تتناول الباحثة التونسية هنا أحد دروس ميشيل فوكو التي لم يتناولها الخطاب العربي بما تستحقه من تمحيص. ألا وهو توقفه عند مفهوم الصراحة باعتباره أحد الأهداف الأساسية للفلسفة والفيلسوف في عالم مترع بالمغالطات والأكاذيب والترهات. وما يتطلبه الأمر من جرأة لا تقل عما يدعوه إدوار سعيد بالمواجهة بين القوة والحقيقة.

ايتيقا الصراحة عند ميشيل فوكو

السموّ في الجرأة على قول الحقيقة

روضـة المبـادرة

 

فــي السنة الدراسية 1982-1983 فــي «الكوليــج دو فرانــس» قدم مشال فوكو مجموعة من الدروس حول حكــم الــذات وحكــم الآخرين ومن بين هذه الدروس درس الصراحــة parresia ومفهــوم الصراحة له موقع بارز في عمل الضميــر، ولعل فوكــو استند في ذلك علــى بعض النصــوص التقليدية مثل نصوص ابكتاتوس وافلاطون اللذين تطرقا لمفهــوم الصراحــة كمقولة تعني في معناها الأولي الدفــاع عــن الحقيقــة والجرأة والشـجاعة فـي قـول الحـق، واركيولوجيا فوكـو في هذه الدروس هي تعريف الصراحة وإمكان تحققها فــي إجــراءات الحكــم، فــي علاقته بنفسه وعلاقته بالآخرين ولكن ما الصراحة؟ وأيّ معنى يمكن أن يترتب عن هذا المفهوم؟

فضيلة الصراحة:
يقول فوكو: «إننا نعرف جيدا أنه ليس لنا الحق في أن نقول كل شيء، وأننا لا يمكن ان نتحدث عن كل شيء في كل ظرف، ونعرف أخيرا ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان. هناك الموضوع الذي لا يجوز الحديث عنه وهناك الطقوس الخاصة بكل ظرف، وحق الامتياز أو الخصوصية الممنوحة للذات المتحدّثة: تلك هي لعبة الأنواع الثلاثة من إجراءات المنع التي تتقاطع وتتعاضد أو يعوّض بعضها البعض مشكلة سياجا معقّدا يتعدّل باستمرار.» ميشيل فوكو: نظام الخطاب، ص4.

«قول كل شيء» هكذا يعرف فوكو الصراحة فالصراحة هي الفضيلة وواجب وفن يجب أن نجده عند الشخص فهي التقنية والأداة التي توجه الضمير وتساعد الفرد على تشكيل علاقته بنفسه و بالآخرين. وبالرغم من انه لا يوجد قسم قائم بذاته، حول الصراحة. إلا أن دراسة فوكو للفكر اليوناني القديم مكنته من تكوين فكرة خاصة بالصراحة، ويحاول أن يبثها في بعض نصوصه، ويذهب فوكو إلى أن أفلاطون وديون من المفكرين المتميزين بالصراحة، وقد كان استعمالهما للصراحة بضروب مختلفة؛ مرة في شكل ِ دروس، ومرة في شكل أمثال، آراء، وحكم، وأحكام. إذ يجب البحث في الصراحة في جهة فعل الذي ينتجه قول الحقيقة على المتحدث والمتكلم ويفترض الأمر تعيين وتحديد الصراحة بما يرتبط بالمتحدث، وذلك إذً بالنظر إلى النتائج التي تتبع قول الحق والحقيقة.

يرى فوكو، الصريح هو ذلك الذي يقبل الموت من أجل قول الحق. وبالأحرى، الصريح هو الذي يشرع في قول الحق حتى لو كان الثمن حياته. وهنا، تتشكل لدى فوكو، مشكلة الصراحة، أو العقدة المشكلة التي تتركب منها الصراحة، وينظر هنا في مأساوية الخطاب الحقيقي عند الذات المتكلمة.

وقد تطلب الامر من فوكو في بحثه عن مفهوم الصراحة العودة الى الفلسفة اليونانية لتحديد مفهوم "الباريسيا"Parrêsia  و"الكائن الباريسياني"le Parrèsiaste ، ومنه التساؤل عن كيفية تشكل الذات وعلاقتها بذاتها وبالآخرين وبالعالم الخارجي من خلال خطاب الحق والحقيقة وفن قول الكلام الصريح الصادق والحر. وهو نفسه الخطاب القائم على مبدأ “الإنهمام بالذات” و”ثقافة الذات”.

لغة يراد بالصراحة parrêsia أي قول كل شيء بصراحة وبحرية هكذا ترجم اللّاتين كلمة  parrêsia اليونانية بكلمة libertas، وتعني الإنفتاح في القول اي أن نقول ما نريد قوله. قد يرى فوكو أن النص الوحيد المسمي بالصراحة هو المتعلق بأيون الذي جعل منها ًشرطا للعودة لأثينا، وهذا هو الاستعمال الوحيد المتعلق بالحق السياسي الذي يمارس في المدينة ويسمي الصراحة أو القول الجريء والحر. فنص إيون يقدم لنا ثلاثة ممارسات لقول الحق، يسمي بوريبيدس:

أوّلا: الصراحة ويسمي فوكو هذه الصراحة بالصراحة السياسية أو بالأحرى الصراحة السياسة القانونية، وهي طريقة في ممارسة الحكم من خلال القول، وهذه هي الصراحة السياسية.

 ثانيا الحق: إنّ الحق ممارسة مرتبطة بوضعية من الظلم، صرخة الضعيف ضد القوي الذي يستخدم قوته، وهذه هي الصراحة القانونية.

ثالثا: قول الحق. وهذه الممارسة يسميها بالصراحة الأخلاقية، التي تقتضي الاعتراف بالخطأ الذي يؤنب الضمير، وهذه هي الصراحة الأخلاقية. وبالعودة إلى الصراحة السياسية ّ يبين فوكو المنعرج الذي عرفته الصراحة ومسارها المأساوي.

فالصراحة التي طالما بحث عنها أيون هي التي بدونها لم يعد إلى أثينا هي أولُ شيء مرتبطة بالديمقراطية التي يجب أن تحتل فيها الصراحة مكانة أساسية، ولكن الممارسة الديمقراطية الحقيقية قد اندثرت ومن هنا فقد أصبحت العلاقة بين الصراحة والديمقراطية علاقة إشكالية، ومعقدة ذلك أن الصراحة السياسية تجتاح الديمقراطية. وفي تحليله للنصوص الثلاثة لافلاطون أراد فوكو أن يبين انفصال الصراحة عن المسألة السياسة، أو بالأحرى انفتاح مشكلة الصراحة على عدد من الوجوه والصور؛ وأن هذه الصراحة المدنية والسياسية المرتبطة بالديمقراطية، ومن جهة أخرى أخذت الصراحة ملمحا جديدا في نصوص أفلاطون. أي في سياق آخر غير السياق الديمقراطي إنها مسألة يجب القيام بها ليس فقط على جسد الصراحة بوصفها فعل المدينة كله، لتتجسد وتمارس باعتبارها مسألة الفعل الفلسفي ومواجهة بين الفيلسوف والأمير.

خاصة وإنّ غاية الفلسفة هي في قول الحق والحقيقة وحبّ الحكمة وتلك هي مهمة الفيلسوف بعامة، وبالنسبة إلى السياسة بصفة خاصة إذ هو صاحب المهمة الرسمية للمستشار السياسي بأسلوب عقلاني، ليستوي السلوك الحقيقي للمدينة، فالصراحة تساهم بشكل كبير في ممارسة الحكم والتفنن فيه ومن هذه الممارسة تتحوّل الصراحة من السياسية إلى الصراحة الفلسفية، ويبين فوكو في محاورة الدفاع أن الصراحة ضرورة من ناحية استعمال الحقيقة في المجال السياسي إذ أن للفيلسوف دورا في الصراحة يقوم به، وهذه هي الصراحة الفلسفية، التي تمتحن الذات والآخرين وهذا ما ينفع المدينة، لتكون مدينة الصرحاء وقول الصراحة فن لا يتقنه إلا الحكماء والشجعان هذا هو سبب قتل سقراط: قوله للحقيقة. ومن هنا بدأ الدفاع عن الحقيقة وبالتالي علاقة الذات بالحقيقة. وبالتالي أضحى ممكنا في هذه الممارسة الإنسانية الحديث عن الوجود الصريح أو الكائن الباريسياني.

الكائن الباريسياني
Le parrèsiaste هو الكائن الصريح الحر والقادر على قول الحقيقة و الحق. يدرس فوكو الذات فلسفيا باعتبارها ذاتا للحقيقة، خاصة إذا ارتبط الأمر بقواعد التواصل والحوار المرتبطة بالخطاب الحقيقي والقول الصريح والحر. وقد استعان باليونان وفلسفتهم في الكشف عن تاريخ تشكل “الذات” وقول “الحقيقة”. وانتبه إلى أنّ الزهد يجعل الذات قادرة على نطق الخطاب الحقيقي، والروح أو النفس موطن نطق الحقيقة، وبالتالي تنكشف الصلة العميقة بين الذات والحقيقة. إنّ الذات الصريحة هي ذات سيّدة على نفسها، ومتمثّلة للحقيقة بذاتها ولذاتها ومن ذاتها خصوصا إذا تعلق الأمر بالصراحة وبالصداقة. فتضحى بذلك الصراحة أحدى الشروط الملازمة والضرورية للصداقة، خاصة إذا تعلق الأمر بما ترغب فيه الأنفس والأرواح من سكينة واتراكسيا مثل التي تسوقها بعض التيارات الفلسفية كالأبيقورية والرواقية وبخاصة السينيكية (الكلبية). دون التغافل عمّا يشهده الواقع من حاجة ونقصان في مستوى هذه الايتيقا التي ترتقي بالكائن نحو الحقيقة. فايتيقا الصراحة هي نوع من تلك الرفعة والشجاعة التي يربطها سقراط بالنبل ورفعة وسمو النفس.

فالكائن الباريسياني؛ مطالب بقوة الحقيقة، حقيقة الخطاب الحقيقي، أي الحقيقة العارية من كل كذب او نفاق. إن الصراحة يجب أن تعالج كما تتطلب المعالجة. وهي مهمة الفيلسوف باعتباره يدافع عن الحقيقة، ويعالج الذين لديهم نقصان في مستوى قولهم للحقيقة، وقلة الجرأة على قول الحق. فالحكيم أو الفيلسوف طبيب روحي يعالج الأمراض الروحية الباطنية كالجبن والخداع والكذب والتمويه. وفي هذه المهمة يمارس الكائن الباريسياني الصراحة ويجعلها تجربة ايتيقية فريدة من نوعها. يؤصل فيها الحقيقة التي يتبناها وتتجسد في سلوكه الخاص، وتترادف مع أفعاله وتصرفاته، فبفضل الباريسيا، يشعر الكائن بحريته وشجاعته. فالكائن الباريسياني يعبّر بصدق عمّا يؤمن به، ويعتقد أنه الحقيقة. إن القول الصريح والصادق والحر عند الكائن الباريسياني تعبير عن علاقة تصالحية مع الذات التي تحترم ذاتها، وتعترف بذاتها لتكون صلة وصل واضحة بين القول والسلوك أو الفعل. هذا وجه من وجوه الصراحة من وجوه عدة.

خاتمة:
مفهوم الباريسيا يُفهم في إطار التفكير في ايتيقا تفاعل بين ذاتي يسائل ويقاوم كل أشكال المغالطات والتناقضات التي قد تقع فيها الذات المتكلمة والذات السامعة أو المتقبلة في ذات الوقت. فالصراحة مقاومة وشجاعة تتصدى لكل الأشكال العدمية للحقيقة، ليكون الصريح قادرا على خلق “ذاتية جديدة” وهذه الأخيرة تتطلب البحث في أنطولوجيا الذات والحاضر .