الإنسان الفرد، هو الأساس للمجتمع. هذا ما يمكن أن نعتبره بؤرة كتابة عزت القمحاوى. حيث تتحول مشاكل وهموم الوطن، إلى مشاكل وهموم الإنسان العادى. وهو ما نقرأه فى روايته "بيت الديب" التى يستعرض فيها التاريخ المصرى، منذ المماليك، وحتى ما بعد ثورة يناير 2011. فكان التركيز، أو الخط الأساسى للرواية هو حياة عائلة الديب، عبر سنوات طوال. تعرضت فيها للتقلبات الاجتماعية المتباينة، بينما جاء التاريخ وكأنه الخط الخلفى، أو الهامشى، وكأنه يعنى أنه من خلال الأفراد يكون المجتمع، ويكون التاريخ. وهو ما نستطيع القول بوجوده –أيضا – فى "غربة المنازل"[1]، التى يفصلها عن "بيت الديب" نحو أحد عشر عاما، لتتجلى رؤية الكاتب فى مجتمعه، طوال تلك الفترة، والتى يواصل فيها حصر إنسانه داخل الجدران، وكأنه (محبوس) فلا يجد أمامه إلا داخله، فيجتر ذكرياته، أو يُخرج أعماقه، كما يخرج دوافعه الغريزية، التى هى أقرب الأسرار للإنسان. وإذا كان الربط –دائما- بين ذلك الفرد، ومجتمعه، فلنا أن نتصور عملية الربط، أو الإيحاء، إذا ما أجرينا عملية التبديل، فجعلنا من المجتمع، هو الخط الأول، ووضعنا الفرد فى الخط الثانى، فسيقودنا ذلك إلى الرؤية المستبطنة، والمحصورة بداخلها، تلك النماذج العديدة فى كل من الروايتين، معا، خاصة إذا ما تأملنا المقتطف الافتتاحى، الذى وضعه الكاتب فى مقدمة روايته من الليلة 982 من ألف ليلة وليلة، والتى تحيل كل البشر إلى أحجار ، وكأنها إدانة لكل تلك الشخوص، ووصفها بالأحجار، أو الجمود، فى مواجهة مجتمعها. وإذا تأملنا اسم المدينة – التى لا يختلف قارئ على تحديد معالمها، والتى أسماها (مدينة الغبار)، بكل ما يحمله (الغبار) من حمولة دلالية، تتراوح بين غيام الرؤية، وحمولة الجراثيم والأوبئة، مخَبِأة للعديد من الأمراض والعلل. وهو ما جعل التوفيق فى الاختيار، إذا ما علمنا أن الرواية انبنت على فترة زمنية محددة، هى فترة ظهور الكورونا، أو كوفيد19، فضلا عن اتخاذ عمارة سكنية واحدة تتجمع فيها كل الشخوص، وكأننا أمام عوامة "ميرامار" نجيب محفوظ، الذى اتخذ من المكان، منطلقا لرؤية المجتمع، فى معظم أعماله.
الرواية والمجتمع
المبدع فى الأساس، إنسان يحمل قضية وطنه، أينما وكيفما أمسك بالقلم ليخط إبداعه، ولذا تظل هموم المجتمع حاضرة فى إبداعاته. وعلى الرغم من أن جائحة كوفيد19، لازالت لغزا يشغل بال العلماء، إلا انها أفرزت الكثير من الأمراض الاجتماعية والنفسية، وهى ما يشغل المبدع فى الأساس. وقد استغل الكاتب هذه الظواهر، ليتكئ عليها ويُظهر الكثير من سوءات المجتمع، وكأنى به يقول أن ما يسرى فى المجتمع من جراثيم وفيروسات، ربما كان أخطر من الكوفيد 19 فى تأثيره على المجتمع. لذا لن نعدم الإشارة إلى تلك السوءات المترسبة فى قاع المجتمع، فى كل الوحدات السرية للرواية-إن لم يكن فى كل رواياته-. زرعها الكاتب فى تربة الكوفيد، وفى عملية تطريز، لتصبح أحد أنسجة الرواية. مثلما نرى فى حالة "د فريد عبد المحيط"، مستغلا أحد خصائص كوفيد 19، التى تداولها الناس، وهى حاسة الشم، ومن خلالها يقودنا إلى العفن الكامن فى المجتمع. متمثلا فى تلك الفئران الميتة، فى أقرب مكان نعيش فيه، بل حتى فى الحجرة التى من المفترض أنها المكان الذى يلجأ إليه الإنسان لاكتساب قصط من الراحة، وهو حجرة النوم، فما بالنا إن كانت هذه الحجرة، يستقبل فيها "عبد المحيط" زائراته الائى يبحث فيهن عن المتعة.
كذلك تلك الحالة التى نتعرف فيها على مدير إحدى المصالح (الحكومية) التى تكشف عن الكثير والكثير من تلك السوءات، والتى يبدأها بمقولة كاشفة عن العلاقة بين الفرد، والسُلطة، والتى توسع الرؤية من الحالة الفردية، إلى الحالة الاجتماعية، بل السياسية، حيث تبدأ الوحدة، بما يمكن أن يمثل بؤرة الرواية: {"أثقل شئ على الملك رعيته، لكنه لا يكون ملكا بدونها"} ونتبين فيها حالة "ثابت سند" رئيس المؤسسة الذى يراقب فيها مرؤوسيه من خلال الكاميرات ليتعرف على بواطنهم، وكأننا أمام "الأخ الكبير" فى رائعة الإنجليزي جورج أوريل "1984"، ذلك الذى زرع الكاميرات ليتجسس على شعبه. حيث تتجسد رؤية "ثابت سند" فى { يتفهم أن يكون لكل إنسان اسبابه للحزن، للعدوانية، الغضب، أو حتى للقرف من وضع ما أو احتقار شخص ما. يتفهم كل ذلك عندما يكون دون المستويات الخطرة، لكن تظل المراقبة ضرورة حياة للهيئة والمنظومة ككل، لأن المشاعر الخطيرة المخبأة فى النفوس، تكبر وتتزايد بأسرع من تكاثر كوفيد 19. نظرة السخرية أو اليأس الواحدة تنتج نصف مليون جسيم من فيروسات الكآبة والعدمية تسبح فى هواء البرج}ص162.
ويتواصل الحديث عن "ثابت" للكشف عن مستوى ما وصلت إليه (الهيئة) {عندما صار رئيسا كان متأكدا أنه صار على قمة شبكة صرف ضخمة. يعرف أماكن الانسياب وأماكن الانسداد فيها، يعرف متى يستخدم آلات الشفط، ومتى يحتاج إلى غطاسين، فالهيئة، أية هيئة، تستمد وجودها من استمرار نشاطها لا من طبيعة ذلك النشاط}ص167. حيث تكشف الكلمات الأخير { من استمرار نشاطها لا من طبيعة ذلك النشاط} عن مدى غلبة الشكل على المضمون، وغياب الربط بين النشاط والمجتمع، وعن غلبة الظاهر على الباطن، وهو ما وسم المجتمع لعقود كثيرة. ولتتحول كلمات القمحاوى إلى قنابل قابلة للإشتعال. ثم المزيد من الكشف عن ذلك الفيروس الساكن فى الباطن {تسلم منصبه بعد عشرات السنين من استقرار عادة توريث الوظائف، حتى دب الوهن فى سلالة الموظفين، وأوشكت الهيئة على التفسخ. اكتشف كل آلاعيب التحايل على اللوائح}ص169.
كما يأت الكثير من تلك السوءات، عندما أصدر قرارا بيتخفيض العمالة، طبقا للإجراءات الاحترازية، فاستغل العاملون ذلك ولم يحضر منهم سوى العشرات ، فى الوقت الذى يبلغ عدد العاملين نحو خمسة وثلاثين ألف عامل. ويُسَمى قمم الهيئة، كل منهم باسم يوحى بشخصيته – غير السوية -. فالمدير المالى "الديك الرومى"، ومديرة إدارة المشتريات ب"الفرس"، ومدير الإدارة الهندسية "الأرنب". حيث يكشف إجتماعهم، الكثير من الفساد فى الهيئة، التى من بينها، أو لعله أهما –هنا- الجبن أو .. الخوف.
ثم فى "2أبريل من العام الأخير"، الفصل الأخير من الرواية، وكأنه يبلور خطىّ الرواية، ويضع الخلاصة، فيضعنا أمام الواقع الحاضر بمرارته، حيث يتحول "كوفيد 19" إلى ما يشبه الحلم، الذى ليس لنا عليه سيطرة، لنبقى أمام تلك السوءات التى تحولت إلى كابوس، علينا مواجهته، والذى تصبح معه الكورونا قدرا، وحلما ، والسوءات كابوسا: {ليس بوسعنا أن نغير ما يحدث فى الأحلام. نتلقى ما تقرره القوة التى تسيطر على منامنا فحسب. وهكذا صرنا فى مواجهة كوابيس اليقظة .. هذه الأيام}ص197.
التقنية الروائية
يستدرج القمحاوى قارئه، بالحيلة ، وكأنه ينصب الشباك التى يصطاد بها السمكة القابعة الساكنة فى القاع. ليس عن طريق العناوين التى تعمد أن تكون عشوائية، فى البداية، قبل أن تصبح ذات حمولة دلالية فيما بعد. حيث تبدأ الوحدتان الأوليان من الوحدات السردية الأحد عشر، متناولا أوضاع الكورونا، وأفعالها، وكأنه سيسير على ذات المنوال، إلى نهاية الطريق. فتبدأ الوحد الثانية، والمعنونة "15 يونيو 2020"، والتى ربما لم تخلو من تلك الغمزات البعيدة، حيث يصف الطبيب المعالج ل"غيداء" الارستقراطية، اللغة، والتعامل {كنا نعتقد أنه فيروس يصيب الجهاز التنفسى فحسب، لكن تبين أنه يخبط عشوائيا فى أى اتجاه: المخ، القلب، الكلى، الكبد، البنكرياس}ص21 ، وهو ما يمكن أن ينطبق على الرؤية الأخرى للفيروس المجتمعى. إلا أنه لم يذكر أنه أيضا يصيب الإنسان باليأس، أو فقدان الأمل. ف"رامى" موسيقار يعيش الهوى، ويغرق فى المادية الحسية، أعلن عن احتياجه مديرة لمكتبه، كشبكة يصطاد بها من تُرضى رغباته، إلا انه يفاجأ ب"غيداء" تهاتفه، ليشعر معها بأنها إنسانة مختلفة، ولا تلبث أن تأتيه، مصطحبة معها شنطتها، وتقيم معه، على شرط أنها ستكون مديرة لبيته و.. فقط، ورغم محاولاته معها، إلا أنها ترفض مطلقا الاستجابة لرغباته، وتطلب منه أن يزاول خدعته مع الإخريات، فيفعل، دون أن يؤثر ذلك على وعدها، اللهم ليلة وحيدة طوال ثلاثين عاما – وليس من تفسير لتلك الليلة سوى أن الكاتب أراد بها أن يجعل منهما بشرا، وليسا نماذج خالية من الحياة-، وهى تقيم معه، محافظة على الوعد. ويحاول تذكيرها بتلك اللية، فلا تستجيب لمحاولاته. ولكنا نعلم أن هذه الليلة {أعادت إليه أحاسيس لم يعرفها إلا فى مراهقته تجاه صافى جارته المهاجرة. ربما استعذب وجود هذه الشابة إلى درجة الإحساس بأنه الوضع الطبيعى الذى عاشه معها فى حياة سابقة، وقد عادت ليستكملا حياتهما}ص35، ولذلك لا تستجيب لمحاولاته التذكير بها، فلا تتذكرها إلا{عندما توقفنا فى وسط الكوبرى نستقبل نسيم النهر. ترد – نعم، نعم، غناء الصيادين وتصفيقهم}ص40. أى انها تمثل له ذلك الزمن الصافى، البريئ، والذى يؤكده فى موضع آخر {كانت العمارة مختلفة فى ذلك الوقت. لا أحد يسأل عن زائرات أو عن مقيمة استقرت بين يوم وليلة. كان السكان متناغمين يهتمون ببعضهم البعض من باب الود والاطمئنان الضرورى وليس من أجل التلصص والمراقبة. خلال ثلاثين عاما باع الكثير من الملاك القدامى شققهم وهاجروا.. لم يحمه من تطفلهم إلا أنهم وافدون على العمارة، ولم يخطر ببال أحدهم أن غيداء ليست زوجته}ص39. إلى أن ياتى الفيروس اللعين ليصيب "غيداء"، فيسهر بجانبها بالمستشفى، ويتكلف المبالغ الباهظة، التى ينتهزها الكاتب ليشير إلى أرتفاع أسعار العلاج، ليسأل "رامى"، ذلك السؤال الذى يراود عموم الناس عندما يسمعون عن تلك الأسعار {ماذا يفعل الفقير عندما يمرض؟}. وبعد فترة العناية المركزة، وفترة العناية العادية، يعودان لبيتهما. وفى محاولاته للبحث عن إجابة سؤاله (لماذا لم تتكرر تلك اللية) فيقترب منها محاولا، إلا أنها بإشارة من عينيها تقول: عشم إبليس فى الجنة، فيجيبها (وعد) {رد بقوة متحديا تشاؤمها، معتبرا حُلمه نذرا واجب التنفيذ عندما تسترد قدرتها على الوقوف. هزت رأسها بتسليم متشكك، فأعاد كلمته: وعد. قالها بصوت رقيق هذه المرة ليستعطف القدر}ص47.
وقد تكشف لنا هذه الوحدة، سر التحول فى التناول الحسي بين "بيت الديب" التى شاع فيها ذلك الاستخدام – بكثرة- بوجوده المادى . بينما اختفى ذلك الاستخدام فى "غربة المنازل" حيث تسامى ذلك الإحساس، وأصبح يشكل خلفية للفعل، محسوسة وغير مرئية.
وهذا الإحساس، هو ما نستطيع تبينه فى أولى الوحدات، المعنونة "17 أغسطس 2020". والتى تستخرج باطن "فريدة" التى تلحق بعربة النساء فى المترو، مصطحبة معها حبيب الماضى، والحاضر، رغم اعتراضات نساء العربة، وهى شبه محتضناه، لتظهر لهما سيدة أخرى تكبرها بعشرين عاما، تجد فيها فريدة شبها كبيرا منها {وهذا الاهتزاز يشوشها حتى أنها بدأت تتصور أن المرأة التى تقف قبالتها ليست سوى صورتها هى منعكسة على زجاج النافذة، والرجل الذى تتخيله ليس سوى يوسف بعدعدة سنوات}ص18.فنحن أمام عملية انقسام، فضلا عن الخوف من المستقبل، الذى أصبح غير مأمون، وعلى الإنسان أن يتمسك بما بين يديه. لذا، عندما يتوقف المترو فى المحطة التالية، ويسرع "يوسف" إلى النزول، تطالبها الأخرى { وراءه ، لا تتركيه}. وكأنها تدعوها للتشبث بسبل الحياة .. الآن، أو تدعوها للإمساك بتلالبيب الحب، الصعب المنال الآن.
فى "بيت الديب"[2] (2010)، وحيث السرد التاريخى، سواء لأحداث الوطن، او لأحداث العائلة، قام السرد على السير الرأسى، والتتابع الزمنى. وفى "يكفى أننا معا"[3] (2017)، حيث سيطر الزمن والإحساس به على "جمال منصور"، بفعل الفارق الزمنى بينه وبين "خديجة البابى". فسار السرد متصاعدا –أيضا-. بينما قام السرد فى "غربة المنازل"، حيث الاضطراب، والتضارب، وتشخيص الخوف والرعب والانعزالية، قام السرد على السير أفقيا، أو عرضيا. وانحصر فى العام 2020بالدرجة الأولى، وإن استدعى ما قبلها وما بعدها، فكانت عناوين الفصول هى التأريخ، الذى بدأ "17 أغطسطس 2020"، ثم "15 يونيو 2020"، وبعدها "2 أبريل من العام الأول للخوف"، ثم استمر ذكر التواريخ الطبيعية، حتى كان الفصل الأخير هو "2 أبريل من العام الأخير". فعلى الرغم من تلك التواريخ، إلا أن ذكر 2 أبريل مكررا ومحددا للبداية والنهاية، التى جاءت مفتوحة، الأمر الذى يدعونا لتأمل الحكمة المستترة وراء ذلك التكرار، وذلك التحديد.
فإذا ما تأملنا الفصل المعنون "2 أبريل من العام الأول للخوف"، فسنجده يبدأ ب{قبل أن يعرف العالم شيئا عن الوباء، فرض المؤرخ بديع العطار على نفسه العزلة)، الأمر الذى يعنى أن الخوف قد بدأ من قبل الكورونا. وكذلك إنعزالية التاريخ، أو توقفه عن حساب الزمن. لينبهنا الكاتب بأن جائحة الكورونا ليست هى ما فى المقدمة. ويعززها الاستمرار فى القراءة {الرجل الذى عاش خمسين عاما يُنقب عن عجائب الأخبار، لا تهزه بشاعات حرب أو مجاعة أو وباء، بل الخوف. يعتبره الأبشع من كل بشاعة، لأنه يبدد تضامن الضحايا ويحولهم إلى ضباع تتداعى لنهش من يسقط من بينهم، يتلذذون برؤية لحمه بين الأنياب لمجرد أنهم ليسوا مكانه... ما إن استقر الخوف حتى تشوش المؤرخ، وتراءى له أن المدينة تتداعى. أشياء كثيرة طيبة تختفى، بينما تنتشر الثعابين والسحالى والأبراص فى كل مكان: ضئيلة، سريعة الحركة، قلقة، نهمة} ص49. فالرؤية ضبابية، والأجواء يسودها الفساد، فيصبح مبدأ المؤرخ، هو سلوك النعامة، التى تدفن رأسها فى الرمل، فلا تشعر أن شيئا هناك {إختبئ، يصبح ما تخافه غير موجود!} وهو المبدأ الذى يعنى أن (لا أرى .. لا اسمع .. لا أتكلم) هو مبدأ الأمان فى زمن غاب فيه الأمان، حيث أصبح الاختباء هو الحل، والخلاص من تشتت -المؤرخ- وتمزقه، بين أحلام الطفولة، وأفكار الرشد، وعجز الأطباء عن علاجه. فيعيش عزلته فى عالم من الطفولة والتناسى. ويجره الشوق لسماع نشرات الأخبار العالمية، فيفاجأ فى القنوات العالمية ذات يوم بأخبار كوفيد19 الذى {لم يكن قد تجاوز عتبات ووهان الصينية} فيقرر أن يزاول مهمته فى التأريخ لتلك المساحة الصغيرة (ووهان). ليتبين لنا أن كوفيد 19، الذى هزم العالم، وعجز أمامه العلماء فى كل الدنيا، ليس إلا مساحة صغيرة.
ثم نصل إلى الفصل المعنون "2 أبريل من العام الأخير"، والذى يوحى بالانفتاح على المدى البعيد، , فالأخير غير محدد، , فكل عام يأتى قد يكون الأخير. فما الذى حدثُ فى هذا الفصل؟. أولا نعلم أن "بديع" (المؤرخ) قد مات، ورغم ما بدا على جثته من آثار توحى بأن القتل متعمد، إلا ان الطب الشرعى يكتب تقريره بأن الوفاة طبيعية، مبررا ما عليه من آثار { بعد تشريح الجثة ، استبعد الطب الشرعى الشبهة الجنائية، وأرجع زرقة الجسم الداكنة إلى فعل الجاذبية، حيث يتجه الدم ....وأما كدمات الوجه فالأرجح أنها بفعل الارتطام لحظة السقوط}ص198. ورغم أن شباك المطبخ كان مفتوحا، وهو لم يكن يفتحه مطلقا. وكأننا أمام عملية مدبرة، ليست عملية قتل فرد، وإنما قتل معنى.
وحيث يتم تجميع الخطوط فى هذا الفصل، المنفتح على المستقبل إلى ما شاء الله، فتسير الحياة بعد ذلك سيرها الطبيعى، فيعود "وديع" شقيق المؤرخ لجولاته فى الحديقة .. ليلتقى بسيدة الكلب "لطيفة العراقى". ويحدث التلاقى، ثم يتزوجا. وأصبحا يدوران فى اتجاه واحد بعد أن كانا يدوران فى اتجاهين متعاكسين. كما نتعرف فى هذا الفصل على مصير الحاجة "سمحة" التى عرفناها تحرص على إطعام العصافير والطيور وسقياهم، وأسطورة سقوطها من الدور الخامس، حيث أثارت الجدل، وما إذا كانت قد سقطت، أم أن زوجها هو من قذفها، لتسقط لا على الأرض، وإنما على الشجرة، فلم يصبها إلا بعض الرضوض البسيطة، وإن كانت الشواهد تؤكد أن زوجها هو من فعلها، خاصة محاولاته لإقناع البواب وزوجته بما يشيعه من هلوسات تفيد بأنها طارت، وسقطت على الشجرة، وكأنه يحاول خلق شاهد عيان على ما يزعمه. وهو ما يدعونا للعودة إلى مفتتح الرواية والمقتطف من ألف ليلة وليلة، غير أن الناس هنا، لم تتحول فعليا إلى حجارة، وإنما غابت وغُيبت عن الوعى، وعاشت الأوهام والخيالات، وانغمست فيها، حيث يمثل البواب وامرأته تلك الطبقات التحتية من المجتمع. غير أن "سعيد الطناحى" زوج الحاجة "سمحة" كان قد أسلم مفتاح الشقة ل"طعمة" زوجة البواب، للإشراف على البيت ومساعدة الحاجة وتلبية إحتياجاتها. وبعد اختفاء الحاجة. واظبت "طعمة" على الصعود إلى الشقة، أولا لسقيا وإطعام الطيور والعصافير، {ثم بدأت تصعد للاستحمام وتحميم الأولاد فى دفء الحمام النظيف} وشيئا فشيئا تستخدم المطبخ، ولتنتهى فى النهاية إلى الاستيلاء على الشقة بالكامل. ولا يتوقف طموحها عند ذلك، وإنما تنظر للحصول على شقة الحاج "ثابت" الذى كان بالنسبة لسالم (البواب) هو الشخص المخيف الذى يَعْبُر المدخل خطفا فى ذهابه وإيابه بين ثلاثة من الحراس، والذى تحول إلى الشيخ ثابت، الذى يجلس ساهما مع "سالم" بالمدخل. ولتقول "طعمة" له: - الرجل اللزج أكل عقلك؟! } ليرد عليها زوجها "سالم" بأنه رجل زاهد، فتجيبه {- رجل كذاب. هل يرضى أن يترك لنا شقته؟). فقد تبدلت الأحوال كثيرا، ولم يعد أحد بمستطيع تحديد الصالح من الطالح. وهو ما عبر عنه الكاتب، تجميعا للرؤية الحالية للمجتمع، فى وصفه للحياة فى "مدينة التراب" {تضاعف الخوف وتفجرت ينابيع القسوة فى القلوب. استمر سقوط النساء الغامض من شبابيك وشرفات الطوابق العليا، وبدأ الأبناء يتركون أمهاتهم المريضات وحيدات حتى الموت، كثيرون يتساقطون فى عتمة العزل، أمهات يخطفن اللقمة من أيدى أبنائهن، وآباء يغتصبون بناتهم، وحراس يصبحون الخطر الذى يهدد محروسيهم}ص204. وحيث يشير سقوط النساء(الغامض) من شبابيك وشرفات الطوابق العليا والذى شاع، مما قد يسبب الغموض -أمام القارئ- إلى انتشار الفساد، حيث يضطر الرجل إلى التخلص من تلك التى استدعاها للمتعة، أو ألا تجد المرأة المُستدعاه، إلا ذلك الطريق، هروبا، أو لأغراض أخرى. أو أن أحد الرجال قد تعب من زوجته، وأراد أن يقيم علاقة مع أخرى، مثلما فعل "الطناحى" مع زوجته "سمحة"، ربما ليقيم علاقة مع "طعمة". فالرزيلة تكمن وراء ذلك الفعل، بصورة أو أخرى.
إذا، فنحن أمام وحدتين سرديتين، تحددان البداية والنهاية، أو تشكلان معا الحركة الدرامية (المستترة)، والتى تؤكد أن الوحدات السردية، المتجاورة، والتى تبدو كما لو أنها منفصلة، وما هى بذلك، خاصة إذا تأملنا الوحدات الأخرى، وكيف أنها عبرت عن أوضاع (المفعول به) بعد أن انحصر الفعل فى (الخوف) الذى نجح الكاتب فى التعبير عنه فى الحالتين المتداخلتين، الكورونا -التى بالفعل زرعت الخوف، بل والرعب، والكثير من الهواجس، وتبدل الحالات البشرية- وبين الخوف الذى تحدث عنه المؤرخ "بديع"، وراح ضحيته، والذى أبقى الفاعل مستترا، كى نبحث عنه فى باقى الوحدات السردية. وهو ما قد يكشف عن البلبة التى يمكن أن تثيرها مثل هذه الرواية بخصوص النوع الأدبي، وما يثيره القمحاوى بأعمال أخرى. حيث يختفى ذلك إذا ما وصلنا إلى تلك الروابط التى تربط الوحدات، أو الفصل، رغم ما قد يبدو على السطح من عدم وجوده. فقد مثلت تلك الروابط، غير المرئية، تلك العلامة المائية فى العملة الورقية، فلا تكون ظاهرة، رغم أن وجودها، جوهرى لإثبات نقائها.
فإذا كان الكاتب قد جعل من الفاعل (ظاهرا ومستترا). وجعل الخوف هو الفعل. فماذا عن المفعول به؟
فى الوحدة السردية المعنونة "21 يوليو 2020"، نتعرف على مشوار الحارس "حمادة رزق" الذى أنهى خدمته العسكرية، ليعمل حارسا لمول تجارى فخم، مدعوم بتدريباته العسكرية، غير أنه اكتشف أن دوره فى هذا المول، أن يقف أمام الباب متيقظا، ما ذَكَّرهُ بخيال المآتة، فى (الغيط) فى قريته، والذى لم يكن يخيف العصافير التى اكتشفت حقيقته، وعلمت أنه لا يتحرك، وأنه مجرد خدعة. وهنا يتدخل الكاتب للربط بين ما كان وما هو كائن، خاصة إذا ما أخذنا نصف العنوان الخادع، والذى ربط به ، بذكاء، بين الماضى والحاضر، أو بين خوف المؤرخ، وخوف الكورونا، فدمج بين نصفى العنوان، حين زرع عاما سابقا فى العام الحالى، حيث21 يوليو، يعيد إلى الذاكرة ذكريات عام مضى، وعندما يستجيب القارئ لذاكرته فى السير للخلف، فلابد أن يضع ذلك العام محل ما خدعنا به الكاتب تحت (202)، وهو ما تكشفه النتائج التى تيشير إلى الأرض الزراعية {تآكلت الأرض تحت زحف البناء، ثم اختفت. لم يعد هناك شئ من كل ما رآه فى طفولته باستثناء الترعة الكبيرة التى صارت مصرفا للبيوت، ولم يعد فيها سوى القرموط الذى ينمو ويتناسل بكثرة على الفضلات البشرية، واصبح هناك صيادون محترفون يصطادون الكثير منه ويبيعونه فى أحياء الغائط الأخرى} وكأنه يرمى إلى تلك التحولات التى قضت على الأرض الزراعية، فضلا عن طعام الفقراءة المستمد من الصرف. غير أن الكورونا اللعينة، أصابت حمادة، فدخل معها حربا، وبإصرار الجندى الذى تدرب على فك السلاح وإعادة تركيبه بسرعة فائقة، وحصل على أعلى الدرجات فى النيشان، وما ساعده على مقاومة الكورونا والإصرار على الانتصار عليها. غير أن "حمادة" يتعرض للموت، لا بفعل الكورونا – القاتلة- وما يمثله من الكشف عن ظروف سابقة، والتى كانت معها الصدمة {حتى كانت الصدمة التى حدثت الليلة. عثر عليه أولاد الحلال مكوما، غارقا فى دمائه بفعل طعنة سكين، منعتها العناية الإلهية من قتله. طعنة فى الظهر، جبانة كطعنات الفيروس، نفذت إلى إحدى كليتيه. يعرف حمادة على وجه التقريب من طعنه، لكن الرغبة فى الثأر لن تمنعه من استئناف مطاردة الفيروس عندما يتماثل للشفاء}. وهنا لتصل الرسلة واضحة، لا نستطيع إغفال ما يرمز إليه "حمادة" الجندى السابق، وحارس المول الحالى. وحيث يصبح كل من "حمادة" و"سمحة" –بما توحيه- المقتولين، هما المفعول به، ويصبح الفاعل مستترا، رغم معرفته.
ففى وحدة سردية أخرى، معنونة "22 يوليو 2020" ما نستطيع أن نقرأ فيها مثل واقعة الحارس "حمادة"، حيث نتعرف على الحاجة "سمحة" والتى كان لها من اسمها نصيب. فمع تقدم عمر الحاجة، وتخليها عن الكثير من مهامها، إلا صلاة الفجر وإطعام الطيور، التى ما إن تسمع ضلفتى الشباك يفتح، حتى تتجمع ، لتمنحها الحَّاجة الطعام والسقيا، بل تقف لتتحدث إليهم، آمرة أو زاجرة أو داعية. {ولم يكن هناك شئ مختلف هذا الصباح سوى أن زوجها استيقظ مبكرا على غير عادته، وتبعها إلى الواجهة، وحسب روايته فيما بعد فقد وقف وراءها يراقب لعبها مع الطيور دقائق قبل أن تنتبه إلى وجوده....... كانت الحاجة "سمحة" شابة تماما، حتى أن المفاجأة أفقدتنى وعيى لحظة صغيرة طرفة عين، أفقت منها فلم أجد الحاجة، كأنها تبخرت}. ف"سعيد الطناحى" (العمدة) -كما وصف نفسه، زوج الحاجة- الذى حمل أمانة صندوق العمارة، والذى بدأ التودد والتقرب ل"طعمة" زوجة البواب، ودعاها لمساعدة الحاجة، كان لابد يكمن وراء عملية قتلها، مدعوما بسذاجة البسطاء من العامة، الغارقة فى وهم الغيبيات، والخرافات. فلم يكن للشياطين أن تتعايش مع الملائكة. ومرة أخرى يدعونا الموقف لتأمل عملية زرع عام سابق للعام الحالى.
ومن هنا يمكن تحديد بنية الجملة الروائية فى الفعل (الخوف) والمفعول به (المؤرخ، والجندى، والداعية إلى العطف والسماحة)، بينما الفاعل يكمن فيمن قتلهم (عمدا).
المعلوماتية
تحتشد روايات القمحاوى بالكثير من القراءات الأدبية، وغير الأدبية، الأمر الذى تحولت معه الرواية- عنده- إلى رسالة ثقافية، تحمل الكثير والكثير من المعلومات الموثقة، والمزروعة بعناية فى سياقها، ولتصبح الحمولة الثقافية، رافدا له أهميته فى السياق العام، لتتحول معه الرواية –إلى جانب توثيقها التاريخى- توثيقا علميا. فمن خلال الحديث عن الوباء، يذكر أن الوباء دائما يأتى من الشرق، ودائما فى أقدام الجنود والتجار، حيث دارت بعض الأقاويل التى تُرجع ظهور كوفيد19 فى ووهان، من سفينة كانت تحمل جنودا أمريكيين بالقرب من المدينة، وأنهم من حمل الفيروس إلى الصين التى على خلافات دائمة معها. فيسترجع تاريخ الأوبئة فى العالم {طاعون أثيناالذى دمرها فى القرن الخامس قبل الميلاد، أودى بحياة مائة ألف شخص دخلها من ميناء الإمداد بيرايوس فى السنة الثانية من حرب بيلوبينيز بين المدينتين اليونانيتين أثينا واسبرطة}ص55. ويستكمل الكاتب تاريخ الأوبئة، ليثبت أنها جميعا بدأت من الشرق، وفى أرجل الجنود، والتجار.
الشخوص ومسمياتها
وسط عمليات التمويه التى يمارسها القمحاوى، بالتلاعب بالتواريخ، التى تتأرجح بين تقلبات الزمن، نعيش فى مكان واحد مع شخصيات مألوفة، ومأزومة، بفعل الانغلاق، أو الخوف، لتهز جوانياتها، والتى تنطق بحقيقتها التى نراها من الخارج، استخدم الكاتب الكثير من الأسماء التى تساعد فى الوصول إلى ذلك المخبوء، وكأنه يسميها بهويتها، لا بما عرفه الناس عنها- تماما كما فعل "ثاتب" مع مديرى الهيئة الى يترأسها، ولتصبح الشخصية أحد مفاتيح الوصول إلى المستور. مثلما أشار إلى "غيداء" ذلك الاسم الذى يوحى بالإرستقراطية، فضلا عن إلصاق صفة اللدغة فى لسانها، حيث تحول الراء عندها إلى غين. ومثلما أراد الحديث عن فترة ما قبل 1952، جاءت الأسماء هى المعبرة عن المتداول منها فى تلك الفترة ، مثل "صافيناز" أو صافى الوقاد، التى جعلها فى الخامسة والثمانين من عمرها، وكأنه يرجع بالزمن لما قبل 1952. وجعل للقطط والكلاب دورا فى حياتها. كما لم يعد بالعمارة من سكانها القدامى سوى "رامى حنا" الذى ارتبط ب"غيداء" ليصبح التمسك بها، تمسكا بالماضى العريق، وليصح هناك المقارنة بين ما كان وما هو كائن. وكانت الوالدة "منيرة هانم" كما كان يناديها الملك. ومساعدتها "نانسى". بينما على الجانب الآخر نجد امرأة البواب "طعمة"، التى كانت أحد الروابط الأساسية بين الوحدات، والتى تمثل تطور المجتمع، حيث بدأت بأنها لم تكن جميلة- حين تزوجها سالم، كزوجة ثانية، ثم تحولت لتصبح محط أنظار كل سكان العمارة، فضلا عن أنها تحولت من ساكنة حجرة البواب، لتصبح ساكنة شقة الحاجة "سمحة" – تحديدا- وتتطلع لسكنى شقة "ثابت" رئيس الهيئة السابق، والذى لم يكن يسير إلا بثلاثة من الحراس. وزوجها "البواب سالم" الذى يتماشى مع الظواهر، فتحولت نظرته إلى "ثابت" الذى لا يعير أحدا إهتماما، إلى الإيمان ب"الشيخ ثابت". و "سعيد الطناحى" والحاجة "سمحة" الموحى بالسماحة والطيبة. فضلا عن هذا، كان الاسم المستتر وراء "مدينة التراب" ، وهو القاهرة، التى لم يبح باسمها الحقيقى مطلقا، ليُلقى الاسم المختار بحمولته على الرؤية المراد توصيلها.
الخوف .. سجن .. والكاتب –أى كاتب- يعشق الحرية، ويشتهى الحب، وكلاهما.. يقتله الخوف. وكاتبنا أبدى الكثير لإثبات ذلك. خاصة إذا ما تجاوزنا الحكم الأخلاقى على الإبداع الأدبى، بشرط وحيد، أن يكون ما يأتى به الكاتب، مبررٌ فنيا.
ففى "بيت الديب" أقامت "مباركة" العلاقة الزوجية مع "ناجى" ابن زوجها، فى علاقة حرة. وفى "يكفى أننا معا" قامت الرواية على أساس العلاقة الحرة بين "جمال منصور" و"خديجة البابى"، رغم ما قد يكون من أسباب أخرى لوجود عدم الارتباط. وهنا فى "غربة المنازل" قامت علاقة الحب الحر بين كل من "يوسف" و"فريدة"، كما كانت بين "رامى" و"غيداء". بل ويمكن القول أن قتل "سعيد الطناحى" لزوحته "سمحة"، لم يكن إلا سعيا لإقامة علاقة حرة مع "طعمة"، مع استسلام الجميع لتلك الحالة، دون التفكير فى الارتباط، أو القيود، فضلا عن توافر عنصر الحب. وهو ما يكشف الجانب الآخر من الصورة التى تربط الزواج بالقيود، التى يرفضها جميعهم، فاستمتاع الجميع بالعلاقة، دون الحاجة لرابط الزواج، هو بحث عن الحرية. ومن هنا يمكن القول أن الحرية، هى أحد اهتمامات الكاتب، وهو ما يعزز رؤيتنا فى اكتشاف الجانب البعيد فى قراءة الرواية. انتصارا للحب والحرية، التى تعود بنا إلى بداية قراءتنا، حيث أن حرية الفرد، لا تنفصل عن حرية الوطن.. والعكس صحيح.
Shyehia48@gmail.com