يكشف لنا الناقد الجزائري المرموق هنا عن تفرد رواية «الديوان الإسبرطي» بين مثيلاتها من الروايات الجزائرية التي استخدمت التاريخ، وعن كونها رواية تطرح رؤية تاريخية متعددة الأبعاد بالمعنى البنائي والتوثيقي والفكري، رغم كل هناتها، فقد أضافت فصلاً هاماً من فصول الرواية التاريخية العربية والجزائرية عميقة الارتباط بالتاريخ.

الرواية التاريخية ثلاثية التخييل

بناءً، توثيقاً وفكراً كما تتجلى في «الديوان الإسبرطي» لعبد الوهاب عيساوي

محمد الأمين بحري

 

*- تمهيد : لماذا الديوان الإسبرطي أول رواية تاريخية؟
لعلنا سنقف كقراء في رواية (الديوان الإسبرطي) للكاتب الشاب عبد الوهاب عيساوي أمام أول رواية تاريخية جزائرية بالمفهوم البنائي والتوثيقي والفكري معاً. لقد اتخذت هذه الرواية منحى معاكساً لسابق الروايات التي تزعم أنها تاريخية، والتي كان التاريخ فيها وسيلة وليس غاية للسرد، هكذا؛ كانت رواية "كتاب الأمير" لواسيني الأعرج تستنزف روح الأمير وأحداث حياته لصالح تمجيد وتدبيج بطلها (مونسينيور ديبوش) وراويها (جون موبي)، وما كانت شذرات حياة الأمير ودوره الثانوي سوى ملحقات وآثار في نفسية بطل الرواية "قس الحملة الفرنسية مونسينيور"، الذي منحه الكاتب في نهاية الرواية جنازة فردوسية ملائكية وملكية لم يحظ بها في الواقع أي قائد جزائري عبر التاريخ، ولم يمنح سكان الجزائر للقس الفرنسي تاريخياً ما منحوه له من تجلة وقداسة في جنازته الروائية المتخيلة في رواية الأمير. مما يشير إلى إن كل مظاهر التاريخ في هذه الرواية ليست سوى ملحقات ووسائل تبتغي غايات غير تاريخية، بما فيها شخصية الأمير نفسه الذي كان أحد الإكسيسوارات الثانوية (فنياً) في حياة البطل "مونسينيور". مما يدفع القارئ للتساؤل سؤالاً يخرج في هدفه عن التاريخ تماماً كما خرجت عنه هذه الرواية: ترى لماذا قام الكاتب بتنكير التاريخ لصالح القس الفرنسي. وجعل له خدماً جزائريين بداية من الأمير عبد القادر وانتهاءً بتقديسه (في جنازته الأسطورية). من طرف الشعب الجزائري، وهو ما لم يحدث قط لا في الواقع، ولا في الخيال، عدى في تخييل هذه الرواية؟ وهذا السؤال الواقع خارج التاريخ يتساءل ويبرر في الوقت نفسه الهدف اللاتاريخي لهذا السرد. وهو ما يحول بينه وبين تصنيفه تاريخياً.

أما رواية هاجر قويدري (الرايس) فكان التاريخ فيها ديكوراً للحياة العاطفية للبطلة مريم، أما الرايس حميدو الذي تحمل الرواية اسمه في عنوانها فلم تمنحه الكاتبة الكلمة بل كان موضوعاً لكلام غيره وخاصة البطلة مريم. ما يجعله ليس فقط شخصية ثانوية فحسب (من وجهة نظر فنية)، بل هامشية حين حرمته الكاتبة من النطق والخطاب. والأمر المشترك بين الروايتين أن الشخصيتين اللتين تزعمتاً بطولة الغلاف والعنوان (إيهاماً للقارئ أنهما البطلان) نجدهما في الروايتين، إما ثانوية أو هامشية. تأكيداً آخر على أن كل ما ارتبط بهما من تأثيث تاريخي هو وسيلة لغاية أخرى غير تاريخية.

وفي مقام ثالث نجد نص "الصخرة الأسيرة" للصادق بن طاهر فاروق، وهو سرد تاريخي فانتازي، عمد إلى أسطرة أحداث الثورات الشعبية وشخصياتها الثورية بالجلفة، لكن سبق وأن كتبنا عن معاناة هذا النص من إشكالية أجناسية تجاه النوع.

وبدرجة رابعة وظف التاريخ روائيون جزائريون كثر بداية من الطاهر وطار [اللاز-العشق والموت في الزمن الحراشي- الشمعة والدهاليز] وأحلام مستغانمي [ثلاثيتها: ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير]، وواسيني الأعرج [سيدة المقام، أصابع لوليتا- مملكة الفراشة]، لكنه توظيف للتاريخ في الرواية وليست روايات تاريخية.

لكن علينا أن نضع أعمال محمد مفلاح [خيرة والجبال- شعلة المايدة، شبح الكاليدوني]، في خانة خاصة، ضمن خزانة الرواية التاريخية الواقعية النقدية، واقعية الحدث متخيلة الشخصيات. كونها روايات تفكيكية وناقدة للتاريخ ما جعل التحقيق والنقد التاريخي أقرب إلى أهدافها من الغرض التخييلي له.

لكن ما يفرق رواية عبد الوهاب عيساوي عن تلك الأعمال التي وظفت التاريخ كوسيلة وأداة لغايات متعددة هو أن تخييل التاريخ في رواية (الديوان الإسبرطي)، قد وظف كل الجوانب الفنية والتوثيقية والفكرية في هذا السرد، كوسائل ولواحق مكرسة حصراً لاستهداف التاريخ وتخييله في الرواية، وهذا هو الأصل في بنية الرواية التاريخية التي لا توظف التاريخ من أجل غرض خارج عن مداره، وإنما تقوم بتسريد كل شيء في العالم السردي من أجل تخييل التاريخ روائياً.

أولا- هندسة السرد الدائري (في الحدث والشخصية والسرد التاريخي الاستبطاني)
بما أن كل نص يحاكم كاتبه بخياراته، فقد شاء الروائي عبد الوهاب عيساوي أن يعتمد مساراً سردياً دورانياً:

-أي يتمحور السرد حول نفس الأحداث من منظور عدة شخصيات، ما جعل السرد لا يتقدم وإنما يدور حول محوره الذي ابتغاه الروائي.

- وهو ما أنتج شخصيات مدورة أي أن خطابها تهيمن عليه المناجاة والحوار الباطني وتيار الوعي أكثر من الحوار والخطاب الخارجيين.

- وبما أن التاريخ هو محور خطاب الشخصيات وغايته فقد أفرز هذا المنحى الدوراني للسرد رواية تاريخية استبطانية، تُحكى من منظور باطني لكل شخصية، وليس من منطلق وصف وسرد خارجيين. مما يعيق معالجتها السينمائية المفترضة التي تسمح بها الروايات التاريخية ذات السرد المشهدي الخارجي.

وقد كان لهذه الهندسة الثلاثية الأبعاد (وفق المنطلقات الاختيارية الثلاث السابقة)، بالغ الأثر والتكلفة على الرواية وتلقيها وقيمتها في المكتبة الروائية التاريخية العربية.

1 – السرد الدوراني للأحداث:
تدور أحداث الرواية حول موضوع الحملة الفرنسية على الجزائر وحيثياتها في ذاكرة مهندسيها الفرنسيين منذ خسارة نابليون لمعركة واترلو (1815). وتهيمن على الرواية أطراف ثلاثة:

*-الطرف الفرنسي: ويتكون من مهندسي الحملة الفرنسية على الجزائر 1830، من فلول عسكريي نابليون المنهزمين، (ويمثلهم القائد العسكري كافيار)، وأطباء، وصحفيين (ويمثلهم مراسل الحملة السيد ديبون) وإقدامهم على اجتياح الجزائر وفق وجهات نظر مختلفة وذرائع وأجندات وعقد ودسائس لا براءة فيها.

**-الطرف التركي: وهم طبقتان: حكام الجزائر ووزرائها من الأتراك في نهاية الدولة العثمانية. وحرس الدولة من اليوليداش وقادة الجيش العثماني.

***-الطرف الجزائري: ويتكون من طبقات: حاشية الأتراك من المور، التجار والحرفيين في القصبة خاصة، والنساء والدراويش.

لكن الغريب في هذه الرواية المطولة ذات الـ 384 صفحة، هو قلة أحداثها حيث لم تتجاوز الثلاثة أحداث: 1-إرهاصات ما قبل الحملة. 2- إبحار الأسطول الفرنسي نحو الجزائر. 3- إمضاء معاهدة الاستسلام. وتسليم الجزائر للفرنسيين. وفيما بين هذه الأحداث الكبرى تدور محكيات ضمنية وتفاصيل حول حياة الشخصيات في الجزائر.

ولعل تهميش الأحداث وندرتها في رواية تاريخية تستهدف فترة زمنية مخضرمة بين العهدين العثماني والفرنسي في تاريخ الجزائر، راجع أساساً إلى طبيعة الخيار السردي الذي انتهجه الروائي وهو السرد الاستبطاني. يعني أن السرد هنا كان مركزاً على العالم الداخلي لشخصيات الراوية وليس على العالم الخارجي، أي كان رؤية إلى الداخل وليس رؤية من الخارج.

وهو ما جعل موضوع التاريخ نفسه استبطانياً خاضعاً لوجهات نظر مختلفة (الفرنسية/ التركية/ الجزائرية) وهذا ما صنع خصوصية السرد التاريخي ونوعه الاستبطاني، ومحاولة تشكيل رؤية موضوعية للتاريخ عبر تناقض وجات نظر ثلاثة أقطاب متناحرة وشريكة في صنع تاريخ الجزائر.

ومن جهة ثانية فقد أضر الوصف الاستبطاني للتاريخ بمفهوم الحدث التاريخي، حيث كان السرد موجهاً للداخل ومهتماً بنفسيات وأحوال الشخصيات. أكثر من كونه وصفا خارجياً للحدث التاريخي، أي أن الحدث الخارجي كان مهمشاً لمصلحة أثره الداخلي في نفسيات الشخصيات.

2- المنظور السردي المتناوب:
توقع رواية (الديوان الإسبرطي) قارئها في عدة إشكالات فنية: منها أنها رواية بلا بطل. وهذا خيار سردي متداول عالمياً وعربياً وليس عيباً في السرد كما يعتقد الكثيرون، وثانيهاً أنها بلا راوٍ محدد. أي أن جميع شخصياتها هم رواة (يتداولون على السرد).

حيث يجد القارئ نفس الشخصيات (1-ديبون/ 2- كافيار/ 3- ابن ميار/ 4- حمة السلاوي/ 5- دوجة) بنفس الترتيب تواجهه في كل قسم من الأقسام الخمسة للرواية. حيث تتكفل كل شخصية برواية فصلها المخصص الحامل لاسمها وصوتها ووجهة نظرها الباطنية.

وهو نمط معروف يسمى السرد المتناوب. أي أن تكون شخصيات الرواية هي نفسها الرواة، وتتقاسم وجهة النظر بينها، حين تروي كل شخصية فصلها الخاص ويكون ذلك الفصل حاملاً لاسمها، دلالة على أنها هي من ستروي الأحداث للقارئ بوجهة نظرها، وما إن ينتهي فصلها حتى تسلم كاميرا السرد للشخصية الموالية وهكذا حتى نهاية الرواية. التي تتم عنونة فصولها بأسماء شخصياتها وهم أنفسهم الرواة الذين يتقاسمون المنظور السردي. وقد شاهدنا هذا النمط السردي في رواية سابقة هي (الرايس لهاجر قويدري).

3- الشخصيات المدورة (رواة أم أبطال؟):
دون أن يعلم القاري في كل فصل يحمل عنوان الشخصية التي ترويه، هل هذا الراوي هو بطل الرواية؟ لأن كل شخصيات الفصول قامت بسرد فصولها بعدد متساوٍ في حصة الفصول الممنوحة لها، حيث يبدأ كل قسم من أقسام الرواية بفصل يرويه الصحفي الفرنسي "ديبون"، ثم يتلوه "كافيار"، ثم "ابن ميار" ثم "حمة السلاوي" وينتهي "بدوجة"، على النحو الآتي:

الراوي الأول/ ديبون: وهو أول راوٍ لأول فصل في كل أقسام الرواية الخمسة: وهو مراسل متقاعد للحملة يعمل في جريدة (لو سيمافور دو مارساي)، متعاطف مع القضية الجزائرية وفاضح لممارسات الاستعمار.

الراوي الثاني/ كافيار: نائب قائد الهندسة المدنية بالحكومة الفرنسية بالجزائر وصديق الدوق روفيغو حاكم الجزائر، ووزير في حكومة نابليون. وأسير سابق لدى الأتراك في معركة واترلو. مما أورثه عاطفة حقد لا متناه تجاه الأتراك والجزائريين.

الراوي الثالث/ ابن ميار: أحد المواطنين الجزائريين من المور وهو كاتب الديوان لدى الباشا، ثم عضو في مجلس بلدية الجزائر تحت الحكم الفرنسي، بعد رحيل الأتراك. وهو كاتب رسائل الشكوى (غير المجدية) وحاملها للقادة الفرنسيين في الجزائر وفرنسا.

الراوي الرابع/ حمة السلاوي- أحد السكان العرب الجزائريين درويش ومهرج دمى في الظاهر، لكنه حكيم ووطني وممثل لنخوة الغيورين على الوطن، وهو الذي يقتل الخونة والمندسين (مثل العميل المزوار)، ويلتحق بجيوش الأمير عبد القادر عند بدء المقاومة الشعبية في الغرب.

الراوي الخامس/ دوجة: الفتاة الجزائرية ضحية الفقر والتشرد، التي تحولت بغياً لكن اكتشافها لنبل حمة السلاوي واحتضانها من طرف عائلة ابن ميار أنقذها من الرذيلة، وقد منحت مسحة رومانسية على الأحداث.

وطبعاً يبقى ترتيب الأولوية في الظهور هو الخيار الوحيد أمام القارئ في رواية اللابطل وتساوي وجهات النظر بين الرواة، لكن الإشكال ليس في البطولة ما دام الروائي قد همشهاً في خياره السردي. بل يظهر الإشكال في كيفية السرد وتدوير وجهة النظر بينها وما سببه من إشكالات خطابية.

4- إشكالات السرد التناوبي و الاستبطاني.

لقد وقع الروائي إثر هذين الخيارين السرديين (تدوير كاميرا الراوي بين الشخصيات + السرد الباطني) في عدة مآزق وإشكالات:

 *- الإشكال الأول: هو طمس الحدث الخارجي، ولو لم تكن الرواية تاريخية لما كان لهذا الخيار السردي أي ضرر، لكن الرواية التاريخية يعنيها كثيراً السرد من الخارج والراوي العليم المستقل نسبياً عن الشخصيات. (لأن الوضعية الطبيعية للكاميرا هي الخارج وليس الباطن)، وهكذا تصطدم خصوصية النمط الروائي مع خيارات السرد لدى الكاتب. وهنا يحق للقارئ أن يتساءل هل يصح أن تكون أحداث التاريخ باطنية في وصفها وسردها؟ وأن يكون التاريخ انعكاساً لما في باطن الشخصيات وليس هو المنظور إليه خارجها؟

وقد أوقع هذا الخيار السردي الرواية بأسرها في دوامة تكرارية اجترارية لثلاثة أحداث فقط.

حيث وجد الروائي نفسه يكرر الحدث نفسه من زاوية نظر خمسة رواة (أي خمسة فصول) في كل قسم من أقسام الرواية. فمثلاً: كلما حدثتنا شخصية الراوي الأول في كل أقسام: "ديبون" عن حدث (الاجتياح الفرنسي لسواحل الجزائر مثلا)، تقوم الشخصيات الأربع المتبقية في القسم، بسرد الحدث نفسه في الفصل المخصص لها معيدة سرده من منظورها.

فصارت الأحداث بدورها دورانية، والسرد يسير إلى الخلف ويدور حول نفسه خمسة مرات في خمسة فصول ولا يتطور. مما شل عجلة السرد، وأوقع الروائي في تكرار مجاني، وصار حبل الأحداث كُبة تدور حول نفسها بدلا من أن يمتد ويتقدم. وصار كل فصل يكرر ما جاء في سابقه بدلاً من يكون استكمالاً واستئنافاً له. فوقعت الرواية في دوامة من الاجترارات الدائرة حول نفس النقطة حتى جعلت من حدث بسيط كانطلاق الأسطول الفرنسي من فرنسا إلى الجزائر يستهلك ما يفوق 200 صفحة من السرد الدائر نحو نفس أطوار الرحلة. وهذا الخيار كلف الروائي عشرات الصفحات المجانية أتي أعاقت سيرورة السرد وأدخلته في مطبات من الإسفاف والحشو الذي أضاع كثيراً من الحبر والورق والجهد ووقت القارئ. فضلاً عن جلبه للملل في القراءة حين لا يتقدم السرد. ويجد القارئ حاله كحال الأحداث والفصول التي أمامه يدور في حلقة حدث سبقت قراءته لمرات ومرات. ولم يكن هذا ليحدث لوكان العين الساردة تروي الأحداث من خارج الشخصيات.

*- الإشكال الثاني: أن لهذا المطب مخرج ما؛ وهو أن تكرار الحدث نفسه في كل فصل يتم من منظور شخصية مختلفة الانتماء الفكري والموقعي والنمطي، وهذا جيد، لكن ما يلبث أن يسقط في مطب ثانٍ، وهو ما لم يحتسب له الكاتب، ذلك أن السرد الاستبطاني يجعل من وعي الكاتب هو المسيطر على جميع الشخصيات، وهذا ما حدث بالفعل؛ فإن كانت الشخصيات مختلفة فكراً وموقعاً ونمطاً في بنائها وانتمائها، فإنها متساوية في وعيها الناظر للأحداث، بشكل عاطفي (ماعدا كافيار) الذي كان على مسافة فكرية وعاطفية بعيدة عن الشخصيات الأربعة الأخرى (وإن كان يصب في إنائها)، ما يعني أن رؤية الكاتب هي التي ساوت بين وعي الشخصيات الراوية الأربعة، ووحدته رغم الفوارق الانتمائية والطبقية والثقافية والحضارية. وهذا ما أفرز في هذه التجربة الروائية، إشكالاً ثالثاً. ويتمثل في الزوائد السردية.

*- الإشكال الثالث الزوائد السردية: ونقصد هنا بالزوائد: كل ما أعاق عجلة سرد الأحداث ومنعها من التقدم والنمو. وهنا سنجد في الرواية:

- فصولاً زائدة: تُكرر أمام القارئ نفس الأحداث التي مر بها، بينما كان من الممكن المرور على تلك الأحداث بإعطاء وصف وموقف عابرين لها، والاهتمام بتقديم حدث جديد في الفصل الموالي لأن الغاية من تقسيم الرواية إلى فصول هو بحسب ما يستجد فيها من أحداث. فوقع ما يمكن تسميته بتكلس السرد، لأن الفصل الذي لا يقدم حدثاً فرعياً جديداً يطور ما سبقه من أحداث يعتبر تابعاً لما قبله ويلغي قيمة انفصاله عن الفصل السابق. لأن القارئ ينتظر مع بداية كل فصل جديد أن تقدم له حدثاً جديداً وليس عودة من نقطة انطلاق الفصول السابقة. ثم ما دور الشخصية الجديدة وسط حدث سابق إن كانت تكرر معايشته؟

  • هناك شخصيات زائدة: مثل شخصية دوجة، وهي التي جاءت لتمنح بعداً عاطفياً للرواية، ورغبة في إدراج العنصر النسوي في المنظور الروائي، وصورة للمرأة في تلك الفترة. وهو أمر مفهوم، لكن ما جعلها زائدة ومعطلة للسرد، هو أنها كانت إحدى الشخصيات الراوية الخمس، أي أن الروائي قد خصص لها فصلاً بكامله في كل قسم من أقسام الرواية الخمس، ما يعني أيضاً أنها روت لنا من داخلها خمسة فصول على امتداد الرواية، مع أن جل ما كانت ترويه هو حياتها الخاصة التي تعيد فيها سرد وقائع وقعت لحمة السلاوي، وابن ميار، والمزوار وحتى كافيار قبلها (بحكم أنها آخر الرواة في ميع أقسام الرواية)، أما حين تتحدث هي عن حياتها الخاصة فإنها تروي قصصاً زائدة ومثقلة للسرد لعدم وجود أي علاقة لها به، مثل قصتها مع تاجر النحاس وزوجته المهووسة بالنظافة .. ودخولها في عقد عائلة تاجر هامشي تورطت معه بشكل مجاني وخارج عن حبكة الرواية وعقدتها. فكان ما ترويه عبئاً حقيقياً على الرواية لانقطاع علاقة حياتها الشخصية ومشاكلها بإشكالات الكبرى للنص وأحداثه.
  • والخلل هنا ليس في إدراج العنصر النسوي. ولكن إدراجه بهذه الطريقة لم يكن في صالح الرواية. إذ لو استعملها الروائي كراوِ عليم مثلاً يسمو على كل الفصول والشخصيات والأحداث ويعبر بالقراء من شخصية لأخرى ومن حدث لأخر، لكانت أوفى للوجود الأنثوي للرواية، وأكثر اندماجا في كل تفاصيلها، ومساهمة في السرد التاريخي، ولاقتصدت ما يربو عن 100 صفحة من حجم الرواية، لكنه كان خيار الروائي الذي رآه الأنسب. وله أن تحمل تداعياته على القراء.
  •  ومن أبرز مزالق هذا الخيار السردي التكراري، وقوع الروائي في النسيان والسهو، من فرط ما تعاقبت المشاهد الروتينية على ذهنه.

وهو ما نقف عليه في القسم الرابع، في فصله الرابع الخاص بحمة السلاوي، ص:291. حين عقد في نهاية الرواية علاقة صداقة لم تحدث أصلاً في الفصول السابقة بين شخصيتين لم تلتقياً من قبل لتخالف مساريهما، وفجأة دون مقدمات صارا صديقين؟ في مشهد ناشز، يستغربه القارئ الذي مر به كل منهما في فصله الخاص: كيف صارا صديقين هنا ولم يحدث أن حدثتها الرواية بذلك في فصليهما على الأقل: وهما الصحفي الفرنسي "ديبون"، والدرويش حمة السلاوي؟؟

ففي ص289، يتدخل حمة السلاوي ليلطم شاباً مالطياً دفاعاً عن الصحفي الفرنسي ديبون؟؟ ولم تورد الرواية أنهما التقيا أو تعارفاً في الفصول السابقة التي يرويها كل منهما بعيداً عن الآخر. بل كان كل منهما يتخذ في فصله مساراً مختلفاً حسب موطنه وطبقته وفكره ومستواه بعيداً عن الآخر لنجدهما فجأة صديقين ويناديان بعضهما باسميهما دون سابق معرفة فيما سبق من السرد. فما مبرر هذه الصداقة وأين حصلت؟ وكيف وصل كل منهما إلى الأخر؟؟

يقول حمة السلاوي في ص290: "انتبهت إلى "ديبون" يحييني، فالتفت إليه وسألته منذ متى وأنت هنا؟ ما السر في عودتك؟ (...)"، ثم يواصل في ص 291: "أتفق معك يا صديقي، ولكن قل لي: هل سيدفعهم اتفاقنا إلى الرحيل؟".

فكيف صاراً صديقين وآخر ما قاله حمة السلاوي قبل هذا عن "ديبون" يشي صراحة أنه لا يعرفه، بل ينكره صراحة، إذ وصفه بالشاب الأوربي في أول ذكر له في الرواية على لسانه حيث قال: "أبصرت ابن ميار يحدث شاباً أوربياً، هممت بالاقتراب منهما، وعدلت عن الأمر" ص 225، ما يعني أن اللقاء والمعرفة لم يحصلاً، والرجلان نكرتان بالنسبة لبعضهما، ويستنتج القارئ من هذا النكران، أن المقصود من لفظة الشاب هو الصحفي "ديبون". أما السلاوي فلم يرد في يوميات أو الفصول التي رواها "ديبون" مطلقاً، ولا أحد من الشخصيات الرواة عبر جميع الفصول تكلم عن علاقة بينهما، ليظهراً صديقين حميمين في الفصل الرابع من القسم الرابع، وهي صدمة غير مبررة في لقاء شخصيات وأحداث لم يسبق التبرير لوجودها، وهو ما قد يصيب فصول وشخصيات الرواية وخطها الدرامي باختلال فظيع، أو يسمها بالكولاج في رصف شخصيات وأحداث لا علاقة طبيعية بينها.

ورغم ما اعتور هذه الرواية من إكراهات فنية وأخطاء تركيبية في إدارة الشخصيات، تسببت فيها خيارات الروائي (مثل الخطأ الأخير الذي نتمنى استدراكه وتبريره في الطبعات اللاحقة)، فإن ما يمكن قوله بموضوعية، هو أن رواية "الديوان الإسبرطي" رغم كل هناتها، قد أضافت فصلاً هاماً من فصول الرواية التاريخية العربية والجزائرية بتقديمها لتوليفة من اللوحات التاريخية والمشاهد الحية في صور تخييلية عميقة الارتباط بالتاريخ، دون أن تخون التاريخ وحوادثه وشخصياته في شيء، ودون أن يخونها التخييل السردي في تقديم رؤية متعددة الأبعاد لفترة تاريخية متداخلة الأحداث، عاصرتها الرواية تخييلياً ومنحت القارئ فيها حياة ومعايشة لأحداثها وشخصياتها، بأنفاس سردية جارفة تحمل من التشويق ما تحمله من ندوب وإكراهات ناتجة عن حوادث عمل راسخ القواعد من حيث انتمائه الفني روايةً وتاريخاً.

 

ناقد وأكاديمي جزائري

- رواية الديوان الإسبرطي- منشورات دار ميم للنشر، ط1، 2018.