لا يجادل أحد من النقاد العارفين بشؤون الشعر العربي الحديث والمعاصر في تأثر الشعراء العرب الأكيد والحاسم بالتيارات الشعرية الغربية الحديثة والمعاصرة. ومن هذا القبيل تأثرهم بنظريات سوزان برنار، ولا سيما كتابها الصادر عام 1959، بعنوان "قصيدة النثر: من بودلير حتى أيامنا هذه". وأخُصّ من أعنيهم شعراء مجلة "شعر"، وعلى رأسهم أدونيس (علي أحمد سعيد)، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا - المعني بهذه المقالة - وفؤاد رفقة، وعصام محفوظ، وغيرهم.
لم يكن شوقي أبي شقرا مثالاً نافراً في تركه الشعر التفعيلي (أكياس الفقراء، وخطوات الملك) لصالح قصيدة النثر منذ عام 1962، حين صدور كتابه الأول فيها "ماء إلى حصان العائلة"، إذ سلك الطريق عينه، شعراء مجايلون لأبي شقرا، في مقدمتهم أنسي الحاج، الذي تفرد بالكتابة على سمت قصيدة النثر، منذ أن أطل على مجلة "شعر"، وصدور ديوانه "لن" (1960)، وحتى رحيله.
بالعودة إلى كتاب الشاعر شوقي أبي شقرا الجديد، ويعد الخامس عشر في سلسلة أعماله - التي أعرضها لاحقاً - وهو بعنوان "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى" (2021)، والصادر عن دار "نلسن"، في 258 صفحة، يمكن للقارئ، شأني، والمطلع على أعمال الشاعر السابقة، أن يستخلص الأمور الآتية.
مناخ شعري
أولاً: ثمة ميل لدى الشاعر، في كتابه الأخير، إلى ترسيخ مناخ شعري عام، بعيداً من أي استغراق في موضوع، أو تيمة معينة، أو اتجاه فكري طاغٍ. وقد لا تكفي النظرة البحتة إلى عناوين القصائد المتباعدة، والمزاجية، والمناسبة لمزاجية الشاعر واللصيقة بعالَمَيه الواعي واللاواعي (شاحبات، نزمجر، الفتى، نزهة، الحرف، ورقة، البابوج...)، للخروج بهذا الانطباع، وإنما تراه مجبراً على التمعن في دلالات المعجم والصور الغريبة والصادمة بجدتها وافتراقها عن التقليد، ليكتشف أن لا روابط متينة بينها، بالتالي قد لا يكون ثمة سعي إلى بناء موضوع معين، من مجموع الدلالات المستفادة من هذه الصور والمشاهد المتفرقة.
وفي المقابل، كان يمكن للقارئ عينه لإحدى قصائد "صلاة الاشتياق على سرير الوحدة" (1995)، على سبيل المثل، أن يتبين بيسر موضوعه أو فكرة رئيسة أو حالة شعورية من قصيدة "لم تنعس على الطريق"، إذ يقول الشاعر: "القبلة من زمان الصبا/ أرسلتها نضرة من مخبأ الفوطة/ فتحت لها الحديد والمخمل/ كبرت إلى حد العقاب/ وإلى أكثر من التفاحة/ عبرت سكون الساقية"
ثانياً: في الكتاب الجديد، لأحد أركان كتابة قصيدة النثر في العالم العربي، نزعة إلى توليد الصور الشعرية المفارقة والصادمة والمتلاحقة، على خير ما يكون استثمار اللاوعي وإطلاق طاقاته التخييلية، وإبطال أي صلة للشعر بالمنطق أو بحس الرشاد، عملاً بنصيحة غلاة السوريالية، من أمثال أندريه بريتون وبول إليوار وأنطونين آرتو وفيليب سوبو، وغيرهم. يقول الشاعر، في قصيدة "حصار": "الوردة سترقص وتعاني وتستجدي قناع الإسكندر وأمواج/ الزوارق وشربين الحصار/ وما عندها مخرج من شرارة السينما وفم الممثلة ومن الفحمة/ الشاردة وتصلي أين الصراط؟ والويل شخص الليل/ وحده ينزل في الفوهة/ وتنقضي العطلة وتلتهم الصدفة/ ولا تشبع من قريدس الكلام"
دلالات شعرية
وفي المقابل، كان يمكن للقارئ في كتابه "صلاة الاشتياق..." أن يتلمس دلالات الصور الشعرية، على غزارتها، موصولة بخيط السرد حيناً، والخطاب المباشر حيناً آخر، إذ يقول في قصيدة "دعوا الطيور العزيزة": "دعوا الطيور العزيزة/ والثعلب والحيلة/ والبومة والقصيدة/ والقنفذ والارتباك/ أشعلوا أصابعكم للرثاء/ والبكاء على الأندلس فينا/ وأعطوا علامة الخفقان/ وأنكم الوجود والأحياء"
وبالطبع، وإن كنت لا أود الخوض في دنو الشاعر شوقي أبي شقرا أحياناً، في ديوانه الأخير من المجانية الدلالية وذات الهدف البين، في صوره الشعرية الغزيرة والناجمة عن كتابة آلية، هي من أسس السوريالية الأصيلة، كتابة آلية خاصة به، فإنني أشير إلى وجود العديد من القصائد التي تحفل بالغنائية المبطنة، من مثل: القنبز، والخادمة، والياء وغيرها، والأب، والوحيدة، وأخرى.
ثالثاً: هو العالم الريفي نفسه يزداد حضوراً في عمل أبي شقرا الجديد، وكأنه الملاذ الأول والأخير لذات الشاعر، ومنهله الأهم، ومادته الشعرية الأثيرة من حيث يستقي مشاهده الشعرية، وعالم حيواناته الأليفة وغير الأليفة، (القطة، الغراب، البقرة، حمامة، الكلب، الفراشة، الحمار، الخروف...)، ونباتاته، وأزهاره (السنديانة، الوردة، مردكوش، القمحة، السفرجلة، الكروم، الشقائق...). ولعل إصرار الشاعر على صوغ لغته الشعرية من معين الريف هو ما يطبع خصوصية رؤيته الشعرية، ويصنع تمايزه عن غيره من شعراء مجلة "شعر"، ويحقق طموحه إلى بناء عالم شعري فانتازي، يعوض عن طيف انغلاقية في الدلالة ناجم عن كثافة الصور الشعرية الشديدة الغرابة، بل الصادمة بمفارقاتها.
ظاهرة أسلوبية
رابعاً: تعد التراكيب اللغوية في شعر أبي شقرا، في كتابه "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى"، مجالاً للتجاذب والتعليق ، علماً بأن هذه الظاهرة الأسلوبية، في أعماله الشعرية السابقة، وإن كانت ماثلة، إلا أنها بدت ملطفة بخيط الدلالة المتاح للقارئ في بنيتها الداخلية العميقة. وبناءً عليه، لا تعود عمليات الحذف، والتقديم والتأخير، والإضمار، والالتفات في غير أوانه، والتكرار، وغيرها، كفيلة بحجب الدلالة العميقة عن القارئ
إلا أن تآزر أسلوبين، في قصيدة واحدة، عنيت (الحذف، والتقديم والتأخير) مع صور شعرية متفردة بنفسها، من دون أن تكون معدومة الدلالة، قد يضاعفان من شدة القراءة، بما تعنيه من فهم القارئ موضوع القصيدة، والتفاعل النشط معه. وهذا ما يجري لدى قراءة قصائد المجموعة الأخيرة للشاعر أبي شقرا: "ثوبنا السموكينغ والمأتم يصب علينا/ ينبوع البندق وخواطر الأحزان/ ودلعونة السر زوجة الغائب/ وقفازنا عزاء السير في البراري ولا راحة/ ولا دمعة ولا فذلكة ولا أي ملح من المآقي/ لئلا سوف يغلبنا الماردلك الأزرق/ وينبطح على الرغيف والجمهور وعلينا/ راقصاً بالمحرمة وعساكره من اللوز..."
للشاعر شوقي أبي شقرا مجموعات شعرية هي الآتية: "أكياس الفقراء، وخطوات الملك، وماء إلى حصان العائلة، وسنجاب يقع من البرج، ويتبع الساحر ويكسر السنابل ركًضاً، ولا تأخذ فتى الهيكل، وصلاة الاشتياق على سرير الوحدة، وثياب السهرة الواحة والعشية، ونوتي مزدهر القوام، وتتساقط الثمار والطيور وليس الورقة، وأبجدية الكلمة والصورة"، بالإضافة إلى كتاب مذكراته بعنوان "شوقي أبي شقرا يتذكر".
الإندبندنت عربية