يعنُّ لبعضنا وضع نفسه جنب شخوص سلام إبراهيم الروائيّة، ليس اعجابا او تَعجّبا، بقدر ما هو تجاور بالتجارب والمصائر في فترات زمنية معينة. فلقد تعرّف بعضنا على أنفسهم في رواياته، وتعرّف آخرون على حلقاتٍ من العنف والتهديد والتهجير دمغت النصف الثاني من القرن الفائت، ولكن في الحالين لا يستطيع القارئ العيش في رواياته باسترخاء دائم، بسبب ان موضوعاته في حالة تصادم مع السائد، لا تميل للغموض ولا تترك بياضا بين السطور؛ ينتقد فيها السلطة لقسوتها، والأحزاب السياسيّة لفشلها، والمجتمع الأهلي لتساهله في خراب قيّمه. بل حتى وهو يتناول هذه المسميّات نجده لا تفتر شهيته عن كشف المستور عند أقرب أصدقائه، جيرانه، رفاقه بالسلاح.. تبدو معها الاحداث أحيانا وكأنها تحقق حضورها ليس فقط بسبب واقعيتها وغرابتها بل كذلك بسبب احتكاكها بالحميم والسري لشخوصه. والملفت ان هذا الاحتكاك المباشر، والقاسي أحيانا، لا يثلم العلاقة الحميمة بين المؤلف وشخوصه من السياسييّن، فهو أحبهم واختلف معهم ودفن بعضهم بيديه. وهذا التناقض البيّن بين المواجهة وبين الحميمية في العلاقة مع السياسيّ، ووضع ذلك في دائرة سردية متماسكة، يُعد أحد خصائص روايات سلام إبراهيم. فهو حين يخلع صفات مهينة بحق السياسيّ نجده لا يتنكر لتاريخه النضالي، ساردا المخاطر والمشاهد الدرامية في حياته؛ صموده بالسجن، شجاعته بالمعارك. فالحديث عن (الطهر القامع) الذي يحيّر المناضل بين أفكاره العظيمة وبين حاجاته الجسديّة، يستدعي شكلا روائيّا مختلفا يسهم في خلق وعي اجتماعيّ يعيد النظر بالقداسة الموهومة التي حفظتها الذاكرة الشفاهيّة للمناضل السياسيّ.
بالعراق، وفي ظل تدهور المشاريع السياسيّة والوطنيّة، بدت الرواية أكثر قدرة على تناول المشكل، ووسيلة ناجعة لتوثيق حياة الناس، من دون الذهاب إلى امتلاك البدائل والقدرة على التغيّير الملموس، فذلك بحاجة إلى فترات زمنية وإلى إمكانات ماديّة، وغير ماديّة، هي ليست في متناول لا الرواية ولا الروائييّن. لا جدال في ان انتعاش الرواية العراقيّة، كتابة وقراءة، يشير في أحد وجوهه إلى تطور أساليبها وموضوعاتها، بعد ان كانت في فترات سابقة جنسا أدبيا عاديا يأتي بعد أجناس أخرى، ولكن هذا لا يقلل من حقيقة ان الحالة السياسيّة المشوهة بالعراق، التي تعود بالمجتمع إلى قبائلهِ وطوائفه عند كل أزمة، ساهمت أكثر من غيرها في أنعاش الرواية العراقيّة وفي ظهور جيل روائي جديد لم يطِل الوقوف متفرجا او ينشغل فقط بالأساطير والرموز والشكل الجمالي للكتابة، على الرغم من أهمية ذلك، وكان لابد من الخوض في لب المشكلات الاجتماعيّة/ السياسيّة والكتابة بوضوح عن الحروب والفقر والعنف الاعمى الذي ساد بالبلد.
ونستطيع القول ان سلام إبراهيم، المثقلة كتاباته بالهم العراقيّ، هو عينة مثالية لما ذهبنا إليه، بعد ان صيّر حياته المريرة موضوع رواياته. فهو لم يعِش فترات قاسية من طفولته أو شبابه، هو عاش حياة قاسية بمجملها، أوصلته لما هو عليه؛ مباشر، متهكّم، عاري، تنزلق لغته المبلّلة إلى تضاريس لم يصلها كثيرا ضوء الشمس، تستفز القارئ أحيانا وترفع حاجبيّه بحثا عن الخيط الرفيع الذي يفصل بين الشجاعة وبين الوقاحة. قد تكون الأسئلة التي يطرحها "إبراهيم" ليست جديدة لكن خطابه الفكري هو الجريء بشكل كاف في مجتمعات منغلقة تنصح بالسكوت على البلوى، سرعان ما اصطدم بمؤسسات اجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة كانت تحد من حريته، الأمر الذي أدى إلى صعوبة هضم موضوعاته عند شرائح كثيرة مستهم عن قرب. إنّ الخروج على الجميع، اشخاص وأحزاب واعراف وقوانين، كان ضروريا للكاتب بعد انهيار المثال وتراجع مفردات النضال والثورة، وتحوّل بلده العراق إلى خرابة حلوة. خروج بحث فيه عن حضور مختلف لمواجهة حياة اتعبته في كافة مراحلها؛ مواجهة عصا الاب الغليظة، مواجهة السياسي الذي اضره، الجار الذي مد يده بين افخاذه، المثقف الذي مدح الجلاد. وهي بمجملها موضوعات صادمة تحرك فينا أسئلة الحرية والجرأة على كشف المستور، وفي ذات الوقت الكشف عن الاثمان المتوقع دفعها جراء ذلك.
الملفت في هذه المواجهة المستمرة ان نجد شخوصه الاحياء، من السياسييّن والمقاتلين الذين كان معهم وكشف عن هشاشتهم وازدواجيتهم، قد توقفوا عن التأفّف والشكوى، بعد ان وجدوا المؤلف لم يوفر أحدا. خصوصا بعد ان تناول، بمطرقةٍ وردية، أغلب فترات حياته الشخصيّة، بكل ما فيها من حميمية وخذلان. توسّل فيها مخيّلة (ترتب ما يجري حسب مزاجها الخاص دون التفكير بالآخر صـــ 85 كل شيء ضدي ج2). إنّ تقصّد "إبراهيم" اختيار فترات زمنيّة للكتابة عنها جاء ارتباطا بتجربته الحياتيّة، تضمّن ذلك الكثير من المواقف السياسيّة التي قدمها بثوب سرديّ، تقوم على الكشف والمواجهة، رصد فيها الضعف الأخلاقي عند السياسيّ العراقيّ، في السلطة وفي المعارضة. لم يسيّس فيها الاحداث او يبرر لها، لكنه اعادها إلى جذورها الاجتماعيّة الموغلة بالكبت والتهديد، وأعاد معها خلق السياسيّ ارتباطا بتجربته هو، مستعينا بذاكرة فذة، تفصيليّة، ومتلصّصة ان شئت.
بمعنى انه لا يمكننا تناول كتابات "إبراهيم" بعيدا عن تجربته التي تغذت من المتاريس والسجون والجبال والمنفى، تغيّرت فيها مرارا حياته، تغيّر فيها الواقع المجتمعيّ، وصّوَر السياسيّ أيضا. ففي روايته الأولى "الارسي" كان التركيز منصبا على سياسيّي السلطة، وما يمتلكون من سجون وأجهزة قمع واذلال. وبعد مغادرته المدينة صوب الجبال لمشاركة الثوار قتالهم ضد سلطة الديكتاتور مالت روايته "الحياة لحظة" لسياسييّن من جلدته، تناول فيها بطولاتهم وخرابهم الداخلي، انعكس ذلك على بنية النص ولغته. وبعد سقوط الديكتاتور عاد من المنفى ليصوّر في "حياة ثقيلة" المصائر المؤلمة لرفاقه القدامى، بعد ان دخل قطار الاحتلال حاملا في عرباته عملاء ومعمّمين وسياسييّن امييّن. وفي كل هذه التحوّلات انشغل المؤلف ببناء شخوصه، دون حياد في وصفهم، وبالذات في تحديد المصائر المؤلمة لشخوصه الواقعييّن (كانت تزعجني دوما طريقة الروي الحيادية التي تضمر نبرة بهجة خفية اثناء رواية تراجيديا المصائر.. صــ146 حياة ثقيلة).
ومع كل رواية سيريّة جديدة تصدر يرسم فيها "إبراهيم" صورة للسياسيّ تضيء صورا في روايات سبقتها، ظل فيها الجمع بين سلوك السياسيّ وبين ما وصل إليه العراق من خراب، هو من بين ثيماته الروائيّة التي تبيّن فلسفته وموقفه (من تلك اللحظة أمنت تماما بأن الكائن الايديولوجي بلا ضمير وأناني ولا يهمه مصير الفرد تنطبق عليه مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" التي لا تجرد الإنسان من إنسانيته فحسب بل تبيح له قتل الآخر.. صــ120 حياة ثقيلة). إنّ الكتابة التي تفتقد الغموض غالبا ما تميل للمواجهة لا التخريب، وهذا هو كنه العلاقة بين "إبراهيم" واليسار. إلاّ إن الكشف المتواصل لهنات اليسارييّن دفع إلى الظلِ أية إيجابية لهم، وأفسح المجال للذين عانوا من اليسار ان يختاروا بسهولة جانب الكاتب، وان يلقوا باللوم على السياسيّ. يشير ذلك إلى ان الكتابة ليست بريئة على الدوام، وهي قد تصنع قارئا منحازا، يميل إلى تسفيه مُنجز السياسيّ، حتى من دون أسس داعمة.
وروايات "إبراهيم" مليئة بكائنات سياسيّة متصارعة؛ سياسيو السلطة وأجهزتها القمعيّة، سياسيو المعارضة الذين عاشوا حياة مقاومة شرسة ومعقدة، سياسيو الصدفة الذين امتطوا عربة الاحتلال، إلاّ ان الأجيال الجديدة، التي تعيش هي الأخرى ظروفا لا تُحسد عليها، بات لديها موقفا رافضا للسياسة والسياسييّن، وليس لديها الوقت للجلوس وتفحص التاريخ القريب، يساعدها في تشكيل رأي يفصل بين هذا وذاك.
إنّ الحفر بعمق في الصراعات الاجتماعيّة/ السياسيّة في بلدٍ عَجزَ تماما عن الاستقرار وحماية مواطنيه هو من خصائص موضوعات "إبراهيم" الروائيّة. ادانته للحروب والعنف والظلم بادية، فيها يميل دوما إلى جانب الضحية والوقوف مع الطرف الخاسر في المعادلة. وهذا لا يمنعه من النبش في الأخطاء الصغيرة للضحايا واليساريين، متمهلا عند الجانب المظلم والسري والمتناقض عندهم، في حين يمر سريعا على الاخطاء الكبيرة للسياسييّن، باعتبارها من طبائعهم المدمرة. هو لا يبرر لصغار السياسييّن أو كبارهم فكلهم نشأوا في بيئة عراقيّة قامعة، هو يكشف عن احتقاره للزيف الذي يمارسه الصغار، ويعتبره خطرا على قيّم المجتمع. وفي الحالين نجده يتوقف عند الجانب الإنسانيّ لشخوصه، عذاباتهم وهشاشتهم وطموحاتهم، ولم يتوقف فقط عند شرورهم أو يتخذ موقفا أيديولوجيا منهم، لأنه في هذه الحالة ستفقد الكتابة الكثير، وسيكون الكاتب وجها آخر من أوجه السياسيّ الكئيبة؛ يقول "إبراهيم" في مقابلةٍ عن روايته "الحياة لحظة" «في كل فصول هذا العمل اردت تصوير وجهات نظر تلك الشخصيات وسلوكها في الحياة من زاوية الحياد الانساني وبعيدا عن الايدلوجيا».
إنّ موضوعات "إبراهيم" مجتمعيّة، تتزيا بأثواب عدّة، عائليّة وعاطفيّة واجتماعيّة، بقي أكثرها رثاثة ثوب السياسة. تارة تبدو موضوعاته نبعا للمتعة، فيها ينساب السرد بلغة صافية وحزينة تعطي شعورا بالعزلة والخسران. وتارة تبدو سفرا انثربولوجيا عن المِهن وأصدقاء الطفولة وشوارع المدينة اللاهية على نهر الفرات. وثالثة كشفا صائحا لسلوك السياسيّ واسراره الحميمة ودوره التخريبي. في الحقيقة الكثير من الاعمال الروائيّة تناولت عالم السياسيّ، وتابعته في السجون وفي الأمكنة السريّة، إلاّ ان تناول "إبراهيم" كان مختلفا، فهو ابن التجربة الناصعة والخاسرة على الدوام، تناول فيها مقاربات سياسيّة/ اجتماعيّة لا يمكن العثور عليها سوى عند المجموعات المحاصرة والمنعزلة كالجنود وسجناء الرأي وثوار الجبل الذين يكون الكبت والازدواجية من افرازات حياتهم اليومية. مقاربات سوداوية لا يمكن اختزالها بثنائية الخير والشر، العدل والظلم؛ فكيف لمناضل قادر على التضحية من أجل رفيقه، وفي ذات الوقت يخبئ رغيف الخبز عنه، أو يطمع بحذاء رفيق آخر استشهد قبل لحظات، أو يحاول الإيقاع بزوجة رفيقه الغائب بمهمة قتاليّة. وكان كلما اتسعت مخيلة "إبراهيم" في كسر المحظور وتناول حادثة متسترا عليها او كشف مؤخرة مقاتل مُتنطّع، علا صوت رفاقه القدامى للتذكير بقيّم النضال ودماء الشهداء.
ينبغي الإشارة إلى ان روايات "إبراهيم" خالية تماما مِن البطل الخارق والإنسان الكامل والسياسيّ النقي السيرة والسريرة، وعنده لا قداسة لشخص ولا وجود لموضوع غير قابل للتناول، بما فيها سقطات رفاقه بالنضال، وفشل الحزب الشيوعيّ العراقيّ في انجاز مهامه. نحن هنا ما زلنا نتحدث عن نصوص المؤلف (وحياده الإنسانيّ في رسم شخوصه) أما على الأرض فقد ظل "إبراهيم" كغيره من اليسارييّن المضحّين الذين يرون فيما انتهوا إليه من عزلة وعلل، ثمة ما هو من اليسار العراقيّ. ولم يستطِع، وهو يروي ويوثق تفاصيل حياة يسودها الاضطراب والتهديد، ان يتجاوز ما هو فيه ويزيّن وجوه شخوصه ويبرر أفعالهم الرخيصة. نلمس ذلك في تصويره الموجع لرفاقه بالسلاح وانزلاق مفرداته إلى منحدرات تؤذي الاحياء، وتلقي بمزيد من التراب على قبور الأموات (سيتحول بعض من ثوار الامس إلى مهربي بشر يتقاضون سمسرة بين مافيا الروس والأحزاب التي تسهل وصول العراقيين إلى الدول الاسكندنافية .. يتحولون إلى صعاليك، يشربون طوال اليوم كحال "إبراهيم.. صــ 145 الحياة لحظة).
إنّ تنوّع موضوعات وصّوَر السياسيّ يخبئ حقيقة ان "إبراهيم" لم يتخلص من معاناته بعد، ولم يخرج عن تاريخه بعد، وبالتالي ليس غريبا ان يقول الشيء ويعمل غيره، يفضح فعلات السياسيّ وفي ذات الوقت يحترم بطولاته، يهاجم الحزب الذي عمل معه طوال أعوام وفي ذات الوقت يدعمه ويتبنى شعاره. وعندما سؤل في مقابلةٍ بماذا يحلم سلام إبراهيم؟ أجاب «ما زلت أحلم وأناضل بالكتابة والجمال ضد الخراب والقبح، وأحلم بوطنٍ حرٍ وشعب سعيد، هذا الشعار الذي يبدو مبتذلًا لكنه حلم كل إنسان عراقي، يبتغي الرفاهية والعيش بسلام وصدق».
المتتبع لأعمال "إبراهيم" الروائيّة سيجدها مليئة بالثنائيات؛ الجمال والقبح، الخير والشر، العدل والظلم، الحرية والقمع، استطاع عبرها تمرير أفكاره وغاياته الروائية لفضح مجتمعات منغلقة لا تضيّع مناسبة دون تأثيم الّلذة والحرية. هذه الثنائيّات رسمت ملامح شخوصه منذ روايته الأولى "الأرسي" واستمر أثرها على اعماله الأخرى رغم تغيّر الموضوعات والامكنة. ثنائيّات ساهم بصنعها البيت والمقهى والشارع والمنبر والسلطة، نلمس تأثيرها في مقدار الخوف عند شخوصه وفي كمية الوصف والقلق والشبق على لغته الايروتيكية. قد يكون تدفق المخيّلة لتسخين مشاهد الجنس لعبة روائيّة يلجأ إليها المؤلف لشد القارئ ولكن هذا لا يقلل من حقيقة انها تنفع النص في كشفه للتابوات الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة. يقول الناقد الأميركي جيسي ماتز «أن سطوة الإيروتيكية في الروايات الحديثة جاءت كوسيلةٍ لتحدي الأعراف الاجتماعية التقليدية».
إن ارتباط الجنس بالتهديد والحرمان في روايات "إبراهيم" هو تعبير عن حالة الفرد المقموع في مجتمعٍ مُستقطبْ سياسيّا وتسوده قوانين المنع والعيْب والتحريم. ووسط هذه الدائرة المغلقة من القوانين نجد العوّد الموجع لحضن الحبيبة الدافئ يشكّل عند البطل حالة قلق دائمة، تظل ملازمة له حتى وهو يُقبّل ويُقلّب جسد حبيبته. استدعى ذلك من المؤلف الكثير من النثر التخيّلي والبلل لتوصيف خلطة الكبت والقمع والانسحاق عند السياسيّ ورسم لوحات مليئة بالشبق والجنس، استخدم فيها كلمات دارجة وملغزة، من دون اسفاف او مجانية او تسمية للأعضاء الحميمة. الجنس بطبيعته ليس بذيئا، ففيه سر الحياة والحب، وأن أسباب تأزّمه وتفجّره في المجتمع وليس في الادب، إلاّ ان الهياج العاطفيّ وسخونة المشاهد الجنسية عند "إبراهيم" ووصفه الباذخ للجسد، وقلقه الدائم من فقدانه، إضافة إلى الحفر في اللغة وفي اللحم الحي للحبيبة، هو الذي اعطى الانطباع بسيادة الجنس على كتاباته، مع ان تلك المشاهد تأتي في مجرى الاحداث ولا تلتم حولها الحبكة. وفي نظرة عامة على موضوعات "إبراهيم" الموجعة والمستفزة سنجد ان الجنس هو الجزء الدافئ من السرد، له ما يسنده فنيا، يحضر ويغيب ارتباطا بالموضوع؛ ففي في رواية الأولى "الأرسي" التي صوّرت اختفاء البطل هربا من عيون السلطة يحضر الجنس في فصولٍ محددّة، في أحلام المختفي وكوابيسه، كنوع من التنفيس عن ضغوطات الواقع.
وفي روايته الثانية "الحياة لحظة" يحضر الجنس معادلا للحياة، في بيئة ثوريّة منعزلة بالجبال غالبا ما يكون الجنس معضلة معقدة، حتى أكثر تعقيدا من قتال العدو. قد يستطيع القارئ المتحفظ أو المتململ او العجول القفز على بعض الصفحات لعبور مشاهد الجنس والخمر المتكررة في شقة البطل بموسكو، ويبقى ممسكا من بعيد بخيط السرد، ولكن لو حُذِفت تلك المشاهد من النص سيحدث لا محالة الانقطاع، وسيطرأ تغييّر على صورة الثوري المنكسر وهو يشهد سقوط المثال. كذلك في روايته "كل شيء ضدي" تدور الأحداث حول الغيرة والشك والخوف من فقد الحبيبة، التي يعاني منها المناضل الناجي من ميِتات عدة. فيها الإطالة بوصف الجسد وتكرار صوت الحبيبة القادم من تحت السلّم تبيان للحالة النفسية التي يعاني منها البطل المسحوق، وبالتالي فإن خلو هكذا موضوع من الجنس والشبق سيخمد ناره ويجعله لا يختلف عما هو معروض.
أما في روايته "اعدام رسام" انشغل المؤلف بتوصيف العلاقة بين الأخ وأخيه الشهيد، في زمن احتكرت فيه السلطة العنف ومارست القتل والتعذيب بقسوة لا متناهية، خلا فيه السرد من الجنس، وبدت لحظات الحب تمر سريعة، وحضورها مغطى برماد الاحزان والذكّريات المؤلمة. كذلك نجد غياب الجنس في "باطن الجحيم" التي وثقت فظائع السلاح الكيمياوي وانشغلت بتصوير الأجساد المحترقة بالغازات السامة. من الجهة الأخرى نجد احتفاء "إبراهيم" بالجسد، بجمل وصفية طويلة ومكررة احيانا، يخلو من البذاءة ويستبعد احتمال تهميش المرأة او النيّل من شخصها، ففي روايته "حياة ثقيلة" نشهد تعاطف المؤلف مع زوجات رفاقه (أحمد، سعد، حسين) تارة يبرر لهن افعالهن، وتارة يدين الكلمات البذيئة بحقهن. ففي حوار مع " سعد" المناضل الثوري الذي صعد الجبل وترك خلفه زوجة وطفلتين يقول (تگول ما لها علاقة بالسياسة، بس تركتها أكثر من أربع سنوات، وهي جميلة ومرغوبة.. قاومت.. وقاومت لكن تعبت.. إلى متى تبقى وحيدة مع طفلتين تنتظر رجل غاب لأسباب ما تفهمها.. تعبت، فتزوجت رجل آخر! صــ136 حياة ثقيلة). ملاحظة سريعة عن روايات "إبراهيم" التي خلت من مشاهد الجنس (اعدام رسام، في باطن الجحيم) كانت فيها واقعية الموضوع، وقسوته، قد أنهكت المخيّلة وأخذت من طراوة اللغة، بدت فيها الكتابة مؤلمة للكاتب أكثر منها للقارئ، بعد ان عاشها مرتين، على الأرض وعلى الورق.
للقارئ ان يسأل من أين لــ"إبراهيم" الإحاطة بكل هذه الاسرار والاسماء والاحداث، ومعرفة زلات السياسيّ بهذا العمق والتفصيل، إنْ لم يكن قد عايش وعرف ذلك عن قرب؟ فالمعروف ان لــ "إبراهيم" علاقة بالسياسة العراقيّة غطت أطول فترات حياته، وأكثرها رعبا ومأساوية. تجلى بروايات لا تقف بعيدا عن المعطى التاريخيّ للصراعات الاجتماعيّة/ السياسيّة التي عاشها الشعب العراقي طوال نصف قرن. هذا يجرنا للقول ان النضال والثورة والقتال ليست محطات عابرة في حياة "إبراهيم" وليست مفردات مجازية في رواياته، فهو لم يذهب لجبهات الحرب مراسلا حربيّا، ولم يلجأ للجبل متصوفا زاهدا، بل كابد حياة السجن والحرب والنفي، وعاش بربع رئة جراء اصابته بالسلاح بالكيمياوي بجبال كوردستان العراق. وبالتالي فإنه ليس سرا، ولا مأخذا، صلته باليسار العراقي. فلطالما كان هذا اليسار مرتبطا بتاريخ العراق المعاصر، وبأسماء ثقافيّة عالية الرنين. ولكن بسبب خصوصية تجربة "إبراهيم" فقد تعرضت علاقته باليسار لهزاتٍ، وخضعت لكثيرٍ من الفهم خاطئ، بعد ان عارض المؤلف كل ما لا يتفق مع منظوره الإنسانيّ العام، حتى لو صدر من رفاقه بالسلاح. وننهي مقالنا بالقول انه لطالما كان الروائي سلام إبراهيم شيوعيّا على طريقته، لا يلتزم بشيء ولا يستمع لأحد، لا على الأرض ولا على الورق، وكما يقول في روايته (هو يضيق ذرعا بكل نظام وترتيب .. بكل سلطة، يتوق إلى وضع حر، سائب ليس له وجود إلا في نفسه.. صــ55 كل شيء ضدي ج1).