يستعيد الكاتب السكندري هنا بعض ما عاشه من قصص وحكايا ثقافية تكشف عن تلك الصدمة التي رسخت في الواقع سلوكا شائنا مؤداه أنه لا يجب أن نسأل عن أشياء كثيرة تؤرقنا، ومن حاد عن ذلك يعاقب، وقد يؤدي سؤاله للسجن. وأصبح سؤالنا الدائم، نهدم فلان الفلاني لصالح من!؟

الصدمة

مصطفى نصر

 

قرأت كتاب العواصم من القواصم منذ سنوات طويلة، وما أذكره منه إنه يدين من ينتقد الصحابة، يعني لا تحاسب معاوية ابن أبي سفيان مثلا، على ما فعله من تغيير نظام الحكم. على أساس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) المائدة/ 101 .وعلى هذا الأساس لا يجب أن نسأل عن أشياء كثيرة تؤرقنا، وهذا المنطق ساد وجعلناه نبراسا لتفكيرنا، ومن حاد عنه، يعاقب، وقد يؤدي سؤاله للسجن. وأصبح سؤالنا الدائم، نهدم فلان الفلاني لصالح من؟!

فقد التحق الصديق محمد السيد عيد بمعهد الدراسات الإسلامية، وكان مقررا عليه كتاب الحضارة من تأليف الدكتور حسين مؤنس. واكتشف - محمد عيد - إن الكتاب منقول من كتاب "تراث الإسلام"، وهو في الحقيقة ترجمة دكتور حسين مؤنس وليس تأليفه، فحكى هذا لعبد الفتاح البارودي بجريدة الأخبار، فقال له: سيبلي الموضوع ده. وفوجئ محمد عيد بالبارودي يجري حوارا مع الدكتور حسين مؤنس الذي دافع عن نفسه، ونفى إنه أصدر هذا الكتاب.

ولما لام عيد، البارودي على ذلك، قال له:

  • ولصالح من، أهدم رجلا عظيما مثل حسين مؤنس؟!.

وكتب أحمد زيان - عضو بجمعية التضامن الأخوي التي كانت تغتال الإنجليز وأعوانهم قبل ثورة يوليو 52 - كتب مذكراته، ونشر صبري أبو المجد حلقات منها بمجلة المصور، إلى أن وصل لاتهام حسين رشدي بالخيانة، لأنه قبل رئاسة الوزارة مع حكم السلطان حسين كامل، تحت رغبة الإنجليز (وكان حسين رشدي رئيسا للوزارة أيضا – تحت حكم الخديوي عباس حلمي الثاني) فاعترض ابن حسين رشدي، وكان يشغل وظيفة مهمة بوزارة الخارجية، فأوقف فكري أباظة - رئيس تحرير )المصور( ورئيس مجلس ادارة دار الهلال نشر باقي المذكرات. من باب: لمصلحة من نهدم رجلا عظيما مثل حسين رشدي؟!

وقد اطلعت على مذكرات خطية لأحمد زيان هذا، كان يدين فيها سعد زغلول لأنه رحب بالمندوب السامي، ولأشياء أخرى، ولكن صبري أبو المجد لم يتعرض لسعد زغلول من باب كيف يغير فكر الناس لسعد زغلول، بعد أن رسخ في أذهانهم مواقفه الوطنية الشريفة؟!

إذا تتبعنا مسيرة شخصياتنا التاريخية، نجد أن الكثير ينسبون إليهم بطولات وأعمال عظيمة لم يفعلوها – والدليل على ذلك، إن الحدث الواحد الذي يدعون إن هذه الشخصية صنعته، تجده منسوبا لشخصيات تاريخية أخرى. فالعقاد عندما كتب عن صلاح الدين الأيوبي، كان يعرف عيوبه، ولم يذكرها من باب، لمصلحة من أهدم هذه الشخصية؟! وجميع الكتب والمسلسلات التلفزيونية التي تحدثت عن شخصيات، لا يمكن أن تذكر عيبا واحدا فيها – فمعظمنا يعرف قدر أم كلثوم كمطربة نادرة الوجود – لكن في شخصيتها مسالب وعيوب، فقد استغلت عشق رامي والقصبجي لها ولم تعطهما ما يستحقان من أجر، واصطدم معها زكريا أحمد ورياض السنباطي لأنهما لم يعشقاها كما فعل رامي والقصبجي وصبري النجريدي، وأشياء أخرى كثيرة كان يمكن أن تقال وتُذكر في المسلسل الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن عنها، وهذا لن يقلل من قيمتها وشأنها كمطربة عظيمة، فهي بشر، فيها الخير وفيها الشر. لكن لصالح من نهدم شخصية عظيمة مثل أم كلثوم؟! حتى زواجها المعروف والمؤكد من الملحن محمود الشريف، لم يستطع محفوظ عبد الرحمن أن يذكره، فقد أتصل أحد أفراد أسرتها بمحفوظ عبد الرحمن تليفونيا، وقال له:

  •  لو ذكرت في المسلسل إنها تزوجت من محمود الشريف سأقاضيك، ولن تستطيع إثبات ذلك.

فاضطر أن يظهره في المسلسل على إنه مجرد خطوبة.

ويحكي الدكتور عادل النادي – المذيع والمثقف المعروف – إنه ناقش في برنامجه "مع النقاد" كتابا للدكتور أحمد علي الجارم – الذي فجر مفاجأة عجيبة، فكتاب "نماذج بشرية" لمحمد مندور – الذي قرأناه بإعجاب، وحاول الكثير منا، تقليده، اتضح إنه للكاتب الفرنسي جان كالفييه، وترجمه مندور بعد أن أضاف إليه فصلين من تأليفه أحدهما عن إبراهيم عبد القادر المازني.

وسأتعرض هنا لمواقفنا من كتابنا الكبار – الذين ينطبق عليهم – أيضا – مقولة: "ولمصلحة من نهدمهم؟! ": فقد أجرى بول شاءول – المحرر الثقافي لمجلة المستقبل الأسبوعية العدد 109 في 24 مارس 1979 لقاءً مع المستشرق الفرنسي جان فونتين – مؤلف كتاب الموت والبعث عند توفيق الحكيم – قال فونتين: هناك سرقات في مسرحية أهل الكهف، فقد أخذ من النظر إلى الخلف لادوار بيلامي ومن الزمن الحلم لهنري رينيه نورمان، وقد وجدت عند الحكيم جملا مترجمة حرفيا من هاتين المسرحتين، بل وجدت بعض المواقف منقولة، هذا إلى جانب 19 عملا مستوحى من أعمال غربية.

وقرأت منذ سنوات طوال كتاب "في الرواية المصرية" لفؤاد دوارة  - ذكر فيه إن إحسان عبد القدوس اقتبس فكرة روايته "لا أنام" من رواية (صباح الخير أيها الحزن) لفرانسواز سيجان. وتأكد هذا عندما تم عرض فيلمين – مصري وفرنسي عن الروايتين في فترتين متقاربتين، ونحّت لجنة جوائز السينما فيلم لا أنام لأن قصته مقتبسة.

ويحكي الشاعر والناقد شعبان يوسف عن حادث طريف شاهد فصول روايته: ندوة في المقهى الثقافي بمعرض الكتاب الدولي، لمناقشة رواية (هوس البحر) للإعلامية راوية راشد. فوقفت سيدة لتدلي برأيها في الرواية، فقالت إنها من محافظة الإسماعيلية – وقد قدمت رواية لهيئة الكتاب على أمل النشر. وعندما سألت عن مصير الرواية، بحثوا عنها فلم يجدوها، وطلبوا منها نسخة أخرى. واكتشفت أن روايتها، هي هذه الرواية التي تناقشوها الآن، مع تغييرات طفيفة.

ولا نستطيع أن ننهي هذا الجزء دون أن نذكر الخلاف الذي حدث بين الكاتبين المعروفين: يوسف السباعي ومحمد جلال، الذي وصل لقاعات المحاكم. فقد ادعى جلال بأنه صاحب قصة فيلم (جميلة بوحريد) الحقيقي. فقد كان على صلة وثيقة بجبهة التحرير الجزائرية التي تدير المعركة الاعلامية من القاهرة، فطلب منه هواري بومدين - رئيس الجزائر فيما بعد - كتابة سلسلة تحقيقات بعنوان (أوقفوا اعدام جميلة بوحريد) وكانت القوات الفرنسية قد قبضت عليها وقررت اعدامها، وأعطوه نص مرافعة المحامي الفرنسي الذي دافع عنها ليستعين بها في الكتابة.

وكانت الفنانة ماجدة راغبة في تقديم شخصية جان دارك الفرنسية – فعرض محمد جلال عليها فكرة فيلم عن جميلة بوحريد، باعتبارها جان دارك العرب. وفوجئ محمد جلال بخبر في الجرائد عن الفيلم مذكورا فيه إن القصة تأليف يوسف السباعي. فذهب لماجدة، فعرضت عليه مبلغ 500 جنيها ليسكت، لكنه رفض، ورفع قضية خسرها.