مجموعة من التقارير ترصد الوضع في فلسطين المحتلة لكاتبها مصطفى يوسف اللداوي، والذي تعود متابعة الشأن الفلسطيني ومقاربة واستقراء تفاصيله، في ظل المتغيرات السياسية على الأرض، وما تشهده القضية الفلسطينية من تكالبات هذا الى جانب التوقف عند الوضع السياسي الداخلي وقراءة الموقف الأمريكي ومتغيرات المزاج الدولي، في وقت تزداد ترسانة الكيان الصهيوني هجوما وطغيانا وتواصل عدوانها اليومي على المواطنين وتشجيع الاستيطان.

تقارير من فلسطين

مصطفى يوسف اللداوي

 

الإدارةُ الأمريكيةُ تنقلبُ على إسرائيلَ وتنتقدُهَا

يبدو أنها أضغاثُ أحلامٍ وأماني مستحيلة، وقراءاتٌ خاطئة واستنتاجاتٌ واهية، فهي ضربٌ من الخيال البعيد، أو هي شيءٌ من الوهم المريض، لا يجوز لنا أن نتصورها ولا يحق لنا أن نتخيلها، ومن السفه وقلة العقل أن ننتظرها أو أن نتوقعها، فهذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً، بل هو المستحيل بعينه، فهو مخالفٌ للسياسة الأمريكية ومناقضٌ لثوابتها، ولا يتوافق مع تاريخها ولا ينسجم مع موروثاتها، فالولايات المتحدة الأمريكية تتبنى الكيان الصهيوني وتدافع عنه، وتتولى رعايته وتتحالف معه، وهي التي تتعهد قوته وتفوقه، وتحرص على أمنه ومستقبله، وتضمن سلامته وتعمل على حمايته، وتحول دون انتقاده وترفض إدانته، وتمنع مجلس الأمن من التصويت ضده أو التهديد بعقابه.

لكن هذا لا يمنعنا من ملاحظة المتغيرات الأخيرة في الخطاب الأمريكي تجاه الكيان الصهيوني، ومتابعة تصريحات الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن وأركان إدارته، خاصةً بعد معركة سيف القدس والعدوان على قطاع غزة، وممارساته العنيفة والعنصرية ضد المواطنين الفلسطينيين في مدينة القدس، ومحاولات الاعتداء على أحيائهم والتهديد بإخراجهم من بيوتهم، ومخططات طردهم منها والسيطرة عليها، ذلك أنه يوجد متغيراتٌ وإشاراتٌ يصعب إنكارها، ولا يسهل تجاهلها، بل يجب الوقوف عندها ودراستها، وتحليلها ومعرفة حقيقتها، والحكم عليها إن كانت جدية ولها ما بعدها، أو أنها شكلية ووهمية، وليست إلا لذر الرماد في العيون، ولفت الأنظار وحرف المجتمع الدولي عن الاهتمام بالأسباب الحقيقية لتفجر العنف في المنطقة.

فالرئيس الأمريكي الذي لا يخفي غضبه من رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو، وسخطه عليه وسعادته برحيله، كان قد اتصل به مراتٍ عديدةٍ موبخاً ومحذراً، وطالبه بالوقف الفوري لكافة العمليات الحربية ضد قطاع غزة، وكان من قبل قد استنكر إقدام الحكومة الإسرائيلية على تهديد السكان الفلسطينيين في حي الشيخ جراح، ودعاها إلى حُسن معاملتهم واحترام حقوقهم، وعدم الإقدام على إخراجهم من بيوتهم، واعتبر ما قامت به الحكومة الإسرائيلية عملاً غير محترمٍ.

وفي السياق ذاته دعا الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ على الأوضاع العامة في مدينة القدس، واحترام حقوق الفلسطينيين المشروعة بالصلاة وإقامة الشعائر الدينية في المسجد الأقصى، وعدم استفزازهم والتضييق عليهم، وعدم القيام بأي إجراءاتٍ من طرفٍ واحدٍ، من شأنها المساس بالمسجد الأقصى، وبالوضع التاريخي للقدس الشرقية وسكانها الفلسطينيين.

وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن عن نيته افتتاح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، فيما بدا أنه تراجعٌ عملي عما قام به الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأعلن تسميه سفيرٍ جديدٍ لبلاده في الكيان الصهيوني، يختلف كلياً عن سلفه دافيد فريدمان، ولا يؤمن بأفكاره ولا يتبنى سياسته، ولا يشجع الإسرائيليين على الإمعان في الاعتداء على الفلسطينيين ولا يحرضهم عليهم.

كما سمى هادي عمرو مبعوثاً أمريكياً للسلام في الشرق الأوسط، ومسؤولاً عن الملف الفلسطيني والإسرائيلي في الإدارة الأمريكية، رغم اعتراض الحكومة الإسرائيلية عليه، وعدم رضاها عنه، ومطالبتها بتغييره أو عدم تثبيته كونه عربي الأصل، ويبدي انحيازاً إلى الفلسطينيين واضحاً، ويؤيدهم في حقهم بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة العبرية، فيما يعرف بحل الدولتين، ويعارض السياسات العنفية الإسرائيلية، ويحملهم مسؤولية التدهور الأخير في المنطقة، في الوقت الذي ينوي فيه الاقتراح على رئيسه بزيادة الدعم الأمريكي للسلطة الفلسطينية، والعمل على تحسين أدائها وتثبيت سلطتها وزيادة ميزانيتها، والتخفيف من المساس بهيبتها وتجاوزها والاعتداء عليها.

ووجه الرئيس الأمريكي انتقاداً شديد اللهجة إلى الحكومة الإسرائيلية لتعمدها تأخير وتعطيل عملية إعادة إعمار قطاع غزة، ودعاها ومصر إلى المباشرة في عملية الإعمار، وتحسين مستوى معيشة سكان قطاع غزة، وتسهيل إدخال مواد البناء والوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء.

وبلغت حدة الانتقادات الأمريكية أوجها في الأيام القليلة الماضية، عندما استنكرت الإدارة الأمريكية إقدام الحكومة الإسرائيلية على هدم بيت المواطن الفلسطيني منتصر الشلبي، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، على خلفية قيامه بقتل مستوطنٍ إسرائيلي وإصابة آخرين بجراحٍ مختلفةٍ، واعتبرت الإدارة الأمريكية أن سياسة العقاب الجماعي المتمثلة بهدم البيوت سياسة ظالمة، وهي لا تساعد في تحقيق الأمن وتثبيت السلام في منطقة الشرق الأوسط، بل إن الاستمرار فيها يجلب المزيد من العنف وعدم الاستقرار، ويخلق ردود فعلٍ قاسية وغير محسوبة، وكانت الحكومة الإسرائيلية قد دافعت عن موقفها، ورفضت الاستجابة إلى الرغبة الأمريكية، ونفذت أجهزتها الأمنية عملية الهدم، بحجة أنها تحمي أمنها وسلامة مستوطنيها.

مما لا شك فيه أن هناك خطاباً أمريكياً تجاه الكيان الصهيوني مختلف ظاهرياً، ولا يشبه الخطاب التقليدي الأمريكي المعتاد، وهو لا يقتصر فقط على الديمقراطيين، بل اشترك فيه بعض الجمهوريين من أعضاء مجلسي الكونجرس والشيوخ لأمريكيين، الأمر الذي يشي بأن تغييراً ما قد طرأ، وتطوراً في السياسة الأمريكية قد حدث، فهل هي تغييراتٌ جذريةٌ حقيقيةٌ، تمهدُ لانقلابٍ حقيقي في السياسة التقليدية الأمريكية، أم أنها فقط محاولة لإنقاذ إسرائيل من أزماتها وإخراجها من مآزقها، وانتشالها من غبائها، ومساعدتها على الخروج من ورطتها وتجاوز محنتها.

 

الأسرى الإسرائيليون قنبلةُ نتنياهو في حجرِ بينت

غادر رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو منصبه مرغماً، مكسوفاً مكسور الخاطر، إذ لم يحقق حلمه القديم وأمله الكبير، ووعده الدائم باستعادة جنوده الأسرى ورفاتهم لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، رغم الحروب الدامية التي خاضها ضدهم، وهو الذي تعهد كثيراً أمام شعبه وذوي جنوده الأسرى بإعادتهم إلى بيوتهم، وجمعهم مع عائلاتهم، ودفن القتلى منهم في مقابر معروفةٍ، تحوي رفاتهم وتحمل أسماءهم.

إلا أن المقاومة الفلسطينية الصامدة في مفاوضاتها، والثابتة على شروطها، والمصرة على تنفيذ إرادتها، كشفت بصمودها سوأة نتنياهو، وأظهرت عجزه وأبانت ضعفه، وفضحته أمام خصومه ومؤيديه، وجرأت ذوي جنوده عليه، وأطلقت العنان لوسائل الإعلام لانتقاده واتهامه، وتوجيه اللوم له والهجوم عليه، فقد كان يتبجح بقرب استعادة جنوده، وادَّعي أنه الوحيد القادر على إنهاء ملفهم، وتعهد كثيراً في حملاته الانتخابية بتسويةٍ مشرفةٍ لملفهم، إلا أن شيئاً من وعوده لم يتحقق.

ماطل نتنياهو وأَخَّرَ، وناور وعاند وفشل في تحقيق هدفه، وعجز الوفاء بوعده، رغم المساعي الكبيرة التي بذلها على المستويين الأمني والعسكري لاستعادتهم بالقوة، أو بعملٍ أمنيٍ خارقٍ، دون أن يكون مضطراً لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين، ودفعِ أثمانٍ باهظةٍ مقابلهم، ورغم جهود الوسطاء الدوليين الذين حاولوا مساعدته، وبذلوا جهوداً مضنية للتوصل إلى اتفاقٍ مرضي مع المقاومة في غزة، يحققون بها هدفه، وينقذونه من ورطته، ويساعدونه في الاحتفاظ بمركزه ورفع نسبة التأييد الشعبي له، إلا أن تبجحه خَسَّرَه، وعناده أفقده الفرصة، وغروره حرمه من نشوة النصر وفرحة الإنجاز. 

غادر نتنياهو منصبه الرفيع لخلفه نفتالي بينت، إلا أنه ورثه ملف جنوده المستعصي، وحَمَّله مهمة استعادتهم المستحيلة وتسوية قضيتهم المتعسرة، علماً أنه الذي كان يقف حجر عثرةٍ أمامه، ويضع شروطاً تعجيزيةٍ تقيده وتقعده، وتحول دون تمكنه من التفاوض والمساومة، فقد كان خلال وجوده في حكومات نتنياهو السابقة، وأثناء توليه حقيبة وزارة الحرب، يرفض رفضاً تاماً الإفراج عن أسرى فلسطينيين ممن يصفهم بأن أيديهم ملطخة بدماء اليهود، وكان يصرُ على موقفه، ويتشدد في شروطه، ويعلن وائتلافه معارضته لأي صفقة مؤلمة مع المقاومة الفلسطينية، ما أفشل جهود الوسطاء وأعيا نتنياهو وخَيَّبَه.

استغل نتنياهو الظرف وأطلق العنان لسيلٍ من الاتهامات والانتقادات العلنية المباشرة لغريمه الجديد وحليفه القديم نفتالي بينت، وطالبه بالتصدي لهذه الأزمة، وعدم تأجيلها أو القفز عليها، وأوعز إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من الأمنيين والعسكريين المؤيدين له والمتوافقين معه، بإطلاق التصريحات المحرجة وتسليط الضوء على بعض الثوابت المتعلقة بعمليات تبادل الأسرى، والأثمان التي يجب دفعها في سبيل إتمامها، مطالبين إياه بسرعة التحرك وفعالية التفاوض، واستغلال الظرف وعدم تفويت الفرصة، وإطالة أمد غياب جنودهم ومضاعفة معاناة أهلهم.

يعمل نتنياهو على إحراج بينت وحكومته، ويقول له أن التهدئة مع قطاع غزة يلزمها بعض الرفاهية، وفتح المعابر وزيادة حجم السلع والمواد الضرورية للتخفيف عن السكان، ولا يكفي التهديد بالقوة والتلويح بالشدة والعنف، ولا محاولات التظاهر بالذكاء والتلاعب بالتصريحات لتغيير الواقع، ولن يعود الجنود دون ثمنٍ تؤديه وبدلٍ تدفعه، ولا أثمان تملكها "إسرائيل" غير الأسرى الفلسطينيين.

وكان الجنرال احتياط غيورا آيلند قد تهكم على حكومة نفتالي بينت، وعلى كل من يعتقد أنه يستطيع إعادة الجنود دون دفع ثمنٍ، وقال في مقابلةٍ له مع إذاعة جيش كيانه، بأن "من يتوقع إعادة الجنود والمفقودين من غزة دون تحرير أسرى فلسطينيين هو واهمٌ، ولا يفهم في هذا الموضوع"، واعتبر أن الوفود الأمنية الإسرائيلية التي تفاوض في القاهرة تعرف الثمن جيداً، وتدرك أنه لا مفر من دفعه، إلا أن بينت يرفض ويكابر، ولكنه سيكون مضطراً لدفعه في نهاية الطريق.

قد لا يكون نتنياهو يريد لنفتالي بينت أن يحقق هذا الإنجاز، ويعيد الجنود إلى بيوتهم وأسرهم، وتقوم عائلات من قتل منهم بدفنهم والوقوف على قبورهم، فهذا إذا تحقق وفق رؤية بينت وشروطه، فإنه سيحسب له وسيصب في صالحه، وستكون سابقة حكومية تضر بسمعته الحكومية وتضعف مركزه، ولكنه يريد توريط بينت وفريقه في هذا الملف، ودفعه للقبول بشروط المقاومة والنزول عندها، والوفاء بها ودفعها ولو كانت مؤلمة وباهظة، ليثبت صوابية رأيه ورجاحة عقله وحكمة سياسته، وليظهر كذب بينت وخداعه، وضحالته وقلة تجربته، وأنه لا يحسن غير جعجعة المعارضة وغباء التعطيل.

يعلم نتنياهو وأركان حكوماته القديمة وقادة المعارضة الجدد، تماماً كما يعلم بينت وأقطاب ائتلافه المتهالك، ويدرك الأمنيون والعسكريون الإسرائيليون جميعاً، أن قضية جنودهم لن تحل دون ثمن، وأن استعادتهم لن تكون بغير حرية الأسرى الفلسطينيين، وأن أي معلوماتٍ بشأنهم أو تخصهم، لن يفرج عنها قبل إتمام صفقة شاليط الأولى، وإطلاق سراج جميع من أعيد اعتقالهم، فهذا وعدٌ قطعته المقاومة على نفسها، وتعهدت به تجاه شعبها، وخاضت في سبيله مع شعبها أصعب الحروب وأشدها، وهي تتمسك بشروطها، وتصر على مواقفها، وسيخضع لها عدوها ويلتزم صاغراً بها، وهي تعد بمفاجئاتِ جديدةٍ تسر شعبها وتغيظ عدوها، وتحقق به وعيدها وعددها 1111.

 

الأغوارُ في مواجهةِ الزحفِ الإسرائيلي الصامتِ والتخطيطِ العنيدِ

لم تكن خربة الحمصة التي اجتاحها جيش العدو الإسرائيلي يوم أمس الخميس، هي القرية الفلسطينية الوحيدة أو التجمع والخربة الأولى التي يقتحمها ويستولي عليها، ويطرد أهلها منها ويحرمهم من حقوقهم فيها، ويجبرهم على الخروج منها في شاحناتٍ مع آثاثهم البسيط ومواشيهم التي يعتاشون عليها، دون مراعاةٍ لحقوقهم المشروعة في أرضهم التي ورثوها عن أجدادهم، وحافظوا عليها وآباؤهم، وعمروها بجهودهم رغم ممارسات الاحتلال القاسية بحقهم، ومعاناتهم الشديدة من قوانينهم الجائرة، وحرمانهم المتواصل من حقهم في الاستفادة من مياه الأغوار الجوفية، أو الاستفادة من خدمات البنى التحيتة التي يحتاج إليها المواطنون لتيسيير شؤون حياتهم، وتسهيل قيامهم بالخدمات الحيوية والضرورية.

فقد طرد جيش الاحتلال الإسرائيلي عنوةً وبالقوة، أكثر من 166 مواطناً فلسطينيناً، من قرية خربة الحمصة في الأغوار، وأجبرهم على الصعود إلى شاحناتٍ عسكريةٍ، أعدت خصيصاً لنقلهم وإخراجهم من مناطقهم، دون أن تحدد لهم مناطق بديلة أو أرضاً أخرى للإقامة فيها، وتركهم يهيمون على وجوههم بحثاً عن أرضٍ أو مكانٍ يُسمح لهم الإقامة فيها، والعمل وممارسة حرفتي الزراعة والرعي عليها، بينما قامت آلياتهم العسكرية بعملية تجريف واسعة وسريعة للقرية، فدمرت المتاع والممتلكات، وخربت البيوت والمنشآت، وسوت منازل الفلسطينيين بالأرض، متذرعةً بأن المنطقة عسكرية، وتجري فيها تدريبات ومناورات عسكرية، ولا يجوز للمدنيين الاقتراب منها أو الإقامة فيها، أسوةً بالكثير من مناطق الأغوار المخصصة لأعمال الجيش العسكرية، ومخازنه وثكناته ومطاراته ومعسكراته التدريبة وغيرها.

جرت عملية الاقتحام والطرد والترحيل والتجريف والتخريب، للسكان المدنيين ومعهم الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والمسنين، دون مراعاةٍ لحقوقهم المشروعة، ولا لحقوقهم الإنسانية، التي تم خرقها أمام أعين وسائل الإعلام والمراقبين الدوليين والإسرائيليين، وصمت الأمم المتحدة ومنظماتها، وذلك بعلم وموافقة الحكومة الإسرائيلية، التي وافقت وصادقت على قرارات الهدم والترحيل، التي تنفذ مخططاتها القديمة ومشاريعها العديدة، الهادفة إلى السيطرة التامة على أرض الأغوار كلها، وطرد كل الفلسطينيين منها، ومنعهم من الإقامة والعمل فيها، أو الاستفادة من خيراتها والتمتع بمميزاتها، وإن كانت حارقة الطقس ساخنة الأجواء، منخفضة الموقع جافة البيئة، إلا أنها تبقى أرضهم العزيزة، وبلادهم الأصيلة، التي تمتاز دون غيرها بطقسها الحار المرغوب، ومنتجاتها الصيفية المتعددة، وشمسها وبحرها الجاذب للسياح والرحلات الترفيهية.

لا ينفك الاحتلال الإسرائيلي يحاول السيطرة الكاملة على أرض الأغوار الفلسطينية، التي تشكل أكثر من 28% من المنطقة المصنفة إسرائيلياً بــــ “C”، بما يزيد عن 1.6 مليون دونم، أنشأ فيها منذ احتلاله لها 36 مستوطنة وعشرات التجمعات الاستيطانية، يقيم فيها أكثر من عشرة آلاف مستوطنٍ، يتمتعون بكامل الحقوق لجهة الحماية والتمكين، والتمليك وحق البناء والتعمير، وحق العمل والاستثمار والتغيير، حيث يستفيدون كلياً من مياه الأغوار التي يحرم منها أهلها وسكانها الفلسطينيون، بينما يحق للمستوطنين استجرار ما يشاؤون منها، واستخراج ما يستطيعون من مخزوناتها في الآبار الجوفية، ويتمتعون بكل الخدمات المدنية التي توفرها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لهم، كالكهرباء وخطوط الهاتف والشبكات الخلوية وخدمات المجاري والبنى التحتية، التي يحرم منها الفلسطينيون، ويمنعون من التأسيس لمثلها أو إنشاء البديل عنها.

يعتبر الاحتلال الإسرائيلي منطقة الأغوار الممتدة على طول الحدود الشرقية للضفة الغربية، من أهم المناطق العسكرية التي يصر على المحافظة عليها، كونها تفصله عن الأردن ذات الكثافة السكانية الفلسطينية العالية، مما يجعلها خاصرةً ضعيفةً يصعب عليه الدفاع عن كيانه بدونها، ولكن أطماعه فيها تتجاوز الأبعاد العسكرية والأمنية إلى الاقتصادية والسياحية، إذ تعتبر الأغوار بطقسها المميز وشمسها الحارقة وأرضها الواطئة، سلةَ فلسطين الغذائية، التي لا تتوقف خيراتها ولا تنضب نِعَمُها، ولا تجف أرضها ولا تتشقق عطشاً تربتها.

لم يبق الاحتلال الإسرائيلية بسياسته الاستيطانية، وبقوانينه العنصرية وممارساته العدوانية مكاناً للفلسطينيين في منطقة الأغوار الواسعة، فضيق عليهم فيها وشدد شروطه ضدهم، حتى لم يبق فيها أكثر من 30 قرية وتجمعاً فلسطينييناً، يعيش فيها قرابة 75- 90 ألف فلسطيني، يقل عددهم ولا يزداد، وتهدم بيوتهم ولا تعمر، ويطرد أهلها ولا يسمح لهم بالعودة إليها، وهم فيها محرومين من كل ما يلزمهم للعيش ويؤهلهم للبقاء، ذلك أن الكيان الصهيوني يرى في الأغوار التي تزداد مساحةً ضمن تعريفه على حساب محافظة طوباس، أنها النقب الثانية، التي لا يستغني عنها لأعمال الدفاع ومنافع الاقتصاد.

إنها ليست خربة فقط وليست قرية، وهي وإن كانت تسمى حمصة أو أنها كانت بقدر الحمصة حجماً ومساحةً، إلا أنها يجب أن تكون بحجم فلسطين كلها قدراً ومكانةً، وقيمةً ومنزلةً، فمن يفرط في حبة الرمل يفرط في الأرض، ومن يفرط في الحمصة الصغيرة بفرط في المدينة الكبيرة، ومن يدافع عن أبسط الحقوق وأقل الممتلكات، يحافظ على الوطن كله، ويصون الحقوق والممتلكات والمقدسات كلها، وإلا سنكون بحق كمن ... "أكلتُ يومَ أُكلَ الثورُ الأبيض".

 

التكنولوجيا الإسرائيليةُ الأمنيةُ تُطبعُ الأسواقَ العربيةَ

بدت اتفاقية أبراهام للسلام الموقعة بين دولتي الإمارات العربية المتحدة والبحرين من جهة والكيان الصهيوني من جهةٍ أخرى، كأنها فتحٌ إسرائيلي كبيرٌ وانتصارٌ سياسيٌ مهولٌ، ما كانوا يحلمون به علناً وفي وضح النار، وإن كانوا قد اعتادوا عليه سراً وفي الخفاء، فقد مكنتهم الاتفاقيات الجديدة من كشف ملفاتهم السرية، وإخراج كل ما كان مخفياً تحت الطاولة، والإعلان عما كان محظوراً سابقاً وممنوعاً عليهم، مما ساعدهم على سرعة الإنجاز وكثافة العمل، وانتهاز الفرصة وإثبات القدرة، والحضور المباشر والظهور المكشوف، والمنافسة القوية، والتطوير المستمر.

أدت الاتفاقيات الموقعة إلى انتعاش الحركة التجارية مع الكيان الصهيوني، ونشطت حركة الطيران التجاري والسفن العملاقة ما بين المياه العربية والموانئ الإسرائيلية في أسدود وحيفا وإيلات، المحملة بمختلف السلع التجارية الدولية الواردة إلى الكيان الصهيوني من المناطق الحرة في دولة الإمارات، والعائدة إليها بمختلف المنتجات الإسرائيلية للتسويق المحلي فيها، أو لإعادة التصدير منها والاستفادة من منطقتها التجارية الحرة، ما أدى إلى إغراق الأسواق العربية بمختلف أنواع المنتجات الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص منها المعدات الإليكترونية وصناعات التكنولوجيا الحديثة، التي وصفها البعض مبرراً دخولها إلى المنطقة العربية، بأنها متقنة الصنع وعالية الجودة، وتتمتع بمواصفاتٍ دوليةٍ مميزة.

لعل الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال التقنيات العالية والتكنولوجيا المتطورة، قد سبقت الدبلوماسية السياسية الرسمية الإسرائيلية في التطبيع مع العديد من الدول العربية، إذ نجحت في فرض حالة من التطبيع التقني والتكنولوجي يصعب على المستفيدين منها التخلي عنها، سواء لجهة الحاجة إليها، أو بسبب المردود المالي الناتج عن بيعها، خاصةً أن المتحكم في الأسواق هو رأس المال الجشع وأصحابه المتوحشون، الذين يفتقرون إلى القيم والأخلاق الإنسانية، ولا يتطلعون إلا إلى المكاسب والمنافع المادية، ولو كانت على حساب الإنسان وقيمه العليا.

كثيرةٌ هي السلع التكنولوجية التي تستطيع إسرائيل بيعها إلى الدول العربية، منها تقنيات الكمبيوتر العالية، ومستلزمات الشبكات الخليوية لتقديم خدمات الجيل الرابع والخامس من الاتصالات، وأجهزة الحماية والرصد والمراقبة، والتقنيات الطبية الحديثة، والمختبرات العلمية المتطورة، فضلاً عن برامج الحوسبة المختلفة التي تحتاج إليها كل مجالات العمل المختلفة، المدينة والعسكرية والأمنية وغيرها، وبرامج الطيران ومختلف الخدمات الرقمية التي باتت سمة العصر الحديث.

إلا أن سوق التجسس والنشاط الأمني هو أكثر ما يبرع به الكيان الصهيوني، الذي وجد –وللأسف- من يحرص عليه ويطلبه من البلاد العربية، التي تتطلع إلى الاستفادة من التفوق النوعي الإسرائيلي في إحكام السيطرة على منافذ الدولة وشعوبها، ومتابعة نشاط مواطنيها وسلوك وحركة بعض المشتبه بنشاطهم ودورهم في العام في المجتمع، إذ تستطيع إسرائيل تقديم عددٍ من البرمجيات السرية التي يصعب اختراقها والتحكم بها إلا من خلال محركها أو صانعها، ما يجعلها قادرة على متابعة ومواكبة المطلوبين، واستدراك الأخطار وإحباط أي نشاطٍ محتملٍ، مما قد يوصف بأنه معادي.

يبدو أن الكيان الصهيوني الذي يلقى دعماً مالياً وعلمياً كبيراً من الولايات المتحدة الأمريكية، التي خصصت له هذا العام قرابة ملياري دولار للاستثمار في مجال التجسس السيبراني، تشجعه على الحلول محل الصين في البلاد العربية، ومنافستها في أسواقها التاريخية، والتضييق عليها لطردها منها، مقابل تقديم خدماتٍ أكثر تميزاً وتطوراً من منتجاتها، الأمر الذي مكن الكيان الصهيوني من توريد معداتٍ حديثةٍ كالطائرات المسيرة، وأجهزة الدفاع الإليكتروني، وروبوتات الحماية والحراسة، وغيرها من الأجهزة الحديثة التي بات من الصعب على المستفيدين منها التخلي عنها.

يعتبر الدافع الأمني والعسكري هو المحرك الأساس لمحاولات الاختراق الاليكترونية والتطبيع التكنولوجي مع الدول العربية، فهي بالقدر الذي تقدم فيه خدماتٍ إلى الجهات المستفيدة منها، فإنها تحصل بالمقابل إلى جانب المردود المادي المغري كثيراً، على كمٍ كبيرٍ من المعلومات والبيانات السرية والخاصة والعامة، التي تستفيد منها بعد إعادة تحليلها وتوظيفها، في خدمة استراتيجيتها الأمنية والعسكرية، علماً أنه يوجد خبراء وفنيون إسرائيليون يشغلون هذه المعدات، أو يشرفون على تشغيلها ويراقبون عملها، أو يقومون بأعمال الصيانة والتطوير لها، مما يعني أن العين الإسرائيلية حاضرة دائماً ولا تغيب.

نتيجةً لهذه المنافع القومية والمادية، والعلمية والمعنوية، التي فرضت إسم الكيان كواحدة من أهم الدول العاملة في المجال السيبراني والحقول التكنولوجية، نجد أن الجيش الإسرائيلية والأجهزة الأمنية المختلفة، والشركات التجارية المدنية والعسكرية، تعلن عن مسابقاتٍ لأمهر المهندسين وألمع الطلاب من الشباب، للالتحاق بهذه الأسواق الرائدة والرائجة، التي تحقق أعظم المنافع الإسرائيلية القومية العامة والفردية الشخصية.

لا يترك الإسرائيليون باباً إلا وينفذون منه لمحاولة إحداث خرقٍ في عالمنا العربي، لربط الدول العربية بها، وتطويعها وتطبيع علاقاتها معها، وجرها إلى مربع التنسيق الأمني معها، وهو التنسيق الذي يفضي إلى تنسيقٍ شاملٍ في مختلف المجالات، وهم في كل هذا يتطلعون إلى مصالحهم الخاصة، ويعملون لخدمة مشاريعهم وتثبيت كيانهم، وتأمين مستقبلهم، ولو كان على حساب مستقبل شعوب المنطقة العربية ومقدراتها القومية، فهل ندرك خبث مسعاهم وننتبه، أم نبقى نغط في نومنا العميق فلا نصحو إلا بعد أن يعم الخراب بيوتنا ويسلبون خيراتنا.

 

حكايةُ توم وجيري بين الخصمين نتنياهو وبينت

ستبقى الحرب متقدة بين الهر توم والفأر جيري، وسيتواصل الصراع وستحتدم المواجهة بينهما، وسيحاول كلٌ منهما الإيقاع بالآخر والقضاء عليه، مستخدماً كل السبل الممكنة والوسائل المتاحة، الناعمة والخشنة، واللطيفة والقاسية، الخفية والعلنية، والمباشرة والملتوية، ولا يبدو أنها ستتوقف يوماً، رغم تجديد فصولها وتطوير مشاهدها، وتعدد قصصها وخيال أحداثها، وتغير زمانها وتبدل شخوصها، إلا أن الصورة النمطية لهما ستبقى في الذاكرة ولا تنسى، ولن يسدل الستار على مقالبهما وقصصهما، وسيكون دوماً مناصرون لجيري ومؤيدون له ومعجبون به، كما سيجد توم من يرأف به ويحزن عليه، ويتعاطف معه ويتمنى لو أنه يستطيع مساعدته في مواجهة أفكار جيري الشيطانية، وفخاخه الكثيرة وحيله العجيبة.

هذا هو واقع الحال اليوم بين رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو، ورئيسها الحالي نفتالي بينت، فالحرب بينهما مستعرة، والمواجهة بينهما قائمة، ومعاركهما لا تنتهي فصولاً ولا تعدم سلاحاً، ولا تشكو من ذخيرةٍ، ولا تعاني من نقصٍ في الأهداف، أو تخطئ في تحديد الاحداثيات، أو تضل في توجيه القاذفات، فكلاهما يريد أن يسقط الآخر ويقضي عليه، مستعينين بكل السبل ومستخدمين كل الأدوات والوسائل، فلا الأول يستطيع الاعتراف بالثاني الجديد والتسليم له برئاسة الحكومة، ولا الثاني يبدي ليونةً في خطابه لحليفه القديم وسيده الأول، الذي رباه وعلمه، وأشرف عليه ووجهه، بل يبري كلٌ منهما سهامه ويشدها على قوسه ليرمي بها خصمه، ولا يعنيه أمره إن مات أو قتل، أو أصيبَ وعُطِب.

ما كان رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو يتوقع أبداً أن يحل السياسي الغر نفتالي بينت مكانه في رئاسة الحكومة، وأن يخلفه في منصبه العتيد، وأن يحتل بيته ويسكنه، ويأخذ دوره ويستخدم صلاحياته، وينهي حلمه في أن يكون ملك إسرائيل، وهو الذي كان ينظر إليه على أنه صبيٌ يخدمه، وأجيرٌ يتبعه، ووضيعٌ يصفعه، ومستخدمٌ ذليلٌ عنده، وخادمٌ مطيعٌ لدى زوجته وأبنائه، يوجهه حيث يريد، ويشغله متى أراد، وهو الذي شكل له حزبه وكون له ائتلافه، وعمل على تمتينه وتقويته، ليكون أداته الفاعلة في صفوف المتدينيين، وعصاه الحاضرة التي يلوح بها في وجه خصومه واليسار.

لكن معسكر البديل وقوى التغيير المنافسة لنتنياهو نجحت في استمالة نفتالي بينت إلى جانبهم، وأغرته بأن يكون معهم، على أن يكون هو رئيس الحكومة الأول، ضمن فريقٍ كبيرٍ يجمع اليمين المتطرف واليسار المعتدل ويمين الوسط، رغم أنه الأضعف والأقل تمثيلاً في الكنيست الإسرائيلي بين شركائه في الائتلاف، حيث أن شريكه الأساس في الحكومة يائير لابيد هو الأقوى، ويعتبر حجر الزاوية في الحكومة ويتفوق عليه، وهو الذي شكل الحكومة فعلياً، ونجح في إقصاء نتنياهو عن منصبه.

لم يسلم نتنياهو بالهزيمة، ولا يريد أن يعترف بها، ولا يستطيع أن يقر بأن الصبي الذي رباه، والولد الذي كبره، قد طرده من مكتب رئاسة الحكومة، وأجبره على الخروج من مسكن رؤساء الحكومة في بلفور، رغم أنه استعلى واستكبر، وعاند ورفض الخروج منه، إلا أنه رضخ في النهاية وحزم أمتعته وطوى آثاثه ورحل.

لكنه على ما يبدو لا يريد لبينت أن يعمر في رئاسة الحكومة، فوضع في طريقه عدداً من الألغام والمتفجرات، كانت مسيرة الأعلام هي أولها، حيث وضعه في مفترق طرقٍ، إما أن يجيزها ويتحدى المقاومة، ويعرض أمن الكيان للخطر، وإما أن يلغيها ويبدو أمام "شعب إسرائيل" أنه خاف من المقاومة الفلسطينية وخضع لها.

ثم حرك قانون "جمع الشمل الفلسطيني" وبدأت كتلته في الكنيست للتحضير لمشروع قرار يمدد حظر جمع العائلات الفلسطينية، ويحول دون استجابته للكتلة العربية المشتركة ورئيسها عباس منصور، الذي كان يتطلع إلى رفع الحظر عن قانون جمع العائلات، ويدرك نتنياهو أن التصويت على القانون بــ"نعم" يعني انفراط عقد الائتلاف، وخروج كتلة عباس منصور منها، والاعتراض عليه يعني غضب ليبرمان وساعر وخروجهما من الائتلاف، وبهذا يكون نتنياهو قد نجح في التعجيل بإسقاط الحكومة وتقصير عمرها، تمهيداً لحل الكنيست والدعوة إلى انتخاباتٍ برلمانية مبكرة خامسة.

لن يتوقف نتنياهو عن وضع الألغام والعبوات في طريق حكومة نفتالي بينت، وسيواصل محاولات إسقاطها وحل البرلمان، اعتقاداً منه أنه سيكون الأوفر حظاً لتشكيل الحكومة القادمة في حال أجريت الانتخابات، وقد أسعفه القدر بعودة فيروس كورونا بأجياله الجديدة وأخطاره الكبيرة، وقد بدا بينت أمامها مهزوزاً متردداً، لا يقوى على الحسم ولا يحسن التصرف مع لجنة كورونا، بينما يعتبر نتنياهو نفسه قد انتصر فيها، وترأس لجنتها نحو تحصين شعب إسرائيل من الوباء.

 لكن فريق "التغيير وبديل نتنياهو"، الذي نجح في إقصائه وحرمانه من منصبه، يفكر في الوقت الحالي بتمرير قانون جديد في الكنيست الإسرائيلي، يمنع تكليف أي شخصية إسرائيلية متهمة أو مدانة بجرائم جنائية بتشكيل الحكومة، فإذا تم تمرير هذا القانون، فإنه سيكون من العسير على نتنياهو تجاوز مفاعيله، التي ستكون حتماً ضده ولغير صالحه، ولهذا فهو يعجل الخطى ويبتدع الأفكار المختلفة ليسبق بينت وائتلافه ويسقطهم بالإحراج والتضييق، وبزعزعة الائتلاف وبث الخلاف بين أقطابه، قبل أن يقضوا على مستقبله السياسي كله بالضربة القاضية المميتة.

 

دوافعُ النخوةِ الأمريكيةِ لإنقاذِ السلطةِ الفلسطينيةِ

تكاد تكون الصرخة المدوية التي أطلقها مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية هادي عمرو، هي الأولى من نوعها بهذه الصراحة والقوة والوضوح، التي يطلقها مسؤولٌ أمريكيٌ كبيرٌ، يحذر فيها إسرائيل والإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي كله، من الآثار الكارثية المترتبة على انهيار السلطة الفلسطينية، التي وصفها بأنها آيلة للسقوط والاحتراق.

إلا أن تحذيرات هادي عمرو لم تقتصر على سياسة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية تجاه السلطة الفلسطينية، التي وصفها بأنها قاسية ومؤلمة، وأنها السبب في ضعف أداء السلطة واهتزاز صورتها، وإنما طالت تحذيراته السلطة الفلسطينية نفسها بمختلف أجهزتها الحكومية والإدارية والأمنية، وحملها جزءً كبيراً من سوء الأوضاع في المناطق الفلسطينية، وذلك بعد سلسلة من اللقاءات التي أجراها مع عددٍ من الشخصيات الفلسطينية المستقلة، وبعض رموز الحراك الشعبي الأخير "ارحل"، من المعروفين بمعارضتهم للسلطة الفلسطينية، ومن المؤيدين للمقاومة، والمشهود لهم بالمواقف الوطنية من الاحتلال الإسرائيلي.

ونقل عن عمرو أنه استمع إلى شهاداتٍ مباشرةٍ من الفلسطينيين الذين التقاهم في القدس الشرقية، بترتيبٍ مسبقٍ من القنصلية الأمريكية في القدس، واطلع على انتهاكات السلطة للحريات العامة ولحقوق الإنسان، وتجاوزات الأجهزة الأمنية المتكررة، واعتمادها العنف في التعامل مع المواطنين الفلسطينيين، الأمر الذي قاد إلى مقتل الناشط نزار بنات في أحد مراكزها الأمنية، وشكى من التقاهم إليه سوء تعامل السلطة مع قطاع غزة، وأدانوا إجراءاتها العقابية ضد سكانه، وحرمانها موظفيه من حقوقهم.

ونقل إليه النشطاء الفلسطينيون صوراً عن فساد السلطة الفلسطينية، وتداعيات قرارها بإلغاء الانتخابات التشريعية، وتجاوزاتها للقانون الأساسي، وتغولها على القضاء وتدخلها في عمله، والتضييق على الحريات العامة ومحاسبة المواطنين على آرائهم، وسياسة الحد من الديمقراطية وحرية الرأي، وغير ذلك من الممارسات التي يعيبها الفلسطينيون على سلطتهم، فضلاً عن الفساد الإداري المستشري، وسوء الأحوال الاقتصادية بصورة عامة لدى مختلف المواطنين الفلسطينيين.

وحذر النشطاءُ من انهيارٍ مفاجئٍ في مناطق السلطة الفلسطينية، وانهيار كلي لمؤسساتها نتيجةً للسياسة الأمنية والاقتصادية التي تتبعها السلطة في مناطقها، وبسبب الحصار الإسرائيلي وسياسة العقوبات القاسية التي تنتهجها ضد الفلسطينيين عامةً.

شكل المبعوث الأمريكي هادي عمرو والفريق المرافق له فكرةً شبه كاملة عن الأوضاع الفلسطينية العامة، وعن التحديات الإسرائيلية وسياساتها الاستفزازية وعملياتها العدائية ضد الفلسطينيين عموماً، وعن انتهاكاتها لحقوقهم في المسجد الأقصى ومدينة القدس ومختلف مناطق الضفة الغربية، وأحاط علماً بالسياسات العقابية التي تمارسها ضد السلطة الفلسطينية، وتعمدها إحراجها وتشويه سمعتها لدى المواطنين الفلسطينيين، وتجميدها للعوائد الضريبية المخصصة لها بحجة أنها تصرف للأسرى والمعتقلين وذوي الشهداء، ورأى أن هذه الاجراءات تهدد سلامة استمرار عمل أجهزة السلطة المختلفة.

ودعا عمرو الحكومة الإسرائيلية التي تتعذر بضعف ائتلافها، وخشيتها من انهياره السريع في حال الإقدام على خطواتٍ سياسية تجاه الفلسطينيين، إلى وقف بناء مستوطناتٍ جديدة حول القدس، وخاصة على أراضي الفلسطينيين وفي بلداتهم، وعدم شرعنة البؤر الاستيطانية العشوائية، وتخفيض عدد الحواجز الأمنية في الضفة الغربية إلى الربع، والسماح بزيادة عدد العمال الفلسطينيين العاملين في مناطقهم، وتخفيف القيود المفروضة على تجارة الفلسطينيين الخارجية، ورفض القيام بأي إجراءٍ من طرفٍ واحدٍ، من شأنه أن يهدد مشروع حل الدولتين.

ربما أعجبت السلطة الفلسطينية بمواقف المبعوث الأمريكي من السياسة الإسرائيلية المعتمدة ضدها، وهي التي كانت تشكو منها كثيراً وتتذمر، لكن أحداً لم يصغِ إليها، ولكن ساءها جداً وأغضبها كثيراً قيام هادي عمرو بالاجتماع مع مستقلين ورجال أعمال ومعارضين ونشطاء فلسطينيين، واعتبرت هذا العمل بمثابة إساءة لها وتهميش لدورها، وتأليب للشارع الفلسطيني ضدها، ورأت أن المعلومات التي جمعها مغلوطة وغير صحيحة، أو أنها غير دقيقة ومبالغ فيها، ودعته إلى إعادة النظر في كل ما سمعه بشأنها.

لكن عمرو الذي نقل رسالةً شديدة اللهجة إلى الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وحملها المسؤولية الكاملة عن انهيار السلطة الفلسطينية، وانتشار الفوضى وعموم الاضطرابات جميع مناطقها، دعاها إلى الكف عن استفزاز الفلسطينيين والتوقف عن محاولات طردهم من بيوتهم والاستيلاء عليها، ودان بشدةٍ قيام السلطات الأمنية الإسرائيلية بهدم بيت الأمريكي من أصل فلسطيني منتصر الشلبي، واعتبر أن هذه السياسات لا تخدم الاستقرار في المنطقة، بل تؤدي إلى خلق المزيد من العنف.

بالمقابل لم يتأخر هادي عمرو في لقاءاته المختلفة مع المسؤولين الفلسطينيين، وفي المقدمة منهم رئيس الحكومة محمد شتية وغيره، عن توجيه اللوم الشديد إلى سوء إدارتهم، وإلى تردي الأوضاع العامة في المناطق الفلسطينية لجهة حقوق الإنسان، والتضييق على الحريات العامة، ودعاهم إلى تحسين أدائهم، والشفافية في عملهم، ونقل إليهم استياء الرئيس الأمريكي جو بايدن شخصياً من خشونة تعامل الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين والمحتجين على حادثة مقتل الناشط نزار بنات.

مما لا شك فيه أن هناك تغيير ملموس في السياسة الأمريكية تجاه الإسرائيليين ومع الفلسطينيين، الذين منحوهم المزيد من الدعم لصالح الأونروا والمؤسسات الدولية، وأكدوا على سرعة المباشرة في إعادة إعمار قطاع غزة، ومساعدة سكانه والنهوض بالأوضاع المعيشية للفلسطينيين عامةً، الأمر الذي يثير الاستغراب والكثير من الأسئلة عن الأسباب الحقيقية وراء النخوة الأمريكية، فما اعتدنا مثل هذه الغضبة، وما سبق لنا أن شهدنا مثل هذه الغيرة والنخوة، فلماذا؟....

 

سبعٌ عجافٌ بين الجرفِ الصامدِ وحارسِ الأسوارِ

تجهد قيادة أركان جيش العدو الإسرائيلي في البحث عن أسماء لحروبها وعناوين لعدوانها، فتختار من بينها ما تراه عقيدةً وتاريخاً أنه سيكون الرد الرادع للمقاومة، والعلاج الشافي لها من شكواها، والخلاص التام من عيوبها ومشاكلها، وتعلن أن حاسوبها العسكري قد اختار هذا الاسم من بين مجموعةٍ من الأسماء المقترحة، وفق الأهداف المرجوة والغايات المقصودة، بعد التدريبات التي قام بها والمناورات الحية التي أجراها وحاكى بها حرباً مع المقاومة الفلسطينية.

لكن جيش العدو وقيادة أركانه تُمنى في كل مرةٍ بالفشل الذريع، وتعود أدراجها من أرض المعركة خائبةً، فلا تحقق أهدافها، ولا ترمم جيشها، ولا تستعيد ردعها، ولا تكسب ثقة شعبها، وتنهي عدوانها صاغرةً بينما تبقى منصات المقاومة منصوبة، وصواريخها تنطلق حتى الدقيقة الأخيرة من الحرب، ورجالها يجوبون الأرض ويقفون على الحدود والأسلاك الشائكة بكل قوةٍ وتحدي، وجرأةٍ وإصرارٍ.

سبعة سنواتٍ تفصل بين الحربين الإسرائيليتين على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، فقد وقعت الأولى التي أطلقوا عليها اسم "الجرف الصامد" في العام 2014، واستمرت 51 يوماً ضارياً، واندلعت الثانية التي أسموها "حارس الأسوار"  في العام 2021، واستمرت 11 يوماً قاسياً، وقد كان العدو ينشد في الحربين كي وعي الشعب الفلسطيني، وتفكيك مقاومته، ونزع سلاحها، وقتل رجالها، وإجبارها على الخضوع والتسليم، لتأمين مستوطناته، وتطمين مستوطنيه، والخلاص من تهديد المقاومة لهم وتعكير صفو حياتهم، وتنغيص عيشهم بالصواريخ التي لا تغيب عن سمائهم، وبعمليات الإرباك الليلي التي تطير النوم من عيونهم.

في الأولى التي دك فيها العدو قطاع غزة بكل أنواع الأسلحة المدمرة، وخاطر بجيشه في اجتياحٍ بريٍ محدود تمزق فيها صفه، وتصدعت فيها جبهته، وذهبت هيبته، وخسر خلالها العشرات من جنوده وضباطه، وفقد فيها –وفق ما هو معلن- اثنين من جنوده على أرض المعركة أسرى بين أيدي رجال المقاومة، لم يتمكن جيشه خلالها من فرض معادلاته الجديدة، وبسط سيادته الموعودة، واضطر إلى وقف العدوان والقبول بالشروط الجديدة التي فرضتها المقاومة بصمودها، وحققها الشعب بصبره وثباته، ورسخها بعطائه وتضحياته، وعاد المقاومون إلى معسكراتهم ودخلوا من جديد إلى أنفاقهم، يعدون العدة من جديد، ويستعدون للمعركة القادمة نحو الوعد الأكيد.

أما في الثانية التي فصلته عن سابقتها سبعة سنواتٍ، فقد ظن العدو أنه استطاع أن يحقق خلالها الردع، وأن يعيد التوازن في ميزان القوى، فأعد خطته الشهيرة "تنوفا"، وقَوَّى جيشه ودربه، وزوده بالمزيد من الأسلحة الحديثة والمتطورة، وحَدَّثَ بنك معلوماته، وحَدَّدَ بدقةٍ أهدافه، وقرر أن يخوض حربه الجديدة وفق آماله القديمة وأحلامه السابقة، التي تتمثل دائماً في تدمير مقدرات المقاومة ونزع سلاحها وتفكيك مجموعاتها، وزاد على ذلك أمله في استعادة جنوده الأسرى وتحريرهم دون أن يكون مضطراً إلى دفع أثمانٍ كبيرة، يؤديها من سجونه ومعتقلاته حريةً للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، ولكن المقاومة الفلسطينية أفشلته وخيبته، وأيقظته بالقوة من سكرته، وأعادته بالصدمة إلى واقعه، ونبهته إلى استحالة تحقيق أحلامه.

اليوم وبعد سبعة سنواتٍ يحيي الإسرائيليون بغصةٍ وألمٍ ذكرى حربهم "الجرف الصامد"، يجترون فيه أحزانهم المريرة، ويتذكرون خيباتهم الكبيرة، ويستعيدون جراحهم الغائرة، ويحيون ذكرى من فقدوا في عدوانهم، ويسلطون الضوء على المصابين من جنودهم وضباطهم، ممن تركت الحرب في أجسادهم عاهةً مستدامة، أو خلفت في عقولهم ونفوسهم بالصدمة مرضاً نفسياً وخوفاً أبدياً.

يدرك الإسرائيليون يقيناً أن السنوات السبعة التي مضت كانت فرصةً للمقاومة أكثر مما كانت فرصةً لهم، وأنها كانت عجافاً عليهم بينما كانت سنابل غنية ًمثقلةً بالحصاد للفلسطينيين، فقد استعادت المقاومة خلالها رباطة جأشها، وعادت إلى مواقعها ومعسكراتها، وعوضت ما فقدت من ترسانتها الصاروخية، وزادت عليها الجديد والدقيق والبعيد المدى، وبدأت رحلة الإعداد والتجهيز للمعركة القادمة والحرب الجديدة.

يظن الفلسطينيون ويأملون كثيراً، ألا تكون هناك أكثر من سبعة سنواتٍ أخرى جديدةٍ تفصلهم عن العودة والتحرير، فالحرب القادمة التي يتطلعون إليها ستكون قريبةً، وستجري أحداثها وتقع فصولها خلف الحدود، وعلى أرضهم المحتلة عام 1948، يحررونها من المستوطنين الغاصبين، ويستعيدونها من الإسرائيليين المعتدين، ويطردون منها الغزاة المحتلين.

ولعل الإسرائيليين يعلمون ذلك أيضاً، ويدركون هذا اليوم يقيناً، ويعلمون أن ما بعد حرب الفرقان وحجارة السجيل والعصف المأكول وسيف القدس ليس إلا التحرير والعودة، وأن معارك الرصاص المصبوب وعامود السحاب والجرف الصامد وحارس الأسوار ليست إلا وهماً يخدعون بها أنفسهم، وسراباً يمنون بها شعبهم، فحصادها مرٌ عليهم، ونتائجها كارثية على كيانهم، بينما السبع المثاني التي جاءت منها أسماء معارك المقاومة، فإنها ستكون دوماً فتحاً لها ونصراً، وستكون أبداً عجافاً على العدو ووبالاً، وخاتمةً لكيانهم وزوالاً.

 

هجمةٌ إسرائيليةٌ مرتدةٌ والتفافةٌ منعكسةٌ

يواجه الكيان الصهيوني تغييراً حقيقياً في المزاج العام الدولي، تلمسه حكومتهم ويدركه شعبهم، وتشكو منه مؤسساتهم، وتعاني منه مستوطناتهم، ويخشى من تعاظمه قادتهم وزعماؤهم، ويحذر من استمراره أنصارهم، ولا يقوى على صده والحد منه مؤيدوهم، وهو ما لم يعتد عليه الإسرائيليون وما لم يألفوه قديماً، فما تهيأوا له ولا استعدوا لمواجهته، إذ ما كانوا يتوقعون حدوثه يوماً.

فهم ربيبة القوى الاستعمارية، وصنيعة الدول الاستكبارية، التي أشرفت على تأسيس كيانهم، وحرصت على دعمه وتمكينه، وعملت على رعايته وحمايته، وتحملت المشاق وتكبدت الصعاب في سبيله، وأرهقت بالضرائب جيوب مواطنيها، وألزمت خزائنها وبيوت مالها على الوفاء بالتزاماتها وتوفير احتياجاتها لضمان بقائه واستمراره، وصموده وتفوقه، في مواجهة التحديات المستجدة والجوار المعادي.

إلا أن دول العالم بدأت تعيد تفكيرها تجاه إسرائيل، وتراجع مواقفها إزاءها، وتتنصل من التزاماتها معها وتعهداتها لها، فقد غدت عبئاً كبيراً وهماً ثقيلاً يضر بها ويزعجها، ويقلقها ويرهقها، ويضر بأمنها ويهدد سلامتها، ويضعف اقتصادها ويعطل برامجها.

فقد رأت بعض الحكومات الغربية وغيرها، أن تأييد الكيان الصهيوني يتناقض مع القيم والأخلاق، ويتعارض مع العدالة والفضيلة، ويتسبب في أزماتٍ نفسية وتناقضاتٍ فكرية، ويحدث صراعاتٍ مجتمعية، فالمواطنون الأوروبيون والأمريكيون وغيرهم أصبحوا يرون لم يكونوا يرون، وباتت معلوماتهم عما يفعله الإسرائيليون بالشعب الفلسطيني دقيقة وموثوقة، ولم يعودوا أسرى الإعلام الصهيوني، ولا رهينة دهاقنة الإعلام المؤدلجين، الذين سخروا قدراتهم ومؤسساتهم لخدمة المشروع الصهيوني على حساب حقوق شعوب المنطقة.

أمام هذا التغيير اللافت للنظر، والذي رأيناه في التشريعات الأوروبية الجديدة الرافضة لتعويض "اليهود"، والاستمرار في دفع الأموال لذوي الناجين من المحرقة النازية، وفي سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة الآخذة في توجيه اللوم والنقد للحكومة الإسرائيلية، فهي لا تتردد في تحميلها المسؤولية، ودفعها للقيام بخطواتٍ من شأنها تخفيف الاحتقان، وتنشيط الاقتصاد، والتخفيف عن المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والكف عن الاعتداء على حياتهم وممتلكاتهم، والتضييق عليهم في مساكنهم ومساجدهم، ومصادرة أرضهم وبناء وتوسيع المستوطنات على حساب حقوقهم.

كما أخذت المنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان تهاجم الحكومة الإسرائيلية وتطالب بإدانتها ومحاكمتها، وباتت الجرائم الإسرائيلية وحروبهم على الفلسطينيين أمام القضاء الدولي، وعمدت محكمة الجنايات الدولية إلى إعداد الملفات وتصنيف الجرائم تمهيداً لبدء توجيه اتهاماتٍ رسمية ضد الحكومة الإسرائيلية، وضد مسؤولين حاليين وسابقين فيها وفي مؤسسة الجيش والمخابرات.

ولم تتأخر الشركات التجارية الدولية الكبرى، والوكالات والهيئات العلمية والفنية والرياضية في توجيه النقد إلى الإسرائيليين وحكومتهم، فمنها من قاطعت الكيان الصهيوني وامتنعت عن زيارته، ومنها من أعلنت مقاطعتها للمستوطنات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية، وتوقفها عن التعامل معها بيعاً وشراءً، واتجه بعضها إلى فسخ العقود الموقعة مع جهاتٍ إسرائيلية رسمية وشعبية، والتحلل من الشروط السابقة التي كانت تحكم عملهم وتنظم علاقاتهم، وتقيد مبادلاتهم التجارية معهم.

أما على المستوى الرياضي فقد امتنعت أندية دولية كبيرة عن إجراء مبارياتٍ في الكيان الصهيوني، أو المشاركة مع فرقهم الرياضية في عقد مباريات دولية سواء كانت كرة قدم، أو أي أنشطة رياضية أخرى، ما عده الإسرائيليون أنه من أكبر الصفعات التي يتلقونها في الفترة الأخيرة، عند امتناع نادي برشلونة الأسباني عن تنظيم مباراة مع فريق بيتار الإسرائيلي، استجابةً للطلب الفلسطيني، ونزولاً عند جماعات الضغط والمنظمات العاملة ضمن حملة المقاطعة الدولية للكيان الصهيوني PDS، فضلاً عن امتناع مشاهير الرياضيين عن مشاركة الإسرائيليين أنشطتهم أو التعاون معهم.

أمام ما سبق وغيره مما لم يعلن عنه الإسرائيليون ولكنهم يشعرون به ويدركون مخاطره، بدأوا في الإعداد لهجمةٍ عكسيةٍ وخطوة ارتدادية منظمة ومدروسة لتدارك ما يحدث، والتصدي للمخططات التي تستهدفهم، والعمل على الحد من تنامي هذه الظاهرة التي تقلقهم، فأخذوا ينظمون رحلاتٍ دوليةٍ وجولاتٍ لسفراء وشخصياتٍ دوليةٍ مرموقة، لزيارة المستوطنات الإسرائيلية التي تضررت نتيجة قصف صواريخ المقاومة لها، والوقوف على آثار الدمار الناجم عنها في مختلف المدن "الإسرائيلية".

كما عمدوا إلى تنظيم جولاتٍ مقصودةٍ لأمريكيين وأوروبيين للوقوف على حال القبة الفولاذية، والتعرف على مدى الحاجة الإسرائيلية في هذا الشأن، لتطويرها وزيادة بطارياتها وتوسيع انتشارها، فضلاً عن حاجتهم إلى المزيد من الصواريخ التي فقدوا الكثير منها في الجولة القتالية الأخيرة، التي استنزفت قبتهم واستهلكت صورايخهم، وكشفت عن مدى العيب والعجز الناشئ فيها.

لا نستخف بهذا التغيير ونهمله، وفي الوقت نفسه لا نغتر به ونفرح له، ونركن إليه ونتخلى عن أدواتنا ووسائلنا، ونطمئن إليه ونسلم له، بل ينبغي البناء على هذا المتغير الجديد والاستفادة منه وتطويره، والعمل على توسيعه وإقناع المزيد من الدول لإعادة قراءة وتقييم علاقاتها مع الكيان الصهيوني، فما هو متاحٌ لنا في هذه المرحلة ما كان متاحاً لنا من قبل، وإن كان هو محنة لدى العدو الصهيوني فإنه ينبغي أن يكون منحةً لنا وفرصةً، فلنحسن استغلالها، ولنفعل أدواتها، ولنطور وسائلها، على قاعدة الإيمان بتظافر الجهود وانتهاز الفرص، وتكامل الكل، وحاجتنا إلى الجميع في معركتنا التاريخية مع العدو الصهيوني.