شاعر عريق وبلبل غريد ارتبط اسمه ببلده الصغير أرضا، الكبير تاريخا وسماحة "البحرين" وارتبط اسم بلده به فكلما مال القلب إلى نبضة شعرية أو سبحة تأملية أسرع إلى الخاطر شعر العريض وكلما ذكر البلد في مجلس، ذكر العريض فكان لذكره بهاء الزهر وأريجه وقبل قال مارون عبود" ما عرفنا البحرين إلا حين عرفنا إبراهيم العريض".
البحرين" دمون" كما سميت قديما وقد هفا إليها قلب جده امرئ القيس الشاعر الضليل ولهج بذكرها في شعره:
تطاول علينا الليل دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإنا لأهلنــــــــا محبون
بل لم يقتصر أثره على بلده وإنما صار آية إبداع وسمة تجديد في الخليج بأسره فعده النقاد رائد الرومانسية في الخليج. هذا العقد الفريد من الإبداع الخليجي الذي انتظمت حباته منذ الثلث الأول من القرن المنصرمK وكان العريض واسطته وكانت حباته أسماء بزغت في سماء الشعرية العربية أمثال غازي القصيبي، حسن عبد الله القرشي،عبد الله الفيصل، سعاد الصباح، فهد العسكر، قاسم حداد، سيف المري وغيرهم تمثيلا لا حصرا.
الخليج الذي ما كان ينظر إليه ويحتفى به فكأنه جسد فعليا معنى المثل العربي القديم "أظمأ من رمل" فانقلب في القرن العشرين رياضا وحياضا يلفت النظر ويستهوي القلب بهذه الأسماء التي افتكت للخليج موقعا مميزا على الخارطة الشعرية ولم تعد رغوة الأجاج وبقايا عظام البائس الغريق التي تمثلها السياب حين وقف على شاطئه ذات مرة هي ما يحصله المرء:
أصيح بالخليج، ياخليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
وينثر الخليج من هباته الكثار
على الرمال رغوة الأجاج والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
بل صار ينثر دواوين من الشعر توصف بالجودة المضمونية والأسلوبية معا ولا تكرر التجارب الشعرية السابقة، بل يفهم الشعر على أنه توتر فكري وقلق وجودي وتلبس بحالة شعورية فريدة، ومحاولة لفض حجب الغيب وطلاسم الحياة،الشعر صنو الحياة وتجربة فريدة والاستحمام في النهر لن يكون أكثر من مرة واحدة، وليس الشعر ظاهرة بيانية فقط بل هو خميرة الحياة وخبزها وطينة الوجود معجونة بماء الفكر والتأمل يقول سعود البابطين عن تجربة العريض الشعرية بمناسبة تكريمه من قبل المؤسسة قبل رحيله بقليل عام 2002 (وبهذا الانفتاح الذي عرفه إبراهيم على الآخر الثقافي لم يكرر المشهد الشعري في البحرين بل حاول أن يتجاوزه ويؤسس لمستوى جديد وتحرير الشعر من رواسب الخطاب الشعري، يخرج بالشعر من عباءة التراث والنسج على منواله أي من كونه حالة لغوية بيانية ويدخل إلى النفس البشرية بكل أغوارها وأحلامها وصبواتها ليصبح حالة إنسانية تقتنص الصفة المناسبة وبذلك قلبت المعادلة الشعرية رأسا على عقب وبعد أن كانت تقف على رأسها أصبحت تقف على قدميها، اللغة والعبارة تخضع لأحوال النفس ولا تصب النفس في قوالب اللغة الجاهزة وبذلك أحدث إبراهيم العريض وجيله انطلاقة في الروح الشعرية وفي العبارة الشعرية وكانوا تمهيدا لانطلاقة أوسع قام بها الجيل التالي لهم من الشعراء).
إبراهيم العريض المولود في بومباي بالهند عام 1908 ذاق مرارة اليتم إثر وفاة أمه على النفاس وهي من أصول عراقية كربلائية فتعهدته مربية هندية فقد كان والده يشتغل بتجارة اللؤلؤ واستقر بالهند فجمع إبراهيم في نفسه أحاسيس الغربة، غربة الحضن وغربة الوطن، ولكن الهند في ذات الوقت طعمت روحه بروحانيتها وثقافتها وجمالياتها الحضارية فمن رأى الهند لا يستطيع إلا أن يقع في أسرها. ولم يعد إلى البحرين إلا عام 1927 وفي جعبته ميل فطري إلى الجمال وتذوقه في الكائنات وفي الطبيعة وفي الخلق الفني وقد بدأ حياته الإبداعية رساما ومصورا ثم أدرك أن فن الرسم لا يفي برغبته في التعمق فاتجه إلى الكلمة – وفي البدء كانت الكلمة – تعضده ثقافة إنسانية عالمية وقد تشرب من قراءاته في الثقافة الغربية خاصة الإنجليزية وقد كان يتقن اللغة كأحد أبنائها وانجذب إلى شكسبير وشلي وبايرون ووالت وايتمان وإليوت وتوماس مور ثم الأردية والفارسية وقد فتحتا عقله على ثقافة الهند ثم فارس، ولكن عربيته كانت بدائية حين قدم إلى وطنه فاحتاج إلى أن يتعلمها وفقا للأصول فأحضر معلما حتى صار في وقت قياسي من روادها ومالكي ناصيتها وأتاح له ذلك أن يتبحر في الأدب القديم خاصة دواوين امرئ القيس والنابغة والمتنبي وأبي فراس وغيرهم وأمهات كتب التراث الأدبي.
حين عاد من الهند، والهند كانت بلدا متطورا علميا وحضاريا بالقياس إلى الخليج عموما فلم يكن الخليج في بداية القرن وثلثه الأول غير مجتمع يستكين إلى راحة التقليد، وادعاءات العرف وهيمنة الأمية خاصة على المرأة الخليجية، ويتأبى على اقتحام عقبة التنوير وخوض صراعات وجدليات التقييد والانعتاق. هاهو فهد العسكر من الكويت يموت نكرة منبوذا في قبو وتحرق عائلته أشعاره لأنه جلب عليها العار بقرضه الشعر وتغنيه بالحب وتعشقه للحرية وخروجه على العرف حتى قال:
وأنا شــــــاعر خلقت لأشدو
لا لأتلو القرآن في المحراب
والكويت تخوض تجربة التحديث ونشر التعليم وفتح المدارس للبنات والبنين برغم جمود البعض واعتراضهم واستكانتهم إلى التقاليد البالية بريادة عبد الله بشارة وما حدث في الكويت حدث في السعودية والبحرين وغيرها فالمجتمع الخليجي في ثلث القرن الأول خاصة مجتمع رتيب يستكين إلى راحة الأخذ بالموروث مكتفيا بكتاتيب شبه بدائية لتعليم القرآن، مع وضع ردئ للمرأة الخليجية، فكأن قدرها هو الحيف والنظرة الدونية التي لا تتعدى كونها آلة للامتاع والإنجاب. هذا هو الخليج الذي كان عليه أن يواجه تحديات التعليم والتطوير وربح رهان المعاصرة ونشدان النهضة الاجتماعية وفي مركزيتها تغيير وضع المرأة ثم بلوغ النماء الحضاري علميا واقتصاديا وثقافيا.
لأجل ذلك فتح العريض أول مدرسة للتعليم وأشرف عليها وناضل من أجل تعليم الفتاة فقد كان من كبار المحامين عن حقوقها – ويا لكرم القدر فقد رزقه الله بسبع بنات وولد واحد- وأول حقوقها التعلم وحقها في تقرير مصيرها في إطار القيم الإسلامية ولم يكن أبدا يستريح إلى النظرة الشبقية والروح الدونجوانية التي كان يتفاخر بها شعريا نزرا قباني – بالرغم من إعجابه به- ويصرح بغلمته وشبقه بل ويشجع الفتاة على الحرية الجنسية، إنما المرأة شريك وكائن يتعدى وظيفة الامتاع والخدمة والإنجاب إلى روح مستقلة تتناغم مع الذكر ولا تطابقه، فهما أصل الحياة ولاشك أن للثقافة الإسلامية والهندية أثر في هذا الفهم الذي يوسم بالعميق والإنساني وهذه الثورة التي حملها في ضلوعه وفي فكره على ضرورة تجاوز آصار الماضي وظلمات القرون وسجون التاريخ إلى فضاء الحرية والإنسانية.
ولقد أمدته الحياة بسيل من التجارب المهنية فقد عمل بشركة نفط ثم بالإذاعة ثم تقلد منصبا بوزارة الخارجية وصار رئيسا للمجلس الدستوري في السبعينيات وعرفت البحرين شعبا وحكومة فضل الرجل فقلدته أرفع الأوسمة عرفانا بجهاده وفضله في التنوير ومعركة النهضة وأسبقيته الإبداعية وإضافته إلى حقول الإبداع الشعري ليس في البحرين وحدها ولا في الخليج فقط بل في العالم العربي.
يصنف العريض شعريا ضمن الكوكبة الرومانسية، ففي الوقت الذي بدأ فيه مشواره الشعري كانت الرومانسية هي المذهب السائد في العالم العربي، مذهب يحتفي بالفرد وبتجربته وينشد الحرية وينأى عن التقليد والاجترار والكف عن اعتبار الشعر مجرد ظاهر لغوية مرصوفة الكلمات فقيرة المعنى شاحبة التجربة وقد كان أبو شبكة يقول:
وإذا أنت لم تعذب ولــــــــم
تغمس قلما في قرارة الآلام
فقوافيك زخرف وبريـــــــق
كعظام في مدفن من رخـــام
فالشاعر عند العريض كائن حالم يهفو إلى الجمال، متوتر يرغب في فك طلاسم الوجود وفض بكارة المجهول، ينشد الحرية والفرادة ويتأبى على نهج الطرق المعبدة والسكك المرصوفة هاهو يصف حقيقة الشاعر:
هو من أحلامه في جــنـة
فإذا حدث عنها قيل جنـــا
هو يهفو لجمال ..ربمـــــا
خفيت آثاره في الكون عنا
لا تقل ..دنياه ظل زائـــــل
فشعاع الحب فيها ليس يفنى
لو تجلت قدرة الخالــــق في
لفظة صاغ لها الشاعر معنى
وإذا كان العريض قد مال إلى الشعر العمودي – على الرغم من ممارسته للشعر الحر- وقد صدر له أول ديوان "الذكرى" عام 1931 كما أبدع في الشعر المسرحي وقد أحب شعراء التفعيلة ودافع عن موقفهم وتجاربهم وأشاد بها، فالشعر صنو الحياة وقانونها التطور والشعر مصداق للحياة وليس شرطا أن يكون موزونا مقفى. وكان من أشد المعجبين بتجربة نازك الملائكة والبياتي والسياب وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور وحتى الغموض الذي رآه البعض مخربا لجوهر الشعر عند أدونيس مثلا رآه هو (هناك جوانب متعددة لقضية الغموض فأنا لا أستطيع أن آتي إلى الشاعر وأجبره على أن يقدم اللون الذي أستسيغه وحدي دون بقية الألوان الأخرى وأنا أعتقد أن الشاعر حين ينظم فإنما ينظم لنفسه قبل أن ينظم لأحد وكل ما في الأمر أن الشاعر إذا عد كتاباته موجهة لسواه ففي هذه الحالة يتوجب عليه أن يوجد أرضية مشتركة بين إبداعه وبين من يتلقون هذا الإبداع.).
شعر العريض هو شعر التأمل والتواصل مع المتراكم الإنساني والعالمي،شعر الصورة والذائقة التي تستدعي الحواس وشعر الانفعال والحركة وتضيف سلمى الخضراء الجيوسي سمة من سمات التعبير عنده هي دقة التخير في استخدام النبرة الشعرية المواتية للحالة النفسية، فمن قصيدة "قلادة" يقول:
قضيت شبابي بها مغرما
فما كان -يا قلب- أحلاهما
تعيش في أحلامه بربيــع
وتحيا بأنفاسها ملهمــــــا
على الأرض لا يخلد الحسن حتى
يقيم على نفسه مأتمــــــا
فيا ليتني إذ سمعت الحديث
عصرتك –لا أدمعا- بل دما
تقول ابنته الشاعرة ثريا العريض عن شاعرية والدها- وليس لأن كل فتاة بأبيها معجبة فقط- بل تتمثل الخصائص الشعرية والنفسية والفكرية لوالدها (في مواضيعه يميل إلى التعبير عن طموحات الطهارة ومثاليات وأحلام الإنسانية والمشاعر الأزلية الدائمة لا الفئوية العابرة لم يحاول أن يخلد ما يكره في الواقع بل ما يود أن يكون في الإطار الأجمل ولذا لا نجد مآسي المعاناة الطبقية والأسرية المعتادة في أدب الخليج بل نجد رصدا لجدلية الصراع الأزلي في نفس الإنسان بين الخير والشر والبحث عن الحقائق الخالدة).
إبراهيم العريض وعمر الخيام:
لا يذكر عمر الخيام عند القارئ العربي إلا ويرد على الخاطر جمهرة الشعراء الذين عربوا رباعياته كمحمد السباعي وأحمد رامي وجميل الزهاوي والبستاني وأحمد الصافي النجفي ومصطفى وهبي التل، لكن العريض عمل دراسات ومقاربات فريدة لحياة الخيام وأشعاره والذين اشتغلوا به، لقد أحب العريض الخيام وأحب مكتشفه الشاعر الإنجليزي سكوت فتزجرالد معرف العالم الغربي به، ترجمة العريض تختلف فهي لا تتبع فقط المخطوطات بل تتمثل روح الخيام الحائرة وتجربته الوجودية وقد قال العريض مخاطبا الخيام:
إني لأشعر ما قد كنت تشعـــره
ألست مثلك في أرجوحة القدر؟
وما قصرت يدا عن بث معتقدي
إلا لأني مسبوق على الدرر
أيترع القدر الجبار من دمنا
كأسا دهاقا ونسقاها على قهر؟
فأين روحك يا خيام تسعفني
حتى أترجم ما خلفت من الأثر؟
لقد كان اكتشاف فتزجرالد لمخطوطة الرباعيات بالهند إحدى أهم الاكتشافات الأدبية وتأسس باسمه نادي في لندن بل غدا اسم الخيام رمزا للانطلاق والنشوة والتحرر من الهواجس والمخاوف وعطالة الحياة وحتمية الفناء. ها إن الرجل غدا اسما سينمائيا وتجاريا في عواصم العالم الغربي والشرقي. يؤكد العريض الذي أنجر دراسات ومقاربات للرباعيات ولحياة الخيام والغموض الذي اكتنفها أن المحققين لا يعرفون على وجه اليقين أكثر من سبع عشرة رباعية في حين أن المخطوطة التي اكتشفها فتزجرالد تحوي حوالي 152 رباعية بل بلغت بالانتحال حوالي 1000 رباعية وكان القصاص الفارسي صادق هدايت جمع حوالي 252 ومواطنه فروغي جمع حوالي 282 رباعية والعمدة في ذلك ما وجد مخطوطا ومنسوبا إليه وليس ذلك على وجه اليقين.
بينما تمثل عمل العريض في تمثل روح الخيام التي تشرب بها مستعينا بحاسته الشعرية وحدسه المعرفي وذائقته الفنية :
أفق يا نديم استهل الصبـاح
وباكر صبوحك نخب الملاح
فمكثك بين الندامى قليــــــل
ولا رجعة لك بعد الـــرواح
وبهذه الرصانة اللغوية والروح الشعرية الهائمة في مسالك الرباعيات المتشعبة تتلمس أصالتها بمزيج من الخبرة والحدس والعلم والذائقة استطاع العريض أن يهدي إلى قراء العربية آية من آيات الخيام في لغة عربية رصينة وديباجة شعرية مشرقة لا تقل إبداعا عن الأصل ولن نعتبر الترجمة هنا خيانة بل أفقا تأمليا ومقاربة مضافة للأصل مفتوحة على الدلالات الغنية والمجازات الشعرية والحقول المعرفية الخصبة.