يطاردونهم .. فالمصيدة لا تطارد الفأر».(3)
تميز النصاب بكونه يعرف كيف يتخفى وبأي وجه يظهر للضحية حسب ظروفها وحاجاتها وطلبها لما تريد، فهم الانقياء الأتقياء والوعاظ البلغاء، والحكماء وفاعلي الخير، والعارفين ببواطن الأمور وما تخفي الصدور، من أصحاب المعارف والحظوظ والتقدير و... و... وكل ما يمهد الطريق لتقع الفريسة في القفص باختيارها، ويروى إن حذيفة بن اليمان:- «إن قوما يجيئون يوم القيامة، ولهم من الحسنات الجبال، فيجعلها الله هباء منثورا، ثم يؤمر بهم إلى النار. فقيل خلهم لنا يا رسول الله قال: أنهم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون أهبة من الليل، ولكنهم كانوا إذا عرض عليهم الحرام وثبوا عليه».(4)
إن سلوك النصب والاحتيال يقسم إلى:- سلوك النصب والاحتيال المباشر. وسلوك النصب والاحتيال غير المباشر. الاختلاس. من النوعين السابقين إلى النصب والاحتيال على الأفراد أو المؤسسات، وإلى: النصب والاحتيال على المؤسسات يقسم إلى:
أ- النصب والاحتيال الداخلي:
• الاختلاس وقروض غير مشروعة وغير مضمونه .
•الاختلاس .
ب- أسلوب النصب والاحتيال الخارجي .
أسلوب النصب والاحتيال الداخلي:
ولاشك إن هذا المرض من الإمراض الخطيرة المتفشية حاليا في دوائرنا ومؤسساتنا وبمختلف أسمائها ودرجاتها حيث تعتبر مؤسسات الدولة العراقية. من أكثر الدول فسادا ماليا وإداريا حسب التقارير الدولية الموثوقة والرصينة، ويكون هذا الاختلاس وهو احد وسائل النصب والاحتيال الداخلي في مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص، عن طريق إعطاء قروض بدون ضمانات، أو إرساء مناقصات بعطائات عالية ومواصفات متدنية مقابل عمولة أو رشوة معينة، عقد صفقات بيع أو شراء مع أفراد أو جماعات أو شركات محلية أو أجنبية دون المواصفات المطلوبة وعدم اختيار أفضل العروض مقابل مبالغ تودع في حساب الموظف المعين. وهناك الكثير من الأمثلة المذهلة في هذا المجال وخصوصا في العراق ما بعد الاحتلال لظروف داخلية وخارجية ذاتية وموضوعية
ومن هذه الأسباب والدوافع:
الشعور بالمظلومية: حيث يشعر الموظف بأنه لن يتقاضى الأجر والمخصصات التي يستحقها جزاء ما يقدمه من خدمات وجراء ما يدر عمله للدولة أو المؤسسة من كسب مالي كبير مما يدفعه إلى سلوك الاختلاس بمختلف أشكاله لرفع هذا الظلم عنه. وقد اخذ موضوع الشعور بالمظلومية في بلدنا خصوصية خاصة، حيث إن اغلب من اعتلى كراسي المسؤولية في عراق مابعد التغيير يشعر بأنه تعرض إلى ظلم فاضح طوال سنوات نفيه، أو سجنه، أو معارضته للنظام السابق، وان الدولة والمجتمع مدينة له في كل شيء، مما يبرر له الاستحواذ على المال بمختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة لتعويض ما فاته، ومما يزيد هؤلاء اندفاعا هو شعورهم بالقلق وعدم الثبات والاستقرار في ظل وضع مرتبك وهو عرضه للتغير والاستبدال وترك المنصب مجبرا أو مختارا مما يتوجب عليه الحصول على اكبر كمية من المال والأملاك والحيازات في الداخل والخارج كضمانة لحياة مرضية له ولأبنائه في قادم الأيام. فقد تضطره الظروف إلى مغادرة البلاد ثانية، والعودة إلى بلاد المهجر خصوصا وان اغلبهم مزدوجي الجنسية، ولست بحاجه إلى ذكر الأسماء والأمثال لمثل هذه النماذج والشخصيات وهي تستغل ارفع المناصب في الدولة ومؤسساتها ممن كشف النقاب عنهم وبالتأكيد إن المستور اكبر من ذلك بكثير.
كذلك فان من أسباب هذا السلوك هو قلة المراتب والحوافز المادية المخصصة للموظف أو المسؤول، فيجعله يعيش حالة من شظف العيش والضنك المادي، مما يدفع العديد منهم ممن لا يملك الحصانة الذاتية ولا يمتلك من قوة الردع الذاتي الذي يحول بينه وبين ارتكاب جريمة اختلاس المال العام أو المال المؤتمن عليه في المؤسسات الأخرى. ويجب إن لا يغيب عن البال إن هذا المبرر أصبح ضيقا إن لم يكن متواريا تماما خصوصا في المراتب العليا من السلم الوظيفي في العراق بسبب ارتفاع المرتبات بشكل كبير، ولكن رغم ذلك نرى استمرار واستفحال عمليات الاختلاس من قبل هؤلاء الأشخاص للحصول على المزيد من المال والثروة، ونزاهة الكثير من الموظفين الصغار ذوي المرتبات المتدنية، مما يوجب البحث عن أسباب هذه الظاهرة في الوضع والتنشئة النفسية والاجتماعية للفرد وفي الخلل والثغرات الكبيرة في قوانين الدولة وضوابطها مما يفسح المجال أمام هؤلاء المختلسين للإقدام على مثل هذه الجرائم الخطيرة، التي تلحق ضررا بالغا بالصالح العام، وسمعة وهيبة الدولة.
كذلك ضعف أو فساد الأجهزة الرقابية للدول بل وتغاضيها عن مثل هذه الجرائم حتى في أعلى مؤسسة رقابية في الدولة العراقية – البرلمان – بسبب حالة المحاصصة ونهج «شيلني وشيلك» و«سترلي وسترلك» لتورط الكثير من أفراد ومنتسبي وقيادي هذه الكتل السياسية في جرائم نهب واختلاس للمال العام. هذا ما نعلمه من خلال النزر اليسير الذي يتسرب للرأي العام العراقي، والذي ينضح من إناء القوى الحاكمة عند الاختلاف فيما بينهم. وصراعهم حول المكاسب والامتيازات فنجد التواني عن فساد فلان أو عدم نزاهة علان ضمن صفقات متبادلة بين القوى المتحاصصة!؟ والأمر من هذا لم نشهد معاقبة، أو محاسبة، أو على الأقل استرداد المبالغ المختلسة والمسروقة والمنهوبة من قبلهم إلى خزينة الدولة، باعتبارها أموال الشعب الجريح والمحروم، ولا يمكن التنازل عنها لأي سبب من الأسباب، ولا يملك أياً كان الحق في إهدارها.
سلوك النصب والاحتيال الخارجي على المؤسسات:
وهي الأساليب المتنوعة والمتفرعة التي يسلكها أفراد أو مؤسسات من مؤسسات دولة أو مؤسسات قطاع خاص للحصول على أموال منقولة أو غير منقولة باعتبارها حقوقا مستحقة لهم بذمة المؤسسات المنصوب عليها. وهؤلاء النصابون من خارج المؤسسات، وربما يحققون عمليات النصب والاحتيال هذه بالتواطؤ مع بعض العاملين داخل هذه المؤسسات، أو ممن يستغلون ثغرات النظام وآلية عمل هذه المؤسسات، وغالبا ما يقوم بهذا النوع من النصب والاحتيال أفراد ذوي خبرة كبيرة في النصب والاحتيال والتزوير والتأويل، ومن الأمثلة التي يذكرها الدكتور أكرم زيدان _ ما يتم استحصاله من شركات التأمين مقابل أحداث وحوادث وهمية مفتعلة لا أساس لها من الصحة.
ثانيا: أسلوب النصب والاحتيال المباشر:
وهو أسلوب نصادفه ونسمعه أو نتعرض له خلال الحياة اليومية للأفراد ضمن علاقات الشراء والبيع خصوصا، ومن ذلك خداع المشتري بمواصفات وعينات مختلفة عن البضاعة الأصلية، كذلك عن طريق النقود والعملات المزورة التي أصبحت واسعة الانتشار في عملتنا العراقية – الطبعة المحلية – بعد السويسري في العهد السابق، ومازالت مستمرة لحين التاريخ، وقد تفنن الأشخاص والجماعات في تقليد العملات وتزوير الماركات الأصلية وترويج المزورة في الأسواق العراقية بحيث أصبح من الصعوبة بمكان الإفلات من شراك هذه المنتوجات والماركات والعملة المزورة، على الرغم من علامات «الخط، والنخلة، والفسفورة» كعلامات تميز الفرق بين العملة المزورة والعملة الأصلية، ولا نظن إن هناك مجتمعا كما المجتمع العراقي تعرض لمثل هذه الوسيلة من النصب والاحتيال الذي مورس حتى من قبل السلطات وخصوصا في زمن الحصار المفروض على العراق، ولسنوات طوال وتدهور الاقتصاد العراقي بشكل مريع. ولسنا بحاجة للأمثلة والشواهد في هذا المجال لأنها أكثر من أن تعد وتحصى وأثارت من المشاكل والنزاعات لايزال قسما منها قائما إلى الآن.
ثالثا: سلوك النصب والاحتيال غير المباشر:
وهذا الصنف من الاحتيال لايتم وجها لوجه، وإنما يتم عن بعد، وقد أصبح شائعا وواسع الانتشار الآن بسبب تطور وسائل الإعلام والاتصالات المتعددة وخصوصا الانترنيت، ومن هذه الأساليب المسابقات الوهمية والوعود بأرباح خيالية، عملية التسوق والعمالة الالكترونية، والتي تغزو عراقنا اليوم حيث تنهمر مليارات الدولارات خارج البلاد وشركات وهمية أو شبه وهمية من دون أي ضمانات تذكر عبر شبكة كبيرة وخطيرة من وكلاء وسماسرة هذه الشركات لاصطياد الضحايا ونهب أموالهم وتهريبها، عملية الغش والترويج الكاذب لسلعة أو دواء أو ما شابه يحملونه صفات ومفعول سحري لا يكشف زيفه إلا بعد حين، الوعود الكاذبة واستدراج طالبي فرص العمل أو فرص الدراسة، وحتى فرص الصداقة والزواج وو .... الخ غالبا ما تكون لا صحة لها وإنما تروج من قبل أشخاص وشركات وهمية، تنشر شباكها في كل أنحاء العالم لاصطياد الضحايا والباحثين عن المتعة والكسب السهل والربح السريع غير المشروع. وكذلك ذوي النوايا الطيبة وكما قال الإمام علي عليه السلام «إلى الله أشكو بلادة الأمين ويقظة الخائن».(5)
الدوافع النفسية لسلوك النصب والاحتيال المالي:
من المسلم في المجتمعات الطبقية وخصوصا التي تتميز بالتمايز الطبقي الحاد والفارق الكبير في امتلاك الثروة والمال وواقع وجود أعداد غير هينة من العاطلين عن العمل وكما وصف الحال الإمام علي (ع) قائلا «اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيرا يكابد الفقر، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا، أو متمردا كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقر».(6) لاشك إن ما نشهده في عالمنا اليوم لأشد وقعا واقسي أثرا بما لا يقاس مع عهد الإمام عليه السلام؛ لذلك فان عصرنا يعج بالمصابين بالخلل النفسي والانحراف في السلوك الاجتماعي السوي كنتيجة لهذا الواقع الذي شح فيه السوي وساد الموسوي، وتخفى أسبابه ومسبباته بفعل بنية فوقية مضلله تميل إلى التعمية والتضليل، وليس إلى التفسير والتنوير والتعليل. ومن هذه السلوكيات سلوك النصب والاحتيال المالي والحصول على الثروة والمال بأسهل الطرق واقلها كلفة، وهو دافع قوي للنصب والاحتيال والاختلاس في مثل هذه المجتمعات، وان بدرجات متفاوتة. فان ما يشجع عمل النصب، والاحتيال عوامل عديدة من أهمها كما ذكرها الدكتور أكرم زيدان وهي:-
أولا / سلوك الضحية:
أن ما يشجع على ارتكاب جريمة النصب والاحتيال هو مدى سهولة اقتناص الضحية وما تحمله من عوامل تسهل وتشجع وتحفز نزعة النصب والاحتيال لدى المجرم، فهناك من الضحايا من يظهر حرصا كبيرا وتحرزا. الدفاع عن أمواله والسعي لاسترداد حقوقه، ولكن دافع كسب الثروة والتصرف غير السليم لكسب المال يوقعهم في شرك النصابين والمحتالين والذي يدعى «الضحية الحريص» ويكون بعكسه ما يسمى «بالضحية السهل». إما الضحية «الداعي» فهو الشخص الذي يضع نفسه وأمواله وسط شباك المحتالين والنصابين عن طريق اندماجهم وعلاقاتهم مع هذه النماذج وتسهيل عملية إقراضهم دون ضمانات، وهو من الصنف عالي الطموح محدود القدرات. إما «الضحية المستفز» هذا الضحية الذي يعرفه ادم زيدان «فهو في نظر ذاته أذكى المخلوقات وأكثرها دقة ومهارة. وما عداه من البشر أغبياء وحمقى ينقصهم الفهم والإدراك».(7)
كذلك فان هذا النموذج على الرغم من يقظته واستهانته بالآخرين مما يدفع بالنصابين إلى أن ينصبوا له الفخاخ والمكائد والمحفزات لإيقاعه في شباكهم والضحك عليه. وهناك بعض العوامل الأخرى ما يشجع على النصب والاحتيال كعامل العمر والجنس حيث يستهدف الشباب لقلة تجربتهم، وضحاياهم من الشيوخ والمرضى لضعفهم، وتستهدف النساء لعدم قدرتها الجسمانية للدفاع عن نفسها وقلة خبرتها الاجتماعية وخصوصا في البلدان المحافظة، كما يتعرض لفعل النصب والاحتيال، أفراد الأقليات في بلدان المهجر لجعلهم في أساليب حياة وتقاليد وقوانين دول المهجر. وهناك العديد من الروايات والمشاهدات والابتكارات والقصص شبه خيالية التي تحكى عن طرق النصب واصطياد الضحايا. كما إن من دوافع النصب والاحتيال هو (نسق الحياة) الذي يجد المرء نفسه أو يضع هو نفسه ضمنه لأسباب المختلفة كالزواج أو السكن أو المعاشرة مما يدعوه إلى مسايرته إلى طلب المال ليكون في المستوى الاجتماعي المطلوب ضمن هذا النسق المعاش. كما يعزى البعض السبب إلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة عن طريق سلب المرء وإفقاره وإذلاله ففي المال عزة، وفي الفقر والحاجة مذلة، مما يدفعهم إلى احتقار من يضمرون له الكراهية والعداء لغرض السيطرة عليه وإذلاله. كما إن هناك دافعا مرضيا للاحتيال والنصب يتعلق بالإحساس بالسعادة والنشوة في ممارسة هذا السلوك وليس بدافع الحاجة الماسة وقلة الثروة والذي غالبا ما يمارس من قبل مشاهير الأغنياء والأثرياء لغرض المتعة، ساعين إلى تكديس المزيد من الثروة مقابل بؤس وشقاء الآخرين مما يشعرهم بالنشوة والسعادة.
الصفات والسمات التي يتصف بها المحتالون والنصابون:
اصطلاح (الشخصية) personality مشتق من كلمة persona الإغريقي التي تعني «القناع» والقناع في تلك الفترة من الزمن كان يضعه بضعة المحتالين على وجوههم في أثناء تمثيلهم المسرحيات المختلفة باعتبار إن كل قناع يدل على دور الممثل وشخصيته(8). ومن الواضح إن الإنسان البدائي أو إنسان ما قبل العولمة الرأسمالي عموما لم يكن قادرا أو لم يكن يمتلك المرونة الأخلاقية القيمية بحيث يتمكن من التحكم بانفعالاته، وتقاسيم وجهه وحركات جسمه لمحاكاة تصرفات الشخصية أو حتى الحيوان الذي يريد تقمص سلوكه وتصرفه أي (شخصيته) مما ألجأه وبذكاء إلى ابتكار الأقنعة، ليخفي وراءها ملامحه وشخصيته الحقيقية المعتادة في سلوكه داخل المجتمع، إما في ظل ثقافة الاستهلاك السائدة حاليا بقيادة الرأسمال العالمي الأمريكي المعولم فقد تم تدجين الإنسان وتمت عملية سيولة و(مرونة) وليونة الشخصية ومطاطيتها بحيث من الممكن تشكيلها وتعديلها وتركيبها حسب ما يشاء الفرد ويرضى، وخصوصا شخصية النصابين والمحتالين من فئة طالبي المال والثروة والجاه. وقد كان لنا وصف بهذا الشأن لهؤلاء الأشخاص في مقالات بعنوان (قرود العولمة) و(هتافو عصر العولمة).
وكما وصفهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في قصيدته الشهيرة طرطرا. هؤلاء المسوخ والحرباوات نراهم في كل عصر وزمان يغيرون جلودهم ولبسهم وسلوكياتهم وأفكارهم وحتى أسمائهم وأسماء أبنائهم-حيث شهدنا أسماء أبو صباح وأبو عبد الكريم وأبو عبد السلام وأبو صدام وأبو أسراء و.. و..- وكل ما يقربهم من مصدر السلطة والجاه وما يدر عليهم المال والجاه والثروة مقتدين بمقولة «الغاية تبرر الوسيلة» باعتبار إن غايتهم الأولى والأسمى في الحياة هي كسب المال فلا مانع من سلوك أي طريق أو أي شكل وإتباع أية وسيلة في الحصول عليه وخصوصا عندما يكون الحاكم مستبدا وغير عادل؛ ولا يتسم بالحكمة والشفافية والمساواة بين أبناء شعبه. وعدم وضع الشخص المناسب بالمكان المناسب، فيجتمع حوله الانتهازيون والمراؤون والنصابون والمنافقون من كل شكل ولون. وقد قال الإمام علي (ع) «يأتي زمان لا يقرب فيه إلا الماجل، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يعدون الصدقة فيه غرما، وصلة الرحم مَنّا، والعبادة استطالة على الناس، فعند ذلك يكون السلطان بمشورة الإماء، وإمارة الصبيان، وتدبير الخصيان»(9). وجل مانخشاه أن نكون من أهل هذا الزمان في عراق اليوم؟!
ومن ميزات النصاب انه لا يؤمن بالعطاء بل بالأخذ، والأخذ باستمرار. كما لا يؤمن بالواجبات بل بالحقوق فقط. ومن طباعه فقدان مقياس «الكم والكيف» في الحصول على المال. فلا يحول دون سعيه إليه قلة مقداره أو طريقة الحصول عليه. ومن ميزاته أيضا تعظيم وتضخيم قدراته وإمكانياته أمام الناس، سعيا منه لسد خواء دواخله وإحساسه بالدناءة والحقارة والخواء. يتميز الأغلبية الساحقة من النصابين والمحتالين بالنرجسية وان لم يكن كل النرجسيين هم من النصابين والمحتالين، وبما إن المال يعتبر أهم أعمدة حب الذات النرجسية لذلك يتوجه النصاب بدافع نرجسيته إلى النصب والاحتيال على الناس من اجل تكديس الثروة وإفقار الآخرين ومنة عليهم بإعطائهم الهبات والمكرمات.
ومن الملاحظ إن اغلب الزعماء والرؤساء في حكومات العراق المتعاقبة يتميزون بهذا الوصف من النرجسية. فهم لا يعطون المواطنين المال باعتباره حقا من حقوقهم، تضمنه القوانين ودستور الدولة؛ لابل يختارون من يعطوهم على شكل هبات ومكرمات وهدايا، من صاحب السلطة والجاه سعيا للإذلال واستعباد وكسب رضا ومديح الآخرين لهم. فكما يرى د.أكرم زيدان «إن نسبة الاضطرابات النرجسية بين عامة الناس هي تقريبا 1% إما بين النصابين والمحتالين فقد تصل إلى 84%»(10)
كذلك فان ما يتمتع به النصاب تميزه بصفة العداء، ومعاندة المجتمع وعدم حبه للمحيطين به. وهو لا يقوم بأي فعل أو علاقة مع الآخرين إلا بدافع المتعة الشخصية. فلا يمكنه إن يبني أية علاقات مع الآخرين مهما كانت درجة قربهم منه إذا كانت تحمله شيئا ولو بسيطا من المسؤولية المعنوية أو المادية وكما يصفهم د.أكرم .زيدان «ليس ثمة ولاء للمجتمع أو الأسرة أو الأصدقاء، ويبدو ذلك في عدم استجابتهم انفعاليا للمواقف التي يستجيب لها أغلبية الناس، خصوصا تلك التي تتصف بالضغط والقلق وتحمل المسؤولية، نظرا إلى أنهم شخصيات لا تقوى على تحمل أدنى مسؤولية».(11) وانه لمن المؤسف حقا أنْ نرى إن الأغلبية الفعلية لمثل هؤلاء في عموم السلوك العملي والفعلي للفرد العراقي أوفي اقل تقدير لطبقته السياسية ورموزها وتبدل ولاءاتهم بين المواقع والعناوين والدواوين الأكثر ربحا والأقل مسؤولية وضررا. «وتقدر نسبة المحتالين بين المحتالين والنصابين في المجتمع حوالي 100% بينما، لا تقدر نسبتهم بمابين 1%و3% بين عامة الناس».(12)
لذلك نرى إن هؤلاء لا تفصلهم فواصل كبيرة عن قوى الإرهاب والجريمة المنظمة وعصابات السطو والقتل المتعمد فيما لوسدت عليهم طرق النصب والاحتيال المعتادة، وهنا يبطل استغرابنا فيما نشهد أو نسمع بحادث سلب لسيارة أو بيت أو متجر وقتل أصحابه، على الرغم من عدم مقاومتهم للمجرم، وعدم معرفتهم له. وهنا تكمن خاصية النصب مقترنة بمعاداة وكراهية الناس لمثل هؤلاء المجرمين والنصابين القتلة. حيث كان المتعارف عن طباع اللصوص والسراق بأنهم لا يقتلون ولا يضربون ضحاياهم إلا دفاعا عن النفس، وعندما تسد بوجوههم طرق الهرب والنفاذ بجلودهم عند اكتشاف أمرهم.
ومن صفات هؤلاء النصابين أنهم لا يحسون بأي خجل أو حرج من وصفهم بالكذابين والمحتالين والنصابين، وإنما يشعرون بالنشوة والفخر والسعادة لأنهم استطاعوا إن ينتزعوا من الناس هذه الصفات الذميمة، لأنهم لا يستطيعون أنْ يحصلوا على الصفات الحميدة نتيجة إصابتهم بهذا الانحراف السلوكي الخطير، ويرى الدكتور أكرم زيدان:- «إن الأسرة هي المنظمة الأولى الخاصة بالتطبيع الاجتماعي، يمكننا إن نقول إن الأسرة تؤدي دورا لا يستهان به في تكوين شخصية النصابين والمحتالين، فكثير منهم جاءوا من اسر مفككة متهدمة فقدت احد الوالدين أو كليهما، سواء عن طريق الموت أو الطلاق أو الانفصال العاطفي، مما أسفر عن الحرمان العاطفي وضعف في استدماج العديد من القيم والمعايير الاجتماعية التي يحصل عليها الطفل من الوالدين، خصوصا إذا كان احد الوالدين من المحتالين النصابين أيضا».(13)
في ظل هذا الاستنتاج وهذه الرؤية ماذا يمكننا أنْ نقول عن واقع ومستقبل العراق في ظل ماتعانيه الأسرة العراقية على امتداد عقود من الحروب والتشريد والقتل وملايين الأرامل والأيتام والمطلقات في عهد الديكتاتوريات المتعاقبة/ وفي عهد (الديمقراطية) الأمريكية المسلحة، وإشاعة ظاهرة الإرهاب والعنف الطائفي الذي يظهر بكونه نتيجة وسببا في وقت واحد لماسي وويلات وآلام ومعاناة العراقيين المزمنة.
هذا الواقع يتطلب بذل جهودا جبارة مثابرة وسريعة ورصينة في مختلف الاتجاهات التربوية والنفسية والاقتصادية والثقافية لإعادة ترميم القيم المنهارة وإعادة بناء قيم جديدة تستند إلى المحبة وتكافوء الفرص والأمان ونبذ كل مظاهر التمايز الطبقي الحاد في المجتمع ورعاية الأسرة والطفل وإعطاء المرأة مكانتها اللائقة في المجتمع كفرد فاعل منتج وليس أداة تفريخ ومتعة فقط .والعمل على تقليص الهوة في الملكية بين مختلف طبقات الشعب «حيث أصبح زوالها حلما بعيد المنال» وعدم ترك الحبل على الغارب لقوى الاستغلال ومالكي رأس المال الجشع بطبيعته ليفتك بحياة الناس ويفكك عرى المجتمع مما يدفع للفساد والانحلال والخراب. وكما قال المفكر المرحوم هادي العلوي:- «حمل القرآن طبقة الأشراف وحدها مسؤولية الفساد والدمار الذي يصيب المجتمعات وذلك في قوله: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا».(14)
كذلك يستدعي العلاج بناء مؤسسات عيادات علاج نفسي كبيرة بإشراف أخصائيين أكفاء في علم النفس والاجتماع من اجل علاج الإعداد الغفيرة من العراقيين اللذين تعرضوا للهزات والاضطرابات النفسي والعاطفية وخصوصا جيل الشباب والأطفال والمرأة.
1- د.أكرم زيدان- سيكولوجية المال- عالم المعرفة- ص79.
2- المصدر نفسه ص79.
3- ابن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة- دار الكتاب العربي- الطبعة الأولى-ص252.
4- المصدرنفسه السابق.
5- المصدر نفسه ص 187 خطبه 129 ج8.
6- أكرم زيدان- سيكولوجية المال- ص87.
7- المصدر نفسه ص96.
8- نهج البلاغة ج18 خطبه 98 ص98.
9- أكرم زيدان-سيكولوجية المال-ص100.
10- المصدر نفسه ص101.
11- المصدر نفسه ص108
12- المصدر نفسه ص102.
13- هادي العلوي- أضواء على معضلة الكنز- ص17
14- كارل ماركس-رأس المال- ص175.
* * * * *
(2) الرشــــــــــــــــوة:
«لا شيء كالمال استثار بين الناس سننا سيئة وعادات قبيحة، انه هو الذي يزرع الشقاق في المدن ويطرد السكان من بيوتهم، انه هو الذي يصرف أجمل النفوس عن جميع ماهناك من عار وشؤم على الإنسان ويعلمها أنْ تستخرج الشر والكفر من كل شيء».(15) من الأمراض الخطيرة التي أصبحت مستفحلة وشائعة في مجتمعات العالم الثالث التي تتميز بسيطرة وهيمنة حكومات استبدادية وعدم وجود آليات رقابية فاعلة على مؤسسات ودوائر الدولة فيها بالإضافة إلى التفاوت الطبقي الحاد بين مختلف شرائح وطبقات المجتمع وبين مختلف المراتب في السلم الوظيفي في مثل هذه الدول، وتأتي في مقدمة الدول التي ينتشر فيها هذا الوباء الدول العربية عموما والعراق خصوصا، على الرغم من وجود قوانين وأحكام قانونية مشددة تصل إلى حد الأحكام الشاقة المؤبدة في بعض الدول العربية ضد من تثبت إدانته بالرشوة وحتى ضد من ارتضى الرشوة ولم يمارسها وهذه العقوبات تطال الراشي والمرتشي والوسيط الرائش ولكننا نرى رغم ذلك دوام واستمرار لابل تصاعد هذه الممارسة لا بسبب التساهل القانوني ولكن يمكن يكمن السبب الأكبر في الخلل والانحراف الذي أصاب النظام القيمي والعرفي لهذه المجتمعات من الأفراد ولم يعد فعلا معيبا ومستنكرا اجتماعيا نتيجة اختراق بنى هذه المجتمعات لأسباب مختلفة اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية.
الرشوة في اللغة:
من ارتشى أي اخذ الرشوة أو استرشى أي طلب الرشوة، استرشى في الفرع، أي أخرجه، واسترشى الفصيل (والد الناقة) أي مد عنفه بين فخذي أمه يطلع الرضاع، وارتشى فلانا، أي أطاعه وتابع مسيرته، وارتشاه أي حاباه أو ظاهره أو لاينه أو صانعه والرشوة أي وصله إلى الحاجة بالمصانعة، والرشوة ما يعطى لإحقاق باطل أو لإبطال حق، وما يعطى للتخلف، والرشي لفلان المطيع له التابع لمسيرته والرشو ما يعطى للحكام لأكل أموال الناس)(16). ومن ذلك نستطيع الاستنتاج إن ظاهرة الرشوة تنتشر في المجتمعات التي يعم فيها سلوك اللاتكافئ في فرص العلم والعمل من قبل أصحاب القرار وانتفاء العدل في توزيع الثروة والمناصب والحقوق والتكليف بالواجبات، مما يزعزع ثقة الناس في مصداقية وعدالة موظفي الدولة ومسئوليها فيدفع صاحب الحق لا رشاء ذوي الشأن والأمر لإحقاق الحق، أو ما يدفع أهل الباطل لسلب حقوق غيرهم وإحقاقهم للباطل، وان عملية الرشوة غالبا ما تتم بين طرفين (الراشي) و(المرتشي) أو يدخل شخص ثالث كوسيط بينهما يروج الرشوة بين الناس أهل الحاجة والموظفين ويسمى (الرائش)
وتقسم أسباب الرشوة إلى:
أولا:- العوامل والأسباب الاقتصادية:
ومنها حالة الفقر والاحتياج الذي يعيشه المسؤول المكلف بواجب عام، حيث ستكون هذه الحاجة دافعا قويا بالإضافة إلى عوامل أخرى لإرشاء الأنا العليا للإنسان وكابحا لضميره عند معارضته لهذا الفعل الذي غالبا ما يكون مرفوض اجتماعيا . ولنا في الوضع المتردي للموظف في عهد الديكتاتورية الصدامية خصوصا في ظل أحكام الحصار الاقتصادي الذي مر به المجتمع العراقي مما أشاع ظاهرة الرشوة في مختلف مفاصل الدولة ومؤسساتها مفتتا المعيار ألقيمي الاجتماعي الرافض لمثل هذه الظاهرة بحيث كاد أن يكون هذا السلوك عرفا شائعا.
ولكننا لا نستطيع أنْ نجعل من حالة الفقر أو الحاجة السبب الوحيد للرشوة كما يذكر ذلك ادم زيدان لا تستطيع إن تقول إن سلوك الرشوة يصدر عن أناس فقراء أو أغنياء أو يصدر من الطبقات الدنيا أو العليا في المجتمع، من دون أن ننظر إلى العوامل النفسية والاجتماعية إلى تؤثر في تكوين شخصية المرتشي ففي واقعنا العراقي هناك نماذج كانت ومازالت تشغل مناصب حكومية في المؤسسة العسكرية والأمنية ودوائر الدولة ومؤسساتها المدنية ارتضت عيشة الكفاف والضنك أو اضطرت للعمل بعد الدوام الرسمي في أعمال لاتمت لاختصاصها ولا إلى مكانتها الاجتماعية بصله دون أن تنحدر إلى هاوية الرذيلة وقبول الرشوة على الرغم من كونها قادرة على العيش عيشه مرفهة لو ارتضت سلوك الرشوة . كما إننا نشهد أفرادا في أمس الحاجة إلى فرص العلم والعمل ولكنها لم ترتضِ أسلوب الرشوة للحصول عليها. ومن الأسباب الاقتصادية للرشوة، ظاهرة غلاء الأسعار،وشيوع ظاهرة الاستهلاك والامتلاك وعلو مقياس الثروة والمال في المجتمع لتبز ماعداها من القيم والأعراف الاجتماعية الايجابية حيث يذكر د . أكرم زيدان «إن هناك علاقة بين سلوك الرشوة وبين إعلاء القيم المادية والاستهلاكية – كأن المال هو القيمة الأعلى في أذهان كثير من الناس»(17).
وقد ورد هذا المعنى في العديد من أقوال الشعراء والكتاب والأمثال العراقية الشعبية مثل «ألما يملك فلس ما يسوه فلس» مهما امتلك من رفعة النسب أو درجة العلم والمهارة أو من سمو الخلق والأخلاق. حيث يرينا واقع الحال إن الناس تتملق وتتوسل وتصانع الثري مهما كانت وضاعته، وعدم مشروعية حصوله على المال على الرغم من نواهي الأديان عن مثل هذه السلوكيات والأفعال. حيث يروى عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) قال:- «من أتى غنيا فتصنع له لينال من دنياه ذهب ثلثا دينه».(18) وبناءا على هذا فان اغلبنا سيكون سعيدا إن امتلك ثلث دينه.؟!
ثانيا: الأسباب النفسية والاجتماعية لسلوك الرشوة:
«نقص فرص الاختيار والوسائل المشروعة لتحقيق الأهداف»،(19) ومنها فرص العلم والعمل، ولا شك إن هذا الأمر أصبح شبه سائد في النظام السابق وأصبح شبه شائع في ظل الديمقراطية الحالية فلا عمل ولا منصب رفيع ولا عمل ولا منصب وضيع يتم الحصول عليه من قبل المواطن العادي إلا عن طريق الرشوة، فمن أراد الظفر بفرصة عمل أو منصب عليه أن يبحث أولا عن (رائش) يكون وسيطا بينه وبين صاحب الأمر والشأن، حيث يعج عراق اليوم بالمرتشين والفاسدين مما أشاع ظاهرة الرشوة وأصبح الفرد خارج حلقة (الراشي) وال (مرتشي) و(الرائش) فردا غريبا مغلوبا على أمره وغير مرغوب في دوائر الدولة ومؤسساتها بما فيها القضائية والتربوية وهنا تقع الطامة الكبرى في كيان المجتمع وهد م أكثر قيمة الايجابية قداسة وخطورة بحيث امتد الفساد والرشوة إلى ما يسمى (هيئة النزاهة) و(الهلال الأحمر)!
وتأسيسا على ذلك وبسبب عقود من الاستبداد والجور والحرمان وعدم تكافؤ الفرض التي عاشها العراقيون مما أصاب نسق القيم والمعايير الأخلاقية بالانهيار واستبدال الأبيض بالأسود والصحيح بالخطأ والوضيع بالسامي وأصبح الفرد المرتشي والراشي مقبولا لابل مرحبا به في الوسط الاجتماعي خلاف ما يجب إن يكون مرفوضا محتقرا ومنبوذا . ومن الأسباب الهامة أيضا في هذا المجال احتقار المرتشي للضمير المهني الذي يوجب عليه الاستقامة والنزاهة والسلوك القويم المعبر عن ضوابط المهنة وأعرافها وقوانينها الذي غالبا ما يؤدي العرف المهني المهيمن على عدم خيانتها أو احترامها وتجاوزها. ومن هذه «عدم فهم الدلالة الأخلاقية للعمل»(20) باعتباره حالة إغناء للذات، وخدمة للشعب والوطن وللإنسان، بما يسير أمره ويساهم في استقراره الأمني والاقتصادي والنفسي والعلمي لا إن يتعامل مع مهنته كبضاعة وسلعة للبيع والحصول على المال والثروة ساعيا لاغناء مهنته بكل مزاياه الإنسانية والوطنية والأخلاقية الايجابية، بما يعين النفس والروح ويثري الذات باعتبارها تساهم بفعالية في خدمة المجتمع . وكما يشير د . اكرم زيدان: «قد ينبع سلوك الرشوة من مفهوم (الانومي) anomi أو اللامعيارية، بعكس المشكلات المرتبطة بضعف أو انعدام القواعد الأخلاقية العامة التي تنتج من تضارب القيم الاجتماعية بحي لا يوجد تصور واضح محدد حول ما هو صواب وما هو خطأ، وهي تماما الحالة التي يعيشها المرتشي حيث الانعزال والاستغراق في أنشطة خاصة تفتقر إلى الاشتراك في ضمير جمعي واحد، وحتى إن وجد هذا الضمير الجمعي فان إحساس المرتشي به ضعيف لان درجة وضوحه اضعف»(21).
ومن الملاحظ أنَّ القيم الأخلاقية في مثل هذه المجتمعات لا تضع اولوياتها سوى ما يتعلق بالعفة الجنسية، وما يتعلق بالشرف الجنسي فقط، فان أي سلوك يتعلق بالاعتداء على حقوق وكرامة الآخرين، أو المساس بالمال العام والصالح الوطني، لم ينظر إليه بالرفض والامتهان والاحتقار، الذي يصل لحد الثورة والرد العنيف عندما يتعلق الأمر بالعرض والشرف. وكما يذكر الدكتور أكرم زيدان: «القيم والأخلاق في نظرهم (المرتشين) مقصورة على مسائل العرض والعفاف والوفاء الزوجي، مما يعني إن الضمير لديهم هو الضمير الجنسي، بينما تنعدم كل أنواع القيم الأخرى، وان وجدت فتكون ضعيفة وباهته، خصوصا القيم المهنية وشرف المهنة والعمل» ومن صفات المرتشي انه يتميز بالكسل والملل والتبرم من بذل الجهد الفكري والجسدي والإبداع والابتكار في طريقة التفكير والعمل من اجل بلوغ أهدافه في الترقي والتدرج في السلم الوظيفي والعلمي والعملي.
مما يجعله يؤمن بان الوسيلة التي يتبعها مهما كانت رذيلة وحقيرة فهي مقبولة مازالت تؤدي له غرضه بالوصول إلى هدفه بأقصر وأسهل وأيسر الطرق للوصول إلى المال الوفير والمنصب الرفيع مما يجعله يغوص في مستنقع الانتهازية والميكافيلية والنفعية الضيقة والكسل أيضا عن العمل الجاد والمخطط للوصول للهدف بموجب القدرة والكفاءة والمنافسة المشروعة مع أقرانه.، وتكمن الخطورة في هذه السلوكيات إن من يسلكها يعتادها ويتكلس ضمن مضامينها ومظاهرها وأساليبها بحيث يتعذر عليه تصحيحها أو تغييرها ونبذها كمن يدمن على التدخين والمشروبات الكحولية أو القمار فيكون من الصعوبة معالجته ليسلك السلوك القويم.
وهنا نرى إن الكثير ممن موظفي الدولة الديكتاتورية المنهارة من مدنيين وعسكريين لم يستطيعوا التخلص من سلوك «الرشوة» استمرارا لعادتهم القديمة على الرغم من انتفاء في اقل تقدير أهم أسبابها وحوافزها الا هو الحاجة والعوز الاقتصادي، حيث بلغت المرتبات عشرات لابل مئات أضعاف ما كانت عليه آنذاك، وبما يكفل عيشة رضية هنية للموظف وخصوصا من ذوي المراتب العليا دون الحاجة للرشوة وكسب المال بطريق غير مشروع. وبعد إن استعرضنا الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للرشوة نحاول ألان إن نلقي الضوء على الأسباب النفسية المؤدية إلى تدعيم سلوك الرشوة والمرتشي والرائش.
الأسباب النفسية للرشوة:
يعتقد اغلب علماء النفس والاجتماع إن البناء النفسي لسلوك الفرد يبدأ من طفولته الأولى وخصوصا منهج وفلسفة التربية التي ينتهجها الوالدان داخل الأسرة وبعد ذلك في المدرسة ومن ثم أقرانه ومجا يليه،وقد لاحظ الباحثون والعلماء إن بعض الأسر تحاول أنْ توجه سلوكيات الأطفال حسب ما تريد وترغب سواء في الكبت المطلق أو كبت بعض تصرفات وسلوكيات الأطفال بناء على مبدأ المكافآت المالية النقدية في حالات الرضا أو حجب هذه المكافآت في حالات التمرد وعدم الالتزام مما يعظم عندهم أهمية المال ودوره وارتباطه بكل عمل يقومون به حتى وان كان واجبا يفرضه عليهم موقعهم باعتبارهم أعضاء في الأسرة أو طلابا في المدرسة أو أعضاء في المجتمع أو مواطنين عليهم واجبات محددة تجاه وطنهم وشعبهم،وكما يقول الدكتور أكرم زيدان: «اخطر مايقوم به الوالدان هو تقديم المكافأة للطفل بمجرد إن ينتهي من نشاط مرغوب به، فيتعلم الطفل بعد ذلك إن السلوكيات والأنشطة السيئة المنفرة هي التي تؤدي إلى المكافآت، فلا ينمو لديه سلوك حل المشكلات بل الذي ينمو لديه هو سلوك الرشوة»(40). إن حالة تدعيم النفعية لتكون الدافع الأساسي للفرد لأداء أو عدم أداء فعل تؤدي إلى خضوع ذات الفرد إلى المؤثرات الخارجية قياسا للفائدة المادية وخصوصا المالية منها وكسب الثروة بمختلف إشكالها وليس دافعا أو رادعا نابع من داخل الذات نحو عمل ماهو خير والامتناع ومقاومة ورفض ماهو شر ويحضرنا في هذا المجال القيمة الكبرى لمقولة الإمام علي(ع) المشهورة ليوضح سبب إيمانه وعبادته للخالق سبحانه حيث يقول: "ماعبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن عرفتك أهلا للعبادة فعبدتك».
وهنا تتضح معاني أن يحترم الفرد ذاته ومدى ارتباطه بقناعاته وربط مصالحه بمصالح الجماعة فقد يصل الأمر عند البعض حد التضحية ليس فقط بالمكاسب المادية وحيازة الثروة لابل التضحية بالنفس من اجل مبادئ سامية من اجل خير وسعادة الآخرين وهذا مايتميز به الأنبياء والمصلحون والدعاة ولنا في تاريخ الأديان والحركات السياسية والاجتماعية الكثير من الأمثلة. في مجتمعنا العراقي استغل الحكام وأصحاب الثروة والمال هذه الخاصية عند ضعاف النفوس الشره ماليا الميول لتدعيم مراكزهم وديمومة سلطانهم ليضربوا بذلك عصفورين بحجر واحد الا وهو كسب ود ورضا وولاء المنحرفين من محبي المال وترسيخ سلطانهم.
الانتقاص من جرف ومقاومة الأفراد ذوي النزعات الإنسانية من المضحين والايثاريين أصحاب العزة والكرامة واحترام الذات، فعمدوا الى إعطاء مواليهم وأنصارهم منحاً وهبات مالية كثمن لولائهم وكسب مودتهم وان غلفوها بإشارات وأنواط وباجات تعلق على الصدور أو قلائد تعلق في الرقاب وهي لا تعني شيئا بذاتها لولا ما تضمره من كسب مالي وفير كأنواط الشجاعة وشارات الحزب حتى وصل الأمر إن كلمة «العفية» تترجم إلى مبلغ مالي تقدر كميته بعدد تردادها من قبل القائد؟ وهذا هو ما يصبو إليه المرتشي ممن هو أعلى منه في الموقع الوظيفي في حين يتحول هذا السلوك إلى ابتزاز مالي ورشوة ممن هم أدنى منه مقابل تمشية أعمالهم واستحقاقاتهم المشروعة وغير المشروعة منها بدافع الحصول على المال.
سيكولوجية الراشي والمرتشي الرائش:
ماهي صفات وسمات الراشي السيكولوجية؟ يرى علماء النفس والاجتماع إن الراشي يتميز بضعف الشخصية ومحدودية قدرتها على التكيف والتأقلم مع القيود والحدود والضوابط الاجتماعية والحكومية، فهو لا يملك القدرة على فك هذه القيود وتجاوز هذه الحدود بقدراته وجهده الخاص وضمن الضوابط العامة لإنجاز معاملة رسمية تخصه أو للحصول على حق مشروع أو رفع ضرر قد يلحق به لسوء تقدير أو تقصير فهو لايثق بعموم المجتمع وخصوصا بمؤسسات الدولة ومسئوليها ويرى من الصعوبة عليه التعامل مع أجهزتها البيروقراطية والفاسدة خصوصا في ظل ظاهرة الطوابير المتكدسة دائما على أبواب مدراء وموظفي الدوائر الرسمية حيث تمتهن كرامة الإنسان وبسلب وقته وينهك جسده وهو يسعى لإنجاز معاملة بسيطة كتسجيل أو بيع عقار أو الحصول على هوية الأحوال المدنية أو جواز سفر أو شهادة الجنسية أو انجاز معاملة تعيين وتقاعد أو تطوع في الشرطة والجيش ... الخ، مما يدفع الفرد إلى الالتجاء إلى العصا السحرية إلا وهو المال «الرشوة» ليكف عن نفسه كل هذه المتاعب، ويسهل عليه هذا الأمر وفرة «الرائشين» من السماسرة والوسطاء و«فاعلي الخير» للقيام بهذه المهمة.
ونتيجة لهذه المعاناة التي تواجه المواطن العراقي في انجاز معاملاته في الدوائر الرسمية أصبح داء «الرشوة» مرضا مزمنا لابل وباءا واسع الانتشار وبالغ الأضرار (بحيث أصبح اغلب العراقيين لا يراجع أية دائرة إلا عن طريق الواسطة أو عن طريق «الرائش» وهو الغالب فلم تعد المحسوبية والمنسوبية تفعل الكثير بجانب ضرتها ومنافستها الأقوى الرشوة «المال».
هذا موجز لوصف شخصية الراشي فما هو وصف المرتشي؟ فالمرتشي لا يرى أمام عينيه غير المال وتعاظم الثروة فهي الهدف وهي الوسيلة لفرض هيمنته وإعلاء شانه بين الناس وكما يقول د.أكرم زيدان «حب الأخر والشعور بالانتماء وتحقيق الحياة الاجتماعية الايجابية كل هذه الأمور بعيدة عن حسابات المرتشي لما لديه من استبصار مشوه وإدراك مضطرب وضعيف دائما مايوظفه في إطار سلبي يحقق له أهدافه المرضية التي تنحصر في شيء واحد فقط هو المال».(41)
ومما يميز المرتشي أن له رغبات لا تتوقف عند حد في امتلاك الأشياء والحصول على المال والسلع ذات القيم الرمزية وليس القيم الاستعمالية فغالبا ما يلهث وراء آخر الماركات والموديلات من الملابس والسيارات والدور محاكيا في ذلك سلوك الطبقات الراقية الباذخة ليظهر بمظهر القوي المقتدر ومحسوبا على الطبقات الاجتماعية العليا في المجتمع. ومن صفات المرتشي الخطيرة إحساسه بأنه مهما حصل على مال وثروة فهو لم يأخذ حقه بعد فهو يستحق المزيد لما له من ميزات وصفات يتوهمها ولما قدمه من خدمات يظن إنها لا تقدر بثمن وان الآخرين لايستحقون حتى جزءا ضئيلا منها.
ففي عراقنا اليوم سيطر إحساس وشعور بالمظلومية مما تعرض له البعض من النظام السابق وخصوصا من أفراد الطبقة السياسية الجديدة التي احتلت كراسي المسؤولية بعد انهيار الديكتاتورية، لذلك فهم الأولى بالمال والضياع والغلال من أبناء وطنهم وشعبهم اللذين كانوا ينادون بإنصافهم من ظلم السلطات وإنهم إنما يضحون من اجلهم لا يريدون من ذلك جزاء ولا شكورا، هذا الإحساس أوهمهم بأنهم الأحق والأفضل في حصولهم على حصة الأسد من الثروة الوطنية كضريبة مظلومية وليست «رشوة» لا سمح الله وان أخذت مقابل خدمات وتسهيل معاملات ومقابل وظائف. وقد بلغ الأمر مبلغا ليس له مثيل في تاريخ العراق القديم والجديد فقد حصل في عراق «الديمقراطية والشفافية»؟!
ومن الحيل والأغطية الزائفة التي يحاول المرتشون أنْ يتقنعوا بها ليكون عملهم مقبولا من قبل الفرد والمجتمع «نجد إن لفظ «الرشوة» وقد اخذ معاني أخرى تتمثل في «العمولة» «النسبة» وهو ما نجده على السنة المرتشين من رجال الأعمال الجدد أو ما يعرف بالرأسمالية الجديدة، إما المرتشون من الشرائح الدنيا فنجدهم يقبلون لفظ الرشوة ويبدلونه إلى «إكرامية، وسمسرة، وحلاوة» ص78 دون أيَّ إحساس بإحراج أو مهانة وكما يقول الإمام علي معرفا هؤلاء: «ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم:- تاجر البحر، وصاحب السلطان، والمرتشي في الحكم»(22)
وهذا ما تشهده وتعاني منه اغلب دوائر الدولة العراقية الآن على مختلف عناوينها حتى وصل الأمر إن وظائف عليا تباع بالمزاد وفق مبدأ المحاصصة المتبع في نظام الحكم اليوم فلكل منصب تسعيرة خاصة تدفع بالمعجل أم المؤجل لمسئولي الكتل السياسية المحاصصة فيكون الاختيار بعيدا عن القدرة والكفاءة العلمية والعملية أو التاريخ النضالي للفرد ضمن المكون العرقي أو الطائفي نفسه. والأمر الخطير في الرشوة هو إن المرتشي لاتشبع حاجاته المتجددة دوما وبلا انقطاع مما يجعله لايقف عند مستوى أو حد معين.
ومشكلتنا ليس في اكتشاف الفساد والإشارة إليه فهو أجلى وأوضح من أنْ يشار إليه حيث تجده في طريقك أينما ذهبت وتوجهت ولكن الأهم من كل ذلك هي إدانته والحد منه ومعاقبة مرتكبيه عقوبة عرفية اجتماعية وقانونية، حيث نسمع ونقرا في وسائل الإعلام بأسماء كبيرة متلبسة في عمل الرشوة بشكل مفضوح ومتكرر ولكنهم لا يعاقبون، حيث يتصدى للدفاع عنهم فطاحل رجال القانون من المحاميين وخبراء ثغراته وهفواته وتأويل نصوصه لتخليص هؤلاء المرتشين من العقوبة كتخليص «الشعرة من العجين» كما يقولون، وان هذا ممكن مازال المرتشي قادرا على دفع المال ولازال القضاء ومؤسسات الدولة تغص بالكثير من أمثاله.!! ومازال الفساد والرشوة يطغي على تصرفات وسلوكيات العديد من الأفراد أو الكتل المختلفة والقوى السياسية المهيمنة على السلطة القضائية والتنفيذية والرقابية. كما مر بنا تحدثنا عن سيكولوجية الراشي والمرتشي ولننتقل للحديث حول الرائش.
الرائــــــــــــــــش
في المجتمعات الاستهلاكية غير المنتجة والبيروقراطية والمجتمعات الرأسمالية المترهلة والأنظمة التولتارية الاستبدادية. تتكاثر الشخصيات الهامشية فاقدة الوصف والصفة المهنية كما تتكاثر الطحالب في الماء الآسن والحشائش في الحقل المهجور والتي قد تطغى على الزرع والشجر المثمر فتهلكه لتكون هي السائدة فالسمسار الرائش شخص يعتر على الهامش ولليس له أية صفة في الإعمال التي يتوسطها ويتكسب من ربط الأشخاص الحقيقيين أو المعنويين بعضهم ببعض بغض النظر عن كنههما ومن يكونان وهل ينتج عن ارتباطهما من نفع أو ضرر لبعضهما أو لكليهما أو لعموم المجتمع وهل هذا العمل منسجمٌ مع العرف والقانون أو احدهما أولا؟ كل هذه الأسئلة لاتهم الرائش، إنما الهم الأساسي للرائش حصوله على العمولة من الطرفين المشتري والبائع العارض والطالب وتكاد تشبه مهنته هذه مهنة «القواد» إلى حد بعيد. حيث غالبا ما تكون خالية من كل قيم والأخلاق والمثل الإنسانية الايجابية واتصافه بتجميل صفة ومواصفات الطرفين وتغطية نقائصهما. ومن صفاته انه يجمل ويضفي من الصفات ويبالغ في الوصف والمديح من عندياته خلاف ما يكون عليه معروضة ويمتلك قابلية كبيرة في اصطياد الفرائس حينما يظهر بمظهر الشهم صاحب الحمية والغيرة وحب المساعدة «لوجه الله» لا يطلب من وراء ذلك جزاءا ولا شكورا الا ما جادت به أيديهم ولكن عندما تقع الفريسة في شباكه وتتملكه الحيرة والحاجة والقلق يتنمر الرائش في فرض شروطه وطلباته مدعيا إنها طلبات ذوي الشأن طلبات الأستاذ والسيد الفلاني والمسؤول الفلاني ولا يمتنع عن ذمهم واستنكار طمعهم واستغلالهم لحاجات الناس وكيف إن الدنيا أصبحت بأخر الزمان فلا خوف ولا خجل من الله ولا من عباده. فيسلك سلوك أكثر المنافقين حقارة وفجاجة.
تتصف شخصية الرائش بالتوفيقية والمهادنة والمصانعة والملاينة والتسول الأخلاقي، لا مقياس له سوى النفع والكسب فقط وقد يكون قد تطبع بطبع والديه أو احدهما وأسرته أو أستاذه وزملاءه وأصدقاءه والرائش لا يختلف من حيث الطبع والوضع عن السماسرة والدلالين في مختلف المهن كالبيع والشراء في العقارات ودور البغاء واللاهثين وراء السلطان وحواشي المسؤلين والهتافين والمروحيين للساسة والسياسيين الفاسدين والمفسدين.؟! وكان الرائش والمرتشي والراشي يخاطبون المال كما خاطبه بطل شكسبير «أيها الذهب الثمين، أيها البراق أهذا ذهب يكفي ليجعل الأسود ابيضاً، والقبيح جميلا؛ والظالم عادلا واللئيم نبيلا، والعجوز فتيا، والجبان باسلا .. ماهذا أيتها الالهه الخالدون، هذا ما يشغل الكهنة وخدمهم عن هذا يحكم ... هذا النقد الأصفر يبني ويهدم أديانكم، ويبارك الملاعين، ويجعل الأبرص الأبيض معبودا انه هو الذي يضع اللصوص على مقاعد الشيوخ ويمنحهم ألقابهم وما يحيط بهم من احترام وخنوع انه هو الذي يجعل من الأرملة العجوز البالية .. عروسا صبية .. هيا أيها الصلصال الملعون .. يا قوادة الجنس البشري»(23)
ووفق ما عرضناه أنفا ماهي الأساليب والوسائل الفعالة التي يجب إتباعها لاجتثاث هذا المرض الخطير أو للحد منه على أقل تقدير؟ حيث نرى إن الإجراءات التالية يمكن إن تكون نافعة في هذا المجال:-
1-العمل على حث العوائل والأسر خصوصا الوالدين لأتباع طريقة تربوية تتسم بتحفيز الدوافع المعنوية والبواعث الداخلية كالشعور بالفرح والسعادة وامتلاء الذات والإحساس بالأهمية والرفعة وروح المسؤولية الواجبة في انجاز الواجبات تجاه نفسه والآخرين، والتشبع بروح الانسجام والالتحام بالجماعة وحب فعل الخير والإحساس بالمهانة والنفور والضعة تجاه الأفعال والإعمال والسلوكيات المنحرفة والضارة بالفرد والمجتمع.
2- إعادة النظر بالمناهج التربوية في الروضة والمدرسة بمختلف مراحلها على تنمية رصيد الفعل الايجابي والايثاري لدى النشأ الجديد، واختزال قيم الانوية الضيقة ونزعة حب المال كونه هدفا وليس وسيلة لتحقيق مطالب الإنسان المشروعة، وعدم اعتماد الحوافز والجوائز المالية لحالات التفوق والاجتهاد في الدراسة والابتكار.
3- تتبنى المؤسسات الثقافية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني ورجال الدين والسياسة حملة تثقيفية واسعة للحد من سلوكيات الرشوة والارتشاء ونبذ المتعاملين بها، لتكون ثقافة عامة وعرفاً اجتماعياً قبل أن تكون قانون دولة لتكون مثل هذه الأفعال عملا مخلا بالشرف الاجتماعي للفرد يداني في أثره أساس المس بالعرض والمساس بسمعة الفرد المنحرف جنسيا.
4-بالإضافة إلى أولا وثانيا التي تسعى أن تقترب الأعراف الاجتماعية من القانون والقواعد القانونية الصادرة من الدولة مما يكسبها فاعلية كبيرة في التنفيذ والردع بقدر قربها من العرف الاجتماعي السائد.
5- إن تتضمن الأنظمة الداخلية ولوائح وضوابط الأحزاب والحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات المهنية والديمقراطية شرطا بعدم قبول وطرد ونبذ الرائش والراشي والمرتشي من صفوفها وان يمنع من يحمل هذه الصفات من تبوء أية مسؤولية وظيفية وخدمة ذات شان عام في مختلف مؤسسات الدولة وبمختلف مستوياتها وأوصافه القضائية والتشريعية والتنفيذية والخدمية.
حيث لا تكفي المواعظ الدينية والأخلاقية والشعارات لمحاربة والحد من مثل هذه الظواهر في مجتمع يعيش حالة من تفكك وتدهور بناه القيمية والمعيارية الايجابية بفعل ظروف قاهرة فحتى الوعد بالنار لم تمنع من الرشوة وكما يقول الرسول الكريم(ص) (الراشي والمرتشي في النار) و(كل لحم ثبت من حرام مأواه النار) ولكن دون جدوى.
6- كذلك يفترض أنْ نعمل على بناء الشخصية الفاعلة والذات العزيزة المنتجة وتوفير فرص العمل المنتج للقضاء على العناصر الهامشية الطفيلية المروجة لكل بضاعة رديئة وفعل دنيء وكسب لامشروع تحت ضغط الحاجة وبدافع ثقافة الاستهلاك والامتلاك،
7- العمل على بناء وتشكيل ثقافة النزاهة وليس مؤسسة النزاهة لتكون النزاهة التي يجب أنْ تكون قيمة عليا من ضمن المجتمع المنبثقة من ذاته لا تكون مؤسسة منعزلة عنه ووصية عليه مشرعنة فساده وخراب قيمه.
ومن الممارسات الغريبة التي تحصل إن الكثير من الأغنياء ومالكي الثروة بشكل غير مشروع يأتون إلى المراجع الدينية وكل حسب ديانته ومعتقده ليبيض رأسماله الوسخ بإعطاء نزر يسير مما يملك مقابل مباركة ثروته الطائلة وإذا احتكمنا لقول سيد الحكماء الإمام علي عليه السلام حيث يقول «ماجمعت ثروة إلا من بخل أو حرام». ومن المعروف لكل عاقل اليوم إنَّ البخل لا يمكن أن يجمع ثروة طائلة مهما بلغ مورده من العمل والكسب الحلال في وقتنا الحاضر فلا يمكننا أنْ نستنتج غير إن سبب الفائض الكبير من الثروة من الحرام وهنا كيف يحل لأي كائن من كان أن يباركه ويعفيه من مسؤوليته الانسانية والشرعية؟؟
المراجع:-
---------------.
نود أن نشير إلى الجهد الفكري الكبير المبذول من قبل الأستاذ الدكتور أكرم زيدان في كتابه القيم (سيكولوجية المال) * هوس الثراء وأمراض الثروة. باعتباره بحثا فريدا من نوعه وموضوعه مما يجعله يحتل أهمية كبيرة لإشغاله فراغا هاما في المكتبة العربية حسب علمنا المتواضع. وقد كان لمضمون الكتاب اثر كبير في إنضاج وإخراج هذا البحث مرتديا حلة عراقية.
كارل ماركس - رأس المال- -مكتبة المعارف بيروت-الطبعة الثانية-ص1134.
1- ابن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة – ص114.
2- أكرم زيدان –سيكولوجية المال- ص118.
3- المصدر نفسه ص120.
4- المصدر نفسه - .
5- هادي العلوي- المستطرف ص122.
6- د.أكرم زيدان- سيكولوجية المال- عالم المعرفة- ص79.
7- المصدر نفسه ص79.
8- ابن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة- دار الكتاب العربي- الطبعة الأولى-ص252.
9- المصدرنفسه السابق.
10- المصدرنفسه ص 187 خطبه 129 ج8.
11- أكرم زيدان- سيكولوجية المال- ص87.
12- المصدرنفسه ص96.
13- نهج البلاغة ج18 خطبه 98 ص98.
14- أكرم زيدان-سيكولوجية المال-ص100.
15- نفس المصدر ص101.
16- المصدر نفسه ص108.
17- المصدرنفسه -ص102.
18- هادي العلوي- أضواء على معضلة الكنز- ص17
19- كارل ماركس-رأس المال- ص175.
20- أكرم زيدان- سيكولوجية المال-ص66.
21- نفس المصدرنفسه ص66.
22- هادي العلوي-المستطرف –منشورات دار المدى- الطبعة الثالثة –ص307.
23- أكرم زيدان- سيكولوجية المال-ص21.
24- المصدرنفسه – ص76.
25- المصدرنفسه -ص76.
26- ابن أبي الحديد-نهج البلاغة- ص993.
27- كارل ماركس- رأس المال- ص1175.
28- أكرم زيدان –سيكولوجية المال- ص114.
29- ابن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة – ص114.
30- أكرم زيدان –سيكولوجية المال- ص118.
31- المصدرنفسه ص120.
32- المصدر نفسه - .
33- هادي العلوي- المستطرف ص122.
34- أكرم زيدان-سيكولوجية المال- ص129.
35- كارل ماركس –رأس المال – ص177.
36- هادي العلوي – المستطرف –ص25.
37- ابن أبي الحديد – نهج ألبلاغه – ص 331.
38- أكرم زيدان-سيكولوجية المال-ص177.
39- ابن أبي الحديد- نهج البلاغة – ج16 خ162.
40- المصدر نفسه ج16 ص133 خ182.
41- المصدر نفسه ص202.
42- المصدر نفسه ص202.
43- كارل ماركس –رأس المال-ص1134.
44- أكرم زيدان – سيكولوجية المال-ص70.
45- المصدرنفسه –ص72.
46- المصدرنفسه - ص76.
47- المصدر نفسه - ص122.