يتناول الكاتب والأكاديمي المرموق هنا أحدث كتابين صدرا عن إدوار سعيد في الغرب بالنقد التفصيلي والتحليل الدقيق، ليكشف لنا كيف أن بهما الكثير من الخلط والخطأ في فهم سعيد ومسيرته ومشروعه التغييري الكبير للخطاب المهيمن، وللفكر الذي يهمش قضايا العرب وضحايا الغرب وخطاباته المراوغة.

مشروع سيرة إدوار سعيد، وإلصاق المواقف بالموتى

أسعد أبو خليل

 

إدوار سعيد مشروع فكريّ كبير، والكتابة عنه مشروعٌ بحّد ذاته. والاهتمام بسعيد وإرثه لم ينقص بعد موته. على العكس، الاهتمام به يزداد وكتاب (الاستشراق) من أكثر الكتب استشهاداً في المراجع الأكاديميّة، وكتبه تُرجمت إلى لغات الأرض (وهو معروف أكثر بكثير من محبوب لبنان، جبران خليل جبران.) لكن الكتابة عن سعيد ليست يسيرة أبداً. عن أي سعيد تكتب؟ الإنسان المشغوف ببقايا فلسطين والعالم العربي والإنسانيّة جمعاء؟ أم بسعيد الأكاديمي المختصّ في الأدب المقارن؟ أو عن سعيد في حياته الخاصّة؟ ويمكن أن نضيف جانب سعيد الموسيقى، والموسيقى الكلاسيكيّة شغلت سعيد منذ سنّ مبكرة وهي بدورها تحتاج إلى تخصّص وقد كتب هو فيها، مع أن رأي النقاد الموسيقيّين بكتاباته الموسيقيّة لا يُجمع. وفي كل جانب من جوانب سعيد هناك حاجة للاختصاص. الذي يريد أن يكتب عن كتابات سعيد في الأدب يحتاج إلى أن يكون متخصّصاً في الأدب، والذي يكتب عن سعيد السياسي المتحمّس، عليه أو عليها أن تكون مختصّة وعليمة بشؤون القضايا العربيّة والإنسانيّة التي شغلت سعيد، والذي يريد أن يكتب عن سعيد الإنسان يجب أن يكون على معرفة وثيقة به وأن يطلع على أسراره.

هنا أنا أتحدّث تحديداً عن كتابيْن عن سعيد صدرا مؤخراً: الكتاب الجديد لتموثي برينان، «أماكن في الفكر». وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». برينان أستاذ الأدب الإنكليزي والمقارن في جامعة مينيسوتا، وكان تلميذاً لسعيد، ويعرف موضوع اختصاص سعيد جيّدا. فيما دومينيك إده هي قاصّة وكاتبة لبنانيّة تعيش في فرنسا، وهي تعرف سعيد معرفة شخصيّة (يُقلِّل برينان من عمق معرفتها بسعيد مع أن من المؤكد أنها عرفته أكثر مما عرفه هو ـــ على الصعيد الشخصي). برينان غير مؤهّل بتاتاً للحكم في القضايا السياسيّة التي شغلت سعيد، وهذا يظهر جليّاً في كتابه. كتاب برينان نال تقريظاً من الصحافة التقليديّة واليساريّة هنا، كما أن الصحافي اليساري الأميركي ـــ المُفترض أنه يساري ـــ أدام شاتز، كتب دراسة مستفيضة عن الكتاب في «لندن ريفيو أوف بوكس». ومقالة شاتز مثال آخر لما يتعرّض له سعيد من تشويه، من قبل من يزعمون أنهم من مريديه ومن مؤيّديه. لكن كما قال محمود درويش ذات يوم لجمهور في «الإونسكو»: نجّني من حبّكم لي.

هناك منذ حرب العراق الأولى في 1991، محاولة لإعادة تصنيف اليسار بطريقة تسمح بانضوائه في مشروع الحرب الأميركية. وبالفعل، منذ تلك الحرب، هناك أشخاص وحركات ودول انتقلت من معسكر إلى معسكر. هذا حقّها لو أرادت. الوقاحة أن هناك من ينتقل من صف اليسار إلى صف اليمين ومشروع الحرب الأميركية، لكن يريدنا أن نقبل أن موقفه «الحربي» هو اليسار الحق، وأن من يعارضه هو المُستبدّ. هذا هو موقف الذين يريدون جعل مشروع التدخّل والاستعمار الغربي في بلادنا عنواناً ليسار جديد غير ستاليني. كل ذلك باسم «اشتراكيّة ذات وجه إنساني» أو «اشتراكية ديمقراطيّة» ـــ ومن لا يحبّ الديمقراطيّة يكون مسؤولاً عن البراميل المتفجّرة، لا بل هو يتلقّى التهم بالمشاركة في رميها في إدلب. والملاحظ أن المُشترك في كل هذا المشروع ـــ أي استخدام الموتى في مشاريع عاداها الموتى هؤلاء ـــ هو الاستعانة دوماً بصادق جلال العظم. هذا الذي أمضى سنواته اليساريّة في اتّهام كل خصومه (من هشام شرابي إلى وليد الخالدي إلى إدوار سعيد) بالعمالة للأمريكان، أو حتى لإسرائيل، ثم ختم حياته بالخطاب الطائفي المُطالب بتدخّل أميركا في بلادنا لإنقاذنا من أنفسنا (يبدو أن نقد الفكر الديني لم يشمل نقد الفكر الطائفي عنده). وأدام شاتز وبريمان استعانا بالعظم وقد ذكره كثيراً برينان. والغريب أن دومينيك إده استعانت هي الأخرى بالعظم، كأنها تنتقم من سعيد (لأسباب شخصيّة لا تعنينا) بالعظم. (كان سعيد يكنّ شديد العداء للعظم، واتّهمه في محادثة معي بأنه لم يأتِ إلى أميركا (في «ويلسون سنتر» في واشنطن وجامعة برنستون) إلا بدعوة من أعداء سعيد الصهاينة في الجامعات الأميركيّة، مثل برنارد لويس في برنستون، وذلك لإزعاج سعيد.

لا يمانع اليمين الغربي المعادي لليسار الاستعانة باليسار لأغراضه. وهل برع في محاربة اليسار في الغرب والشرق أكثر من اليساريّين السابقين؟ يعلم اليمين الغربي والخليجي أن اليسار السابق فعّال في هجاء اليسار، لأنه يعلم أسراره من الداخل ويستطيع أن يحاكي لغته. عندما غادر قدري القلعجي الحزب الشيوعي ليصبح يمينيّاً رجعيّاً، لم يكن يستطيع أن يلبّي كل الطلبات الغربيّة والخليجيّة للكتابة والنشر والخطابة (أصبح له دار نشر خاص به من مال المحسنين). أصبح القلعجي مطلوباً أكثر من جلال كشك في صحف الرجعيّة في السبعينيّات.

والاستعانة بالميّتين من اليسار لغايات اليمين عادة مذمومة لكن دارجة في السنوات الماضية. ياسين الحافظ لم يعُد يمتّ بصلة لكتاباته ـــ عندما تقرأ عنه في صحف اليمين. وحسين مروّة الستاليني بات أقرب إلى الليبرالي، كما أن مهدي عامل نفسه ـــ الذي تنبّه مبكراً لخطر الليبراليّة، وكتب في نقد حازم صاغيّة ـــ بات اسمه يرد في كتابات اليمين الرجعي المعادي لليسار. الغرب ليس متحجّراً كما نظنّ. لم يعد يكترث لوصمة الشيوعيّة التي أرّقته في الماضي، بل هو يفضّل من يستطيع أن يضرب اليسار بلغة اليسار ورموز اليسار (هذه من دون أن يُشفى الغرب من مرض معاداة الشيوعيّة، وهي غير الشيوعية السابقة). لهذا، فليس غريباً أن تكون أحزاب وحركات (مثل 14 آذار في لبنان) تتلقّى التمويل الأميركي، وهي تهزج لرموز من اليسار الماضي (جورج حاوي والياس عطالله، القائد المؤسّس لـ «جمّول» وحسين مروّة) من أجل ضرب حركات المقاومة الحاليّة. عندما يقول اليميني في لبنان أنه يفضّل مقاومة «جمّول»، هو يريد أن يقول إنه لا يقبل بحركة مقاومة إلا إذا كانت غير موجودة.

كتب الكاتب الأميركي اليساري المعروف، أدام شاتز (كنتُ على معرفة به إلى أن كتب في مديح 14 آذار فقطعتُ علاقتي معه وانتقدته في العلن)، مراجعة طويلة عن إدوار سعيد (كان شاتز يعرف سعيد، وكتب بإيعاز من سعيد مقالة طويلة في نقد اللبناني الصهيوني، فؤاد عجمي). ستدرك ما عنيتُ في المقطع السابق عندما أقول إن شاتز نكشَ نقداً لإدوار سعيد في نقد النظام الإيراني، من دون أن يذكر أي نقد لسعيد للصهيونية أو لأميركا أو لأي نظام عربي آخر. وبرينان لا يذكر من نقد سعيد إلا نقده للنظامَيْن السوري والعراقي، كأن سعيد كان من محبّذي أنظمة الخليج أو دول الغرب. وأدام شاتز، مثل برينان، غير متخصّص في شؤون الشرق الأوسط وفي مراجعته في «لندن ريفيو أوف بوكس» (آذار/ مارس، 2021) يخلط المواضيع ويقول إن حرب المخيّمات كانت بين الشيعة اللبنانيّين (كلّهم) وبين فلسطينيّين (هو يجهل أن حزب الله كان أقرب إلى الفلسطينيّين من حركة «أمل» في تلك الحرب) ويقول إن الحزب خرج منتصراً من الحرب الأهليّة (لا يعلم أن الحزب انطلق بعد تسع سنوات من اندلاع الحرب، وأن الحزب خرج منتصراً ليس في حرب أهليّة بل في حرب تحريريّة ضد احتلال إسرائيل). ويقول عن العظم إنه «كتب تشريحاً لاذعاً في هزيمة الأنظمة العسكريّة (وهل النظام الأردني خارج المعادلة هنا؟)». لا، صادق جلال العظم، في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» كتب تشريحاً لاذعاً للذات والشخصيّة و«العقل العربي» ـــ واستعمال المصطلح العنصري «العقل العربي» جائز هنا، لأن الكتاب الاستشراقي الرديء للعظم لم يختلف عن نمط كتب عنصريّة أخرى عن العرب مثل كتاب رافائيل باطاي «العقل العربي».

لم يدرك خطورة كتاب العظم أكثر من غسان كنفاني الذي كتب تشريحاً حادّاً له (باسمه المستعار، فارس فارس) «عن صادق جلال العظم» («الأنوار»، 13 تشرين الأوّل/ أكتوبر، 1968). وفي مراجعته تساءل كنفاني، عن حق، عن غرابة أن العظم نجا من تلك الأمراض العويصة التي ينسبها إلى «العقل العربي»، (راجع المراجعة في كتاب «فارس فارس» لكنفاني الصادر عن «دار الآداب»، ص. 79). ويوافق شاتز العظم على تخوّفه من أن كتاب «الاستشراق» يمكن أن يعين الإسلاميّين في نقده اللاذع للغرب (لم يصدر هذا الموقف من شاتز في حياة سعيد، الذي كان يعطي لشاتز وقته لإجراء مقابلات. انتظر شاتز موت سعيد ليقول ذلك). لكن شاتز لا يقول لنا عن موقفه من تأييد العظم للإسلاميّين ـــ على أنواعهم في الحرب السوريّة.

برينان، وهو يساري غربي ذو ماضٍ في حركات شعبيّة في سنواته الدراسيّة، لا يفقه شؤون العالم العربي. يشرح لنا في الكتاب أنه تعلّم (بصورة مكثّفة) عن شؤون لبنان والعالم العربي من خلال زيارة قصيرة إلى بيروت، والتقى فيها مع معارض سوري قريب من 14 آذار ومن مقابلات مع صادق جلال العظم. برينان استفاد من تعاون عائلة سعيد (مريم، أرملة إدوار، وولدَيه، وديع ونجلا، بالإضافة إلى مقابلات مع شقيقتَي سعيد، جين وغريس) معه في مشروعه وقد فتحت مريم أوراق سعيد الخاصّة أمامه. وهذه أوّل مرّة يستعين كاتب عن سعيد بأوراقه الخاصّة ومراسلاته.

أنا عرفتُ إدوار سعيد لكن لم نكن أصدقاء. كنتُ على عداء لسعيد عندما قدمتُ إلى أميركا في عام 1983، لأن أوّل مرة سمعتُ باسمه كان على لسان أنور السادات الذي اقترحه رئيساً لحكومة فلسطينيّة في المنفى في عام 1977. وكان يمثّل لي الفكر التسووي الذي نشأتُ على معاداته. وانتظرتُ أوّل مرة جاء إلى واشنطن ليلقي محاضرة، كي أعقّب على كلامه بغضب ونفور شديد. جرى اشتباك لفظي بيننا، لكن سعيد لم يكن حقوداً. تحوّلت مواقف سعيد باتجاه أكثر جذريّة والتقينا بعد ذلك كأن الاشتباك لم يجرِ في «معهد الدراسات السياسيّة» اليساري.

تراسلنا قليلاً ثم كان أحياناً، خصوصاً قبل أوسلو وفي يوم التوقيع، وبعده، يهاتفني للتباحث أو للحديث عن عدوّ مشترك (مثل فؤاد عجمي أو كنعان مكيّة). عرفتُ أصدقاء لسعيد وبعض أقاربه. آخر ما وردني منه كان رسالة إلكترونيّة قال لي فيها قبل موته: «أعتذر عن الانقطاع، كنتُ مشغولاً بالكتابة وبالموت». كم تهيّبت الصياغة والموقف. أستطيع أن أتحدّث عن مواقف سعيد السياسيّة وعن شخصه، ولا أستطيع أن اتحدّث بمعرفة عن كتاباته الأدبيّة والنقديّة، والتي أحسنَ برينان في تناولها. وكان سعيد قادراً بصورة لم تظهر في الكتاب، على الاهتمام بغيره ومساعدتهم.

في عام 1993 عندما انتقلت بحكم الوظيفة إلى كاليفورنيا، كان يتصل بي أحياناً ويحثّني (مثل والدتي) على الانتقال إلى جامعة مرموقة. ولم يكن ذلك يعنيني، لكنه كان يقول لي: عليك أن تأتي إلى واشنطن أو نيويورك كي تظهر في الإعلام وتنشط. ومرة قال لي بحيرة: لو أنك تستعملني في سعيك للوظيفة كمصدر من المصادر الثلاثة مثل أساتذتك، فإن هذا قد يضرّك بسبب كره الصهاينة لي. لكنه أرسل لي رسالة توصية لطيفة وجميلة، وما زالت بحوزتي (أنا الذي لا أحتفظ بشيء من الماضي). ومرّة حثّني على التقدّم لوظيفة في جامعة في شمال ولاية نيويورك وقال لي: أحد أعضاء اللجنة صديق من أيام المدرسة. فطرت إلى هناك بعد أن كنت في «القائمة القصيرة» للمرشّحين. أعطيتُ محاضرتي. وخلال الزيارة كان مطلوباً مني أن أتعرف على رئيس الجامعة والعميدة فيها. فقابلت العميدة التي ما لبثت أن أزعجتني بعبارة اعتبرتها مهينة لنا نحن العرب (قالت ما معناه، هل تستطيع كعربي أن تقبل امرأة في موقع المسؤوليّة؟) فما كان منّي إلا أن أجبتها بحزم وصرامة. طارت الوظيفة. اتصل بي سعيد بعد ذلك يسأل عما جرى فأخبرته. تأسّف وقال: يجب أن ترجع إلى الشاطئ الشرقي من البلاد.

يصدمك في الكتاب، عمق جهل الكاتب بالعالم العربي، وانحيازه غير الواعي للاستعمار الغربي في بلادنا. يقول عن مصر في العهد الملكي: «كانت القاهرة، أكثر من أيّ عاصمة عربيّة أخرى، المكان الذي يرسل فيه العالم العربي أولاده لتلقّي العلم» (ص 17). والدي كان من المحظيّين الذين درسوا في جامعة القاهرة في الأربعينيّات، وكان فقط أولاد العائلات الميسورة (مثل عائلة سعيد) يستطيعون تلقّي العلم في القاهرة (كان مع والدي في دفعته رشيد كرامي، وثلاثة طلاب ميسورين من مدينة صور). ويضفي برينان صفات جميلة رومانسيّة عن رونق القاهرة في عهد الاستعمار، قبل أن يلوّثها الفقراء الذين أصرّ عبد الناصر وثورته على إطعامهم وتعليمهم وإسكانهم. يترحّم برينان، كما يترحّم كتاب جرائد الأمراء، على العهد الاستعماري في بلادنا، عندما كان الفقراء مخفيّين عن الأنظار.

وعندما يتكلّم عن الجالية السوريّة في نيويورك (ص. 18) فهو لا يذكر كمّ العنصريّة التي كان يلاقيه السوريّون في نيويورك، كما أنه لا يذكر كيف أن «نيويورك تايمز» كانت تنشر تحقيقات عن روائح السوريّين النتنة في مطلع القرن العشرين. ومثل آدم شاتز في مقالته المذكورة أعلاه، تنمّ كتابة برينان عن عداء ضدّ جمال عبد الناصر، لكن من باب الحرص المصطنع على اليسار الذي عانى تحت حكمه. صحيح، أن عبد الناصر لم يسمح بالحريات الديمقراطيّة، لكنه حسناً فعل في منعها، وإلّا كان لاقى ما يلاقيه لبنان اليوم من بروز حركات صهيونيّة ورجعيّة (وبعضها يسار وبعضها يمين وبعضها وسط) وتنصبّ كل جهودها على محاربة الفكر التقدّمي ومحاربة أي مشروع لمقاومة إسرائيل.

عبد الناصر كان أكثر يساريّة وتقدميّة بكثير من أعدائه اليساريّين في حينه. هؤلاء، كانوا يلتقون مع الوفد ومحمد نجيب في المطالبة الملحّة بحريّة عمل الأحزاب والتي ــ لو سمح بها عبد الناصر في حينه بها ــ لأدت إلى سيادة الوفد على الرجعيّين. وبعض اليساريّين انتهوا تطبيعيّين، في مصر وفي غيرها. كانت والدة سعيد ناصريّة وتدعم المشروع التقدّمي لعبد الناصر. وتأثّر سعيد بالجوّ المتعاطف مع عبد الناصر، بالرغم من خلفيّة العائلة الميسورة. والد سعيد كان أميركياً معتنقاً للفكرة الأميركيّة، وكان إدوار يتأرجح بين الانتماء العربي وبين الانتماء الأميركي لكن انتماءه العربي غلب عليه في سنواته الأخيرة، مع أنه كان في الخمسينيّات والستينيّات يصف نفسه بـ «الناصري والمعادي للإمبرياليّة» (ص. 25). (اعترض سعيد مرّة على طالب لبناني في جامعة كولومبيا، لأنه كان يصرّ على التحدث بالإنكليزيّة.)

لكن برينان على حق أن سعيد لم يكن منسجماً في ذلك: في مقابلاته التلفزيونيّة الأميركيّة، كان سعيد ــــ مثل الكثير من المتحدّثين العرب هنا ــــ يستهل كلامه بالقول: «نحن كأميركيّين»، كأنه يذكر السامع بأن العرب ـــ الأميركيّين هم أميركيّون. لكن في همّه واهتماماته السياسيّة كان عربيّة قحّاً، وكان يتحدّث مع العرب كعربي. (في أوائل الستينيّات، وصف سعيد نفسه بـ «الشرق أدنوي»، وهو تعبير نادر وغير معروف خارج نطاق الجامعات البحثيّة التي لديها «مركز لدراسات الشرق الأدنى»، وكان تمييز الشرق الأدنى عن شمال أفريقيا جزءاً من المخطط الغربي لتفتيت العرب وشرذمتهم).

تظهر انحيازات برينان السياسيّة وجهله في آن في حديثه عن شارل مالك. والحديث عن شارل مالك ينقصه ما سنعرفه عنه عمّا قريب من خلال باحث أميركي أنهى أطروحته أخيراً عن تاريخ لبنان المعاصر (وقد قرأتها) وفيها قسم عن شارل مالك مبني على الأوراق الخاصّة له، وهي مُجمعة في «مكتبة الكونغرس». لا أسمح لنفسي بعرض ما يرد في أطروحته، لأن المؤلّف له حقّ السبق وهو سيحوّل أطروحته إلى كتاب. علاقة سعيد مع مالك كانت معقّدة: كان له تأثير عليه لأنه كان المثقّف الذي يعرفه منذ سن مبكرة بحكم القرابة العائليّة، لكن سعيد كان على علم بتعصّبه البغيض ضد الإسلام والمسلمين (ووصفه للإسلام ورسوله بـ«الانحطاط» و«الفسق»، ص. 44). يعلم برينان بذلك لكنه يصفه بـ«رجل الدولة» ــ هذه كأن تصف فؤاد السنيورة أو باسم السبع برجل الدولة، وفي بلادنا ليس رجل الدولة إلا من يحظى على تربيت كتف من جورج بوش.

شارل مالك كان يتواصل مع إسرائيليّين، حتى قبل سنوات الحرب، وكان جزءاً من إدارة شمعون التي كانت ذروة في الفئويّة الطائفيّة والتزوير الانتخابي (هل كان مالك سيصل إلى المجلس من دون التزوير الأميركي الشهير فيه في عام 1957؟ حتماً لا). وقد وصفه سعيد في مرحلة لاحقة من حياته بـ«الدرس الثقافي السلبي الكبير في حياتي». («خارج المكان»، ص. 264). لكن برينان، كأنه يعلم عن شؤون الثقافة العربيّة، يقول إن مهمة مالك كانت بالنيابة عن «إنسانيات عربية مميّزة»، كأن مالك اعتبر نفسه عربيّاً يوماً (روى لي مؤرّخ العلوم عند العرب، جورج صليبا، أن مالك حاول ثنيه عن عزمه التخصّص في مجاله، وأفتى له بأن ليس من علوم أو إنجازات عند العرب). يقول برينان عن مالك أنه «عملاق» وأنه كان من أعظم «مثقّفي العرب».

لكن كيف يحكم برينان على ذلك؟ وما هي إسهاماته في معارك العرب الكبرى؟ لم يصدر لمالك مؤلّف إلا «مقدّمة» وهي مفترض أن تكون مقدّمة لأعمال، لكن لم يأتِ منها كتاب. أن يصفه برينان بـ «واحد من المثقفّين العرب الكبار» يظهر عدم أهليّته لكتابة هذه السيرة. أين مالك من القضايا العربيّة الكبرى؟ فلسطين أو الوحدة العربيّة أو التنمية أو الاستعمار أو الاحتلال أو الحداثة؟ فكر مالك كان مسيحياً متزمتاً، وهذه مدى إسهاماته في الجمعيّات اليمينيّة الرجعيّة المتطرّفة في الستينيات عندما لفت نظر الحكومة الأميركيّة بعمق معاداته للشيوعية. لا، الوقاحة في برينان أنه يصف مالك بأنه كان في الأربعينيّات «ناطقاً باسم الفلسطينيّين». أشكّ أن يكون أحد من الفلسطينيّين، غير الذين يمتّون له بصلة قرابة، يعرفون اسمه. لكن برينان يقول إن سعيد بقي في سعيه لمشورة مالك حتى ١٩٦٧.

عن (العنكبوت)

(2)

لا يزال الحديث هنا عن كتابيْن جديديْن صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». وكتاب برينان المشغول بعناية وأناة يفتح الحديث مجدّداً عن إرث سعيد الغني. وكتب سعيد لا تزال رائجة كما كانت في حياته، إن لم تصبح أكثر لكثرة النقاش حولها ولأنها تصبّ في صلب النقاش الجاري في الغرب عن إعادة النظر في المنهج التعليمي من أجل تشجيبه من رواسب العنصريّة والتعصّب الديني. وكتاب «الاستشراق»، من دون مبالغة، مُستعملٌ اليوم في كل جامعة أميركيّة وفي أكثر من صفّ أو قسم. (إن تأثير جبران خليل جبران ـــ على سبيل المقارنة الاعتباطيّة ــــ على الثقافة والأكاديميّة الأميركيّة متخيلٌ بالكامل، وهو من حياكة أقلام كتّاب جريدة «النهار» ونظريّات سعيد عقل (الذي، مثل الكنيسة، عادى جبران في بداياته قبل أن يتبنّاه بعد تحويله إلى أيقونة فينيقيّة طائفيّة. لا يمكن أن تجد كتاباً واحداً لجبران مقرّراً في أي جامعة، لا في قسم اللغة ولا في قسم تفسير الأحلام).

وإعادة اكتشاف سعيد، أو الغوص في إرثه، يرفع من مرتبة سعيد. وهناك كتب وأطروحات عنه قيد الإعداد، وكتب أخرى في طريق النشر. ويتزامن كل ذلك مع تبنٍّ ثقافي عربي (باحتضان من أنظمة النفط) لمعاداة سعيد وللدفاع عن الاستشراق الغربي. والاستشراق الغربي باتَ مُعتنقاً إلى درجة كبيرة في الثقافة العربيّة: والليبرالية العربيّة ثابتة في ذمّها لإدوار سعيد وفي حماية الإرث السياسي للمستشرقين. الثقافة العربيّة السائدة باتت تحتفل بنقد صادق جلال العظم لإدوار سعيد أكثر من نقد سعيد للاستشراق. والطريف أن العرب في الصحافة السائدة يدلّلون على خطأ سعيد عبر الاستشهاد بمستشرقين في نقد سعيد. لكن نحن في زمن باتت فيه مجلة «المجلّة» السعوديّة (والتي كتب فيها إدوار سعيد في مرحلة) تنشر موضوع غلاف ضد إدوار سعيد وتستكتب الكاتب اليميني الصهيوني، جاشوا مورافتشك لذمّ سعيد. مشروع سعيد يبدو اليوم، أكثر من أي يوم مضى، أكثر جذريّة مما صدر في زمانه؛ لأنه استكشف دور الفكر الغربي السائد في دعم مشاريع الحروب في مناطقنا. كما أن سعيد ربط بين تاريخ الاستعمار وبين الفكر الذي روّج له الاستعمار.

لكنّ الثقافة السياسية والإعلاميّة السائدة اليوم تريد إنعاش ذاكرة الاستعمار (ها هي صحيفة «الشرق الأوسط»، تنشر في حلقات كتاباً جديداً ـــ مُكرَّراً ـــ لحازم صاغية وفيه ذمّ جمال عبد الناصر، الذي مات قبل أكثر من خمسين عاماً. أي أن صاغية لم يجد استبداداً حوله في العالم العربي اليوم إلا استبداد جمال عبد الناصر، واستبداد الأنظمة التي تعادي آل سعود ـــ إنها الليبرالية العربيّة، يا صديقي وصديقتي). هناك مواقع وصفحات مُفردة فقط لإعادة كتابة تاريخ الاستعمار من أجل ربط ذاكرة مغلوطة بوعود مشروع الغرب الحربي في بلادنا.

في لبنان، طالب البعض (أمام الإعلام العربي والعالمي) ماكرون بعودة الانتداب إلى لبنان. هؤلاء لا يعلمون كيف كانت التراتبية الطبقيّة والطائفيّة في عهد الانتداب؛ وكيف كان المُستعمر يولّي مصلحة الاستعمار على أي مصلحة أخرى. ومن أشنع ما لدينا من قوانين سارية في التقييد والحظر (الجنسي والسياسي وغيره) ليست إلا من موروث قوانين المستعمِر. حتى في فلسطين المحتلّة، فإن القانون الذي يستعين المحتلّ به في احتلاله هو من موروث قانون الانتداب البريطاني. وكتاب روبرت إروين، «المعرفة الخطرة: الاستشراق والمعترضون عليه» سيصبح الردّ العربي المُعتمد على نقد سعيد، وقد أفردت له جريدة «الرياض» مراجعة مُتعاطفة.

في صف التدريس، كان إدوار سعيد، كما يروي برينان، محافظاً، أي أنه لم يكن يؤمن بحق الطلاب في تعطيل الصفوف لأسباب التظاهر السياسي. ويروي أن سعيد دعا ذات مرّة شرطة الجامعة عندما دخل طلاب ثائرون إلى صفّه. وسلوك الأستاذ في الصف عرضة لمزاج الأستاذ ولموقفه من التعليم. قد أكون مُحافظاً لأنني لا آخذ مهنة التعليم على أنها مهمة للتلقين ضد إرادة الطلاب، أو أنها جزء من نضال الحزب الديمقراطي الأميركي، كما يراها الكثير من الزملاء التقدميّين هنا. وفصلَ سعيد بين دوره كمثقّف عام وبين دوره كأستاذ في داخل الصف. والتلقين السياسي المُباشر مُهين للطلاب ولعقولهم. يستطيع الأستاذ أن يؤثّر وأن يوجّه لكن من دون المباشرة، أو تسخير الصف لغرض الدعاية السياسية. والمهمّة سهلة هنا عندما لا تكون منحازاً أبداً لأي من الحزبيْن اللذين يتداولان السلطة.

وترد في الكتاب قصّة الأكاديمي الفلسطيني، حنّا ميخائيل (اسمه الحركة في حركة «فتح» كان «أبو عمر»). هذا درس مع سعيد في جامعة هارفرد لكنه ـــ خلافاً لنا كلّنا ـــ نبذَ التعليم الجامعي، أو هو فضّلَ عليه العمل السياسي المباشر (هناك كتاب جديد عنه من إعداد جهان حلو، بعنوان «غُيِّب فازداد حضوراً»). ترك ميخائيل أميركا وأصبح ناطقاً باسم «فتح» يجول في الغرب للدفاع عن وجهة النظر الفلسطينيّة. وميخائيل لم يؤسس للجنة الإعلام المركزي في حركة «فتح» فقط، بل زاوج بين العمل النظري وبين الممارسة العسكريّة، إذ هو تلقّى دورة تدريبيّة طويلة في فيتنام. وكان من ضمن مجموعة تختطّ مساراً يساريّاً ماركسيّاً في داخل «فتح» وشكّل مع رفاق له حالة ثوريّة في داخل حركة لم يردْها عرفات أن تكون ثوريّة. (كان إدوار سعيد شديد الإعجاب ـــ لا بل الانبهار ـــ بالتجارب العسكريّة، الحقيقيّة والخياليّة، لمثقّفين لبنانيّين ويساريّين. وكان بعض هؤلاء يبالغون في وصف تجاربهم لإبهار سعيد).

ويروي برينان عن ظروف وفاة أبو عمر: «وبحلول عام 1976، كان ميخائيل قد تُوفي، ضحية لاغتيال في ظروف غير معروفة». لكن الظروف معروفة، لأن القوى الانعزاليّة ـــ مع حليفتها إسرائيل ـــ كانت تسيطر على الطريق البحري بين بيروت إلى طرابلس (كان «أبو عمر» مع رفاقه في رحلة في البحر من بيروت إلى طرابلس). ليس من لغز في ظروف الوفاة، إلا إذا كان برينان ينقل نظريّات لمعارفه في بيروت وهي تختار ـــ لسبب ما ـــ أن تبرّئ إسرائيل وأتباعها من المسؤوليّة. وينقل برينان من رسالة كتبها سعيد (وحصل برينان على رسائل سعيد الخاصّة) كتبها من بيروت في عام 1972، عندما أمضى عاماً دراسيّاً في المدينة. ويصف سعيد بيروت في ذلك الحين ويصف التناقضات فيها والنزاعات، لكن الغريب أنه يرى في ذلك الوقت ـــ وفي عزّ صعود اليسار اللبناني ـــ أن أوصاف اليمين واليسار لا تسري على الحالة السياسيّة. لكنّ تصنيف اليسار واليمين يسري دائماً، بالرغم من هامشية اليسار في مرحلة ما.

ومقولة أن تصنيف اليسار واليمين لا تسري باتت مقولة يفضّلها اليساريّون السابقون المنضوون في رحم حركات اليمين والرجعيّة في العالم العربي. يريد هؤلاء نسف تصنيفات اليمين واليسار لأن ذلك يضعهم في موقع مضاد لموقعهم السابق. لكنّ سعيد لم يضيّع البوصلة أبداً في نظرته إلى الصراع في لبنان. كان شديد العداء لحزب الكتائب ولآل الجميّل ولأي صلة بهم. وينقل برينان من رسالة أن سعيد وصف الحزب بالفاشية وأنه يريد كسر النقابات العمّالية وأن أمين الجميّل يرى في نفسه «شاهاً لبنانيّاً» (حافظ سعيد على عدائه لأمين الجميّل، وكان في الثمانينيات يستفظع تلك القصّة التي رواها لي أكثر من مرّة، عن أن نواف سلام ومحمد مطر زارا الجميّل في بداية عهده وطالباه بتوزيرهما بالنيابة عن جيل جديد من المسلمين، وكان سعيد يضحك وهو يروي ذلك ـــ للأمانة، نفى سلام ذلك لي عندما سألته عن الحادثة آنذاك). وأحبُّ في الفلسطينيّين (في لبنان وخارجه ـــ باستثناء طبعاً عصابة أوسلو في رام الله) أنهم في أكثرهم لم يغفروا بعد للكتائب مجازرهم وإجرامهم، فيما هبّ قادة الحركة الوطنيّة الذين رفعوا شعار «عزل الكتائب» لإصدار صكّ البراءة للكتائب والقوات اللبنانيّة بمجرّد أن تقدّمت جحافل الغزو الإسرائيلي في لبنان في عام 1982. وحتى القوى التقدميّة الحالية في لبنان، مثل الحزب الشيوعي، لا ترى غضاضة في «التنسيق» في شؤون الثورة المزعومة مع قادة الحزب الفاشي هذا.

وفي العام الدراسي الذي قضاه سعيد في بيروت في فترة 1972 ـــ 1973، تعاملت إدارة الجامعة الأميركيّة في بيروت وأساتذتها مع هذا الأستاذ اللامع (حتى في ذلك الوقت) بكثير من الفظاظة والاستعلاء والتجاهل. ورفضت الجامعة عرض سعيد أن يعلّم صفاً دراسياً واحداً. وينسب برينان هذا السلوك إلى الغيرة من قبل أساتذة الجامعة (ومن المعروف أن الجامعة رفضت توظيف أحمد زويل عندما نال شهاداته). وحتى في سعيه للحصول على بطاقة مكتبة الجامعة، كانوا يضعون العقبات أمامه. ويقول سعيد عن ذلك في رسالة لزميل في مصر في عام 1972 عن الجامعة الأميركيّة في بيروت ما يلي: «أعتقد أنه مكان ضارّ ولا أملَ منه. وللحفاظ النسبي على قواي العقلية لا أريد أي صلة به. ليس هناك من أحد ـــ ولا أحد على الإطلاق، حرفياً ـــ يقوم بعمل مثير للاهتمام. وكل من هو جيّد ـــ مع أن المسكين المسنّ (كان شاباً في حينه)، حليم بركات يُعتبر معتدلاً مقارنةً بصادق جلال العظم ـــ يوضع على الرف، أو يُخصى، أو يُطرد، ودائماً بالقليل من الإنفاق». والوحيد الذي دعاه لإلقاء محاضرة في الجامعة كان شارل مالك. لكن هذه المعلومة التي ترد في الكتاب تتعارض مع ما ذكره برينان من قبل أن سعيد قطع علاقته نهائيّاً مع شارل مالك بعد عام 1967. كم كان قطع الصلة مع مالك هذا صعباً على سعيد وعلى غيره (لكنّ سعيد كان مرتبطاً بمالك بحكم الصلة العائليّة، فيما شرابي سمح لمالك في عام 1974، أن يستدعيه إلى مكتبه عندما كان أستاذاً زائراً في الجامعة، وأن يقرّعه على ماركسيّته. لماذا سكت هؤلاء على مالك خصوصاً بعد دوره الفتنوي الرجعي في عام 1958؟)

وهذه السنة في بيروت كانت مهمة لسعيد لأسباب أخرى، إذ إنه عمّق صلته باللغة العربيّة التي لم يكن يجيدها كتابة أو إلقاءً (بغير العاميّة) لكنه أجادها محادثةً وكان يفضّل الحديث بها حصراً مع العرب، مع الاستعانة ببعض المفردات التي تعصى عليه. ودرس سعيد اللغة العربية، مع أستاذ اللغات السامية الانعزالي، أنيس فريحة (وكان صديقاً لعائلته). لا نعلم ـــ أو أنا لا أعلم ولا يذكر برينان شيئاً عن ذلك ـــ إذا ما كان سعيد قد تناقش مع فريحة في آرائه حول العرب والعروبة والعربيّة. لكن سعيد ضاق ذرعاً بالدروس ووجدها «من دون جدوى». وقرأ سعيد ابن خلدون للمرة الأولى في تلك السنة في بيروت.

وكتب سعيد مقالة في مجلّة «مواقف» لأدونيس في تلك السنة. وكانت تلك أوّل مساهمة لسعيد للجمهور العربي (لكنّ المقالة حتماً كانت مترجمة عن الإنكليزيّة مع أن برينان لديه انطباع مغلوط هو أن سعيد كان يكتب باللغة العربيّة). ويضع برينان المقالة في سياق مقالات «النقد الذاتي» التي تدفّقت بعد هزيمة 1967. لكن برينان عندما يذكر كتاب صادق جلال العظم، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، لا يذكر أنه قرأه في ترجمته الإنكليزيّة الصادرة عن دار الساقي (الرجعيّة). كما يفوت برينان أن يذكر ـــ وهذه أشنع عند قرّاء الإنكليزيّة - أن فؤاد عجمي كتب مقدّمة الترجمة الإنكليزيّة للكتاب (كان العظم على علاقة وطيدة مع عجمي في سنة 1992 ـــ 1993 التي قضاها في واشنطن في «مركز ويلسون». وفؤاد عجمي روّج للعظم في كتابه «المأزق العربي»، وكان دائم الاستشهاد به).

ويذكر برينان باستخفاف أن غسان كنفاني امتعضَ من موضة كتب «النقد الذاتي» واعتبرها جزءاً من «المهرجان المازوشي والتعظيم الذاتي»، ويضع المؤلف العبارة بين مزدوجين كأنها من صياغة كنفاني. لكنّ مراجعة كنفاني في «الأنوار» في عام 1968 (وهي مجموعة في كتاب «فارس فارس»، الصادر عن دار الآداب) لم تتضمّن تلك اللغة أو العبارة. كان نقد كنفاني أعمق من ذلك، واستشفّ في الكتاب لغة تحقير ذاتي استشراقية، ورفض التنميط التعميمي عن عقل عربي ثابت الوجود، يختلف عن عقول شعوب الأرض. ثم إن التحوّل الذي لحق بمواقف العظم عبر السنوات كان متناسقاً تماماً مع التحذير الذي أطلقه كنفاني. لكنّ هذه الإشارة إلى الكتاب في سيرة سعيد تتوافق مع هذه الموضة في وسط اليسار الأكاديمي الغربي للاستعانة بالعظم (حيّاً وميتاً) ضد سعيد وضدّ نقده للاستشراق. هؤلاء يتمنّعون أحياناً عن نقد كتاب سعيد ضد الاستشراق، فيحتاجون إلى ناقد محلّي (يميني، مثل عجمي، أو يساري سابق، مثل العظم).

ومقالة سعيد في «مواقف» (وقد نُشرت في كتاب «إدوار سعيد: مقالات وحوارات»، لمحمد شاهين) تقتفي آثار لهجة التشنيع الذاتي التي أطلقها العظم بعد الهزيمة، والتي أصبح لها مريدون كثيرون. ويمكن اعتبار كتاب فؤاد عجمي الأول، «المأزق العربي»، إضافة على نمط تفكير كتاب العظم، مع إمعان في التحقير الذاتي وفي جعل النضال العربي للحرية ولفلسطين مشروعاً يائساً (ومن المعروف أن عجمي هذا انتهى في صف المحافظين الجدد في واشنطن، ونال هو وبرنارد لويس وساميْن رفيعيْن من جورج بوش نفسه، تقديراً لخدماتهما في التأجيج للحرب ضد العراق، وضد كل من تشنّ أميركا الحرب عليه).

وتساءل سعيد في تلك المقالة، وبلهجة استشراقية، عن سبب غياب حس «الفعالية والتقدّم والعلم والحيويّة الثقافيّة» عند العرب (أترجم هنا عن النصّ الإنكليزي الذي استشهد به برينان). ويضيف سعيد في تشخيصه للحالة العربيّة في رسالة إلى صديق حميم له (سامي البنّا) ويقول: «المجتمع (العربي) ليست لديه ذاكرة، أو حس البعد (أو استشراف للمستقبل، وليس من قدرة للتخطيط) وليس هناك استقرار غير حالة التوازن». ويضيف أن الحركة التي تصف الفرد العربي هي دائريّة، وأن «الترداد يُظّن أنه جِدة، خصوصاً أنْ ليس هناك من حس للتقدير». وقرّر سعيد أن ليس للعرب فكرة عن صنع الثورة. ويقول: «إن الواقع لنا (نحن العرب) ليس إلا لغة». لكنه يضيف أن الحال هو كذلك في الغرب، لكنّ هناك وعياً في الغرب لذلك. لكن سعيد في الرسالة المذكورة يقترب من المنهج الاستشراقي عندما يقرّر أن العرب فقدوا لغتهم عندما أصبحت لغة الله، وأنها غير متغيّرة.

طبعاً هذا التعميم لا يسري وليس هناك من يقرّ به من قراء العربيّة. ليست اللغة العربيّة في القرن الماضي كما هي يوم، حتى لغة الجرائد تغيّرت كثيراً عما كانت عليه، وتغيّر الشعر أيضاً، الذي كان من المفترض أن يكون انصياعه للعروض دليلاً على تحجّر الثقافة العربيّة وعلى تخلّف لغتهم. ومطب النتاج الرائج لـ «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، أنه وضع سياق النقد في خانة الاستشراق الغربي التقليدي، ومن هنا المفارقة أن سعيد نفسه في هذه المساهمة في مجلّة «مواقف» (التي كانت ترحّب بهذا النوع من النقد، والذي لا يزال أدونيس يحبّذه في تعميماته الخالية من العلميّة والدقّة) اعتبرَ أنه يجوز الكلام عن «عقل عربي» ـــ حتى برينان نفسه لاحظَ ذلك. ولاحظ أن ذلك شبيه بنهج شارل مالك، المؤثّر على سعيد في سن مبكرة. وبهذا، فإن صادق جلال العظم نفسه ـــ وقبل سنوات من نقد كتاب سعيد عن الاستشراق ـــ أدّى خدمة جليلة للاستشراق من خلال منحه صبغة يساريّة محليّة.

ومثل هشام شرابي في الفترة نفسها، فكّر إدوار سعيد جديّاً (أعلم ذلك للمرّة الأولى) بترك جامعة كولومبيا، والانضمام إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت. وبالرغم من سوء معاملة الجامعة لسعيد في تلك السنة التي قضاها مستفيداً من منحة «غوغنهايم»، أراد سعيد المشاركة السياسية في الميدان اللبناني ـــ الفلسطيني. وشرابي كان على وشك الاستقالة من جامعة جورجتاون للالتحاق بالجامعة الأميركيّة عندما اندلعت الحرب، وعاد شرابي خائباً إلى واشنطن. وأذكر في آخر لقاء لي معه في بيروت قبل وفاته بقليل، أنه قال لي عندما سألته عن تأقلمه مع العيش في لبنان: هي أسعد أيام حياتي. أتمنّى لو أنني أتيتُ إلى هنا من قبل. وتجذّر هشام شرابي وكان دائم الإطلال على محطة «المنار» وكان شديد المناصرة للمقاومة.

يقول برينان (وهو قابل أرملة سعيد، مريم) إن سعيد كان يفكر جديّاً في ترك جامعة كولومبيا في تلك السنة، لولا أن مريم حثّته على الإقلاع عن الفكرة. وانطباعي عن سعيد أنه زاد عروبة وعربيّة عبر السنوات، تماماً كما يحدث للكثير من الأكاديميّين العرب (أو كان يحدث، لمن كان في ذلك الجيل). كان حنا بطاطو شديد التأثر بجمال عبد الناصر في سنواته الأخيرة، وأمرّ الآن بتجربة مشابهة من حيث الحنين للزمن الناصري. وقال لي حليم بركات رداً على سؤالي له قبل بضع سنوات: إن المرحلة الحالية هي أسوأ ما نمرّ به. لكنّ انجذاب سعيد لبيروت كان منطقيّاً: إدوار سعيد كان شديد النفور من الجو الصهيوني في نيويورك (أو في أي جامعة نخبويّة في أميركا) كما أنه كان شديد الاهتمام بتجربة المقاومة الفلسطينية آنذاك (ولا يمكن التقليل من تأثير تجربة «أبو عمر» عليه).

(3)

لا يزال الحديثُ هنا عن كتابيْن جديديْن صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». والكتاب الأوّل أحدث ضجّة كبيرة في الأوساط الأكاديميّة وحتى الصحافيّة، وهناك مؤتمر عن الكتاب سينعقد في «مركز كمبردج للدراسات الفلسطينيّة» في جامعة كمبردج في بريطانيا (أشارك فيه مع الصديق كمال خلف الطويل وأهداف سويف، وريتشارد فولك، والمؤلف). والحملة على سعيد في الغرب تأخذ أشكالاً مختلفة، وهي لم تخبُ بعد وفاته. على العكس. فهناك من انتقى جملاً من سيرة برينان للتشنيع بسعيد، أو هناك من استخدم الكتاب لاستخدام سعيد في معارك سياسيّة آنيّة، أو لجعله أداة في حرب ضد أعداء أميركا. والهوس الصهيوني الغربي بسعيد ليس إلا دليلاً على تأثير سعيد، ليس السياسي فقط، بل الأكاديمي. إن كل المراجعة النقديّة للمناهج الأكاديميّة الغربيّة تنطلق من نقد سعيد في كتاب «الاستشراق» و«تغطية الإسلام» و«الثقافة والإمبرياليّة».

وصحافة النظام السعودي والإماراتي تنهشُ هي الأخرى في جسم سعيد لسببيْن: 1) من أجل تبييض صفحة النظاميْن مع الصهاينة. يعلم النظامان المُطبّعان (سرّاً، أو جهاراً، لا فرق) أن نقد سعيد يسرّ الدوائر الصهيونيّة في الغرب، خصوصاً في واشنطن وتل أبيب. ومشاركة صحافة الخليج في نقد سعيد كانت من بوادر التطبيع الأولى. أراد النظامان تسجيل نقاط لمصلحة إسرائيل في صحافتهما. 2) لأن كتابَيْ سعيد «تغطية الإسلام» و«الاستشراق» عزّزا النقد العربي والمسلم والمهاجر في الغرب لسياسات حكومات الغرب، في الداخل والخارج. ويشارك النظامان الاعتراض الذي قدّمه صادق جلال العظم (وتشاركَ فيه مع الصهاينة في الغرب) من أن خطاب سعيد في الدفاع عن الإسلام والمسلمين كان خطاباً اعتذارياً وساهم في تقوية موقف الإسلاميّين (طبعاً، هناك مفارقة في موقف العظم، نظراً إلى مواقفه وتحالفاته وخطابه في سنواته الأخيرة، والذي اتخذ منحى طائفيّاً لا لبسَ فيه).

وجريدة «الشرق الأوسط» نشرت مقالة لهاشم صالح قبل أيّام بعنوان «لماذا أحبُّ الاستشراق» (وأبرزت الجريدة إعلاناً عن المقالة في أعلى صفحتها الأولى، لتعميم الفائدة في الدعاية السياسيّة). وأطرف ما جاء في المقالة زعم الكاتب أن «سعيد ندمَ على فعلته تلك (أي نقد الاستشراق) في آخر حياته». طبعاً، لا يقول ذلك عن سعيد إلا من لم يعرفه، ومن يريد أن يستخدم جثة سعيد لغايات سياسيّة آنيّة (سياسات تنويريّة تابعة لمحمد بن سلمان في هذه الحالة).

ومن فوائد كتاب برينان أنه يدحضُ تلك الفكرة السائدة عن المثقفين الفلسطينيّين من أميركا، مثل إدوار سعيد وهشام شرابي بالتحديد، عن أنهم ما استفاقوا على القضيّة الفلسطينيّة إلا بعد هزيمة 1967. هذا غير صحيح في الحالتيْن، والكتاب يفصّل أن سعيد كان مشغولاً بشؤون العالم العربي طيلة حياته، وإن كان دوره في تأسيس «جمعية الخرّيجين الجامعيّين العرب الأميركيّين» قد كان نتيجة تضافر جهود أميركيّين عرب إثر الهزيمة المدويّة في عام 1967. (كم كنتُ أجد ـــ ولا أزال ـــ اسم الجمعيّة وحتى نطاقها مزعجاً، إذ إنها استثنت هؤلاء العرب الذين لم يتخرّجوا من جامعة، لكن هذا النمط المعرفي النخبوي كان سائداً في تلك الحقبة، ولا يزال). لكن سعيد في كتابه «سياسة الانتزاع» يشيرُ إلى أهميّة 1967على فكره السياسي وعلاقته بالعالم العربي ويجعلُ من تلك السنة مفصليّة في توثيق علاقته السياسية والشخصية بالعالم العربي، لكنّ الكتابات والمراسلات التي اطّلع عليها برينان تشير إلى أن سعيد كان مرتبطاً مبكراً. لكن سعيد قد يكون يعتبر ارتباطه الأول نسبياً أقلّ مما أرادَ، مقارنة مع الارتباط الذي تلا حرب 1967. والكتاب يظهر كم كان سعيد ملتصقاً بالتطورات السياسيّة في العالم العربي في كل مراحلها، خصوصاً ما يتعلّق منها بالقضيّة الفلسطينيّة. ها هو في رسالة شخصيّة في عام 1973 يشكو من «الرقابة الثقيلة» في لبنان على المطبوعات، ويتابع بإعجاب نموّ منظمة التحرير الفلسطينيّة السياسي والعسكري.

يقول برينان لم يتعرّف سعيد عن كثب على قادة منظمة التحرير البارزين إلا في عام 1974. هذا غير صحيح. هو كان يعرف بعضهم من قبل، مثل حنا ميخائيل، «أبو عمر» (الذي سبق الحديث عنه) أو كمال ناصر، الذي كان يمتّ بصلة قرابة معه. وسعيد تعرّف إلى ياسر عرفات مبكراً قبل «أيلول الأسود» بقليل، وبوساطة من «أبو عمر» (لا يذكر برينان ذلك، ويظن أن ذلك لم يحصل إلا في الأمم المتحدة. وسعيد تحدّث عن ذلك في مقالة له عن «أبو عمر» في مقالة في «الأهرام ويكلي» وهي منشورة في كتاب «السلام ومعارضوه»). تعرّف سعيد إلى ياسر عرفات أكثر في نيويورك عندما ألقى الأخير خطابه الشهير في الأمم المتحدة (لم يستطع عرفات حتى في خطابه غير الطويل إلا أن يخطئ في النحو، بالرغم من تشكيل النص). لم يكن لسعيد دور في كتابة الخطاب، الذي عمل على حياكته وليد الخالدي وصلاح الدباغ ومحمود درويش وشفيق الحوت. لكن سعيد، بمعاونة رنده الخالدي فتال، ترجم الخطاب إلى اللغة الإنكليزيّة.

وهذا الدور لسعيد دشّن لصلة وثيقة بينه وبين عرفات وقيادة المنظمة، كما أنه أسّس لصداقات قويّة بين سعيد ومحمود درويش وشفيق الحوت. كان سعيد معجباً بياسر عرفات، وأثنى عليه كثيراً عبر السنوات قبل أوسلو عندما أصبح من أبرز معارضيه (وقال لي سعيد إن عرفات كان وراء منع عدد من كتبه في الأراضي المحتلّة. بعد أوسلو اقتنع سعيد أن عرفات عصيّ على الإصلاح). لكن سعيد يقول في تذكّره للقائه الأول مع عرفات إن الأخير ترك عنده انطباعاً بأنه «ممثل وحيوان سياسي بامتياز وليس له إلا علاقة سطحيّة بالحقيقة» (كتاب سعيد، «السلام ومعارضوه»، ص. 79). أيّد سعيد عرفات لسنوات واعتبره رمزاً القضيّة، وأنه أنشأ مؤسّسات في داخل منظمة التحرير. حاول سعيد أن يؤثّر على عرفات وعلى قيادة المنظمة، لكنه كان يجد تمنّعاً.

لكن هذا الدور لسعيد في تلك الفترة (في أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات)، تبلور أكثر خلال سنوات إدارة جيمي كارتر، عندما اقترحه أنور السادات، سيّئ الذكر، رئيساً لحكومة فلسطينيّة في المنفى من أجل تسهيل التفاوض بين منظمة التحرير وبين أميركا. وتناقض هذا الدور التسووي لسعيد مع موقفه اللاحق الذي تبلور بعد أوسلو ضد الحلول التسووية مع العدوّ الإسرائيلي. كما أن سعيد أصبح حادّ النقد لسياسة تقديم التنازلات للإدارات الأميركيّة، وسخر من عرفات في إشارته إلى كلينتون بـ «صديقي بيل» ـــ باعه صديقه هذا في قمّة كامب ديفيد، بعد أن ألقى اللوم عليه، فيما كان قد وعد عرفات، بأنه لن يلوم أي طرف لو تعثّرت القمّة. ويذكر برينان دور صديق سعيد، إقبال أحمد (الباكستاني الأصل).

إقبال أحمد كان من أعزّ أصدقاء سعيد، وهو (أي أحمد) مجهول من العرب. لم يكتب أحمد كثيراً، لأنه كان مشغولاً أكثر بالخطابة والنشاط السياسي. هذا رجل عندما كتب أطروحته في جامعة برنستون في الستينيّات جال في شمال أفريقيا وساهم في دعم الثورة الجزائريّة. هذا رجل تعرّض لمضايقة وطُرد من جامعة كورنيل بسبب مواقفه المؤيّدة (مبكراً) للثورة الفلسطينيّة. لكن إقبال أحمد (الذي التقى بياسر عرفات أكثر من مرّة) كان شديد النقد لتجربة منظمة التحرير، والفساد المستشري في صفوفها. أذكر أن أحمد كان يذكّرنا بأنه حذّر عرفات أكثر من مرّة من الفساد المستشري في صفوف المنظمة في لبنان، ومن الاستعراضيّة المنفّرة لمنظمة التحرير في لبنان – وكان يزور لبنان بانتظام. (أذكر أن سعيد طلب مني مرة في أوائل التسعينيّات الاتصال بأحمد لمساعدتي في الحصول على وظيفة لي في جامعة «هامشر»، حيث كان أحمد يعلّم، وتجاوب أحمد وحاول المساعدة). سعيد، في المقابل، كان مقتراً في نقد المنظمة قبل أوسلو. أو أنه كان ينتقدها لعدم تجاوبها مع نصائحه باتباع اللين والمرونة وذلك لكسب اعتراف أميركي بمنظمة التحرير. بهذا، فإن قيادة المنظمة كانت على حقّ في تجاهل دعوات سعيد في ذلك الحين (طبعاً، عاد عرفات وقبل أسوأ بكثير مما كان معروضاً عليه في الماضي، مع أن كل المعروض على قيادة المنظمة في تاريخها من الإدارات الأميركيّة كان سيئاً للغاية، ومضراً بحق الشعب الفلسطيني). وبرينان يظنّ في الكتاب أن سعيد هو الذي أطلق وصف «الختيار» على عرفات للتحبّب. لكن برينان لا يعرف شؤون السياسة في العالم العربي.

لكنّ برينان يكشف جانباً آخر من نقد سعيد لعرفات، وكيف أنه ذات مرة حثّ صديقه الصحافي اليساري الراحل، ألكسندر كوبرن (كم خسرناه) من أجل أن ينتقد عرفات لإصراره على ارتداء الكوفيّة وإطلاق لحيته وعلى لباسه العسكري. لكنّ هنا جانباً أثّر على مواقف سعيد من القضيّة الفلسطينيّة قبل أوسلو. كان سعيد شديد الاهتمام ـــ أو لنقل، كان مفرط الاهتمام ـــ بصورة المقاومة الفلسطينيّة في الغرب، وخصوصاً في الولايات المتحدة. صحيح أن عرفات كان ثقيل الدم في المقابلات، خصوصاً تلك التي كان يصرّ أن يجريها باللغة الإنكليزيّة (وكان سعيد وغيره يلحّون على عرفات بأن يمتنع عن التحدّث بالإنكليزيّة، لأنه كان متعثّر النطق فيها). وصحيح أنه كان لعرفات عادة ذميمة في المقابلات الصحافيّة (بالعربيّة والإنكليزيّة) عندما كان يردّ على السؤال بسؤال آخر، ثم يضحك، ظنّاً منه أنه أفحم السائل.

لكن الظن أن صورة عرفات التي كان الغربيّون يرونها منفّرة، هي التي كانت وراء الموقف السلبي من حقوق الشعب الفلسطيني هو فكرة سطحيّة ومغلوطة. والكثير من زعماء العدوّ كانوا منفرين تليجينيّاً، وكان إسحق شامير وإسحق رابين فظّيْن مع الصحافة الأميركيّة، لكن هذا لم يؤثّر على نظرة التعاطف الأميركي مع الصهيونيّة. ثم، لماذا نجعل من إرضاء الرجل العنصري الأبيض هدفاً للقضيّة؟ ثم، لو كانت القضيّة منتصرة وباهرة في نضالها، لما كان هناك تأثير لصورة القائد. لم يكترث لا ماو تسي تونغ ولا هو شي منه لصورتهما في إعلام الغرب؛ وهما يقودان ثورتهما المسلّحة، ولباس غيفارا وكاسترو أصبح موضة عالمية، مثل جاكيت ماو. إن صورة عرفات بالكوفيّة واللباس العسكري واللحية غير الحليقة لم تكن سبب نفور الغرب من القضيّة الفلسطينيّة. كانت صورة عرفات هذه، على مسرحيّتها واستعراضها وتهريجيّتها، من أقل مشاكله.

مشاكل عرفات الحقيقيّة كمنت في خداعه ونفاقه وبهلونيّاته وكذبه وتنازلاته الجمّة، إضافة إلى هوسه بالحوز على الرضى الأميركي. كان جورج حبش يختلف جذريّاً، في صورته التي يظهر فيها في الإعلام وأمام الملأ، عن عرفات ومهرّجيه، لكن هذا لم يكسبه تعاطفاً غربياً. كما أن غسان كنفاني أو جمال عبد الناصر أحسنا التحدّث بالإنكليزية، والردّ على المزاعم الصهيونية، لكن هذا لم يكسب تعاطف الجمهور الغربي. أنا أفهم موقف سعيد من صورة عرفات الاستعراضيّة وكانت تثير الامتعاض عند كثيرين من العرب هنا، لكن كنتُ دائماً أقول لهم: وهل أن صورة العربي في الغرب كانت ستكون مختلفة لو أن بيلا حديد أو تيم حسن (أو أي ممثل شهير وسيم) مثّل منظمة التحرير بدلاً من عرفات؟ هذه عوامل لا تأثير فيها على أسباب نفور الغربيّين ـــ أو الكثير منهم ـــ من قضيّة الشعب الفلسطيني وثورته التي أجهضها ياسر عرفات.

لكن برينان يُسيء كثيراً إلى سمعة إدوار سعيد وإلى إرثه السياسي والثقافي عندما يوحي بأن العرب (مَن؟ كل العرب؟ بعض العرب؟) كانوا يريدون اغتيال سعيد بسبب مواقفه السياسية. ويذكّر برينان أن «عدداً من حلفائه» تعرّض للاغتيال أو التهديد. لكنّ برينان لا يذكر أن حلفاء وأصدقاء وأقرباء سعيد، الذين تعرّضوا للاغتيال قُتلوا على يد عصابات إسرائيليّة، وليس على يد عرب. أما «أبو عمر» الذي سبق ذكره، فهو قُتل على الأرجح على يد ميليشيات إسرائيل في لبنان. ثم يزعم برينان أن سعيد لم يذكر في عزّ الحرب الأهلية عبارة «عمليات استشهاديّة» في إشارة إلى السيارات المفخّخة، وأنه عارضها. ويوحي بأن رفض السيّارات المفخّخة هو من الكبائر عند العرب (لكن أوّل سيارة مفخّخة في تاريخ العالم كانت في نيويورك في عام 1920، وهناك من يقول إن محاولة اغتيال السلطان عبد الحميد في عام 1905 كانت الأولى، وأوّل سيارة مفخّخة في الشرق الأوسط كانت من صنع الصهاينة، طبعاً). ولم يكن موقف سعيد ضد السيارات المفخّخة معروفاً في سنوات الحرب الأهليّة لسبب بسيط: لم يكن إدوار سعيد معروفاً في سنوات الحرب الأهليّة، كما أن اسمه لم يرد عند العامة قبل ذكره من قبل السيّئ الذكر، أنور السادات، عندما زكّاه لرئاسة حكومة فلسطينيّة في المنفى في عام 1977.

ويذكر برينان أن سعيد في رسالة لفريد هاليداي (الذي انقلب من اليسار إلى الدعوة للحروب الإمبريالية قبل وفاته) قال إنه اتُّهم بالخيانة والتنازل والاستسلام والعمالة للإمبريالية الأميركيّة. لكن هذه الاتهامات سيقت ضد سعيد، ليس أبداً بسبب ذمّه للسيارات المفخّخة، بل لأنه قدّم طرحاً سياسياً استسلامياً، ولأنه طالب بتلبية مطالب الإدارة الأميركيّة للحصول على اعتراف بمنظمة التحرير. هذا كان مكمن الاعتراض على سعيد من قبل الكثيرين في العالم العربي. وقد رويتُ أنني رأيتُ إدوار سعيد للمرأة الأولى في أوائل الثمانينيات في «معهد الدراسات السياسيّة» اليساري عندما ألقى محاضرة، ورددتُ عليه بغضب شديد لأنه سخر من الكفاح المسلّح، وشبّهه يومها (للجمهور الأميركي) بـ «فظائع نظام الخميني». وجرى سجال غير قصير بين سعيد وبيني يومها، لكنه عاد ونفى أنه ذمَّ كفاح الشعب الفلسطيني. لكن فكرة أن سعيد كان هدفاً لمحاولات اغتيال هي غير موثّقة، مع أن تزكيته من قبل أنور السادات بالذات جعلته عرضة للنقد في العالم العربي. وعندما يقول سعيد في رسالته لفريد هاليداي إن مجلّة «الهدف» شنّت «حملة مجرمة ضده» لم يكن يعني أن «الهدف» دعت إلى قتله، لكن الأمر اختلط على المؤلّف وظن أن «الهدف» دعت لاغتيال سعيد.

وفي عام 1977 انتُخب سعيد عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني. وكلمة انتخاب ليست دقيقة في ما يتعلّق بالتعيينات في المجلس الوطني الفلسطيني. كان قادة الفصائل يتفاهمون في الغرف المغلقة على أسماء التعيينات، وفق كوتا التنظيمات المختلفة، ثم تُعلن نتائج الاقتراح الديمقراطي. وانتخاب سعيد في عام 1977 كان في أوجّ ضلوع سعيد في جهود مع الإدارة الأميركيّة لكسب اعتراف أميركي بمنظمة التحرير. وها نحن بعد عقود من حصول الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير ندرك أكثر من أي وقت مضى أن ثمن الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير كان باهظاً جداً، ومهيناً أيضاً. وأتى على حساب الكرامة الوطنية والحقوق التاريخية. الاعتراف الأميركي تطلّبَ أولاً أن يتلو عرفات بياناً كُتبَ له بالإنكليزية وأُرسل عبر الفاكس، من أجل أن يدين وينبذ (أصرّت إدارة ريغان على صيغة الإدانة والنبذ معاً) الكفاح المسلّح ويصفه بالإرهاب.

أنهت تلك التلاوة لعرفات زمن محاججة العرب للتعريف الأميركي الصهيوني للإرهاب، الذي ليس إلا مقاومة الاحتلال الصهيوني والاحتلالات الأميركيّة في بلادنا. تزكية سعيد في حينه في المجلس الوطني الفلسطيني كانت برغبة من القيادة الفلسطينيّة للاستعانة بقناة اتصال مع الإدارة الأميركيّة (كان سعيد زميل دراسة في برنستون، مع هودنغ كارتر، الذي كان الناطق باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة في عهد كارتر). ويقول برينان إن سعيد كان قريباً من الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين، لكن سعيد لم ينتمِ إلى أيّ من التنظيمات. والجبهة الديمقراطيّة كانت تستهوي دعاة التسوية السلميّة التنازليّة مع العدوّ، لأنها كانت أوّل من طرح فكرة الدويلة الفلسطينيّة في الضفة والقطاع، وهي أجازت الحوار مع الإسرائيليّين بحجّة أنه من الضروري كسب «القوى الديمقراطيّة الإسرائيليّة» (من هم هؤلاء؟) ومن المعروف، أن حملة الجبهة الديمقراطيّة لمخاطبة الرأي العام الاستيطاني الإسرائيلي لم تطل كثيراً، إذ جاءت عمليّة ترشيحا في أيار 1974 لتجعل من الجبهة، ومن حواتمه شخصياً، هدفاً للعداء الصهيوني المُستحكم.

لكن برينان يخطئ، كعادته في الحديث عن السياسة في العالم العربي، عندما يقول إن الجبهة الديمقراطيّة كانت تمثّل أقصى اليسار في الساحة الفلسطينيّة (كانت هي في الحقيقة في «الحلول التسووية» تمثّل اليمين، واستعان بها عرفات لعرض طروحاته التسووية على الساحة الفلسطينيّة)، وعندما يقول إنها لم تكن شيوعيّة بصورة صريحة، فيما كانت هي الفصيل الأكثر تمثيلاً للاتحاد السوفياتي وعقيدته في الساحة الفلسطينية. ويخطئ برينان أيضاً عندما يقول عن صديق سعيد الحميم، شفيق الحوت، إنه لم يكن شيوعياً. الحوت كان دائماً يقول لجورج حبش ممازحاً: أنا كنت شيوعيّاً عندما كنتَ أنتَ قوميّاً، وأصبحتُ أنا قوميّاً عندما تحوّلتَ أنت إلى الشيوعيّة. ويضيف برينان أن سعيد كان متوجّساً من احتضان «فتح» لـ«الإسلام السياسي». لم يكن هناك إسلام سياسي ليتحدّث المرء عنه، إذ إن انطلاق المقاومة الفلسطينيّة جرى في عصر القوميّة العربيّة واليسار العالمي العلماني. صحيح أنه كان لبعض قادة «فتح» جذور إخوانية، لكن «فتح» مثّلت تجربة مختلفة تماماً عن الإخوان، وعرفات نبذ الطائفيّة في الساحة الفلسطينيّة وإن كان استخدمها لأغراضه في الساحة اللبنانيّة.

(4)

لا يزال الحديثُ هنا عن كتابَين جديدَين صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». والكتاب الأوّل أحدث ضجّة كبيرة في الأوساط الأكاديميّة وحتى الصحافيّة في الغرب. والمُراجعات للكتاب تتوالى وهي وصلت إلى اللغة العربيّة، فقد نشرَ موقع «حكمة»، مقالة لمصطفى شلش عن الكتاب وعن إدوار سعيد، وفيها يستنجد الكاتب بالصهاينة مثل مارتن كريمر وحتى موقع «كامبس ووتش» المتطرّف (الذي يرصد التعبيرات المعادية للصهيونيّة وإسرائيل في الأكاديميا الأميركيّة) لذمّ سعيد. ولا يكتمل ذمّ سعيد من دون إحياء صادق جلال العظم. واليمين لم يكن يكترث للعظم إلّا بعد أن هجا سعيد وأصبح مرغوباً في دوائر اليمين والرجعيّة، شرقاً وغرباً. ولو كان سعيد لهالَه هذا الإحياء للعظم، أو حتى الاستعانة به كأنه أخلص أصدقاء سعيد مع أن سعيد في سنواته الأخيره لم يحتقر العظم أقلّ من احتقاره الشديد لفؤاد عجمي، وكان يرى مشروعَي الرجلَين متماثلَين.

وتزامناً مع رحلة السادات المشؤومة للقدس المحتلّة، بدأ إدوار سعيد بلعب دور الوسيط بين إدارة كارتر وقيادة منظمّة التحرير، تحت سيطرة ياسر عرفات. والصلة كانت تتمركز حول شخص هودنغ كارتر الذي تزامل مع سعيد في جامعة برنستون، وأصبح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة في عهد كارتر. والدور الذي لعبه سعيد يبدو مُستغرباً بالمنظار التاريخي، لأن موقف سعيد من التفاوض مع الإدارات الأميركيّة ومن أثمان التنازلات التي يمكن لقيادة منظمّة التحرير أن تقدّمها تغيّر كثيراً عبر السنوات. قلَّ إيمان سعيد بإمكانيّة حصول حلّ عن طريق أي إدارة أميركيّة، وهو عليم لأن مفاوضاته مع إدارة كارتر جرت على مستوى عالٍ: عرّفه هودنغ كارتر على وزير الخارجيّة، سايروس فانس، وعلى نائب وزير الخارجيّة، فيليب حبيب. وشارك في هذه الاجتماعات عدد من زملاء سعيد في «الجمعيّة الأميركيّة لخرّيجي الجامعات» (لايزال الاسم يصيبني بالامتعاض لنخبويّته). وطلبت الإدارة الأميركيّة من سعيد الحصول على اعتراف بإسرائيل من قِبل منظمة التحرير. وفي المقابل، عرضت إدارة كارتر الترويج لـ«حل الدولتيْن»، على أن تصبح أراضي 1967 من ضمن حدود الدولة الفلسطينيّة.

وأنا، في قراءة سرديّة برينان لتلك المفاوضات بين سعيد وإدارة كارتر، أشكّ جديّاً في أن إدارة كارتر كانت مستعدّة لدعم دولة فلسطينية في عام 1977 أو حتى 1978، لأن ذلك يتناقض ليس فقط مع كل مواقف تلك الإدارة (التي قال فيها مستشار الأمن القومي، زبغنيو برجنسكي، «وداعاً لمنظمة التحرير» في مقابلة مع مجلّة «باري ماتش» الفرنسيّة ـــ والمفارقة أن برجنسكي كان الأقلّ مناصرةً لإسرائيل داخل الإدارة واتُّهم من قِبل الصهاينة بمعاداة السامية بسبب أصله البولندي، وكان برجنسكي من الذين وقّعوا على وثيقة معهد «بروكنغز» في عام 1975 والتي طالبت بـ«حق تقرير المصير») بل مع كل مواقف الإدارات التي توالت بعدها. وكان سبقَ اجتماعات سعيد مع أقطاب الإدارة ترويج أنور السادات لسعيد في نوفمبر 1977 طرحه كرئيس وفد فلسطين في مفاوضات جنيف المقترحة، أو كرئيس حكومة فلسطينيّة في المنفى. ولم تكن طروحات السادات بريئة، طبعاً بل هي أتت من أجل أن تقطع الطريق على تمثيل رسميّ لمنظمة التحرير. أي أن السادات كان يقدّم خدمة، من خدماته الكثيرة، للبوس الإسرائيلي في أميركا.

ولم يستجِب عرفات لطلب سعيد بقبول عرض كارتر. ألحَّ سعيد، عبر شفيق الحوت، على عرفات لقبول العرض لكن عرفات رفضه. وفي المراجعة التاريخيّة، كان عرفات على حق في الرفض. لكن عرفات عاد وطلب مساعدة سعيد للتوسّط مع جورج شولتز في عام 1982 لقبول أقلّ مما عرضه كارتر عليه. وما قبله عرفات في أوسلو كان أقلّ مما عُرض على منظمة التحرير في تاريخ العروض والمفاوضات السريّة. ولكن هل كان سعيد يُشكِّك عبر السنوات في جدوى تلك العروض الأميركيّة بعد أن تبيّن حجم الدعم الأميركيّ للطموحات الفلسطينيّة؟ أنا أقول إن الجواب بالإيجاب، لأنني إن أنسى لن أنسى يوم توقيع اتفاقيّة أوسلو، عندما هاتفني سعيد وتحدّثنا طويلاً عن ضرر الاتفاقيّة وضرر الاعتماد على «الوسيط» الأميركي.

ويعود برينان للحديث عن آراء كتبها سعيد عن اللغة العربيّة في مدوّنات غير منشورة أو رسائل. ويبدو فيها أن سعيد بالغ في تأثير القرآن وقدسيّة نصّه على التعبير العربي. إذ يقول إن على العرب إما النطق «كالغربيّين أو كالله». لكن لم تحدّ قدسيّة القرآن من قدرة العرب على التعبير، ما فيه التعبير الإباحي، باللغة العربيّة، أو التعبيرات الزنديقيّة والإلحاديّة والكفريّة. وعلاقة سعيد باللغة العربيّة لم تكن عميقة ولم يكن قارئاً للأدب العربي في تاريخه كي يُصدر أحكاماً قاطعة عن اللغة العربيّة وآدابها. عرف سعيد اللغة العربيّة من خلال قصص لروائيّين محدثين (جداً). وهؤلاء هم الذين أوعز سعيد لدور النشر الغربيّة بترجمة أعمالهم لأنه قرأهم. لم يوعز سعيد لدور النشر الغربيّة بترجمة ونشر أعمال عمالقة الأدب العربي، من أمثال توفيق الحكيم أو طه حسين أو عباس العقّاد أو ميخائيل نعيمة أو خليل حاوي لأنه على الأرجح لم يقرأهم.

وهذا التعميم عن أن اللغة العربيّة لا تملك «وجوداً وسائطيّاً لبنى شفهية رسميّة مرتبطة مباشرة ـــ ومسكونة ـــ بالعالم المتغيّر»، يحمل ذات النفس الاستشراقي التقليدي، وهو يبدو قريباً جداً من تعبيرات ليس فقط لبعض المستشرقين التقليديّين (مثل رفائيل باتاي) بل أيضاً لأدونيس. لا ينفك أدونيس الذي تتلمذ على يد الاستشراق اليسوعي في الجامعة اليسوعية حيث نال الدكتوراه في الأدب العربي، يطلع علينا بنظريّات (غير عمليّة وغير دقيقة) عن الفكر العربي والتفكير العربي وعن العقل العربي. لا يجرؤ بعض مستشرقي الغرب اليوم على النطق بما لا يزال ينطق به أدونيس عن الإسلام، وعن الثقافة العربيّة والفكر العربي. هذا ما يحدث عندما يخال للشاعر أن شعره يصلح أيضاً لعلم الاجتماع الحديث.

ويلفت في سيرة سعيد أنه عندما قضى الفصل الدراسي لعام 1975 ــ 1976 في «مركز الدراسات المتقدّمة للعلوم السلوكيّة» في جامعة ستانفورد أنه تزامل هناك مع الجنرال الإسرائيلي السابق، يهوشوفاط هاركابي (وكان مسؤولاً سابقاً عن الاستخبارات العسكريّة). ويصفه برينان بأنه «المستعرب المشهور»، ويضيف أنه «مثقف بعمق وعاشق للشعر العربي» ويقول إنه «مثقّف بديع». ويروي برينان أن سعيد وهاركابي لم يتشاجرا كما كان متوقّعاً (في المراكز البحثيّة الأميركيّة تحرص الإدارات المعنيّة فيها على تعريف العرب بالإسرائيليّين، وأذكر في منتصف الثمانينيّات عندما قضى رشيد الخالدي سنة في مركز «ويلسون» أن الإدارة وضعت الخالدي في نفس المكتب مع المستشرق والإداري الاحتلالي الإسرائيلي، مناحيم ملسون). وأستغرب أن برينان يروي أن سعيد وهاركابي حافظا على علاقة متأدبة وإن متوتّرة في تلك السنة وتحادثا حول مواضيع ذات اهتمام مشترك.

وهاركابي، كما يصفه نوم تشومسكي، من أصحاب ممارسة إرسال الطرود البريديّة المُفخّخة في قطاع غزة في الخمسينيّات، ولا نعلم عن جرائمه الكثيرة بحكم التستّر الإسرائيلي الأرشيفي على إرهاب الدولة. وهاركابي شخص مؤثّر جداً على صورة العرب في الغرب (لن أتحدّث عن جمهور الإسرائيليّين العنصريّين). هو كتب في عام 1971 «مواقف العرب نحو إسرائيل». وهذا الكتاب كان من أفعل المساهمات الصهيونيّة في تشويه مواقف العرب نحو الصراع مع العدو. والمؤلّف، أي برينان، يرى في الكتاب جهداً خارقاً في تحليل كمّ هائل من الكتابات والخطب والبرامج الإذاعية العربيّة. سعيد علّق على كتاب هاركاربي، عن حق في «الاستشراق»، بأنه يصف العرب بأنهم «منحطّون ومعادون للسامية حتى العظم وعنيفون وغير أسوياء» («الاستشراق»، ص. 307). لكن هاركابي كان أكثر من ذلك: هذا كان منظمة «ميمري» قبل أن تولد في عام 1997، وهي المنظمة التي تُعنى بتجميع وترجمة كل ما يصدر عن العرب من خطاب كريه وخزعبلات وتخاريف، كأن العرب وحدهم دون غيرهم من الشعوب ينزعون لخطاب كراهية (والمنظمّة تأسست على يد استخباراتي إسرائيلي «متقاعد»).

لكن هاركابي حاول في كتابه أن ينسب كل الأسباب المنطقيّة والوطنيّة للرفض العربي لإسرائيل إلى الكراهية والبغضاء. الكتاب كان معتمداً في سرديّة اللوبي الإسرائيلي، لأنه يسلب من العرب حقّ رفض ـــ وليس مقاومة ـــ المشروع الإسرائيلي. ومثل منظمة «ميمري» النافذة، كان هاركابي ينتقي فقط تلك الأقوال الشنيعة ضد اليهود، من دون وضع مروحة واسعة من المواقف العربيّة ضد العدوّ. ومنهج هاركابي أسّس لمدرسة في ثقافة الاحتلال والاستعمار: أنه تستطيع أن تتجاهل حقوق السكان الأصليين، وأن تحتلّ وتقتل إذا ما أبرزتَ أدلّة على أن أناساً بين السكّان الأصليّين نطقوا بكراهية ضد المحتل، أوضد دين المحتلّ إلخ. كل هذا لا يزعج برينان.

وبرينان لا يبدو أنه يميّز بين الجبهة الشعبيّة والجبهة الديموقراطيّة. هو ساعة يقول إن «الهدف» نشرت دعوة قتل ضد سعيد، وساعة يقول إنه كان متعاطفاً معها بسبب صديقه سامي البنا. لكن كيف كان متعاطفاً مع الجبهة الشعبيّة وهو كان وسيطاً بين عرفات وإدارة كارتر للحصول على اعتراف فلسطيني بوجود إسرائيل، مقابل اعتراف أميركي بالمنظمّة ووعد بدويلة فلسطينيّة؟ هذه لا تستقيم بالمرّة. هو كان في فترة متعاطفاً مع الجبهة الديموقراطيّة، التي جذبت بطرحها المبكر لحلّ الدولتَين الكثير من المثقّفين العرب ذوي النزعات التسووية، خصوصاً في دول الغرب.

ويتطرّق برينان إلى العلاقة المتوترة بعض الشيء بين سعيد وبين أنور عبد الملك. عتب الأخير على سعيد لأنه لم يُشِر كفايةً في كتاب «الاستشراق» لمقالته الرائدة، «الاستشراق في أزمة» والتي نشرت في مجلة «ديوجين» في عام 1963 (لكن سعيد ذكر عبد الملك أكثر من مرّة في «الاستشراق» وذكر المقالة المذكورة). ولم تكن مقالة عبد الملك هي الأولى في نقد الاستشراق. يغيب عن الأذهان، بسبب شيوع وشهرة كتاب سعيد، أن هناك مجموعة من العرب (كتاب تقديميّون وإسلاميّون) بكّرت في نقد الاستشراق في مطلع القرن العشرين. (ليس فقط نجيب عقيقي في موسوعته عن «الاستشراق» بل أيضاً كتابات جرجي زيدان وعمر فاخوري ـــ الأخير في «آراء غربيّة في مسائل شرقيّة».

لكن الجهد الأكبر والذي لا يزال مطموسا هو كتابات ومراجعات المؤرّخ الفلسطيني، عبد اللطيف طيباوي. ولم يُعَد نشر كتابات طيباوي بالرغم من جدتها وأهميّتها. وطيباوي، كان مبكراً حتى في تفنيد ونقد الترجمات السيّئة لكبار المستشرقين، مثل نقده لترجمة فرانز روزنتال (راجع نقد طيباوي في كتاب «ثيمات عربيّة وإسلاميّة»، ص. 370). لم يكن هناك نقد محلّي لترجمات المسشرقين في حينه. وشدة نقد طيباوي للاستشراق حرمه من مناصب أكاديميّة في أميركا، وبقي في لندن في مناصب مؤقتة.

والقول إن سعيد رفض كل المستشرقين يخون مضمون كتاب «الاستشراق». وشكا محمد أركون في محاضرة في جامعة جورجتاون في أوائل التسعينيّات من أن طلاب الدراسات العليا العرب في الجامعات الفرنسيّة كانوا يقسمون الببليوغرافيا في الأطروحات بين مؤلّفين عرب وغربيّين. لكن من الظلم نسب هذا المسلك إلى سعيد وكتبه. على العكس. إن سعيد لم يكن رؤوفاً في نقده للاستشراق من قبل عرب، مثل فؤاد عجمي ولاحقاً للعظم (من دون أن يذكر نقده للعظم في كتاباته). سعيد كان شديد الإعجاب بمستشرقين مثل مكسيم رودنسون وجاك برك وفيليب حتي. وفي الوقت الذي كانت جامعات هارفرد وجون هوكبنز وكولومبيا تتنافس لجذبه إليها، كتب سعيد في شباط من 1974 إلى صديق عائلته، قسطنطين زريق، لبحث إمكانية حصوله على مركز ثابت في الجامعة الأميركيّة في بيروت بالرغم من التجربة السيّئة التي مرَّ بها في تلك السنة التي قضاها هناك، عندما رفضت إدارة الجامعة قبول عروض سعيد للتعاون والتعليم). وقال سعيد بوضوح لزريق في طلب العمل في الجامعة الأميركيّة: «إن كل المعرفة عن الشرق الأوسط التي في حوزتي هي الآن بتصرّف وبخدمة الإمبراطوريّة الأميركيّة، فلماذا لا أضعها في خدمتكم؟».

هذه المعضلة شغلت الكثير من الأكاديميّين العرب، مثل حنا بطاطو الذي أصبح في آخر سنواته مغتاظاً من وجود تلامذة أميركيّين في صفوفه. كان يقول لي باستياء: كيف أضمن أن هؤلاء ليسوا، أو لن يكونوا، في خدمة الـ«موساد»، أو إدارة الحرب الأميركيّة مثلاً؟ ولم يتقاعد بطاطو عن التعليم طوعاً بقدر ما أنه وصل إلى مرحلة لم يعُد يستطيع أن يتحمّل فيها ديموغرافياً الطلاب في الجامعة (جورجتاون). ويبدو أن سعيد، مثل شرابي في نفس الفترة، رأى أن العودة باتت مرغوبة لأسباب سياسيّة وحتى شخصية عائليّة (كان معظم أصدقاء شرابي ـــ إن لم يكن كلّهم ـــ خلافاً لسعيد، من العرب).

ويتحدث برينان عن تأثير زريق على سعيد، وكان زريق ـــ قبل العظم ــــ من الذين بالغوا في التفسير الثقافوي للهزيمة أمام إسرائيل، كأن العرب لو كانوا مدرّبين ومنظمّين ومسلّحين ــــ وهذا الأهم ـــ جيداً لم يكونوا سينتصرون على العصابات الصهيونيّة لأن الشعر لا يزال ملتزماً بالعروض، أو لأن التعبير العربي قاصر بسبب قدسيّة النص القرآني أو لأن تدريس العلوم في المدارس متخلّف عن مدارس الغرب.

ثم نصل إلى إطلاق كتاب «الاستشراق» في عام 1978. لا يمكن وصف الوقع، أو الزلزال، الذي أحدثه هذا الكتاب، ولا يزال في الأكاديميا الغربية والثقافة العربيّة. لم يأتِ الكتاب في العالم العربي إلا ليؤكد الشكوك القديمة من العرب نحو الدارسات الغربيّة عن العرب والمسلمين، وإن كانت الطليعة العربيّة المثقفة التي تلقنت العلم في مدارس وجامعات الإرساليّات، أقل نقداً للاستشراق من غيرها. ولهذا، فإن ذوي النزعات الإسلاميّة كانو أكثر نقداً ـــ وأبكر نقداً ــــ للاستشراق من الليبراليّين واليساريّين. أمثال عمر فروخ ومصطفى الخالدي خصوصاً في كتاب «التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة» كانوا طليعيّين.

والكتاب لم يأخذ حقّه لأنه النخبة الثقافيّة في لبنان نبذت أي نقد أو تعريض بالمنحى الطائفي الصارخ للنخب الحاكمة في لبنان. وعمر فروخ هو ضحيّة للنظام الثقافي الاستشراقي في لبنان. عمر فروخ درس في جامعات الغرب (الجامعة الأميركيّة ثم جامعة برلين وارلنجن في ألمانيا). عاد فروخ بشهادة دكتوراه، على ندرة تلك الشهادة في ذلك الزمن، ولم يجد لا الجامعة الأميركيّة ولا الجامعة اليسوعيّة تسمح بتوظيفه مدرّساً، فاضطرّ إلى العمل مدرساً في ثانوية المقاصد في بيروت. لم ترُق لا طائفة الأكاديمي فروخ ولا منحاه السياسي للجامعتيْن. لم يعمل فروخ في التدريس الجامعي إلا بعد تأسيس الجامعة العربيّة في بيروت والجامعة اللبنانيّة (وحتى في سنواتها الأولى، لم يسمح له فؤاد أفراد البستاني بالتدريس فيها، والبستاني رئيسها مع أنه حمل شهادات أقل من فروخ).

لم يقرأ سعيد كتاب فروخ والخالدي ولم يعلم به على الأرجح لأن سعيد لم يكن مطلعاً على النتاجات الأكاديميّة بالعربيّة. وكتاب «الاستشراق» وصل بأصداء كبيرة إلى العالم العربي مع أن النقد العنيف كان أوّل ردّ على الكتاب، من قِبل صادق جلال العظم ومهدي عامل. أزعج الرجلان الإساءة إلى كارل ماركس وسمعته أكثر مما أزعجهما إرث من الاستعمار والعنصريّة الذي وثّقه سعيد في كتابات غربيّة متنوّعة. وللساعة، عند بعض اليسار العربي، فإن الإساءة إلى اسم ماركس هو أفظع من تاريخ جرائم الاستعمار الغربي. لا، بل إن العظم ثار بالنيابة عن الرجل الأبيض ـــ ماركس أو غيره ـــ لأنه ينطق باسم إنسانية مفترضة يلومون سعيد على تجاهلها. أي أن سعيد في نقد الاستشراق أكثر جذريّة بكثير من اليسار الذي انتقده ــــ أو حتماً أكثر من اليسار العربي الذي انتقده، لأنه كانت هناك دراسات نقديّة للكتاب من وجهات نظر يساريّة أخرى، مثل كتاب إعجاز أحمد أو كتاب وائل حلّاق.

الكتاب كان أشبه بثورة. وحتى ماكسيم رودونسون الذي كتب نقداً مُلطفاً للكتاب في كتابه «الافتتان بالإسلام» (والذي كان سبّاقاً في نقد الاستشراق في دراسته «الصورة الغربيّة والدراسات الغربيّة عن الإسلام» في كتاب «إرث الإسلام» الذي حرّره المستشرق جوزيف شخت) قال إن الكتاب كان ذا فائدة لأنه هزَّ الغرور والصلف الاستشراقي الغربي. لعلّه كان يقصد فيمن يقصد برنارد لويس، الذي كان من ضحايا الكتاب الضروريّين، والذي لم يستطِع حتى آخر يوم من حياته أن ينقذ نفسه مما لحق سمعته ومرتبته العلميّة من ضرر بسبب نقد الكتاب. أصبح برنارد لويس التجسيد للاستشراق المعاصر، رغم أن الضرر الأكاديمي الذي لحق بسمعة لويس لم يؤثّر على نفوذه في الإعلام وفي الحكم الأميركي، لا بل هو زادها. أي أن نفور سعيد وجمهور نقد الاستشراق للويس، زاد من رواج كتابات لويس لأن أتباع الفكر العنصري الغربي وجدوا في لويس ضالتهم، خصوصاً وأن عداءه العنصري ضد العرب والمسلمين أصبح أكثر رواجاً في العقود الماضية، وخصوصاً بعد 11 أيلول، حيث أصبح لويس من دعاة الحروب الأميركيّة المستمرّة (لم يكن اللبناني الصهيوني، فؤاد عجمي، ألا تابعاً للويس).

ملاحظة. شاركتُ قبل أيّام في ندوة عقدها مركز كمبردج للدراسات الفلسطينيّة عن كتاب برينان حيث تسنّى لي أن أطرح ملخّصاً عن نقدي للكتاب بحضور المؤلّف، الذي لم يوافق على نقدي له وخالف تفسيري للكتاب. وهو اعترض بشدّة على توصيفي المُمتعض لتنميقه لصورة مجرم الحرب الإسرائيلي، يهوشوفاط هاركابي، لكنني أدرجتُ هنا وصف برينان كما هو من دون روتوش.

(5)

لا يزال الحديثُ هنا عن كتابيْن جديديْن صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية»—والأخير لم يلقَ تغطية تُذكر على عكس الأوّل. والمعضلة في تناول إرث سعيد وكتابة سيرته ان الرجل سيتعرّض للاستغلال في مماته، وأخشى—في كتاب برينان، وحتى في كتاب دومينيك إدة—أن ذلك قد بدأ، وقد صارحتُ برينان بمخاوفي عندما تناظرنا في ندوة مركز كمبردج للدراسات الفلسطينيّة قبل أسبوع. ومراجعات كتاب برينان تكاد تلتقي في سوء تفسير سعيد السياسي أو في استخدامه في الحرب الاقليميّة الجارية حاليّاً في المنطقة. أنتَ ترى مثلا نكشاً لجملة من سعيد عن النظام الإيراني أو السوري، لكنّ هناك جملاً ضد باقي الأنظمة: أنظمة الخليج أو النظام المصري أو الأردني أو حتى نظام أمين الجميّل الذي كان سعيد شديد العداء له، لن تجدها. وعندما كنت أعدّ مقالة مراجعة لكتاب كنعان مكيّة «الوحشيّة والصمت» والذي جارَ فيه على سعيد واتهمه بالصمت عن قمع الأنظمة، علمَ سعيد وأرسل لي بالبريد السريع دستة مقالات وخطب كان قد كتبها أو ألقاها، وفيها إدانة لكل الأنظمة العربيّة من دون استثناء.

واستخدام الموتى أسلوب شائع في ثقافة الطغيان السعودي-الإماراتي-القطري. لم يعد مهدي عامل الماركسي-اللينيني المقارع الشرس لليبراليّة كما كان في حياته، أي يسارياً متزمّتاً. بات أداة فقط في يد اليمين الذي يريد أن يستخدمه في معاركه الحالية ضد أعداء إسرائيل. وفي الكتاب الجديد الصادر بالانكليزيّة عن كتابات مهدي عامل («الماركسية العربيّة والتحرّر الوطني») تطالعك المقدّمة لتجزم بأن حزب الله هو الذي قتل مهدي عامل. تاريخ وسير من صراعات محتدمة لسنوات سبقت اغتياله بين «أمل» والحزب الشيوعي طمسها النسيان. لم تعد مهمة، لأن جثّة عامل تصلح في معارك اليمين ضد حركة مقاومة إسرائيل. والطريف أن كتّاب الاعلام السعودي يستخدمون عامل الذي كتب في تقريع الليبراليّة العربيّة قبل أن نتنبّه لها نحن (وكان كريم مروّة يتهم أمل باغتياله، قبل أن يتذكّر أن غازي كنعان همس له بمسؤوليّة حزب الله). تعلم أن الاهتمام بعامل وبحسين مروّة ليس إلا من باب استهداف حزب الله. وهذه مثل تذكّر عائلة الجميل وشمعون والحريري حركة «جمّول» في محاولة لإبرازها كبديل (غير موجود، طبعاً) للمقاومة التي هزمت إسرائيل بالفعل. وحازم صاغية يتذكر فجأة هذا الأسبوع - في جريدة محمد بن سلمان، «الشرق الأوسط»، أن ياسين الحافظ حذّر من أن تتحوّل مقارعة الاستعمار إلى إبادة الحضارة. وبهذا تصبح جثّة ياسين الحافظ أداة هي الأخرى بيد إعلام محمد بن سلمان.

يصل برينان إلى علاقة سعيد بدومينيك إدة. والموضوع هذا محرج لي، لأنه يتعلّق بشأن شخصي في حياة سعيد، ويجب أن لا يعني أياً منا، لكن برينان تطرّق إليه، كما أن إدة نشرت كتاباً بالفرنسية عن علاقتها بسعيد، ولم تكن الإشارات فيه روائيّة كما أرادت أن توحي، من دون أن تريد أن توحي كثيراً. يقول برينان إن سعيد التقاها في عام ١٩٧٩، وإن سعيد أقام معها علاقة عابرة، لكن العلاقة تجدّدت في عام ١٩٩٥ بعد توقف طويل، وإن شقاقاً حدث بعد بضع سنوات، بعد أن استعملت اسم إدوار سعيد في عريضة لم يوافق سعيد عليها. هذا كل ما يرد في كتاب برينان. من الطبيعي أن يريد برينان، الذي اعتمد على تعاون عائلة سعيد، أن يقلّل من أهمية العلاقة، وهي ملك للراحل ولإدة.

وعندما تقرأ كتاب إدة عن سعيد «إدوار سعيد: فكره كرواية»، تجد فيه اقتصاصاً شخصيّاً من سعيد، أكثر من أي شيء آخر. سعيد في كتاب إدة شخص غير جذاب بالمرة، بل هو غارق في لجّة نفسه، لا يلتفت إلى أحد. لكن كانت للرجل لفتات شخصية وإنسانية، عرفتُها شخصياً. قد تكون لإدة أسبابها الشخصيّة للاقتصاص من سعيد – والأسباب الشخصيّة لا تعنينا – لكن إدة شوّهت صورة سعيد بشكل فظيع، واستخدمته بطريقة مغايرة لمقاصد سعيد وفكره وتوجّهاته. كتاب إدة ينضح باستشراق - يا للمفارقة - مبتذل وتعميمات مهينة عن الإسلام والمسلمين. هو كتاب يعكس الليبرالية الفرنسيّة الاسلاموفوبيّة. حتى عن فلسطين، يطغى على موقفها من الصراع عداؤها لما هو إسلامي.

تقول إدة عن سعيد أنه كان «نقدياً بحدّة» للوهابيّة، لكنها تقول عن نفسها إنها كانت متشائمة بشأن احتمالات «غزو» الإسلام للحلبة (ماذا عن غزو المسيحيّة أو اليهوديّة لـ«الحلبة السياسيّة»؟) السياسية. لا تتورّع إدة عن الحديث عن «الجنون الإسلاموي الذي يكسب العقول الآن في كل العالم». وإدة تريد من سعيد أن يكون، في ماضيه، أكثر اهتماماً بالنصوص القرآنية التي تقلقها والتي تريد إصلاح نصوصها، على طريقة عتاة الاسلاموفوبيّين. وتتساءل لو أن سعيد كان سيوافقها على ان «أقساماً من جسم العالم الإسلامي مصابة بمرض عضال». سأسمح لنفسي بالإجابة عن سعيد بالقول: لا، سعيد لا يمكن له أن يوافق على هذه التنميطات المتعصّبة ضد الإسلام والمسلمين. هو كرّس سنوات من حياته لمحاربة وتفنيد ودحض الكراهية الغربية ضد العرب والمسلمين.

أجدى لو أن إدة احترمت سعيد ولم تقحمه في معاركها السياسية أو الشخصية على حد سواء. وتريد أن تتم هناك إعادة تفسير لآيات قرآنية تقول إنها تتحدّث عن «الكفاح المسلّح». وتزيد في تحليل يندر حتى عند بعض الغربيّين أن من الهراء الزعم أن داعش لا تمتّ بصلة إلى الإسلام، أو أن الإسلام يرى نفسه في داعش—لاحظوا ولاحظن أن حديثها عن الإسلام هو الحديث نفسه الذي فنّده ودحضه سعيد في كتاباته. الإسلام عندها شيء ثابت لا يتغيّر، أو هو المصطلح المحكي عند المتعصّبين في تاريخ لبنان، عندما يشيرون إلى المسلمين بـ«الإسلام». وتضيف إدة أن القرآن «يأمر ويهدّد، وأن المنع متكرّر». هل قرأت إدة الكتاب المقدّس؟ ثم تزيد إده من عندها استنكاراً لـ«الحملة الصليبيّة ضد البيض». من يشنّ هذه الحملة ضد البيض؟ هنا تقترب إده من خطاب العنصريّين البيض في فرنسا ودول الغرب. من غير إدة يرى أن هناك حملة ضد البيض المساكين، وهم يحكمون العالم، ويشنون الحروب ضدنا؟ هذا خطاب العنصرية الأبيض في الغرب، هو خطاب اليمين الجديد.
وبالنسبة إلى فلسطين، لا يمكن لإدة إلا أن تضع موقفها في موازاة صديقتها الاسرائيليّة، إلونا. هذا مثل الذي يرفض أن يقبل إنسانية العرب، من دون أن يكون الفرد العربي مصاحباً لإسرائيلي. أي إن الإسرائيلي ضروري للعرب كي يكمل إنسانيّته. هذه مثل صيغة وردت في أحد كتب إلياس خوري على أن العربي عندما يقتل إسرائيليّاً فإنه يقتل نفسه. وتذكّرنا إدة بصداقة سعيد مع دانيال بارينباوم. وفي كل إشاراتها إلى فلسطين، توازي إدة بين معاناة الشعب الفلسطيني والاسرائيليّين وهي تضع المسؤوليّة على الشعبيْن معاً - المُحتل والمطرود من أرضه - كي يجترحا حلاً للمشكلة، كأننا نتحدّث عن اختراع مصل لمعالجة مرض ما. تريد من الشعبيْن التوصّل إلى حل تقدمي لعكس حالة الصراع و«إطلاق حركة في المنطقة».

يذكّر كلامها هنا بكتابات شمعون بيريز في التسعينيّات، وتلك الكتابات كانت تلقى تدويراً في جريدة خالد بن سلطان، «الحياة». لا، تؤمن دومينيك إدة بالعنصريّة ضد الشعب العربي، والشعب الفلسطيني خاصّة. بوقاحة قلّ إصدارها من قبل عرب، تقول إدة إنه يجب أن تُحصر الوزارات «الحساسة» في الدولة المشتركة العتيدة (بين العرب والاسرائيليّين) باليهود فقط، مثل وزارة الأمن الداخلي والدفاع، وذلك من أجل «جعلهم يشعرون بالأمان في وجه توسّع ديموغرافي إسلامي». من يتصوّر كيف كان إدوار سعيد سيتعامل مع هذا الكلام العنصري الذي يجترّ فكرة الغرب أن شعباً واحداً فقط يستحق الأمن، والآخر يستحق - على طريقة وعد بلفور - فقط الحقوق البلديّة؟

وتتطرّق إدة إلى خلافها مع سعيد عندما استعملت اسم إدوار سعيد في بيان كتبه مثقفون وكتاب لبنانيّون وفلسطينيّون ليبراليّون لمنع مؤتمر كان يُفترض أن يعقد في بيروت في ٢٠٠١، ويضمّ معادين للساميّة ويُكرَّس لـ«المراجعة»، وهي المصطلح الذي يستعمله ناكرو المحرقة. طبعاً، إن عقد هذا مؤتمر يشكّل في حدّ ذاته ليس فقط إهانة للتاريخ وحقائقه، بل هو يقدِّم أيضاً خدمة مجانيّة للدعاية الصهيونيّة. والبيان في حينه طالب بالمنع، ونجح المثقّفون في الحصول على موافقة راعي الثقافة والمثقّفين، رفيق الحريري (الذي قال ذات مرّة في مقابلة إنه يعتبر نفسه مثقّفاً) لمنع المؤتمر. جميل أن نتذكّر أن المثقّفين المذكورين توجّهوا إلى رفيق الحريري لإصدار المنع. وثار سعيد على استعمال اسمه في البيان الذي كتبته دومينيك إدة ووقّعته الشلة المعهودة من الليبراليّين.

وكشفت إدة أن جاك شيراك اتصل برفيق الحريري المُطيع، ما أدّى إلى منع المؤتمر (ظنّ المثقّفون في حينه أن الحريري اقتنع بصوابيّة رأيهم، والحريري يميل إلى المنع وهو كان يريد أن يمنع أي برنامج إخباري ينتقد النظام السعودي). طبعاً، هناك مؤتمرات كانت تُعقد - ولا تزال - في الجامعات اللبنانيّة، وهي تنكر المأساة الفلسطينيّة، وتنال من حق مقاومة إسرائيل، وبعضها يشكّك في النكبة ولا تصدر بيانات بالمنع والحظر من مثقفي الحرية والانسانيّة. لكن هذا معروف: إن هؤلاء المثقّفين يستبطنون معايير الغرب العنصريّة: وإن معاداة اليهوديّة هي أفظع عندهم من معاداة الإسلام أو المسيحيّة، وإن إهانة الشعب الفلسطيني، أقل فداحة من إهانة اليهود، مثلاً. وحاولت إدة أن تستحصل على اعتذار من سعيد على تنصّله من البيان الذي وقّعته بالنيابة عنه، لكنه لم يفعل إلا في كتابها، حيث تزعم أنه قال لها قبل وفاته على الهاتف: «أعذريني، دي».

وعندما تتذكّر إدة نقد سمير قصير لكتاب «الاستشراق» (لم يكتب قصير نقداً لسعيد في حياته، لكنه قال ذلك في مؤتمر في بيروت في ٢٠٠٣) تجدها أقرب من نقد «الاستشراق» منها إلى الكتاب نفسه. وكما في حالة قصير، هي بوضوح تنحاز إلى صادق جلال العظم ضد سعيد في سردها لنقد العظم، وزعم أن سعيد فصل بين جوهرانيّة الشرق والغرب، فيما سعيد لم يفعل. والاستعانة بالعظم ضد سعيد، كأن هؤلاء الذين يعرفون سعيد يدركون كم كان يتقزّز من العظم، ومن دوره في الساحة الأميركيّة منذ التسعينيّات في القرن الماضي. (كان تنبّؤ سعيد بمسار العظم المتحوّل سياسياً صائباً). وتقول إده عن نقد صادق جلال العظم «هذا النقد يبدو لي صائباً جزئيّاً.» لا بل تقرّر عن سعيد أن العظم وسعيد كان يمكن لهما أن يتعلّم أحدهما من الآخر.

أنا في هذا أروي أنني في عام ١٩٩٢ عندما كنتُ التقي بالعظم دوريّاً في واشنطن، عندما كان زميل أبحاث في معهد «ويلسن» (وكان أحياناً ينتدبني كي أمثّله عندما يكون مريضاً) امتعض سعيد من تلك العلاقة. وعندما طلب مني العظم أن أتوسّط مع سعيد من أجل عقد الصلح بينهما (وقال لي إنه «يتمنّى» أن يحدث ذلك) رفض سعيد بشدّة أي عرض للصلح بينهما. وكان يجب على إدة معرفة موقف سعيد من العظم حتى آخر أيامه. ويعود برينان إلى خلاف سعيد مع صادق جلال العظم، لكنه ينقل فقط وجهة نظر العظم، لأن الشخص الآخر توفي.

قال العظم لبرينان إن سعيد كتب له «رسالة لئيمة وخبيثة»، ويضيف أنها كانت مُخيفة في عدائيتها وغضبها. ليس هناك من أي شيء عنيف أو مخيف يمكن أن يصدر عن إدوار سعيد. ليس هناك ما هو أكثر لؤماً وخبثاً من اتهامات العظم (في مرحلته اليسارية) ضد كل المثقفين العرب الذين خالفوه الرأي بالعمالة للموساد والمخابرات الأميركيّة. يمكن العودة مثلاً إلى كتاب صادق جلال العظم «زيارة السادات وبؤس السلام العادل». والرسالة اللئيمة التي أتذكّرها بين الأطراف المعنيّين هي تلك التي كتبها اللبناني الصهيوني، فؤاد عجمي، لإدوار سعيد، في منتصف الثمانينيات، والتي قطع فيها العلاقة بينهما. والعظم، كما يذكِّر برينان في كتابه، اتهم سعيد بالعمل لصالح المخابرات الأميركيّة.

ويتطرّق برينان إلى ترجمة «الاستشراق» إلى العربيّة. والغريب أنه بالرغم من عدم معرفته بشؤون الشرق الأوسط وبلغاته، فإنه يُفتي بأن ترجمة كمال أبو ديب هي رديئة ـــ وهي بالفعل رديئة. ومرة في مؤتمر في جامعة «وندسور» في كندا عن أعمال إدوار سعيد (وهو حضره بالرغم من تقدّم مرضه) فقد قرأتُ على سعيد بعض مقاطع من ترجمة كمال أبو ديب كي أؤكد له أن الترجمة غير صالحة على الإطلاق، ووافق على ذلك في المقاطع التي أبرزتها له. الكتاب بحاجة إلى ترجمة جديدة، لكن بلغة تكون مفهومة للقارئ العادي ـــ وترجمة فواز طرابلسي لمذكرات سعيد هي ترجمة سلسة وأمينة. وسعيد كتب «الاستشراق» من دون تكلّف لغوي أو استعلاء نظري، بل هو جعل النص في متناول تلاميذ الجامعات، وهذا أحد أسباب نجاح الكتاب، واستعماله في صفوف مختلفة.

ويذكر برينان عرضاً أن سعيد، الذي تأثر كثيراً بكتاب جورج لوكاش «التاريخ والوعي الطبقي» (كان رفيقنا جورج جدع دائم التشديد على ضرورة قراءته في سنوات النضال المبكّر)، كان محبطاً من عدم وجود ترجمة عربيّة للكتاب. لكن هذا غير صحيح، وطبعاً برينان لا يمكنه أن يعلم ذلك. إن أول طبعة للكتاب ظهرت في بيروت في السبعينيّات من القرن الماضي. ويتطرّق برينان إلى صداقة سعيد مع الصحافي الأميركي اليساري، ألكسندر كوبرن، الذي فيما بعد أصدر مجلة «كونتر بنش» اليساريّة المتطرّفة. كان كوبرن يكتب في جريدة «فيليج فويس» الليبراليّة في نيويورك، وكانت مقالاته مغايرة للنمط السائد في التمنّع عن نقد الصهيونيّة وإسرائيل. ثم انتهت علاقته بالجريدة عندما قبل قرضاً بحثيّاً من مؤسسة قريبة من «جمعية خريجي الجامعات العربيّة-الأميركيّة»، والتي كان سعيد وثيق الصلة بها. لكن كوبرن كتب بعد ذلك في مجلة «ذا نيشن» اليسارية، وكان عموده مقروءاً، مثل عمود صديقه آنذاك - وصديق سعيد - كريستوفر هيتشنز. وخلافاً لهيتشنز الذي تحوّل نحو اليمين والرجعية (وهو ناصر حرب بوش في الشرق الأوسط) فإن كوبرن ثبت على مواقفه حتى وفاته المبكرة.

ويتطرّق برينان إلى دور سعيد خلال الحرب الباردة وقوله إن سعيد أعلن مرة أمام صديق له أنه حرص على عدم توجيه نقد علني للاتحاد السوفياتي في سنوات الحرب الباردة، لأن «السوفيات لم يفعلوا أي شيء لإيذائي، أو إيذائنا». لم يكن سعيد شيوعياً منتظماً، لكنه كان متعاطفاً مع الماركسيّة، مع أنه لم يكن يرى صوابية أو جدوى الماركسيّة خارج الغرب الذي وُلدت فيه. ويقول سعيد إنه لم يرَ ترجمة مقبولة للأدب الماركسي. لكن هذا غير صحيح، هناك ترجمات حديثة صدرت، كما أن «دار التقدم» السوفياتية التي أنعمت علينا بترجمات مجانيّة أو شبه مجانية للتراث الماركسي، لم تحتكر نشر الترجمات الماركسيّة (كانت ترجمات «دار التقدم» رديئة للغاية، وكنتُ أعتقد أنها ترجمات عربية عن ترجمات روسيّة). وقد نشر العفيف الأخضر في منتصف السبعينيّات ترجمة لـ«البيان الشيوعي»، وزها بأنها أول ترجمة غير مزّورة، لكنها كانت عن الفرنسيّة لا عن الألمانيّة.

لكن هناك جهداً في إعادة ترجمات الآداب والعلوم: هناك ترجمة جديدة لكتاب «فينومينولوجيا الروح» لهيغل، الصادر عن المنظمة العربيّة للترجمة. والأدب الروسي لا يزال منشوراً بترجمات سامي الدروبي الذي اعتمد النص الفرنسي المترجم عن الروسية. لكن هل ان صعوبة انتشار الماركسية في العالم العربي كانت بسبب سوء الترجمة أم لأنه كانت هناك مشاكل ذاتيّة وموضوعيّة جمّة مثل: ١) ارتهان الشيوعية العربيّة للاتحاد السوفياتي، حتى في موضوع تقسيم فلسطين. ٢) معارضة أهم مشروع وحدوي في العالم العربي المعاصر، أي «الجمهورية العربيّة المتحدة». ٣) الفساد والخلافات في صفوف الأحزاب الشيوعية وتخلّفها عن فهم مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة. ٤) محاربة المعسكر الغربي والخليج لكل ظواهر الشيوعية والاشتراكية العربيّة. لقد عانى الشيوعيون العرب من محاربة وحشيّة من قبل أنظمة عربيّة متنوّعة الأيديولوجيّات. ٥) فاقم في مشاكل الشيوعية العربية أن ارتهانها الآلي لموسكو أدّى إلى انهيارها بالكامل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ٦) التحوّل الرهيب الذي أصاب قيادات الشيوعية العربية، وكان لكثيرين منها تاريخ في التحوّل من اليسار إلى اليمين.

ترجمة الأدبيّات الماركسيّة لم تكن إلا مشكلة بسيطة بالمقارنة. والمفارقة أن العظم عابَ على سعيد أن ماركسيته كانت «تجميليّة» أو شكلية، فيما ان مشروع سعيد، بالمقارنة مع التحوّل الهائل الذي أصاب مسيرة العظم السياسية، كان مشروعاً راديكاليّا تزداد أهميته على مرّ السنين. سعيد مات على عقيدة مقارعة الامبريالية والصهيونيّة، فيما كان العظم في آخر سنواته من دعاة الحل السلمي للصراع مع إسرائيل، ومن مؤيّدي التدخل العسكري الغربي في سوريا. تقارن بين مسيرة الرجليْن، وبين إرثيهما، وتزداد اقتناعاً بأن سعيد ظُلم أيّما ظلم من قبل اليسار العربي—هذا من دون تبنّي كل مواقف الرجل، خصوصاً في مسألة التطبيع وخلافه.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@