يعرض الناقد الأدبي هنا ديوانا من دواوين شاعر مصري غزير الانتاج، فاز مؤخرا بجائزة الدولة التشجيعية، كاشفا أننا بإزاء شاعر متشائم، ولكنه يملك خيالا جامحا، مع قدرة عالية على صياغة الاستعارة، وهو شاعر ساخر، يسخر من كل شيء: الموت، والشعر، والتقاليد الأدبية، والعادات الاجتماعية، لكنه يحترم الخيال والخيال الغرائبي.

طفل يلهو خلف جنازة

محمد أبو زيد شاعر ساخر ومتشائم

إبراهيم منصـور

 

الشاعر المصري محمد أبو زيد يشبه الشاعر الفلسطيني محمود درويش (١٩٤١- ٢٠٠٨م) في شيء واحد على الأقل، هو غزارة الإنتاج الشعري. وفي ديوانه "مُدْهامّتان" يبدأ الشاعر بمخاطبة الموت:

"أريدك – فقط - أن تمهلني قليلا

لأنهي هذه النار المسكوبة في جوفي

بانتفاضة الجوعى

وزقزقة طالبات الثانوي

وتحرك الملائكة إلى طابور الصباح"

مخاطبة الموت وطلب الإمهال، وردا في "جدارية" محمود درويش:

"أيها الموت انتظرني خارج الأرض

انتظرني في بلادك، ريثما أنهي

حديثا عابرا معْ ما تبقى من حياتي"

لكن درويش كان قد عاين الموت أثناء إجراء عملية القلب المفتوح في مستشفى بالولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠٠٨م. أما أبو زيد فقد كتب هذا النص عام ٢٠١١ وهو لم يبلغ الثانية والثلاثين، فهو من مواليد ١٩٨٠م. فماذا دها هذا الشاعر لكي يخاطب الموت هكذا؟

محمد أبو زيد شاعر ساخر، وهو كذلك شاعر متشائم، ومع أن السخرية قد لا تتفق مع التشاؤم، فإن هذا الشاعر قد امتلأت نفسه بهذين النمطين من الإحساس ومن الرغبة، ومن الفن نفسه.

ولد أبو زيد في سوهاج، وتخرج في كلية التجارة جامعة الأزهر، عمل بالصحافة، وقد أسس موقع الكتابة الثقافي، ويرأس تحريره. وأخيرا حصد جائزة الدولة التشجيعية في الشعر ٢٠٢١م، عن ديوانه "جحيم"، بعد أن نشر العديد من الكتب أغلبها دواوين شعر.

لا يجد أبوزيد مخاطَبا أنسب من الموت لكي يحاوره، بل هو لا يجرد الموت بعيدا عن لوازمه، إنه يجعل المقابر والجثث في صدارة المفردات التي يبني منها قصائده الكثيرة جدا، فذكره للموت غير معتاد في الشعر المعاصر:

"صهٍ أيها الموت

ماذا تريد بعد أربعة دواوين مفعمة بالجثث

برائحة البارود والجماجم الطائرة

بالدم والسل والطاعون

لم يعد بإمكاني تقديم قرابين أكثر،

تَعِبتْ"

أستطيع أن أقول للشاعر أنت لم تتعب أبدا، أنت أمددتنا بعد ديوان "مدهامتان" (وهو الخامس في حسبتك) بثلاثة دواوين أخرى بعد هذا الديوان هي: "سوداء وجميلة" و "مقدمة في الغياب" و "جحيم"

يتلاعب محمد أبو زيد بالألفاظ كما يتلاعب بالمعاني، وموضوعة Theme الموت أصبحت لعبة مفضلة لديه:

"الآن ..

وأنا أقترب من نهاية العمر

تتكاثر النظارات بلا حدود

تتجمع في حجري كبيض فاسد محطم

تغدو الحياة مثل الذكريات

لعبة الموت مسلية

لأنني أحبكم

أريدكم أن تموتوا الآن"

يضع الشاعر في ديوان "مدهامتان" بضعة قصائد تحت عنوان عام "أحفر مقبرتي وأغني" إنها لعبة الغناء مع الموت، أو اللعب مع الموت، لعبة تشبه المحاورة، أو هي محاورة تشبه اللعب، هل عرف الشاعر لعبة الديالكتيك  Dialectic إنها المحاورة الذكية التي يظن فيها أحد الأطراف أنه يملك زمام الحوار والغلبة فيه، لكنه هو الذي ينهزم ويسلم لخصمه برأيه، في محاورة محمد أبوزيد مع الموت مراوغة، فنراه في ديوان "مقدمة في الغياب" الصادر عام ٢٠١٤م، يواصل محاورته الساخرة مع الموت، وكذلك محاوراته مع الشعر، مع القصيدة، التي ستكون أحد أهم موضوعاته، يضاف إليها الأرق والاكتئاب والتشاؤم، ثم يعود الشاعر ليسخر من الموت:

"الموت الذي انتظرته في موقف الباص تأخر ساعتين، حتى

برد النسكافيه وجاء الشتاء. الموت الذي ربيته خذلني من

أجل من يدفع أكثر"

تساعد قدرة الشاعر على صوغ الاستعارة في السخرية من الموت:

"الموت أسود ويمسك منجلا

...

ها أنا أكتب لكم

فيما الموت، مثل رجل هزيل

- يعمل من أجل قوت يومه –

يعد لي قهوة الصباح"

ستعتاد قصائد الشاعر على مخاطبة جمع من المتلقين، قد يكونون هم القراء أنفسهم، أو هم بعض الموتى، ولكنه سوف يوسع دائرة من يتحاور معهم عبر فكرة الموت كما سنرى في ديوانه جحيم. يبدأ الشاعر ديوان "جحيم" على نحو صادم لمن لم يعرف شعره، أما نحن وقد خبرنا قاموسه الشعري وموضوعات شعره، فلا نندهش أن نراه يقول في أول صفحة:

"قاطعَ الرؤوس؛

تجَهْز للخروج

سنبدأ حفلتنا الليلة"

مثلما يحدث في أدب الفنتازيا، أو بالأحرى في سينما ومسرح اللامعقول The Absurd سنجد أنفسنا مع قصائد ساخرة لكنها تخلط السخرية بالعبث بالتشاؤم، خيال الشاعر جعل الأنواع الفنية والأدبية تتداخل، فأبو زيد روائي وشاعر وكاتب أطفال، وأكاد أقول "صانع أفلام" هو لا ينتجها ولا يخرجها، لكنه يجعلنا نعيش مع أبطالها، هؤلاء الأبطال سوف يجلبهم الشاعر دوما، من التاريخ القديم، ومن أزمنة سابقة على وجوده في العالم، ومن زمن طفولته، يلعب معهم ويدخلنا في تجربة تشبه التنويم المغناطيسي:

"بدون كلمة واحدة

بدون إيماءة من رأس

بدون دمعة تسقط من عين أحدكم، سأفهم

أنا راعي الصمت في البلاد

رب الريشة الطائرة"

في كل قصيدة من "جحيمه" سيأخذك الشاعر إلى عوالم مدهشة أساسها الاستعارة، سوف يضع الأيام في إناء السلق، وسوف نراه يراقب عمره في المنبّه يتناقص، ويلبس ساعة في معصمه يتطاير منها الزمن.

تجربة محمد أبو زيد الشعرية لا تشبه غيرها من تجارب شعراء الألفية الذين كتبوا ونشروا شعرهم بعد سنة ٢٠٠٠م، الموت والحرب والجثث، سوف تجاورها خنادق ودبابات  وبنادق، وكذلك الطائرات والقطارات والقنابل، والحمير ورقصة التانجو والبط والماشية، والخبز والبرتقال والديناصورات، لكن السينما سيكون لها حضور لافت أيضا: داليدا و إي تي و الفيديو جيم، والحديقة الجوراسية، ومسلسلات القناة الثانية.

حينما يبني أبو زيد نصه على نمط الحكاية، أي السرد، يكون في مكنته إدهاش القارئ قبل أن يتململ ويظن أنه ترك الشعر إلى غيره من فنون السرد التي طغت على الأدب الحديث، حتى أغرقته في لُجّةٍ، وفي ديوان "جحيم" كما في غيره من دواوينه، تكثر النصوص المبنية على السرد، منها قصيدة "لا تترك أثرا خلفك" التي تبدأ هكذا:

"سافر جَدّي ولم يعد.

كان ذلك قبل مولدي بسنوات طويلة

لكنني أحفظُ الكثير من الحكايات عنه

مثل أنه عبر البحر عائما إلى الضفة الأخرى"

سوف يستخدم الشاعر كل الحيل السردية من قطع ووصل للزمن السردي، ومن فجوات وانتقالات، يتحرك في فضاء سردي واسع، كل فصل من القصة هو سطر واحد فحسب، اقتصاد في اللغة يليق بالشعر ولا يستسلم لنمط الحكاية، برغم الجنوح للغة مسطحة، أو تبدو مسطحة، لأنها لا تعتمد التشبيه والاستعارة والمجاز وحدهما من أجل الإدهاش، بل المفارقة، وينتقل الراوي في حكايته إلى زمنه هو، بعد أن أخبرنا عن زمن جده:

"الآن

بما أنني في مدينة بعيدة على البحر

ووحيد

ولا أقدر مثلَه على العودة

أفكْر لو عبرتُ الموج خلفه"

سوف تنقلب الحكاية كما لو كانت فيلما، أو قصة غرائبية مدهشة، البطل فيها يرى نفسه فجأة في عالم لم تكن الحكاية قد مهدت له، إنه عالم الموت أيضا:

"ثم يصحبونني إلى غرفة الدفن

أرفع التابوت وألقي نظرة

فأرى وجهي"

ويسخر الشاعر من القصيدة كما يسخر من الموت، ففي قصيدة "مخلوقات القصيدة الطائرة" نرى القصيدة وقد صنعت، محاكاة ساخرة باروديا Parody مع مواقف مستمدة من الأدب وعوالم الشعر والنقد الأدبي، وصراع الأجيال، والخصومات الأدبية:

"قصيدة تخرج منها رِماح

وحبيبة تمشي في خَفَر

قبل أن تنكفئ على وجهها

لأنها لم تنتبه إلى الحجر أمامها"

مفارقة القصيدة التي سيكتبها الشاعر تأتي من المقابلة بين القصيدة وبين التراث كله، بعاداته التي نسيها الناس، وسيوفه التي صدئت تماما، وحروبه التي لم تعد تقتل أحدا، ثم خيوله التي لا يستطيع كائن القصيدة الذي هو الشاعر نفسه أو القارئ -لا فرق- سوف يجد نفسه مرميّا على الأرض بعد أن هربت الخيول وتركته، في النهاية سوف تتهشم القصيدة من أثر السقوط، بعد أن يكون قائل القصيدة نفسه قد اعوَجّ فمه وأصبح عاجزا عن إلقاء الشعر، ربما يصلح فقط للعواء.

لابد للقارئ أن يسأل عن الجحيم الذي جعله الشاعر عنوانا لديوانه الأخير، هل هو عنوان إحدى القصائد؟ أم هو معنىً حمله الديوان كله عبر دلالة كلية تسري في قصائده؟ سوف يدهش القارئ إذا عرف أنه لا توجد قصيدة بعنوان جحيم، ولا كان الموت وحقله الدلالي هو المعنى الذي يشير إليه لفظ "جحيم" بل الجحيم معنى فعلا مستخلص من بعض الدلالات المختبئة بتأويل، وهل يمكن فهم الشعر أو ادعاء معاني له إلا بتأويل، أي سبر للدلالة المتعددة المختبئة، في قصيدة "الحديقة الجوراسية الشعرية" نجد متسعا للدهشة عبر عوالم التخييل المربوط بنمط للحكي من ألف ليلة وليلة أحيانا، لكنه هنا مربوط بعالم السينما "دار الخَيَالة" كما أطلق عليها أول ما ظهرت، يزعم رواي القصيدة أنه باستخدام الهرمونات والDNA  سوف يعاد إنتاج الكائنات المنقرضة، ديناصور حقيقي يقرأ الرواية ويحب الشعر، ثم ماذا؟ لك أن تتخيل هذا الكائن وقد حضر ندوة أدبية، ثم:

"يعدل وضع قدمه إذا جاع

ويأكل المقاعد بمن عليها

بينما الشعر ينسال على المنصة"

ثم تنقلب النكتة إلى مأساة، فالديناصور سوف يلتهم الشعراء، ويعيد هو ترتيب عالم الأدب، فينتج ثورة شعرية على هواه! فهل هذا هو الجحيم الذي قصده الشاعر، أن تنتهي المعارك الأدبية بانقراض الأدب نفسه، لتحل الكائنات الضخمة غير العاقلة محل الكائنات الرقيقة، والفن والشعر والأدب؟

سوف نظل نبحث عن الجحيم الذي جعله الشاعر عنوانا، ثم خبأه داخل النصوص الساخرة، ففي قصيدة "قصة حب أو Love Story or  " يتحدث الصوت في القصيدة إلى امرأة لابد أنه يحبها ولكنها بعيدة عنه، فهو يرسل لها هداياه ودلائل حبه وإخلاصه، لكن الرسائل تتوه في الطريق، ثم يذهب العاشق خلف معشوقته يبحث عنها، في الشوارع والبارات، كذلك يمتد بحثه إلى أنفاق الصرف الصحي، ولم يوفق إلى مقابلتها أبدا، فيناديها:

"متى يا حبيبتي

ستضعين صندوق بريد

وترسمين عليه عظمتين وجمجمة

كي لا أضل؟"

إنه جحيم من نوع ما، الذي يجعل رُسُلَ الحب: عقارب وغربانا وفئران وعناكب، وصندوق البريد يحمل رمز الموت وخطره. وقد يكون الجحيم نوعا من الكابوس الذي تصوره قصيدة "لا شيء تغير" فقد صارت الرتابة قاتلة، والعالم ساكن إلا من تهاويل وهلوسات تهاجم راوي القصيدة في نومه، فيحس بثقل العالم وعبئه الهائل فوق رأسه.

 أما في قصيدة "ذئب صغير يتدرب على العواء" فيبدو الجحيم كأن مصدره الخيال السينمائي، تظهر الأسلحة في مدرسة الأطفال، المدنية الأمريكية وحدها تعرف هذا اللون من الدهم بالسلاح في المدارس والمتاجر، لكن الشاعر الذي نشأ في سوهاج، يعرف أنه في أية لحظة قد ينقلب الخيال الغرائبي إلى حقيقة كابوسية مفزعة لو فكّر أحدهم في العودة إلى تقليد "أخذ الثأر"، هذا الكابوس هو جحيم حقيقي، نرى فيه طفل المدرسة الابتدائية المكلف بأخذ الثأر، يجاهد في حمل حقيبته المدرسية، وقد دس فيها سلاحا قاتلا:

"سنشاهده يبتعد

لآخر مرة

بخطوات رجل عجوز"

محمد أبوزيد شاعر يملك خيالا جامحا، مع قدرة عالية على صياغة الاستعارة، وهو شاعر ساخر، يسخر من كل شيء: الموت، والشعر، والتقاليد الأدبية، والعادات الاجتماعية، لكنه يحترم الخيال والخيال الغرائبي، خيال الأطياف السينمائية فيستعين بها على صوغ قصائده، إنه يلهث وراء صوره، كما لو كان طفلا يجري خلف جنازة، يبدو من ناحية باكيا ملتاعا، ومن الناحية الأخرى يبدو عابثا لاعبا مزّاحا.

 

أستاذ النقد والأدب الحديث: جامعة دمياط