سوف نتناول في هذه القراءة النقدية: دلالة الثنائيات والرموز في الشخصية الروائية في الرواية الحادية عشر للكاتب المبدع السيد نجم: «حكايات طرح النيل»، التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2018م، في 275 صفحة من القطع المتوسط شاملة الفهرس والسيرة الذاتية للكاتب. و«السيد نجم» يعد واحداً من أهم الروائيين العرب في مجال أدب المقاومة، حتى لكأنه روائي بدرجة مقاتل. وهو أيضاً كاتب ذو تنوع ثري في كتاباته الإبداعية؛ فمنها: القصة والرواية للكبار والصغار، والدراسات النقدية والفكرية، وإلى جانب النشر الورقي له تجربة رائدة في النشر الألكتروني، ولعل في الدراسات التي حدثت حول كتاباته سواء أكانت درسات أكاديمية أو أطروحات جامعية وغير جامعية لخير دليل على مدى تأثيره في الوسط الأدبي.
وهذه الإضاءة لرواية «حكايات طرح النيل» حتماً لن تشع أو تضيء كل مساحات الرواية وتفاصيلها، وإنما ستتمحور حول سمتيْن بارزتين في الرواية، وهي الرموز والثنائيات المتضادة التي ارتكزت عليهما الشخوص؛ أحد أعمدة رواية: «حكايات طرح النيل»؛ بهدف الدعوة إلى المقاومة. حيث تعد الشخصية في الرواية من الأركان الاساسية التي تدعم بناء الرواية؛ وتعتبر القوة الرئيسة المحركة للعمل الروائي. فكل شيء في الرواية مكرَّس لغرض توضيح أبعاد الشخصية وتطوُّرها كحقيقة فاعلة من حقائق الحياة، التي تحمل بين جنباتها بُعد سياسي واجتماعي عميق خاص بالشخصية الفردية والجمعية، ثم إن "الشخصية الروائية فوق ذلك تعتبر العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده كافة العناصر الشكلية الأخرى، بما فيها الإحداثيات الزمنية والمكانية الضرورية لنمو الخطاب الروائي واطرداه."([1]).
وقد استطاعت هذه الرواية جعل الشخصية عنصرا ثقافيا حاملا لأنساق سياسية واجتماعية مهمة؛ ومن هنا فإن القارئ بحاجة إلى فهم حقيقي لدور الشخصية بوصفها فاعل مهم، أي النظر للشخصية بوصفها مشاركاً فاعلاً قادراً على إعادة انتاج معنى دلالي رمزي معين يرتبط بوحدة دلالية تكون نقطة البدء للانتقال بالنص إلى مستويات أكثر عمقاً تحمل بين طياتها دلالات ثقافية وسياسية واجتماعية تتشكل عبر خطاب أيديولوجي مضمر داخل الحدث العام. وبيان ذلك فيما يلي:
الرواية يتصدرها «نواف العجرودي» الولد الجن الشقي الطائش الذي بدأت تجربته الحياتية قببل ثورة عام 1952م حتى قبيل العام 2011م (أي قبيل ثورات الربيع العربي بصفة عامة وثورة 25 يناير بصفة خاصة)؛ خطاً موازياً للتجربة المجتمعية المصرية. «نواف» منذ طفولته اعتبرته العائلة من الأشقياء؛ طرده الجد ليهيم بين طرقات القرية «كفر العوانس»، كبر «نواف» وصار يملك حاسة في أنفه تمكِّنه من التعرُّف على كل الروائح التقليدية والغريبة، حتى أنها قد مكنته من معرفة دخائل الناس من روائحهم!. فكان «نواف» تماماً مثل زرقاء اليمامة في الفراسة؛ يرى ما لا يراه الآخرون؛ فأنفه التي مكنته من تمييز الروائح وقدَّرته على الإخبار عن دواخل الآخرين واستشراف المستقبل، تعبِّر عن فراسته. ونستطيع القول أن توظيف شم الروائح بأنف «نواف» في هذه الرواية كان رمزاً لشيوع الجهل والعجز وقلة الحيلة وسيطرتهم على المواطن المصري؛ ففي حالة العجز يلجأ المواطن إلى وسائل غيبية وبدائية لمعرفة ما سيحدث له في الحاضر والمستقبل؛ حيث وجد سكان القرية في أنف «نواف» وسيلة للتنبؤ بما هو آت، ولسؤاله حلا لمشاكلهم.
وأيضاً «نواف» الذي يملك حاسة في أنفه تمكنه من التعرف على كل الروائح التقليدية والغريبة ودخائل الناس والتنبؤ بالغيب وحل مشاكل الناس؛ كان يمثل فطرة الإنسان المصري البسيط الذي يعتمد على مشاعره في معرفة ما يخبؤه المستقبل؛ يرمز إلى العوام ذوي الخبرة الشعبية الحياتية من الشعب المصري؛ غير المعتمدة على العلم ولا الموضوعية؛ تلك الشخصية التي كانت سائدة في المجتمع قبل ثورة 23 يوليو وبعدها في الخمسينيات من القرن الماضي. ومن هنا فإن شخصية «نواف» ترمز إلى نمط الشخصية المصرية الذي كان سائداً في المجتمع في تلك الفترة.
وبتلك الميزة «القدرة على التعرف على كل الروائح التقليدية والغريبة» تمكن «نواف» من العمل كخرمنجي بالإسكندرية في فبريكة السجائر المملوكة لليهودي، والتي آلت ملكيتها بعد الثورة إلى العسكر، واستطاع بأنفه إنتاج توليفات جديدة للسجائر يتم تصديرها للخارج؛ ومن هنا فإننا نستطيع أن نقول أن اليهودي هو الوحيد الذي استطاع أن يستفيد بطريقة علمية من أنف «نواف»، وأن يستغلها لصالحه لجمع مزيد من الأموال، في مقابل المصريين الذين لم يستغلوها إلا بطريقة بدائية غير علمية للتنبؤ ومعرفة الغيب. وقد كانت هذه النقطة «سذاجة المصري وبدائيته وإيمانه بالروحانيات واعتماده على الغيبيات، مقابل علمانية اليهودي وماديته وقدرته على استغلال إمكانيات الأرض والبشر، ومكره الذي مكنه من الاستحواذ على الأموال» أولى الثنائيات التي حفلت بها الرواية؛ أولى الدعوات للمقاومة.
أنجب «نواف» أربعة من البنين والبنات ظلموه جميعاً، بل إنهم قد اتخذوه عدواً لهم؛ لتتشكل بهم أهم الرموز والثنائيات المتضادة التي حفلت بها هذه الرواية الداعية إلى المقاومة:
فالابن الأكبر «عاصم» - الملحد الذي درس علوم الذرة - يرى في سلوك أبيه بالمضيفة نوعاً من الجهل. و«عاصم» هذا الذي اعتصم بالعلم والعمل وآمن بهما كان يرمز لفترة حكم الزعيم «جمال عبد الناصر» في ستينيات القرن الماضي؛ الفترة التي كان شعارها الاعتصام بالعمل لا العائلة والحسب والنسب، والاعتزاز بالعقل؛ فاتبعت القوانين الاشتراكية في توزيع الثروات على أبناء مصر بالعدل، وأتاحت لكل المصريين الفرصة لأن يكونوا عصاميين؛ معتمدين في بناء حياتهم على التعليم والعمل بجد. ولنا هنا أن نلاحظ حضور فكرة الثنائيات؛ حيث العقل العلمي العملي والاعتصام بالعلم وحده عند «عاصم»، في مقابل العقل الشعبي والجهل والاعتماد على الغيبيات والتنبؤ عن طريق الأنف عند أبيه «نواف». وقد جاءت هذه الثنائية بهدف الدعوة إلى الأخذ بالعلم من أجل استنهاض المجتمع؛ لكي يقوى على المقاومة.
البنت الثانية «روح»: المؤمنة بعمل المرأة، والتي تميل إلى الغرب وتهوى الموسيقى الغربية، ولكنها على الرغم من ذلك تملؤها الرغبة في التعرف على تراثها وتاريخها؛ فحصلت على الدكتوراه في الآثار، وصارت تنقب بجوار قلعة قايتباى لتؤكد أن القلعة لم تُبْنَ بأحجار منارة الإسكندرية، ولكنها مع ذلك ترفض شخصية أبيها وإيمانه بالخرافات وترى في أبيها ونبوءاته الكذب. إذا هي في الرواية ثمرة تنوير المرحلة الناصرية؛ التي جمعت ما بين أصالة العروبة والاستفادة من العقلية العلمية لدى الغرب وشعاراته التي دعت إلى المساواة بين الرجل والمرأة؛ بدعواتها إلى العمل والعلم والتنمية والمساواة بين الرجل والمرأة ورمز واضح لها؛ كما أنها كانت في الرواية تمثل أحد جوانب فترة حكم «مبارك» في الثمانينيات من القرن الماضي؛ تلك الفترة التي مالت فيها السياسية المصرية إلى الغرب مع الحفاظ على روح الأصالة المصرية.
وهنا نلاحظ حضور فكرة الثنائيات؛ حيث الإيمان بقيمة العمل والعلم والميل إلى أرقى ما في الحضارة الغربية «الموسيقى» عند «روح»، في مقابل الإيمان بالخرافات والتواكل والجهل والميل إلى البساطة الشرقية والفطرة عند «نواف» أبيها. فهنا كاتبنا يدعو إلى الإيمان بالعلم والأخذ بأرقى ما في الحضارة الغربية وترك سلبياتها مع الحفاظ على خصوصية الشخصية المصرية وتاريخها وأصالتها.
الابن الثالث «مصيلحي»: طالب الحقوق الذي لم يحقق رغبة أبيه في أن يصبح وكيلاً للنائب العام، بل أصبح في الاتجاه المعاكس للدولة؛ طريد الشرطة لانضمامه إلى الجماعات التكفيرية، وهو يرى في أبيه مثالاً الجهل والشعوذة. و«مصيلحي» هذا يمثل قمة التناقض في الرواية؛ حيث كان أبوه يأمل في أن يكون من رجال القانون إلا إنه يتعرف في الكلية على التكفيريين فيجتذبونه إلى تيارهم، وتتحول شخصيته عدة تحولات أدت إلى أن تدخل الشرطة قريتهم للقبض عليه هو ورفاقه التكفيريين.
وأيضاً أتت الثنائية من التناقص في اسمه؛ «مصيلحي» في حين أنه بعيد تمام البعد عن الإصلاح؛ إذ أنه يرمز لطائفة الخوارج الجدد الذين ادعوا أنهم مصلحون فتركت لهم الفرصة للسيطرة على النقابات والمؤسسات والاستثمارات والمساجد بل على المشهد الديني برمته منذ السبعينيات من القرن الماضي؛ بهدف استغلالهم في الحرب على اليسار المصري؛ ففرضوا خطاباً يقوم على التكفيرية والرجعية والظلامية؛ ومن هنا فإنهم كانوا بعيدين تمام البعد عن الإصلاح. وفي هذه الشخصية يتمثل الرمز إلى فترة حكم مبارك في التسعينيات والتي ظهرت فيها التيارات الدينية وسيطرت جماعات الإسلام السياسي على الكثير من المؤسسات ومصادر الرزق في مصر.
وهنا نلاحظ حضور ثنائية أخرى من ثنائيات التضاد حيث كان «مصيلحي» وتكفيريته في مقابل التدين الفطري عند أبيه «نواف»، وأيضاً سنرى بعد قليل ثنائية أخرى ألا وهي: أن تديُّن «مصيلحي» التكفيري الخارج على السلطة والمعارض لسياستها والذي ينحو ناحية استغلال عاطفة الناس الدينية للوصول إلى السلطة، كان في مقابل تديُّن الشيخ «الجعر»؛ تديُّن الشيوخ ذوي السلطة والذي ينحو ناحية التسويق لما تريده السلطة، إلى جانب استغلال حاجة الناس وجهلهم لصالح السلطة. وهنا نلاحظ أن كاتبنا يرفض شيوخ السلطة والشيوخ الخوارج، ولكن يشجع التدين الفطري السمح الذي هو سمة من سمات الشخصية المصرية الأصيلة.
أما الابنة الرابعة: «حفيظة» التي لم تكمل تعليمها ورضيت بدور ربة المنزل فقط وتزوجت من «همام»؛ فكانت ترمز إلى عودة المجتمع المصري إلى التقاليد المحافظة البالية التي تمنع المرأة من العمل والتعليم بحجة عدم التشبه بالرجال وبدعوى ترك الفرصة للرجال ليعملوا ويفتحوا البيوت؛ تلك التقاليد الرجعية المحافظة التي سيطرت على المجتمع المصري في بداية ثمانينيات القرن الماضي مع بداية سيطرة حركات الإسلام السياسي على الرأي العام المصري، والتي كانت تدعو إلى جلوس المرأة في بيتها والمحافظة عليها من الاختلاط بالرجال وتركها مجال العمل للرجال.
ومن هنا فقد كانت «حفيظة» الرجعية المحافظة على النقيض من أختها «روح» التقدمية المؤمنة بقيمة العلم وبعمل المرأة وبدورها الفاعل في المجتمع. وهنا نلاحظ حضور فكرة الثنائيات؛ حيث التمسك بالتقاليد المحافظة البالية والرضا بالدور التقليدي للمرأة عند «حفيظة» في مقابل الإيمان بالعلم وبقيمة العمل والميل إلى الحضارة الغربية عند «روح». ونلاحظ هنا أن كاتبنا هنا يدعو إلى مقاومة التقاليد الرجعية البالية والمساواة بين الرجل والمرأة في الفرص وفي العلم والعمل.
أما «همام»: زوج «حفيظة» الذى يعد نموذجاً للتحايل على القانون في القرية، فبات من أثرياء القرية، وكان يعمل تحت حماية العمدة وزوجته، وهو من سرق أوراقاً وزور أوراقاً أخرى، وخطط ودبر لرفع قضية الحجر على الأب «نواف العجرودي»؛ فهو النموذج الرامز للطفيلين الذين أثروا من امتصاص دم الشعب والمستغلين والقطط السمان بل نموذج للرأسمالية المتوحشة. فـ«همام» هذا كان في البداية يمثِّل مرحلة الانفتاح الاقتصادي التي اعتمد معظم المواطنين فيها على همتهم في كسب معيشهم دون اتكال على عدالة اجتماعية أو اشتراكية الدولة، في حين همَّت قلة من المصريين إلى السيطرة على مصادر الإنتاج في مصر فكوَّنوا ثرواتهم على حساب الشعب المصري واستغلاله وامتصاص دمائه؛ ومن هنا فإنه كان رمزاً لفترة السادات وللانفتاح الاقتصادي الذي تسبب في أزمات كثيرة مرت بمصر؛ تلك الأزمات التي وصلت إلى ذروتها مع بدايات الألفية الثالثة للميلاد، وقبيل ثورة 25 يناير بسيطرة الرأسمالية المتوحشة على معظم أدوات الانتاج في مصر ومواردها؛ ليعيش الشعب المصري حالة من الكفاف والعوز والمرض، في حين يتمتع هؤلاء المستغلون مصاصو الدماء هم وحدهم بخيرات الوطن.
ومن هنا فإن «همام» أيضاً قد استحضر فكرة الثنائيات للرواية؛ فهو أيضاً كان على النقيض من شخصية «نواف» حميه؛ ففي ابتعاده عن أهله ونشأته في بيت العمدة وارتباطه بالعمدة وامرأته، وعمله كفتوة يحمي ابن العمدة ثم عمله في تجريف الأرض الزراعية لصنع الطوب الأحمر، ثم عمله بالأنابيب، ثم تنقله بين كثير من الأعمال لأجل الكسب السريع، ثم قبوله بأن يخرج أمه من العش الذي تعيش فيه بشكل مهين لها وقاسي؛ وضربه أمه، وعدم احترامه أي حق من الحقوق الإنسانية، وجوره على حق حميه، بل في كونه يمثل فئة الطفيليين الاستغلاليين الذين لا يحترمون أية روابط اجتماعية!؛ في كل ذلك ما يجعله رمزاً للرأسمالية المتوحشة.
في حين أن «نواف» كان يريد جمع شمل أسرته وعشيرته وكان يحترم الحقوق ويرعى الجار ويكرم الضيف وكان يعمل في مجالات كثيرة مشروعة وكان يكسب أموالاً طائلة منها؛ ولكنه كان يكسب أمواله بطريقة شريفة؛ وفي كل ذلك ما يجعله رمزاً للرأسمالية الوطنية. ومن هنا حضرت فكرة الثنائيات؛ إ ذ كأن الكاتب يضع الرأسمالية المتوحشة بكل مبادئها وأخلاقها التي يرفضها –الكاتب- لأنها تدهس على المبادئ والشعب والوطن حتى صارت لكأنها استعمار جديد، في مقابل الرأسمالية الشريفة الوطنية بكل مبادئها وأخلاقها التي شجعت أمثالها التجربة الناصرية التي سعت لبناء اقتصاد دولة حرة مستقلة القرار. ومن هنا فإننا نستطيع القول أن كاتبنا يدعو إلى مقاومة سيطرة الرأسمالية المتوحشة على مقدرات الشعب المصري والعودة إلى النظام الاقتصادي الذي تبناه «عبد الناصر».
وكان «نواف» قد تعرف عندما كان طفلاً صغيراً هائماً في طرقات «كفر العوانس» على الطفل «الجعر» الذي شاركه الشقاوة وبيع مسروقات الدار، استوطنا خصاً من عيدان البوص على قطعة أرض طرح نهر لا يمكن لأحد منازعتهم عليها. وكان «الجعر» (الذي أصبح شيخ مسجد الكفر على الرغم من أنه جاهل بالدين) يبدو في الرواية نقيض «نواف» في كل الصفات حتى أنه يمكن أن يوصف بالصديق اللدود الحاقد. وما أنبت الحقد في قلب «الجعر» على «نواف»، أن الأخير يملك حاسة في أنفه تمكنه من التعرف على كل الروائح التقليدية والغريبة، حتى أنها قد مكنته من معرفة دخائل الناس من روائحهم!؛ فكان الناس يلجأون إليه لمعرفة ما يخبئه الغيب لهم وفي حل بعض مشاكلهم، في حين أن «الجعر» كان يستغل السلطة الدينية ويحاول أن يستفيد من جهل الناس بالدين. وعلى الرغم من ذلك فإن «الجعر» قد تحول إلى رمز ديني وصاحب رأي وفتوى في الكفر والبلد كلها؛ ومن هنا فإنه كان رمزاً لكل مشايخ السلطة الذين يقتاتون من اللعب بمشاعر الناس الدينية؛ رمزا لكل سلطة دينية مارست دورها بجهل وسوقت لما تريده السلطة الحاكمة؛ رمزا لكل جعر صاحب رأي وفتوى بلا علم حقيقي ولا دين؛ في كل المراحل السياسية التي مرت بمصر الحديثة.
ومن هنا نلاحظ حضور فكرة أخرى للثنائيات؛ حيث تدين «الجعر» أحد شيوخ السلطة في مقابل تدين «نواف» الإصلاحي؛ فـ«نواف» يمثل الخبرة الشعبية الحياتية الإصلاحية للشعب المصري؛ الخبرة الانطباعية غير المعتمدة على العلم ولا الموضوعية، في حين أن «الجعر» قد مر بالكثير من التناقضات حتى وصل أن صار شيخاً وخطيباً للجامع، بل صاحب سلطة دينية على الرغم من أنه مستغل ولا علم لديه ولا دين ولا انطباع.
وأيضا شيخ مسجد الكفر الجاهل بالدين هذا كان على النقيض تماماً مع كل شخصيات الرواية؛ فمثلاً بدعوى جهله تحاول طائفة جديدة من الخوارج الجدد (عرفات صديق مصيلحي) تغييبه عن المشهد الديني وفرض خطاب آخر يقوم على التكفير والظلامية. وهنا نلاحظ حضور فكرة أخرى للثنائيات؛ حيث مشايخ السلطة الذين تحميهم الحكومة، في مقابل مشايخ الظلام والتكفير الذين تطاردهم الحكومة. فهنا كأن كاتبنا يجدد الدعوة إلى مقاومة هذين النوعين من المشايخ؛ مشايخ السلطة والمشايخ الخوارج على السلطة، ويدعو إلى إيجاد مشايخ من نوع آخر؛ مشايخ مصلحين.
وينقسم أهل الكفر إلى قسميْن غير متساوييْن؛ ما بين متقبل للشيخ «الجعر» رافض معارض لهؤلاء التكفيريين الغرباء، وبين قلة يرون أن الشيخ «الجعر» ما عاد يصلح، وأن الدين بحاجة إلى دماء جديدة؛ ليشكل القسميْن ثنائية هامة من الثنائيات التي حفلت بها الرواية. وهذا الانقسام وهذه المعارضة وهذه المخالفة في وجهات النظر المتعددة ربما جاءت من «السيد نجم» من أجل الدعوة إلى أن يكون أساس الاحتكاك بالآخر في المجتمع هو قبول مبدأ الاختلاف وتقبل الآخر المخالف في الرأي ليسود السلام الاجتماعي، والدليل على ذلك أنه عندما لم يحدث قبول الآخر في المجتمع الروائي بل في المقابل كان الخلاف والانقسام؛ اختفى السلام الاجتماعي؛ لتتشكل باختلاف الفريقين ثنائية قائم مبناها على التقابل والتضاد الذي أوصلهم إلى الانقسام؛ وهذه الثنائية أراد بها كاتبنا أيضاً أن يدعو المتلقي إلى التفكير فيما هو كائن في المجتمع وما ينبغي أن يكون؛ أراد بها الدعوة إلى السماحة ومقاومة كل الأسباب التي قد تدعو إلى الخلاف والانقسام بين أفراد الشعب المصري.
والملاحظ أن كل تلك الشخصيات الروائية قد كانت نماذجاً تدعو إلى تعميق مفهوم الهوية المصرية والانتماء إلى العروبة والدعوة إلى المقاومة والتحرر من كثير من القيود التي تكبل الشعب المصري؛ وكأن «الهوية» و«المقاومة» و«التحرر» هم الهم والغاية وأساس بناء الإنسان القوي والمجتمع الصالح الجديد والمنتظر. وهكذا جعل الروائي من شخوصه معادلاً موضوعياً للواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه مصر، معبراً عن الرؤية السياسية الاجتماعية التي يطرحها؛ مختاراً خيار المقاومة؛ فضمن للرواية المستوى الفني الذي تمضي عليه والذي تمظهر في مسار الحياة الشخصية والأسرية والمجتمعية وتحولاتها لبطله «نواف» خاصة ولباقي الشخصيات الروائية عامة.
وهذه الضمانة الفنية، أعطت الكاتب الحق في خروجات محسوبة لتفخيخ الرواية بكثير من أساليب الفضح والتحريض المباشرين وغير المباشرين والتي كان من بينها استعمال الرموز والثنائيات المتضادة. فالمضمون قد أثر على طبيعة الشخصيات، وعملية البناء الهيكلي لشخصيات هذه الرواية، ذات التوجهات المتنافرة، أو المتضادة قد جعلت شخصيات هذه الرواية تتنوع في صفاتها وظروفها وأمزجتها؛ ومن ثمَّ كان من الطبيعي أن تنشأ علاقات التنافر والتضاد فيما بينها لتعكس طبيعة الواقع المعاش المليء بالتناقضات والأزمات. وما استخدام الرموز والثنائيات عند «السيد نجم» إلا سبيلاً فنياً أخال أن المراوغة من أهدافه، ونوعاً من الترميز الذي له أكثر من وظيفة عندما يكون ذلك أيسر من المواجهة.
([1]) حسن بحرواي: بينة الشكل الروائي؛ الفضاء، الزمن، الشخصية، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1998م، ص83.