المشهد المسرحي في الوقت الحالي هو الأكثر حيوية منذ فترة طويلة
(ميدل ايست آي) يعود تاريخ المسرح المصري إلى بدايات القرن الـ20، وقد شهد ذروته الجماهيرية في فترة السبعينيات مع بروز عادل إمام وسمير غانم. ورغم تراجع الإقبال على المسارح التي تعج بها شوارع القاهرة، يحاول جيل جديد من الشباب بعث الروح في المسرح المستقل من خلال تجارب إبداعية تقف في وجهها عدة عراقيل.
في تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" MiddleEastEye البريطاني، تقول الكاتبة بهيرة أمين إن الفنانين الرائدين نجيب الريحاني ويوسف وهبي قادا أولى الفرق المسرحية الناجحة تجاريا في القرن الماضي، وقد أفسحت تجاربهما الكوميدية والدرامية الطريق أمام تجسيد روائع أدبية لكتّاب كبار مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس، تلتها كلاسيكيات متلفزة مثل مسرحية "العيال كبرت" و"مدرسة المشاغبين" و"المتزوجون".
لعقود من الزمن، كانت هذه المسرحيات تُبثّ بانتظام على القنوات التلفزيونية العربية، وأصبحت من العناصر الأساسية الثقافية في اليوم الأول من العيد، وهو تقليد استفادت منه شبكة "نتفليكس" من خلال عرض مجموعة من المسرحيات في أيام عيد الفطر.
وترى الكاتبة أن هناك العديد من العوامل التي تفسر تراجع المسرح المصري. ففي عالم تهيمن عليه خدمات البث الرقمي، يتزايد عدد المخرجين والممثلين الذين يوجهون أنظارهم إلى شبكة "نتفليكس" ومنصة "شاهد" بحثًا عن فرص للعمل.
ولا يزال المشهد الثقافي يعاني جراء تدابير الإغلاق الناجمة عن جائحة كوفيد-19. ولكن حتى قبل انتشار الوباء، كانت مسارح الشهيرة قد أُغلقت وتحولت إلى دور سينما أو بقيت مهجورة لأسباب كثيرة، منها تراجع إقبال الجمهور ونقص التمويل.
وتشير الكاتبة إلى أن أغلب المسارح التي لا تزال مفتوحة حاليا في مصر مملوكة للدولة، باستثناء عدد قليل، كما أصبح من الصعب على الفنانين المستقلين الحصول على فرص للعمل والإنتاج والفوز بالجوائز بعيدا عن هيمنة الدولة.
مع ذلك، يواصل عدد من الممثلين والمخرجين والكتّاب الشباب التمسك بالأمل في إحياء المسرح المصري من خلال تقديم عروضهم في المسارح الخاصة، مثلما فعل رواد هذا النوع من الفن لأول مرة منذ أكثر من قرن.
فرق مستقلة
يقول محمد متولي، وهو مخرج وممثل مسرحي يبلغ من العمر 31 عاما، ويؤدي مسرحيات باللغة العربية الفصحى مع فرقته المستقلة "أول إن"، إن "المشهد المسرحي المستقل يعج بالفرق. إذا تنقلت إلى أي غرفة تدريب، ستجد فرقة. أنا شخصيا أعرف ما لا يقل عن 50 مديرا، وكل مدير له فرقته. أعتبر ذلك نقطة ضعف وقوة في الآن ذاته".
تعمل معظم هذه الفرق ضمن منظومة موازية للمسرح "الرسمي" الذي يعمل تحت رعاية وزارة الثقافة، التي تمتلك جميع المسارح الكبرى في مصر. هناك 22 مسرحا من المسارح المملوكة للقطاع العام ليست مفتوحة للجميع، حيث يجب أن يكون المخرجون أعضاء في نقابة الممثلين لعرض مسرحياتهم هناك.
وغالبا ما تكون إجراءات الانضمام إلى النقابة طويلة وشاقة بالنسبة للفنانين المستقلين، مما أوجد ما يسميه بعض قدامى الممثلين دائرة مغلقة من المبدعين المسرحيين. نتيجة لذلك، يتجه العديد من المخرجين المستقلين إلى المسارح الخاصة، التي توفر فرصا للمحاولة بعيدا عن أروقة البيروقراطية.
في الواقع، تكمن المشكلة في أنه لم يتبق سوى عدد قليل من المسارح الخاصة. وتقول الدكتورة دينا أمين، أستاذة المسرح بالجامعة الأميركية بالقاهرة ومديرة برنامج المسرح بالجامعة، إن "كل هذا يعود إلى نقص التمويل. فأنت بحاجة إلى رأس مال هائل من أجل شراء مكان ثم تأجيره لفنانين مستقلين. إنه لأمر رائع أن يوجد عدد من هذه المراكز لأنها تستوعب الكثير من الفنانين الشباب".
يعتبر مسرح الهوسابير في الأزبكية، الذي كان يستضيف فرقة سمير غانم الكوميدية الخاصة في ستينيات القرن الماضي، أقدم مسرح خاص لا يزال يخدم المنظومة المسرحية المستقلة عن الدولة.
هناك أيضا مسرح الفلكي بالجامعة الأميركية بالقاهرة، ومسرح النهضة التابع للمركز اليسوعي الثقافي، ومركز ساقية الصاوي، كما أُعيد افتتاح مسرح روابط الذي يفخر به العديد من المبدعين الشباب منذ ثورة 2011 لتقديمه مساحة واسعة للتجارب المسرحية الشبابية، وقد أُغلق عام 2019 عندما لم يتمكن الفريق من تجديد عقد إيجاره.
وتوضح الدكتورة أمين أن "أكبر مشكلة في المسرح المستقل تتمثل في التمويل لأننا لا نملك منتجين مسرحيين. إذا ألقيت نظرة على عالم السينما، ستجد العديد من المنتجين المعروفين، وبعضهم يراهن على الفنانين الشباب. ولكن المسرح لا يمتلك تلك الإمكانيات، وتعتبر الدولة المنتج الوحيد للمسرحيات، والممول الحصري للفنانين. لهذا السبب، سيضطر الكثير منهم للعمل في وظائف أخرى لتمويل أعمالهم وعرض إبداعاتهم".
فسحة أمل بعد الثورة
يعد المخرج حسن الجريتلي مثالا بارزا على صمود المسرحيين المستقلين في مصر. في عام 1987، أسس فرقة الورشة، وهي أقدم فرقة مسرحية مستقلة في مصر، وضمت أسماء بارزة مثل عبلة كامل وسيد رجب. كانت الفرقة مهددة بالإغلاق هذا العام بسبب الصعوبات المالية.
ويعتقد المخرج المسرحي محمد جبر، الذي قدم عروضه في الجامعات ومراكز الشباب والمسارح الخاصة على مدار العقدين الماضيين، أن المشهد المسرحي في الوقت الحالي هو الأكثر حيوية منذ فترة طويلة.
وحسب رأيه، فإن ما حدث في مطلع القرن الحالي كان نتاجا لجهود الفرق المسرحية المستقلة في تسعينيات القرن الماضي، بقيادة الكاتبة الراحلة نهاد صليحة. إلا أنه بحلول منتصف العقد الأول من القرن الـ21 تضاءل الدعم المؤسسي للمشهد المستقل، مما أدى إلى انكماشه بشكل كبير حتى اندلاع الثورة في عام 2011.
وتؤكد الدكتورة أمين أن "استغلال المساحات العامة كخشبة مسرح منح الممثلين الحرية التامة في اختيار المسرحيات دون الحاجة للتقيد بنوع أدبي واحد. أعطى ذلك فسحة من الأمل بعودة المسرح المصري إلى أيدي الشباب، لكن الأمل سرعان ما تلاشى وعادت الأمور إلى سابق عهدها"
وتقول ليلى حسني، وهي بطلة إحدى مسرحيات المخرج محمد متولي التي تُعرض حاليا، إن الاهتمام الشعبي بالمسرح زاد بشكل كبير خلال الأعوام القليلة الماضية، وتعزو هذه النهضة إلى مسرحية "1980 وإنت طالع"، التي أخرجها محمد جبر.
عُرضت المسرحية في مسرح الهوسابير من 2012 إلى 2019، وترى ليلى أنها لقيت صدى واسعا لدى المشاهدين. عُرضت المسرحية لأول مرة في يناير/ كانون الثاني 2012، وكانت تتمحور حول فكرة بسيطة وملائمة لفترة ما بعد الثورة، وهي حياة الشباب ومشكلاتهم. في سلسلة من المشاهد الدرامية، تناولت المسرحية حياة جيل الألفية المصري بكل جوانبها، من مشاعر الطموح واليأس، إلى أزمات الثورة ونقص المال والوظائف.
سرعان ما أصبحت المسرحية ظاهرة ثقافية، وكانت تؤدى من 5 إلى 8 مرات أسبوعيا في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، وبلغ عدد المشاهدين في العرض الواحد 700 مشاهد.
وعندما توقف عرضها في 2019، قدّر جبر إجمالي عدد مشاهدي المسرحية بحوالي مليون شخص. وكانت المسرحية قد شهدت بعض التغييرات الملائمة للوضع السياسي بعد تغير النظام عام 2013.
يقول جبر إن "1980 وإنت طالع" كانت مزيجا من روح الشباب والكوميديا والدراما والحداثة بطريقة يسهل على الجيل الجديد فهمها، ويضيف "تخلي الجمهور عن المسرح لفترة طويلة يعود جزئيا إلى أن معظم المسرحيات معقدة جدا للمشاهد العادي، أو مجرد كوميديا دون رسالة هادفة. كلا النوعين يستهدف قطاعات محدودة من المشاهدين".
الجودة أو ملء الفراغ
أظهر نجاح "1980 وإنت طالع" للفنانين الشباب أن المسرح المستقل منفذ حقيقي للنجاح، مما شجعهم على تكوين فرق وتأجير مسارح صغيرة وتقديم عروضهم للجمهور.
على مدار العقد الماضي، انضم لاعبان آخران إلى عالم المسرح المستقل، يتمتعان بالمال والشهرة. أولهما شركة "كايرو شو" الخاصة، التي تضم نجوما مثل يحيى الفخراني ومحمد هنيدي وأحمد عز، والتي استطاعت تقديم عروض في السعودية، وفي مسرح ماركي بالقاهرة الجديدة. والثاني هو "مسرح مصر" الذي يلعب فيه دور البطولة الممثل أشرف عبد الباقي، وقد بُثت مسرحياته عبر قنوات "إم بي سي" (MBC) المملوكة للسعودية.
وتقول الكاتبة إنه رغم أن مسرحيات "كايرو شو" كانت باهظة التكلفة بالنسبة لمعظم الجماهير، ومسرحيات أشرف عبد الباقي لم تكن مضحكة بتاتا، فإنهما لعبتا دورًا مهمًا في بروز عدد من الممثلين الشباب، وإحياء ثقافة مشاهدة المسرحيات
وتؤكد أمين أن هناك حاجة ماسة لأي عرض مسرحي مهما كانت قيمته، لملء الفراغ الذي يجتاح السوق حاليا. في المقابل، يعرب المخرج والكاتب المسرحي مصطفى خليل عن أسفه للوضع الحالي، ويقول "يبدو أن المسرح المصري يحاول باستمرار تكرار كوميديا الستينيات والسبعينيات والثمانينيات"، معتبرا أن تلك الكوميديا كانت ملائمة لوقتها، إلا أنه قد عفى عليها الزمن.
وقد أسّس خليل شركة "كينوما" المسرحية التي اشتهرت بإنتاج عروض مقتبسة من المسرحيات العالمية باللغتين الإنجليزية والعربية، ومن أبرزها مسرحيات صموئيل بيكيت وهارولد بينتر. ومع طاقم ممثلين أغلبهم من خريجي مسرح الجامعة الأميركية بالقاهرة، يعتزّ خليل بما تقدمه شركته من عروض راقية، لكنه على وعي تام بالمشاكل المادية التي يعاني منها المسرح المستقل.
أخرج خليل 8 مسرحيات، لم تنجح منها سوى مسرحية واحدة في تحقيق مبيعات تذاكر كافية لدفع رواتب الممثلين، وهي مسرحية "في انتظار غودو" التي عُرضت عام 2016 في مسرح الفلكي. أما المسرحيات الأخرى، فقد كانت تحقق في أفضل الأحوال مداخيل تعادل ما أُنفق على إنتاجها.
في هذا الشأن، يوضح المخرج محمد متولي "يعتمد مقدار الأموال التي يمكن جنيها على النجاح في تسويق المسرحية. بالنسبة للمخرج وفريق التمثيل، فإن إيجاد جماهير تحضر جميع العروض هو الطريقة الأسهل للربح، لكنني أفضّل المهرجانات حتى لا أتحوّل من مخرج مسرحيات إلى تاجر".