يواصل الكاتب السوري هنا متابعته للكتب التي حاولت التأريخ لبعض جوانب الحياة في سوريا بعيدا عن مدونات التاريخ الرسمي. فيقدم هنا هذا الكتاب الذي كتبه حائك حلبي في القرن السادس عشر كنوع من اليوميات أو الملاحظات التي تكشف لنا عن الكثير من نواحي الحياة الاجتماعية في ذلك الوقت.

حلب في نهاية القرن السادس عشر

في كتاب « أيام كمال الدين الحائك»

محمد تركي الربيعو

 

يُلاحظ في السنوات العشر الأخيرة، أنّ قسما من المؤرخين والباحثين في تاريخ الأفكار داخل المدن العربية المملوكية والعثمانية، أبدوا اهتماما واسعاً بمتابعة كتابات العامة. فوفقا لهؤلاء المؤرخين، حاول الناس العاديون، من حلاقين ومزارعين وتجار، في هذه الفترة التعبير عن واقعهم، إما من خلال الاهتمام بالشعر، أو لاحقا عبر كتابة اليوميات، التي ظهرت بكثافة في القرن الثامن عشر. من آخر ما صدر في عالمنا العربي في هذا الشأن، كتاب «أيام كمال الدين الحائك» الصادر عن المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، وهو نص يعود بالأساس لنهاية القرن السادس عشر، كتبه تاجر أقمشة وحائك ومتصوف من أبناء مدينة حلب بين الفترة (997ـ 998هـ) / (1589 ـ 1590م) ودوّن فيه بعض الملاحظات واليوميات، وما شاهده أو سمعه في تلك الفترة من حكايا تتعلق بالمدينة وأهلها.

وقد عثر على هذا النص في مكتبة غوتا الألمانية، إذ اشتراه أو نقله المستشرق الألماني أولريخ ياسبر زيتسن، الذي ربطته علاقة بأحد المتصوفة في حلب خلال بدايات القرن التاسع عشر (1803). وقد حقق المخطوطة للعربية مؤرخان؛ الأول هو بوريس ليبرنس مؤرخ ألماني وصاحب أطروحة تناولت ثقافة الكتّاب في سوريا العثمانية والخلفية الاجتماعية للقراء، أما الأخرى فهي كرستينا ريتشاردسون مؤرخة في جامعة مشيغان وصاحبة كتاب «الاختلاف والقابلية في إسلام العصر الوسيط» وقد خصّصا لهذا التحقيق مقدمة تتجاوز الـ80 صفحة (كتبت بالإنكليزية) تناولا فيها البيئة التي ولد فيها هذا النص، وأسلوب المؤلف في كتابة يومياته أو ملاحظاته بالأحرى.

أول ما يسجل على هذا النص، أنّ الورقات الأولى منه تبدو مقطوعة، أو مكمّلة لورقات أخرى، يبدو أنها اختفت، ما قد يعني أنه جزء من يوميات أوسع لم يُعثر عليها بعد. كما يلاحظ المحققان أنّ أسلوب الملاحظات واليوميات التي سجلها هذا الحائك، تبدو أحيانا غير متصلة ببعضها، وتظهر بخطوط متعددة، وقد يُطرح تساؤل حول مشاركة أياد مختلفة في كتابتها من خلال إضافة بعض الشروحات.

في النص، لا ينقل مؤرخ العامة فقط ما شاهده، بل يعتمد أحيانا على ما سمعه من بعض التجار القادمين من مصر، أو أضنة وعنتاب، كما أنه لا يدون بالضرورة كل يوم، بل تمر أسابيع دون أن يكتب شيئا.

يظهر الحائك، في هذا النص، شخصية قريبة أحيانا من بعض القائمين على إدارة الأوضاع في حلب مثل الدفتردار، كما يبدي معرفة واسعة بالشعر، وثقافة لا بأس بها، فهو كما يذكر، قرأ عددا من الكتب للمقريزي وابن خلكان وتاريخ ابن كثير، مع ذلك، فإنه يصرّ في يومياته على تلوين بعض تفاصيلها بلغة عامية، كما يكشف عن معرفة جيدة باللغة العثمانية، وقد يعود هذا لعمله في التجارة، ورغبته في توسيعها، وقد يعود أيضا، كما يرى المحققان، لكون حلب قد بدت مقارنة بدمشق مثلاً أكثر تأثرا بالثقافة العثمانية، التي استخدمت اللغة التركية والفارسية، أو لعل هذه المعرفة ترجع إلى وجود تقاليد قديمة بتعلم هاتين اللغتين، وهذا ما يراه مثلاً محسن جاسم الموسوي في كتابه «جمهورية الآداب» إذ يلاحظ أنّ المماليك كانوا يشجعون على استخدام اللغة التركية والفارسية، إلى جانب اللغة العربية.

وبغض النظر عن أسباب معرفته بهذه اللغة، إلا أنّ اعتماده العامية أحيانا، بالإضافة إلى عمله في مهنة أخرى غير مهنة التدريس أو الكتابة (التعليم) وأسلوبه الذي يقوم على كتابة أشياء أقرب ما تكون لليوميات، قد يذكرنا بالطرح الذي قدمته دانا السجدي في كتابها «حلاق دمشق» الذي تناولت فيه حياة البدير الحلاق في دمشق ودور العامة في الكتابة خلال القرن الثامن عشر، إذ ترى السجدي أنّ كتابة التاريخ المعاصر استغرق ألف عام حتى تحول إلى النقطة التي أصبح فيها جاهزاً للانتقال بسهولة للعامة، وقد وجدت أنّ هذه اللحظة جرت في القرن الثامن عشر، بينما قد تكشف مخطوطة الحائك عن تاريخ أسبق يعود للقرن السادس عشر، وهو ما يطرح تساؤلاً حول متى، ولماذا، وفي أي ظروف شعر الحرفيون بالرغبة في المشاركة في عالم التأليف، ولعل في كتاب الموسوي السابق ما يحمل بعض الإجابة أيضا، إذ يرى أنّ بدايات ظهور الحرفيين والعامة في الكتابة والتدوين كانت في فترة المماليك مع تحول المركز الشعري بعيدا عن البلاط المملوكي، الذي لا يملك إحساسا حقيقيا بالشعر ليعتني به.

ولذلك توجه الخطاب نحو الشارع وأماكنه العامة، ما عنى ظهور أصحاب حرف فاعلين في الأدب، وممارسين للمهن في الوقت ذاته، ونرى بعض آثاره لدى الحائك، الذي يبدي اهتماما واسعاً بالشعر في نصه. مع ذلك، يرى المحققان أنّ الأسلوب القائم على تدوين الملاحظات والفوائد والأشعار، هو أسلوب ازدهر في وقت مبكر من القرن الرابع عشر، لدى العلماء والتجار الإيطاليين. وربما ما يميز الطابع العامي في النص، أنه لا يتوجه للعلماء أو المؤرخين، وإنما للشارع وأهله، وقد يعود ذلك إلى كون حركة تأليف العامة قد ارتبطت بنمو الأسواق، وظهور حرفيين وتجار وصناع وصوفيين، بدأوا يشعرون بالراحة والرغبة في التعبير عن وجودهم ودورهم، من خلال ثقافة مكتوبة تمزج بين الشعبي (الزجل الذي يكثر في النص) وكتابة عن الأحداث لا تركز على الماضي، بل على هموم المستمع (العامة) الذي يعيش في الحاضر، وهو ما نراه من خلال تركيز الحائك في كلامه على الطاعون، وأسعار العملات، والخبز، وغيرها من القضايا التي تتعلق بالسوق وأحوال الناس اليومية.

لكن ما هي حلب الحائك؟
في النص، لا ينقل مؤرخ العامة فقط ما شاهده، بل يعتمد أحيانا على ما سمعه من بعض التجار القادمين من مصر، أو أضنة وعنتاب، كما أنه لا يدون بالضرورة كل يوم، بل تمر أسابيع دون أن يكتب شيئا. وقد شهدت المدينة خلال فترة كتابته لهذه الملاحظات تطورات حاسمة، سواء على صعيد التغيرات الإدارية فيها، أو على مستوى الامبراطورية ككل، إذ كانت الحرب ما تزال مستعرة مع الصفويين، ما أدى إلى استنزاف خزينة الدولة، ويبدو أنّ هذا الأمر انعكس على الأحوال العامة، سواء من خلال ارتفاع أسعار الخبز (الذي لم يظفر به أحيانا إلا كل سعيد) أو ما يتعلق بتربية الخيول، فقبل الحرب، كما يذكر، كان الناس يعتنون بتربية الخيول العربية والبغال والأكداش، وكان «المتفرجون يجلسون نهار الثلاثاء قدام بابا بيروم خارج اق يول صفوفا، ويمرون الغواة أولا الركاب للخيل العربية وبعدهم البغال الزرزورية وبعدهم الأكاديشية» «فلما كثرت الاولاقات في السخر (السخرة) بحيث أنهم يرمون الإنسان عن دابته ويسحبون في وسط المدينة ونغصوا عيشة الناس فقلّ من يربي حيوانا للركوب وغليت البهائم.»

ويبدو أنّ هذه المصادرة كانت من باب إرسالها للحرب، وهنا يسجل ملاحظة تبدو غريبة بعض الشيء، إذ يؤكد أنه رغم هذه الظروف فإنّ المسيحيين واليهود كانوا يركبون خيلاً خلال هذه الفترة، وهي شهادة تبدو مخالفة لما دونه كاتب مجهول عن حملة إبراهيم باشا على سوريا 1832 وكيف أنّ الأخير هو أول من سمح للنصارى بركوب الخيل، وارتداء لباس مشابه للباس المسلمين. مع ذلك يبدو أنّ هذا المشهد أزعج الحائك، ولذلك نراه يبرر هذا الموقف من باب أخلاقي أو الإيحاء بأنهم بلا شرف، فالنصارى واليهود يسمحون لنسائهم السير في الشوارع «يمشون كشفا». ورغم هذا الموقف الازدرائي، نراه في مواقف أخرى يؤكد أنّ علاقته ببعض التجار المسيحيين كانت تسير على خير ما يرام.

ومما يذكره، أنه حضر فرح ولد الخواجة (سفر المسيحي) كما يؤكد بهذه المناسبة أنّه لا خلاف بين المسيحيين والمسلمين إلا كلمة الشهادة، وهنا يذهب المحققان إلى أن اسم سفر، عادة ما كان متداولاً بين الأرمن، ويبدو أنّ هذه الفترة، عرفت وجود عدد من التجار الأرمن، ممن تاجروا دورا على طول الحدود بين العثمانيين والصفويين، ولذلك كانت لهم مكانة اجتماعية كبيرة بين الحلبيين، وهذا ما تؤكده عبارات الحائك في وصفه لعرس ابن التاجر، إذ يقول إنه قد دفع «ستين سلطانيا وجوخة لاثني عشر نفرا منهم الطبل والزامر والبورزان (الذي ينفخ في النفير) فقلت: لعمري هذا المبلغ يزوج إنسانا ويقيم عرسا ويفضل منه رأس مال للعريس» كما يذكر أنه في اليوم التالي اصطف العشرات من التجار وأعيان المدينة لتقديم الهدايا.

وهنا نرى كيف أنّ اللباس يصبح أداة من أدوات الحفاظ على التمايزات الاجتماعية، كما يبدو أنّ تدوين هذه الحادثة لم يجرِ من باب التسجيل وحسب، بل يعكس قلقاً لدى ابن السوق (الحائك) على تجارته في ظل تناقص الطلب على بعض البضائع بسبب هذه القرارات، مما يجعل نصه يحمل رائحة العامة وأهل وهموم المدينة ويومياتها في ذاك الزمن.

وعلى صعيد الأوضاع البيئية، يصف كمال الدين أهوال فصلي شتاء قاسيين غير مسبوقين متتاليين، ما قد يجعله أحد الشهود الأوائل لما يعتبره بعض العلماء «العصر الجليدي الصغير» الذي أضرّ بالزراعة والاقتصاد العثماني، كما أنّ ذكره لوقوعه في 1589-1590 قد يعدّ تعديلاً لما ذهب إليه بعض المؤرخين من أنّ هذا العصر، بدأ سنة 1591. ويُظهر اهتماماً بالجوانب البيئية والمتعلقة بحياة العامة، إذ يكتب تحت بند عبارة فائدة «إلى أنّ البق (البرغش) الذي يعتري الدفوف ويأوي في الحصر هو الذي تسميه العوام فس فس» ويقترح في مكان آخر أنه لطرد البراغيث يرشّ ماء الزيتون المدقوق في مكان البراغيث.

طوبوغرافية حلب:
نعثر في جولات الحائك على بعض التفاصيل الصغيرة، لكن المهمة حول بعض الأسواق والأحياء، ففي سياق ترجمته لأحد البقالين (محمد بن عفان) يأتي على ذكر مكان دكانه في حي (الدلالين) «موحش شمالا مطلة على البرية» وهنا نلاحظ أنه يخصّص مكانا للكتابة عن تراجم العامة خلافا لما هو معتاد من الكتابة عن تراجم العلماء، كما يأتي على ذكر الحي، وهو، وفقاً للمحققين، كان من أقل المناطق شهرة في المدينة، ويتكون من مبان متهالكة وغير مستخدمة، وسكانه في الغالب مهاجرون من الريف، كما يأتي على ذكر سوق الذراع، ويقال له سوق الطويل، ويذكر أيضا أنه سمي بسوق السرميين، وقد وجد ذلك في حجة لدكان بسوق الذراع «توارث الأبناء عن الآباء عن الجدود إلى الزمن الذي قرأتها فيه والحجة تاريخا».

كما يأتي على ذكر جامع الحيات في حلب، الذي كان يقال له الناصرية وقيل إنه كان كنيسا لليهود قبل دخول تيمورلنك، وهذا ما سمعه من يهودي أراه حجرا مكتوب عليه بالعبرانية في الجهة الشرقية «ما يلي خشب الإيوان وقد رأيتها». كما عرفت الأسواق في هذه الفترة ظهور تجار جدد من الأكراد والأتراك والهنود أيضا، ولعل هذا ما ساهم في تطور وظهور ثقافات أخرى للعامة في المدينة، مثل الهنود الذي يدقون بطنبور ودف «وغنائهم لا يعلم وزنه ولا يفهم معناه». ويبدو أن هذه اللغات قد ساهمت في تطور وتنوع ثقافة المدينة، ما فتح الباب لمراجعة الثقافة السائدة، لصالح تكوين جمهورية الآداب الحلبية الجديدة، التي يمثلها هذا الحائك ورفاقه من مثقفي الشارع.

عن الكبة والنساء:
ومن الأشياء الطريفة التي نعثر عليها ما يتعلق بطريقة إعداد الكبة المقلية: «أن تقرصها أصغر من وصط الكف وتقبضها مثل قبة الكنس قبض عند أكلها لذة عظيمة». وعلى مستوى الطاعون، يأتي على ذكر دور القرآن والأدعية النبوية كوسائل للحماية من هذا المرض، ويسجّل لنا أسماء بعض ممن توفوا بسبب هذا المرض، وأغلبهم من شيوخ الصوفية مثل عبد السلام الورحي من خلفاء السادة القادرية وسيدي صلاح الدين بن سيد عثماني العلبي، ما يدل على مدى قربه من هذه الجماعة. أما على صعيد النساء، فيبدو موقفه سلبيا، إذ يكرر عبارات مثل «هموم الناس في الدنيا كثير .. وأكثر ما تكون من النساء .. فلا تأمن لأنثى قط يوما .. ولو قالت نزلت من السماء» ولعل هذه العبارات قد تدل على أنه كان متزوجاً، خلافا لما يذهب إليه المحققان من غياب ما يدل على ذلك.

ومن الأمور التي يسجلها، والتي تكشف عن وجود ثقافة، ومثقفين آخرين في المدينة يختلفون في توجهاتهم واهتماماتهم أحيانا عن ثقافة النخبة، ما يذكره حول وفاة «الأديب اللبيب رأس طبقة أدباء حلب الأديب يحيى توفي بطرابلس الشام وكان من فرسان ميدان الأدب بحلب». وقد عمل كما يبدو في مهنة العطر، وهو ما يوحي أنّ أديبنا ربما كان من فئة الحرفيين ذاتها، الذين حاولوا تقديم لغة الشارع، وفق تعبير الموسوي، لكن يبدو أنه كان معروفا للعامة ولكتابها، بينما لا نجد أي ذكر له في كتب النخبة العثمانية لتلك الفترة.

لباس أهل حلب:
اهتمام الحائك بأحوال المدينة، لم ينسه التطرق لما كان يحدث في المركز العثماني، ربما لقرب حلب منه مقارنة بباقي المدن العربية، ومما يذكره أنّ حريقا نشب في إسطنبول في عام 997 /1589 أدى لاحتراق 27 حماما و40000 مبنى بين خان وحمام ومنزل! ولعل من الأشياء المهمة التي يذكرها ما يتعلق بلباس أهل المدينة، إذ تلاحظ ثريا فاروقي، أنه قبل عام 1900 لا يوجد سوى القليل من الرسائل واليوميات التي تتحدث عن اللباس، وغالباً ما اقتُبست المعلومات عن هذا الموضوع من السجلات الرسمية، بينما يسجل لنا الحائك بعض التفاصيل حول قوانين العثمانيين في اللباس، إذ يذكر أنه في العاشر من رجب من سنة 997/1589 «نودي على النصارى واليهود أنّ لا أحدا يلبس جوخاً كالدولمة (أردية مفتوحة). والقبع المخمل ومداسات السباهية وما يكون كسوة العسكرية.» وهنا نرى كيف أنّ اللباس يصبح أداة من أدوات الحفاظ على التمايزات الاجتماعية، كما يبدو أنّ تدوين هذه الحادثة لم يجرِ من باب التسجيل وحسب، بل يعكس قلقاً لدى ابن السوق (الحائك) على تجارته في ظل تناقص الطلب على بعض البضائع بسبب هذه القرارات، مما يجعل نصه يحمل رائحة العامة وأهل وهموم المدينة ويومياتها في ذاك الزمن.

 

عن (القدس العربي)