مقدمة:
لقد فتح الشكليون الروس الباب أمام النقاد لبناء رؤية جديدة، فظهرت دراسات معاصرة، في مقدمتها المناهج النقدية، التي لم تبق حبيسة الفضاء الغربي، بل استطاع الناقد العربي أن يتمثل تضاريسها المنهجية والإجرائية، انطلاقا من رؤية خاصة محاولا بناء تصور نقدي يلائم خصوصية النص الأدبي العربي. ولئن استطاع الفكر الغربي تمثل هذه المناهج المستخدمة، فمن الطبيعي أن يفعل ذلك ما دامت نتاج تجربته وخلاصة تراكم معرفي أنتجته ثقافته، تواصل خلال حقب طويلة من الزمن، وفي المقابل يحاول الناقد العربي استيعاب هذه المناهج والمفاهيم، ويجتهد من أجل صياغة عربية لها.
ويوسف الجزائري ناقد من الذين جهدوا لصياغة رؤية نقدية عربية، يطمح من خلالها إلى تحقيق توافق منهجي بين المنهج والنص، رغم اختلاف رحمي الولادة والنشأة، هذا الجهد النقدي الذي نتحدث عنه خص به (يوسف وغليسي) النقد الموضوعاتي. وهو عمل لا يخلو من تلك المشكلات التي ظهرت منذ أن ارتبط النقد العربي المعاصر في وجوده بنظيره الغربي، تتقدمها الأزمة المصطلحية/ المفاهمية الناتجة عن اختلاف الثقافتين، وكذا تجربة مناهج لها خصوصيتها على نص يتميز هو كذلك بخصوصية مختلفة، وهكذا أصبحنا في مواجهة مفارقة بين المنهج والموضوع. والناقد نفسه لم يتأخر وطرح هذه المشكلات في ثنايا كتابه. وبدورنا نجتهد لنعرف القارئ العربي بنموذج نقدي يحيط بالموضوعاتية نظريا وتطبيقا.
أولا- موضوع الكتاب:
يحمل الكتاب عنوان (التحليل الموضوعاتي للخطاب الشعري، بحث في ثوابت المنهج، وتحولاته العربية، ومحاولات لتطبيقه). يخبرنا العنوان بأن الكتاب ينبني من ثلاث محاور: المحور الأول يتمثل في تقديم الموضوعاتية منهجا بمقولاتها، ومنظريها، ويحتل 53 صفحة، المحور الثاني ويدخل في مجال نقد النقد، باعتباره يحاور تطبيقات الموضوعاتية في النقد العربي، وقد أخذ مساحة تقدر بـ 78 صفحة، وأخيرا المحور التطبيقي المعنون بـ (محاولات تطبيقية)، ويحتل مساحة 110 صفحة وهو الجزء الأكبر مساحة في الكتاب، مما يجعلنا نقول أن الكاتب أعطى أهمية أكثر لتطبيق التحليل الموضوعاتي.
ثانيا- الرؤية النقدية:
نبدأ في محاولة الإمساك بالرؤية النقدية من الإهداء المكتوب بخط اليد، في أول صفحة بعد غلاف الكتاب، وقد جاء في شكل بوح، حيث يبوح (يوسف) بما أصابه من تعب وهو يعد هذا العمل، وما يهمنا فيه هو المقطع (لكنني أخشى أن يصيبه ما أصاب سلفه (خطاب التأنيث)، ذاك مات بالضجيج، وهذا قد يموت بالصمت!). لقد نظر الناقد إلى كتابه الأول بأنه قد مات بالضجيج، بينما يخشى على الثاني من أن يقتله الصمت، والسؤال لماذا لم يستعمل لكمة (الضجيج) مع كتابه الثاني، واستبدلها بالصمت، وما تضمره الكتابة هنا، هي أن الأول فعلا كان مثيرا للضجيج، مع أن كلمة (ضجيج) هي وجهة نظر لها سياقها الخاص، والأهم فيها أنها تمنح الأهمية الأكبر للكتاب الثاني الذي بين أيدينا، فصاحبه يعرف جيدا وانطلاقا من بوحه بتعبه الكبير في إعداده، أنه لن يثير الضجيج، بل يخشى عليه من الموت بالصمت.
وبحضور الموت مسند للضجيج، وكذلك للصمت، نفهم أن (يوسف) يعتبر النقد من وجهة نظره، وفي بعض ممارساته يمارس القتل، جريمته قتل الإبداع إما بالضجيج أو بالصمت، الرؤية التي تنتج من هذا البوح بفعل القراءة، هي اعتبار الكاتب وظيفة النقد منح النص الحياة، وهو القائل ذات مناقشة (من حق أي عمل مهما كان علي أن أقرأه)، كما نفهم أيضا ونستنتج أن الكتاب موضوع حديثنا جاء ليمنح الحياة لبعض النصوص النقدية والإبداعية؛ أي حقها من القراءة. ويبقى الضجيج والصمت وجهة نظر لها سياقها.
الإهداء الثاني، معنون بـ(إهداء موضوعاتي). وهو عتبة الكتاب يلخص المستوى الإجرائي للتحليل الموضوعاتي، تعبر عنه المقاطع الآتية كما جاءت في الإهداء الثاني المخصص للعائلة، خاصة وقد خطها الكاتب بحرف عريض، يميزها، ويسهل على القارئ إدراكها:
(- إلى عائلتي...موضوعا...
- يتقصده وعيي الذاتي...
- يستبطنه صورة جمالية...
- ومتخيل أحلامي...
- والدتي جذري...
- زوجتي...مدار حياتي... تيمتي...
- يونس ويعقوب ومن يجيء بعدهما...أغراض العمر... وبنية الحياة وموتيفاتها.)
وبتخليص هذه الخطوات من ديباجة الإهداء نحصل على: (الموضوع، الوعي الذاتي، صورة جمالية، المتخيل، الجذر، المدار، التيمة، الأغراض، الموتيفات).
وقوله: «هذا الكتاب يعرف بالأصول النظرية للموضوعاتية، مستوحاة من مظانها الأولى، ويمارس تطبيقها على نصوص شعرية معاصرة، ويستعرض –بالتحليل والنقد- أهم التجارب العربية في هذا الحقل المنهجي. يبدو المنهج الموضوعاتي واحدا من أندر المناهج حظوة وحضورا، وأقلها استعمالا في الممارسات النقدية العربية، وأكثرها التباسا واستعصاء لدى جمهور الباحثين العرب، مثلما يبدو النقد العربي المعاصر حديث العهد بهذا المنهج»[1].
ملاحظة: ليس التحليل الموضوعاتي وحده قليل التوظيف في النقد العربي، بل تقريبا كل طرائق النقد المابعد حداثي وأقصد هنا التطبيق، وليس البسط النظري من تفكيك ونقد ثقافي رغم كثرة الحديث عنه، وكذلك السوسيونصي، بل نجد ناقدا واحدا عربيا مصطفى وصفي طبق التحليل اللاكاني للأدب على أهميته. وأعتقد أن السياق الفكري والمحمولات الفلسفية تجعل الناقد العربي يتردد في ممارستها، إلى جانب تعقيداتها في مستوى الممارسة، ويأتي التحليل الموضوعاتي في هذا السياق، ومع أن الكثير من أطروحات الدكتوراه توسلت الموضوعاتية طريقة في الدرس، فقد كانت باهتة على كثرتها، باستثناء تميز بعضها.
نعود لقول يوسف: «الواقع أننا، وبعد ثلاثين سنة من الكتابة النقدية، ترسخ لدينا تصور عام يقوم على جملة من القناعات المنهجية، يمكن اختزالها فيما يأتي:-1. المدونة النصية المدروسة هي مبتدأ الفعل النقدي ومنتهاه، والمنهج وسيلة ومستعان لتحقيق غايات القراءة النصية ومآربها»[2]. وهو هنا يضع المنهج في خدمة النص، وليس العكس كما فعل النقد الغربي عقودا من الزمن، وتبعه تابعه الوفي النقد العربي، وقد أشار (تودوروف) إلى ذلك، في كتابه (الأدب في خطر).
2- «ليس المنهج دينا لا يقبل التبدل والصبوء ... بل هو خيار ضمن جملة من الخيارات النقدية المتاحة التي عادة ما يتحكم النص المدروس في تحديد الأمثل منها والأنسب، ما يعني عدم صحة المفاضلة بين المناهج على المستوى النظري المجرد، وعدم سلامة السلوك المنهجي الإكراهي الترهيبي، وإنما لا بد من التراغب والتراضي للتعايش بين المنهجي والمقروء النصي»[3].في هذه النقطة أأكد على أن المنهج فعلا اختيار مما هو متاح، وللناقد أن يجرب الأدوات التي يقدمها النقد خاصة المعاصر، لكنني أرى أن اختيار المنهج لا يتوقف على النص، بل على الهدف من الدراسة، وما تبغي تحقيقه، ضمن الرؤية النقدية للناقد وتصور العام لفعل الكتابة، التي هي بدورها تندرج ضمن رؤية أوسع هي الرؤية للوجود وفعل الحياة.
3- «النقد الأدبي معرفة متراكمة، والعولمة النقدية قدر لا مفر منه؛ يجعل النص العربي في مواجهة المنهج الغربي، حيث لا بد من عوربة منهجية تقوم على التبييء والتوطين والتطويع والمداراة (وفقا لفلسفة الافتراض وثقافة المعرب والدخيل في فقهنا اللغوي، ووفقا لثقافة التسديد والمقاربة في الحديث الشريف الشهير)، ضمن فضاء من المرونة النقدية التي تؤمنها عبارتنا التي صدعنا بها ذات مناسبة "لا منهجية": "لا طاعة لمنهج غربي في معصية النص العربي»[4]. هذا الكلام يثير قضية عرفت جدلا في وسط النقاد العرب، ناتجة عن علاقة النقد العربي بالنقد الغربي، وإشكالات التلقي. نعم النقد تراكم معرفي لكننا لا نساهم في هذا التراكم، بل نتلقاه خلاصة ونطبقه، وأظن أن قياس تعريب منهج ما بما يحدث في اللغة، لا يصلح في النقد، بسبب المحمولات المعرفية، التي يتضمنها المنهج والفلسفات التي أنتجته، فآليات تحليل أي منهج ومقولاتها، ومصطلحاته محملة بالفكر الذي أنتجها، والتعامل معها كأدوات مفرغة، أو تفريغها من هذه المحمولات يجعلنا بعيدين عن المنهج الذي نحن بصدد تعريبه، وتطبيقه كما هو في الغرب. ينتج أيضا اغتراب الناقد والنص تجاه الأداة التي يوظفها، والأمثلة كثيرة جدا في نقدنا العربي. ومع ذلك يبقى قدر الناقد العربي بما أنه لا يساهم في هذا التراكم النقدي هو التعامل مع هذه المناهج، ومع ما ينتج عن تطبيقها من مشكلات.
4- «النص الأدبي كون دلالي متكامل، دونه خرط العتاد النقدي!، بمعنى أن اقتحامه يقتضي منهجا ذا رؤية شاملة ومواصفات إجرائية عالية تمكنه من الإحاطة بمختلف الأبعاد التعبيرية والمضمونية للنصوص في شتى تمفصلاتها الجنسية النوعية، والمنهج القاصر – في التصور الشخصي- هو ذاك الذي يقتصر على القليل من تلك الأبعاد»[5].
هنا يحدد (يوسف) تصوره للنص على أنه (كون دلالي متكامل)، يحتاج منهجا يحيط بهذا الكون، ووجد في الموضوعاتية ما يحقق له ذلك، وهنا نلاحظ أن تصور الناقد للنص هو الذي حدد المنهج، لأن المفاهيم هي التي تحدد طريقة تعاملنا مع النصوص، وحتى سلوكنا، فنحن أسرى المفهوم، وهذا الأمر ينفي فكرة قصور المنهج التي لا تعدو أن تكون وجهة نظر، لأن المنهج الذي نراه قاصرا إنما جاء نتيجة مفهوم صاحبه للنص، ضمن رؤية فلسفية عامة، فمن جهة صاحبه فقد استجاب للهدف المحدد، ومن جهة للرؤية المؤطرة. وانطلاقا من هذا الاختيار للموضوعاتية وجعلها مشروعا نقديا، يرسم الناقد تاريخ تعامله مع التحليل الموضوعاتي منذ دراسته (تيمة الوطن في مجموعة (أناشيد النصر) للشاعر الأخضر السائحي) سنة 1997، إلى غاية المقاربات التي تضمنها هذا الكتاب، ومن المهم تتبع هذه الممارسة بالدرس، وقد يكون ذلك في عمل مستقبلي، أو يتخذها الطلبة موضوعا خاصة للدكتوراه.
ونصل إلى قوله: «فإنا نراهن على هذا المنهج الذي يبتغي المصالحة بين الدال والمدلول في إطار "شكل المحتوى"، والمعايشة بين أنصار التفسير النصاني الشكلاني النسقي، وأنصار النفسي السياقي التكويني للمعنى، إذ يخلق فضاء مشتركا لا تبغي فيه فئة منهجية على أخرى، من شأنه يكون مخرجا شريفا لصراع منهجي متعصب، كان النص الإبداعي الخاسر الأكبر خلاله، حين انشغل النقاد عنه بالهذر الطويل والجدال العقيم في شؤون المفاضلة بين أدوات المقاربة المنهجية، يوم كان النص أحوج ما يكون إلى تشغيل مقولة "الغاية تبرر الوسيلة»[6]. يبدو (يوسف) مثل الكثير من النقاد يبحث عن طرائق منهجية تمكنه من محاورة النص العربي من مختلف جوانبه، وقد وقع على الموضوعاتية لتحقيق ذلك، لما تقدمه من إمكانات إجرائية تأتي النص من كل جانب، نظرا لانفتاحها على مختلف المعارف، والمناهج. ونخلص إلى أن الرؤية النقدية التي يؤسس عليها (يوسف) عمله ترتكز على النقاط الآتية:
أولا الانطلاق من اعتبار النقد في مفهومه العام وسيلة تمنح العمل الأدبي والنقدي الحياة، فالقراءة فعل يحي ولا يميت، ليغدو النقد عنده وظيفة نبيلة.
ثانيا اتخاذ الموضوعاتية مشروعا نقديا، انطلاقا من مفهومه للنص على أنه كون دلالي، يتطلب طرائق تحيطه قراءة.
ثانيا- المستوى النظري:
1- مصطلح الموضوعاتية: يبسط (يوسف) الموضوعاتية في القسم الأول من الكتاب، ليؤسس عليها القسمين الإجرائيين الثاني والثالث، وفيه يشتغل على المفهوم واضعا بعض المفاهيم التي صاغها النقاد المؤسسين، في النقد الغربي. بينما يقتصر في ما يخص تاريخها على زمن ظهورها، دون التطرق للتحولات التي عايشتها، ولعل القارئ يستنتج ذلك من سرد (يوسف) للكثير من الأعلام الذين اشتغلوا بالموضوعاتية. ودوما يحرص الكاتب على تذكيرنا بأن الموضوعاتية تنفتح على مختلف المعارف والمناهج، تلح عليه رغبته في التعامل مع النص ككون قائم وجبت دراسته من كل الجوانب، لأن المناهج الأخرى في اعتقاده قاصرةـ تركز على جانب دون آخر.
2- مصطلح الموضوع: وعكس مصطلح الموضوعاتية يأخذ مصطلح الموضوع حظا أوفر، حيث مختلف المفاهيم، ويحيط به، وبما يتفرع عنه من مصطلحات، موفرا على القارئ جهدا كبيرا، وإدراك هذه المفاهيم يمكن الدارس من التعامل مع التيمة أو الموضوع تعاملا منهجيا صحيحا، لأن فهم التيمة يؤكد صحة القراءة، فالشائع في الرسائل الجامعية خاصة هو الفهم الساذج للموضوع كما يراه التحليل الموضوعاتي.
3- مقولات الموضوعاتية: وفي عرضه لمقولات التحليل الموضوعاتي التي سماها بالثوابت، يفاجئنا (يوسف)، وكنا ننتظر عرضه لها عرضا، فإذا به يقدمها ناقدا إياها، ومبينا ما ينتج عنها من انطباعية القراءة، وإنشائية النقد. ولا يجيبنا (يوسف) هل ذلك من خصائص التحليل الموضوعاتي، أم نتيجة عدم تمكن النقاد من العملية الإجرائية والتحكم فيها، ما يجعلها تفلت منهم أحيانا.
ورغم تأكيده على أن الموضوعاتية مالت أكثر إلى الشعر موضوعا، نلاحظ أن طلبة الدكتوراه يميلون في توظيفهم للموضوعاتية منهجا إلى دراسة الرواية أكثر. لذلك أنصحهم بقراءة الكتاب، ومراجعة تصورهم للموضوعاتي. وددت لو توسع (يوسف) هنا في شرح المقولات التي صاغ بها إهداءه للعائلة الكريمة.
4- المرجعيات: فيما يخص المرجعيات، ذكر الكاتب الرومانسية، الفينومينولوجيا، البنيوية، السكولوجيا، وأسأل لماذا لم يذكر اللسانيات خاصة وقد شكلت ركيزة في حديثه عن مصطلح الموضوع. وقد سجلت نقطة أخرى، وهي أنه عند الحديث عن مرجعيات منهج أو فلسفة ما نركز على ما أخذه هذا المنهج وكيف وظفه، هل حافظ عليه كما هو في محضنه الأول، أم شهد تحولا، ويذكر يوسف في حديثه عن الرومانسية رافدا للموضوعاتية (الوعي المبدع) لكنه لا يبين لنا كيف تعاملت معه الموضوعاتية على الأقل تحت هذا العنصر[7].
وفي الفينومينولوجيا نسأل هل وظفت الموضوعاتية مقولة القصدية كما هي أم طورتها، لأن الكاتب لا يخبرنا بذلك، إنما نفهم أنها استعملتها كما هي مع العلم أنها في أصلها مفهوم مثالي مجرد، استطاعت جماليات التلقي تحويله إلى معطى مادي يمكن تحديده إجرائيا من خلال تأمل الطبقات التي يتكون منها العمل الأدبي، وذلك تحت مسمى الفهم والإدراك، وهي العملية التي تنتظم الحوار بين النص والمتلقي.
وفي البنيوية يشير (يوسف) إلى اللسانيات والشكلانية التي من وجهة نظري تستحق أن تفرد بعنصر مستقل لما لها من اثر كبير في الموضوعاتية، كما أكد هو نفسه، حتى نتبين حضورهما في المستوى الإجرائي الذي يمارسه التحليل الموضوعاتي. ولفت انتباهي في هذا العنصر مصطلح الكلية، وهو من خصائص البنية كما علمنا (جون بياجي) وقد وصف بها الكاتب رؤية العالم ويقصد بذلك الشمولية، باعتبار الرؤية تشمل كل شيء ما هو جمالي وما هو سوسيولوجي، وهي غير الكلية Totalité التي تعني مجموع العناصر التي تتشكل منها البنية[8].
وفيما يخص الفينومينولوجيا والوجودية والبنيوية ونضيف إليها الماركسية تشترك في المنطلق الفلسفي المادي، وفي مفهومها للغة والإله، رغم اختلاف البنيوية عن الثلاثة بأنها نزعة لا إنسانية، لذا نجد الموضوعاتية محايثة تتعامل مع النص بصفته محايثا.
وبخلاف الروافد السابقة، يوضح (يوسف) أكثر كيف استفادت الموضوعاتية من التحليل النفسي، ويقدم للقارئ توضيحا يوفر عليه الجهد والعناء كما يرشده إلى منابع ذلك، إذا أراد التفصيل أكثر.
5- الأعلام: هي ميزة أخرى لهذا الكتاب تفتقر إليها الكثير من الكتابات النقدية المعاصرة، وبعضها يكتفي بالاسم دون الترجمة، فهي تمثل خريطة، تأخذ بيد القارئ، بعدما كلت يد الكاتب وأضناه جمع كل هذه الأسماء بتراجمها ومؤلفاتها.
ثالثا- القسم الثاني/ نقد النقد: التحليل الموضوعاتي العربي:
يستهله بإشكالية تلقي المصطلح: Thème و Thématique وفي سرده للمقابل العربي للتحليلي الموضوعاتي، يبدأ بـ(فقد ترجمت كلمة Thème)، لكنه يأتي بالمقابل الذي يدل على المنهج وليس Thème، أي Thématique «فقد ترجمت كلمة Thème بما لا يقل عن 20 مقابلا: (الموضوعاتية، المنهج الموضوعاتي، التيمية، الموضوعية....»[9]، وكلها ترجمة لـ Thématique وليس لـ Thème، فالأولى هي المنهج والثانية هي الموضوع. فقد ساق ترجمات المنهج وليس للموضوع.
ويتشعب في سرد الترجمات وما يقابلها في اللغة الأجنبية من مصطلحات متجاورة من حيث المعنى، لينتصر في الأخير لمصطلح الموضوعاتية تعبيرا عن المنهج، أولا لقربه من التعبير عن المحمول المعرفي لنظيره الأجنبي، ثم لشيوعه، وفعلا فقد كان اختياره دقيقا، وعلميا، ونقصد هنا المصطلح الدال على الطريقة التي نقارب بها النص. ويعد ذلك يناقش مشكلة ترجمة المنجز الموضوعاتي إلى العربية والذي يراه متعثرا. لقلة الاهتمام بنقل هذا المجال النقدي المهم إلى اللغة العربية.
ثم يقدم مكتبة كاملة للقارئ العربي تشمل الكثير من الأعمال الأكاديمية التي اتخذت من الموضوعاتية منهجا للقراءة. وهو عمل جبار يشكل أرضية ينطلق منها الباحثون في أعمالهم البحثية. والأمر نفسه بالنسبة لسرد الأعمال التي سبقت الممارسة الموضوعاتية في العالم العربي. نقد النقد والتجربة الموضوعاتية العربية: ويقسمه ثلاث أقسام: قسم يناقش فيه عملين لا علاقة لهما بالموضوعاتية، لا تتجاوز العنوان حسب ما يورده الناقد. وقسم رأى فيه ما يقترب من الموضوعاتية رغم أنه لم ينجز من أجل ذلك. وفيه ثلاث أعمال. وقسم ثالث، هو القسم الذي يراه فعلا تمثل التحليل الموضوعاتي.
والملاحظ في تعرضه للمنجز العربي الخاص بالتحليل لموضوعاتي أنه يقدم خلاصات، ونتائج بينما يحتفظ بالتحليل لنفسه، وهو قسم نعم كبير وحده يشكل عملا مستقلا، لو الكاتب اتبع ما يتيحه نقد النقد من آليات القراءة، حتى نعرف كيف وصل (يوسف) إلى هذه الأحكام.
رابعا- القسم الثالث والأخير:
تعد المحاولات التطبيقية أهم ما في الكتاب، والأكثر عمقا ونضجا، تتمثل الموضوعاتية، أفضل حتى من الجانب النظري، ولئن لم تستجب دراسته للسائح لطموحه النظري، فإن دراسة الفيتوري، ومحمود درويش تجاوزت حتى المستوى النظري، وبحق نقف فيها على ناقد متمرس ومتميز، قادر على محاورة النص الأدبي أفضل بكثير من محاورته للنص النقدي، وهي نماذج يمكن للقارئ التعلم منها التحليل الموضوعاتي، ولو بالمحاكاة، أو الاقتراب منها.
يبقى الكتاب قيمة علمية لأنه يقدم للقارئ العربي مجالا معرفيا هاما في الدراسات النقدية التي تقارب النص الأدبي، وهو النقد الموضوعاتي، حيث يحيط به تاريخا ونقدا، وتطبيقا.
قسم اللغة العربية وآدابها: جامعة الإخوة منتوري، قسنطينة1-الجزائر