(الجزيرة) في لقائه مع حلقة برنامج "كتاب قرأته/ كتاب ألفته" الذي بثته قناة الجزيرة عام 2009، روى المؤرخ الراحل رحلته مع تخصصه العلمي معتبرا أن التاريخ له وظيفة اجتماعية ثقافية في خدمة الجماعة الإنسانية عامة.
توفي أمس الأحد المؤرخ المصري الكبير قاسم عبده قاسم عن عمر ناهز 79 عاما، الذي عمل أستاذا للتاريخ في جامعات مصرية وكويتية وإسبانية، وألّف العديد من الكتب عن تاريخ مصر وسلاطين المماليك وأوروبا العصور الوسطى والحروب الصليبية والحضارات الهندية والعراقية القديمة.
نال قاسم الإجازة الجامعية في الآداب قسم التاريخ بجامعة القاهرة عام 1967، وحصل بعدها على ماجستير في تاريخ العصور الوسطى، ثم دكتوراه الفلسفة في تاريخ العصور الوسطى عام 1975، ليبدأ رحلته الأكاديمية والعلمية، ويقدم للمكتبة التاريخية العربية مجموعة من أهم المؤلفات عن التاريخ الفكري والسياسي والاجتماعي لمصر المملوكية والأيوبية والعصور الوسطى في أوروبا وبلاد الشام.
التاريخ والإنسان
وفي لقائه مع حلقة برنامج "كتاب قرأته/ كتاب ألفته" الذي بثته قناة الجزيرة عام 2009، روى المؤرخ الراحل رحلته مع تخصصه العلمي، معتبرا أن التاريخ له وظيفة اجتماعية ثقافية في خدمة الجماعة الإنسانية بشكل عام، والتاريخ في رحلته عبر الزمن قرين وملازم للإنسان في هذه الرحلة الطويلة التي لم تنته بعد، يحاول أن يفهم الإنسان وأن يُفهم الإنسان ماهية الإنسان.
وأضاف "لهذا طرأ على بالي أن أحاول تتبع رحلة التاريخ، رحلة تاريخ التاريخ منذ عصر الأسطورة حتى الآن، وكيف قرأه الإنسان؟ أي كيف فسره لصالحه؟ كيف استخدمه في خدمة أغراضه الآنية والمستقبلية؟".
وتابع قاسم "وتفصيل ذلك أن التاريخ يحدث ولا يُكتب، وهو يحدث لأن البشر يصنعون أحداثه ووقائعه عبر مسيرتهم في الكون وتفاعلهم مع الزمان والمكان، والتاريخ على هذا النحو يحدث مرة واحدة. وتبقى كل حادثة تاريخية أو ظاهرة تاريخية أو شخصية تاريخية في محطتها الزمانية وإطارها المكاني بحيث لا يمكن نقلها أو تكرارها أو إعادة إنتاجها بشكل ما. ولا يمكن أن نتصور أن الناس قرروا أن يكتبوا تاريخهم فكتبوه، ومن ثم يحق لنا أن نعيد كتابته! ومن ثم فإن المؤرخين والباحثين يعيدون قراءة ما حدث، أي تفسيره والبحث عن جوانب جديدة في الأحداث التاريخية لم تكتشف من قبل".
تطور الفكر التاريخي العربي
واعتبر قاسم في لقائه مع الجزيرة أن تطوير الفكر التاريخي العربي كان على درجة عالية جدا، لكنه توقف (تجمّد) مع ظروف أحاطت بالحضارة العربية الإسلامية ابتداء من القرن الـ16 الذي شهد سيطرة الدولة العثمانية على العالم العربي، الذي استطاعت أن تحافظ عليه الدولة العثمانية قويا واستطاعت أن تصد الأطماع الأوروبية مدة طويلة جدا على الأقل لمدة 4 قرون، ولكنها لم تستطع أن تفعل شيئا في جسد الثقافة العربية والإسلامية المسجى لأن الأتراك العثمانيين لم يكونوا عربا، وبالتالي كان التوقف، والجمود استمر وكان السمة الأساسية لغاية المحاولات التي بدأت في نهاية القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 لبعث الحضارة أو الثقافة العربية الإسلامية من جديد.
واستدرك "لكنها للأسف تعثرت كثيرا لأنها كانت تقليدا للأوروبيين، حتى إنشاء جامعة القاهرة وقسم التاريخ في جامعة القاهرة كان على النموذج الأوروبي"، وأردف "فجاءت نظرتهم لتقسيم الدراسة التاريخية في جامعة القاهرة وفقا للنظرية الأوروبية وبقيت الفكرة الأوروبية هي الفكرة المرجعية لنا في دراسة التاريخ وفي تقسيم العصور إلى عصور قديمة ووسطى وحديثة، وما زلنا نعاني من مشكلات كثيرة جدا منهجية وعملية بسبب هذه التقسيمات".
وأضاف المؤرخ -الذي شارك في وثائقي الجزيرة الوثائقية "الحروب الصليبية"- لم يكن هؤلاء متآمرين لكن "هذا هو تراثهم وهذه هي رؤيتهم وكان طبيعيا أنهم يطبقونها" وأردف "الحقيقة تقول إن كل الذين أو معظم الذين تعلموا وبنوا الجامعات العربية بعد كده (ذلك) تعلموا في جامعة القاهرة وفي قسم التاريخ بالتحديد، ونقلوا العيوب المرضية من قسم التاريخ إلى جامعة دمشق وإلى جامعة بغداد، وهما من أوائل الجامعات التي ظهرت في الوطن العربي بعد جامعة القاهرة، ولا تزال المشكلة قائمة بشكل أو بآخر"
وقدم قاسم في كتابه "قراءة التاريخ.. تطور الفكر والمنهج" أمثلة عن كيفية استخدام التاريخ لأغراض آنية، مثل القراءة الاستعمارية للتاريخ، والقراءة الصهيونية ومحاولة تزوير التاريخ واختلاق إسرائيل القديمة، وعن مجموعة من الآراء التي مهدت لفكرة العولمة والقطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحاجة الغرب إلى اختراع عدو أخضر، يعني بديلا عن العدو الأحمر الذي سقط، وغيرها من الأمثلة التي تثبت أن قراءة التاريخ في حقيقة الأمر هي قراءة لخدمة الحاضر ولخدمة المستقبل أيضا.
وعن كتابه قال قاسم "كتبته على عدة مراحل. التاريخ يقوم على دعائم ثلاث، الإنسان والزمان والمكان. ولنبدأ بالإنسان، الإنسان هو الفاعل التاريخي سواء أدرك دوره أو وعى به أو لم يدرك هذا ومن دونه يبقى تاريخا طبيعيا مثل تاريخ الأرض الجيولوجيا أو تراكم الطبقات".
وأضاف "الإنسان أيضا صانع التاريخ لكنه أيضا صنيعة التاريخ"، والدعامة الثانية هي الزمن "لا يمكن تصور حادثة تاريخية من غير الزمن، التاريخ لا يمكن أن يقع خارج إطار الزمن".
المجتمع المدني والحضارة
وفي لقاء سابق لقاسم مع الجزيرة نت، قال إنه لتحقيق الإصلاح في العالم العربي يجب أن يوسع نطاق العمل الأهلي ليحل بديلا عن الحكومات في المجالات الخدمية، وأن تنشط مؤسسات المجتمع المدني في حماية الجماهير لأن الحرية -حسب رأيه- هي روشتة (وصفة علاجية) التاريخ للخروج من الأزمة وتحقيق النهضة.
وأضاف أن الحضارة الإسلامية قدمت تجربة نموذجية وناجحة لإدارة شؤون الشعوب من خلال العمل الأهلي، إذ قام التعليم على الأوقاف الخيرية التي كان يحبسها أهل الخير عليه وينفقون ريعها في خدمته وتوجيه حركته وسياسته.
واستشهد بأن جامعة القاهرة -وهي أقدم مؤسسة تعليمية في العالم العربي- قامت على العمل الخيري، وفي مجال الصحة قامت أكبر المستشفيات وأعرقها في بلد مثل مصر كذلك على العمل الأهلي، وقال إن الغرب يطبق الآن ما يشبه هذا النظام.
وأضاف أن نقابات الطوائف التي كانت منتشرة في جميع العصور الإسلامية قدمت مثالا عظيما لمؤسسات المجتمع المدني، حيث كانت تحمي نقابات الصناع والتجار وغيرها من ينتسبون إليها من بطش الحكام وهيمنة السلطات، إضافة إلى رعاية أصول المهن وتربية الحرفيين الجدد، وهي الصورة النموذجية لما يمكن أن نطمح إليه في عمل النقابات المهنية في عصرنا.
وأوضح أن امتلاك الحكومات لكل شيء ينحرف بأهداف المؤسسات، مشيرا إلى أن التعليم عندما يكون مسؤولية الحكومات وحدها يتجه لما يهواه الحاكم لا لما ينفع الناس، وذكر أن التاريخ في المدارس يكتب حسب رغبة الحكام ويعرض للطلاب بطريقة مملة ومنفرة.