صباح يوم 28.2.1975 اقتاد جندُ الاحتلال الكاتبَ محمود شقير من سجن "بيت ليد" إلى الحدود اللبنانية ليعيشَ في المنافى بعيدا عن وطنه وقُدْسه، ابتعد عن الجند وهو يُردّدُ بتَحدّ وإصْرار : سأعودُ إلى وطني مهما باعَدَ بيني وبينه العُسْفُ. وفي أواخر نيسان عام 1993 تناقلت الصحافة ووكالات الأنباء خبرَ عودته مع العديد من المَنْفيين إلى الوطن جرّاء اتّفاق أوسلو.
يقول محمود شقير:
- "بدا الأمر كما لو أنّه إشاعة تبحث عَمّن يُصدّقها. لكنّه لم يلبت أنْ تأكّد واكتسب صفة اليقين. أخذت أسماؤنا تظهر على صفحات الجرائد، وتتردّد في نشرات الأخبار. أخيرا، ها نحن نعودُ إلى الوطن. ها أنذا أعود بعد غياب قَسْريّ دام ثماني عشرة سنة؟ لم أفقد الأملَ في العودة لحظة واحدة" (محمود شقير. ظل آخر للمدينة ص7) وأذكرُ كيف استثارني الخبرُ يومها، وتملّكَتني الفرحةُ يوم عادوا في الثلاثين من نيسان، وأسرعتُ للتّرحاب بالأصدقاء العائدين بكلمات نشرتها لي جريدة "كل العرب" يوم 7.5.1993 ومنها:
«أنْ تعودوا، هذا هو الفرحُ الحقيقي.. فيوم كان ورُحِّلْتُم عن الأهل والوطن كان يومُ الحزن والغضب. تمنيّتُ لو أكونُ قادرا على احتضان يد كلّ واحد منكم وأقول له بإصْرار التّحدّي: إلى اللقاء.
ويوم عُدْتم تمنيّتُ لو أكونُ في استقبالكم لأحضنَ كلّ واحد منكم مُرحّبا بالقُبل، ويا هلا. عُدّتم أيّها الأحبّاء .. يا هلا..
وليد القمحاوي.. أيّها الصّديق العزيز، عن أيّ مشاعر أبوح لك.
محمود شقير.. يا رفيق الدّرب والكلمة.
خليل السّواحري .. يا صديقي.
يا كلّ العائدين .. بأيّ كلمات أستقبلكم .. عن أيّ مَشاعر أحدّثكم.. يا كلّ الذين أعزّكم .. يا أيّها الأحبّاء .. يا هلا». (نبيه القاسم. ذلك الزمن الجميل ص268-269)
الثماني عشرة سنة التي أُبْعِدَ فيها عن القدس والوطن تركتْ أثرها على محمود شقير وزادته شوقا وتلهّفا للقاء الأهل والقدس التي أحبّ. وقد سجّل تفاصيل الأيام والأسابيع والأشهر التي عاشها بعد عودته في كتابه الجميل "ظلّ آخر للمدينة"(دار القدس للنشر والتوزيع القدس 1998). ثم كان كتابه "مدن فاتنة وهواء طائش" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2005) دوّن فيه وقائع رحلاته إلى المدن العديدة للمشاركة في مؤتمرات أو ندوات أو لقاءات مختلفة واللقاء بالعديد من أدباء ومثقفي العالم. ويأتي كتابه "تلك الأمكنة"(دار نوفل بيروت 2020) ليكون وثيقة أخرى في تسجيل سيرته وسجلّ رحلاته خارج الوطن وداخله.
في تمهيده للكتاب يقول محمود:
-"هنا في "تلك الأمكنة" تفاصيل أخرى من سيرتي ويوميّاتي ومن أسفاري داخل فلسطين وخارجها، وفيه وصف للأمكنة التي عشتُ فيها وعاشت فيّ، في العَشريّة الأولى من القرن الأوّل للألفيّة الثالثة، وما قبل العَشْريّة بكثير، وما بعد العشريّة إلى عام 2015"(ص11).
ويُوضّح للقارئ: "هنا في هذا الكتاب تجربة في الحياة أُدوّنها لا للتّفاخر او للمُباهاة، ولا لادّعاء بطولات أو للوقوع في مبالغات، بل للردّ على مَنْ ينفون وجودَنا ويُنكرون علينا حقّنا في وطننا، لكي يُبرّروا استيلاءَهم عليه استنادا إلى الخرافة والأكاذيب المُسنَدة بقوّة الغزو والعدوان." وذلك لإيمانه "أنّه جَرّاء ذلك، يُصبح لخَبْطة القَدم على أديم الأرض دلالة، ولأسماء المدن والقرى والشوارع والمقاهي والمطاعم والأشجار دلالات، وللأثواب المُطرّزة بألوان العَلم إشارة، وللموسيقى والرّقص والغناء في الأماكن العامّة إشارات".(ص11)
كما في "مدن فاتنة وهواء طائش" هكذا في "تلك الأمكنة" يُسجّل محمود شقير يوميّاته، تفاصيل الدقائق والمشاعر والأسماء والأماكن. يقول محمود شقير:
- "العمر الذي لا يعدو كونه ومضة أو إغماضة عين وانتباهاتها، أو ليلة على رأي شوقي، أتأمّل هذه الرحلة في الحياة وأواصل كتابة جوانب لم أكتبها من قبل من سيرتي، اعتمادا على الذّاكرة وعلى اليوميّات التي وثّقْتُ فيها رحلاتي إلى الخارج، وبعض تفاصيل حياتي في الوطن. خلال كلّ تلك السّنوات، عشتُ الحزنَ والقلق وتَقَطّع الجذور مثلما عشتُ الفرح والتّشبّث بأغصان الحياة. وكنتُ كلّما خلوتُ إلى نفسي أعودُ إلى تأمّل رحلتي في الحياة. رحلة انجبلتْ منذ الولادة بالهمّ الفلسطيني الذي ما زال يُلاحقني حتى الآن. فحين بلغتُ الخامسة من العمر سمعتُ صوتَ انفجار قويّ في أحد أحياء القدس، ومنذ تلك اللحظة لم يتوقّف صوتُ الانفجارات وإطلاق الرّصاص وتحليقُ الطائرت الحربيّة إلّا على فترات." (ص13-14)
مراحل العمر
يبدأ محمود شقير كتابه ببعض التّفاصيل عن طفولته وفتوتّه ودراسته وعمله وحياته الأسريّة وزواجه وانتظامه في الحزب الشيوعي حتى احتلال الجيش الإسرائيلي للضفة والقدس في حزيران 1967، واعتقاله العديد من المرّات، ثم نَفْيه إلى لبنان يوم 28/2/1975 ليبقى بعيدا عن الوطن والقدس ثماني عشرة سنة. يختصر محمود شقير حديثه عن فترة نَفيه خارج الوطن حيث قضى أشهرا منها في بيروت مُحرّرا في مجلة "فلسطين الثورة"، وفي عمان إحدى عشرة سنة وفي براغ ثلاث سنوات وبعدها ثلاث سنوات في عمان ومن ثم العودة للوطن.
عن السنوات الأولى لعودته للوطن يُحدّثنا عن همومه العائلية وما يؤلمه من صَلَف المحتل، وحالة تغيّر المجتمع وعدم التّمساك الاجتماعي وما يجري من فوضى واقتتال. وساءه ما وصلت إليه الحالة الاجتماعيّة قُبَيْل الانتفاضة الثانية "كنتُ أفكر في انحطاط الحالة الاجتماعية هنا في الحيّ الذي أقيمُ فيه وفي غيره من الأحياء. ثمّة تباغض وأحقاد صغيرة ونميمة وشجارات لأتفه الأسباب. الفكر التنويري لم يعد يفعل فعله. انتعشت الانتماءات العائلية على حساب الانتماء الفكري والسياسي" (ص51). ورغم تضايقه من تَغَيّر مَفاهيم الأجيال الشابة إلّا أنّ اعتزازه بالتّماسك الوطني في مواجهة العدو الخارجي ومقاومته كان العزاء الكبير له.
وتحدّث عن عمله في جريدة "الرأي" ثم إصداراته المختلفة في القصة والسّيرة. وطوال السّنوات التي خصّها في كتابه ظلّ محافظا على مشاركته في الندوات الأدبية والفكرية العديدة، واللقاء بالأصدقاء والمعارف والرفاق. كما يخبرنا عن رفضه اقتراح الحزب الشيوعي الفلسطيني ترشيحه لمَنْصب وزير الثقافة. وأخذنا معه في رحلاته إلى العديد من العواصم في العالم للمشاركة في مؤتمرات واجتماعات وندوات يعود منها كل مرّة وهو أكثر إيمانا بمستقبل شعبه وتحرّره.
مركزية العائلة وخاصّة الوالدين والأحفاد
حبّ محمود شقير لكل فرد من أفرد الأسرة والعشيرة الكبيرة خاصيّة لا يُنافسُه أحد عليها. فقد ظهر هذا الحبّ في كلّ كتاباته، وقد خَصّص القسمَ الأكثر منها لتأريخ حياة العدد الكبير منهم ابتداء من شيخ القبيلة الأول حتى آخر حفيد له. وإذا راجعنا ثلاثيّته الرائعة "فرس العائلة" و "مديح لنساء العائلة" و"ظلال العائلة" لغَمرنا هذا الحبّ الذي يفيض به محمود نحو أهله وعشيرته برُقيّ وإنسانيّة واعتزاز. "حين عدتُ إلى البلاد لم أنقطع عن الوالد والوالدة. كنتُ أزورهما مرّتين أو ثلاث في الأسبوع. ولمّا ساءت صحّة الوالد صرتُ أتردّد عليهما كلّ ليلة، وأمكث عندهما في بعض الليالي الليلَ كلّه من دون نوم".(ص57). وعن والدته يقول "لم أنقطع عن زيارة الوالدة. كنتُ مثابرا على الذّهاب إلى بيتها في الأماسي، أتسامر معها ساعة أو أكثر، وهي تُمارس هوايتها في الحكي، وتُشكّل أخبار الجيران والجارات مادّة حكيها." (ص59) ويقول "لا بيت في العالم يعدلُ بيتي في الوطن. في هذا البيت أكتبُ وأقرأ وأعيش مع الكتب ومع الزوجة والأبناء والحفيدات والأحفاد." (ص62)
ويُحدثنا عن نزهة عائلية قام بها مع بعض أفراد أسرته من الأبناء والأحفاد إلى أريحا: "ذهبنا، أنا والعائلة، إلى القرية السياحيّة في أربع سيّارات، سبحنا في بركة هناك، وكان الطقسُ حارّا جدا. أمضيتُ في البركة وقتا غير قليل، كذلك سبح الجميع. ووافقتُ على الدخول في سباق مع الحفيدة رنين ابنة التسع سنوات. وقف جميعُ أفراد الأسرة يَرقبون السّباق. انطلقنا أنا وحفيدتي نسبح من طرف البركة إلى طرفها الآخر، وكنتُ أبذل مجهودا كبيرا كي أجاريها. كانت حفيدتي تنسابُ في الماء حينا ، وتشبُّ حينا آخر مثل سمكة. أخيرا سبقتني وفازت في السباق، صفّق الجميع لها بابتهاج."(ص121) محمود شقير أهدى كتابه إلى كلّ أحفاده وحفيداته وقد اهتم أن يسمّي كلّ واحد باسمه ويخصّه ببعض الكلمات الحلوة مبرزا جوانب التميّز فيه. وكأنّي به يريد أن يؤكّد لكل واحد، وخاصّة للآخر الغريب: هؤلاء هم أحفادي وحفيداتي، مع رفاقهم ورفيقاتهم، الذين سيُتابعون المَسيرة ويُحقّقون ما عجزنا عنه نحن الآباء والأجداد.
أنبل ثلاث ظواهر في حياة محمود شقير
يقول محمود شقير معتزّا "إنّ أنبل ثلاث ظواهر في حياتي هي:
1-الكتابة: وقد بدأتُها وأنا في الصفوف الثانويّة في المدرسة، كتبتُ خواطر وقصصا ومقالات. ولم أتمكّن من نشر قصّتي الأولى إلّا في عام 1962 في أحد أعداد مجلة "الأفق الجديد" المقدسيّة وكان عمري آنذاك إحدى وعشرين سنة.
2-التّعليم: عُيّنتُ مُدرّسا عام 1959 في مدرسة قرية خربثا بني حارث، ثم نُقلت إلى المدرسة الهاشميّة الثانوية في البيرة. ثم تنقلت بين مدارس عدة في الضفة الغربية والأردن. كانت السنوات التي درّستُ فيها على امتداد سبع وعشرين سنة من أجمل سنوات عمري. درّستُ آلاف الطلبة وما زلتُ أذكر أسماء كثيرين منهم، وخاصّة أولئك الذين تفوّقوا في ميادين متنوّعة وأصبحوا أعلاما بارزين. ومن بين طلابي مَن تأثّروا بأفكاري وصاروا أعضاء في الحزب الشيوعي.
3- الانتماء إلى فكر اليسار: لم أنتسب للحزب الشيوعي الفلسطيني، (فيما بعد سُمّي بحزب الشعب الفلسطيني) إلّا بعد سنتين من الحوار مع النّاشط الحزبي المثقّف محمد البطراوي سنة 1965. كنتُ قبل ذلك مُعاديا للأفكار التي يُمثلها هذا الحزب وخاصّة ما يتعلّقُ منها بالدين وبالموقف من القضيّة الفلسطينيّة والصّلح مع إسرائيل. ثمّ اتّضح لي أنّ الحزب لا يُعادي الدين، وأنّ جملة ماركس الشّهيرة "الدّين أفيون الشعوب"، التي استغلّتها المخابرات المركزيّة الأمريكيّة وكلّ أجهزة الظلام في العالم أسوأ استغلال، انّما نُزعَت من سياقها الذي يُفيد بأنّ ماركس كان يرى أنّ قوى الاقطاع والبرجوازيّة تُخدّر وعيَ الناس البسطاء عبر العقيدة الدينيّة، ومن ثمّ تُوجّه النّصح لهم بعدم التّعلّق بالدنيا، والانتباه إلى نعيم الآخرة، لكي يظلّوا مُستَغلّين مُستَلبين مهضومي الحقوق، مع إقراري بأنّ فلسفة ماركس هي فلسفة ماديّة في مقابل فلسفة هيغل المثاليّة.
وفيما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة، فقد كان الحزبُ يدعو إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة بحقّ العودة للاجئين الفلسطينيين وحلّ القضيّة الفلسطينيّة حلّا عادلا. وللحقيقة، ربّما شابت موقف الشيوعيين بلبلة حين رفضت عصبة التحرّر الوطنيّ قرارَ التّقسيم في بداية الأمر، ثم عادت ووافقت على القرار، على اعتبار أنّه كان الحلّ الممكن الأقلّ سوءًا آنذاك. وسُرعان ما انخرطَ محمود شقير في العمل الحزبيّ، وتدّرجَ في المراتبِ الحزبيّة وأصبحَ عضواً في اللجنةِ المركزيّة للحزب، وممثلاً لهُ في العديدِ من المؤتمراتِ التي يَعقدُها الحزبُ حولَ العالم ". (ص124-126).
لكن محمود شقير لم يمتنع عن الانتقاد والاعتراف بالأخطاء التي شهدها النظام الاشتراكي، وأدّت إلى زَعْزعة أنظمة الحكم، ومن ثمّ انهيارها في معظم دول المعسكر الاشتراكي وفي مقدّمتها "الاتحاد السوفييتي". تفتّحت عيناي على أخطاء تجربة البناء "الاشتراكي"، فأدركتُ أهميّة النّظر بحسٍّ نَقدي إلى كلّ شيء، بما في ذلك الأفكار التي نؤمن بها ونضعُها في مرتبةٍ سامية من مراتب اهتماماتنا، غير أنّ ذلك جاء في وقتٍ متأخّر" (ص70)
وتظلّ الأمكنة هي البطل وتظلّ القدس العروس الأثيرة
عَشقَ محمود شقير الطبيعة من صغره، يقول: "أثارت الطبيعة إعجابي ودهشتي بما فيها من جبال وأودية وحقول مزروعة. أمشي ساعة قبل الغروب فوق سطح بيتي وأظلّ هناك إلى أنْ تغيبَ الشمس وتبدأ العتمة بالانتشار على الجبال والسهول والبيوت والأشجار، على سور القدس القديمة وبيوتها"(ص15/130).
وكما في كلّ كتاباته، هكذا في "تلك الأمكنة"، تظلّ للأمكنة مركزيّتها وحنانُها وشدّها وألقُها وسحرُها، يشعر باحتضانها له والرّفق به والأمان عندها، فأينما حلّ يُسرع ليسجّل اسمَ البلدة والمكان والفندق ورقم الغرفة واسم الشارع والمطعم والناس الذين التقاهم، وكثيرا ما كان يتجوّل في الشوارع ويُحدّدُ الوقت الذي استغرقه في المشي أربعين دقيقة على الغالب. وكثيرا ما تستوقفه مشاهدُ الطبيعة الجميلة فيُطيل النّظر والتّأمل. لكن ما أريدُ التّنبيه إليه أنّ محمود شقير رغم استدعائه للأمكنة واستحضارها بالعودة إليها مع مَن كان معه، وبَعْث الحياة فيها، إلّا أنّه حرص على استحضار الزمان كذلك، فكان يُحدّدُ الوقت بالساعة واليوم والشهر فينجح في خَلْق المشهد التّام لتكامُل الصورة التي تنبض بالحياة.
ورغم أنّه عرف وزار الكثير من المدن في كلّ القارات، وكان لمدينة رام الله محبّتها الخاصّة عنده إلّا أنّه ظلّ يحتفظ للقدس بمكانتها الفَريدة. "كانت القدس أوّل مدينة تفتّحت عليها عيناي. بهرتني حينما دخلتُها أوّل مرّة برفقة أبي، بهرتني الشوارعُ وكثرةُ السيّارات والناس، بهرتني الحوانيتُ بما اشتملت عليه من دمى وألعاب ومن موادّ غذائيّة وملابس، بهرتني تلك المدينة ولم تُغادرني منذ ذلك الوقت."(ص15)، وقد خصّها بالعديد من قصصه ومؤلّفاتها حتى تحوّلت لتكون أغنيته الدائمة والإلهة التي لا يعبد سواها.
أخيرا
قد يأخذ البعض على محمود شقير أنه بدا كرَحّالة سريع التنقّل من مكان إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى، واستبدال الذين يُقابلهم بغيرهم دون تعارف وحوار مُطوّل وأعمق. فبدت الأماكن كمَشاهد تُعرَض مُتتالية لا تترك للمُتابع الرّاحة للتّمتّع، ولا الرّغبة في التّعرّف أكثر، ولا الفرصة لتبادل الكلام مع الناس الذين يراهم. حتى بدا وكأنّه يهتمّ بالتّفاصيل البرّانيّة على حساب ما يعتمل في النفس والفكر للذين التقاهم، وقد يتساءل هذا البعض: وماذا مع الساعات الطويلة بعد انتهاء النّدوة أو المؤتمر أو اللقاء؟ وماذا مع جلسات المساء وحديث الليل وفكاهات الأصدقاء وجدَل الراغبين في الحوار؟ ألم تتخلّلُ هذه الجلسات المسائية بعضُ القَفشات والنّوادر والقصص والغناء والحبّ والتّجوال الجميل الهادئ أو الصّاخب في شوارع ومتنزهات المدن الباهرة البعيدة؟
أعرف أنّ الصديق محمود شقير لديه الكلام الكثير الذي يُمكن أن يقوله، والصفحات الكثيرة التي يُمكنه أن يُدوّنها، ولكنّه حسَمَ الكلامَ وردّ على مَنْ يتساءل من البداية بقوله: "هنا في هذا الكتاب تجربة في الحياة أُدوّنها لا للتّفاخر او للمُباهاة، ولا لادّعاء بطولات أو للوقوع في مبالغات".(ص11) ويبقى لمحمود شقير التّميّز والفَرادة في اللغة السّهلة المُمتنعة التي تُمسك بالقارئ، وتنساب به ناعمة جاذبة، تتنقّل من حدَث إلى آخر، ومن مكان إلى مكان غيره، ومن زمن إلى تاليه أو سابقه، وهو مستسلم في حالة سَرْمديّة ساحرة لا يُريد لها نهاية.
تحياتي للكاتب محمود شقير وشكري له أنّه لم يهمل زيارتَيْه لبلدتي الرامة واللقاء معنا ساعات كانت الفرحة تغمرُنا في أمسية أدبيّة شارك فيها مع العديد من مبدعي القدس تحدّث فيها عن الشاعر سميح القاسم، وأخرى كان الحزنُ يلفّنا يوم شاركَنا مع وفد كبير من القدس في تشييع الشاعر سميح القاسم. (ص213/240)