تحل هذه الأيام الذكرى الأولى لوفاة الشاعر والكاتب والمناضل حنا ابراهيم (توفي في 15/10/2020) ابن قرية البعنة، ورئيس مجلسها المحلي سابقا، الذي قضى حياته (يوم وفاته كان في ال 93 من عمره) مناضلا من اجل حقوق شعبه، ولم يرعبه السجن والملاحقة البوليسية في أحلك سنوات مرت على الجماهير العربية بعد النكبة.
عرفت حنا إبراهيم من نشاطه الإبداعي والإعلامي والشعري عبر صحافة الحزب الشيوعي ومن مهرجانات الشعر، التي كانت تعقد في بلداتنا، ومن مشاركته النضالية بكل النشاطات الشعبية، وكان من حسن حظي ان تعرفت عليه شخصيا عبر عمله في صحيفة "الأهالي" التي صدرت في سخنين بين 2000 - 2005، وكنت نائبا لرئيس التحرير المرحوم سالم جبران، وجاء وقتها حنا إبراهيم ليساعدنا في التحرير والتصحيح اللغوي، وعرفت به الانسان المخلص وقوي الشكيمة، لكني عشت حزنه أيضا، اذ كان حزبه الشيوعي قد فصله من عضوية الحزب عام 1989 ، بدون أي تفسير رسمي، وكان يطالب دائما من رفاقه ان يبرروا سبب فصله ويجرون له محاكمة حزبية، وهو الشيوعي المناضل الذي وقف دائما في الصفوف الأولى بكل معارك شعبنا، ولم ترهبه هراوات الشرطة ولا الإقامة الجبرية ولا السجن. ورغم الفصل الأحمق لشيوعي عريق انضم للحزب منذ عام 1948، وكان رئيسا للسلطة المحلية في قرية البعنة كمرشح من قائمة الحزب الشيوعي.
ما زلت اذكر إصراره وهو يعمل معنا في صحيفة الأهالي، بانه ماركسي رغم انف الذين فصلوه. ودافع بقوة عن النظرية الماركسية وان الخطأ في فهمها وتطبيقها وله جملة شهيرة كان يكررها: "أنا آخر الشيوعيين الماركسيين الصادقين". حنا ابراهيم ليس اديبا آخر في ثقافتنا، انما هو الأديب الذي أرسي بمشاركة روادنا الثقافيين، جذور أدبنا، وصيغنا النضالية، وتمسكنا بأرض الآباء والأجداد، عبر تحد سياسي بطولي نادر في تاريخ الشعوب.المعركة العملاقة التي خاضها جيل حنا ابراهيم جعلت منا شعبا متراص الصفوف، جريئا في النضال ومقاومة الاضطهاد القومي وارهابه، في أكثر الظروف سوادا بتاريخنا، بعد نكبة شعبنا الفلسطيني. جيل حنا ابراهيم قاوم سياسة التجهيل بلغتنا وتراثنا وأرسى نهجا ثقافيا نضاليا كان الفاتحة والقاعدة الصلبة لتطور أدبنا ووصوله الى ان يصبح أحد أبرز ممثليه.
حنا ابراهيم ليس أديبا فقط، وليس مناضلا سياسيا فقط، انما هو سجل شامل لتاريخ شعب، وتاريخ نضال، وتاريخ ثقافة .. ومن المؤسف ان هذا السجل يبقى "داخل الحصار" .. غائبا عن الأجيال الجديدة. بظل أبطال مثل حنا ابراهيم نشا جيلنا وتثقف سياسيا. على رعد قصائد حنا ابراهيم وزملائه الطلائعيين في مهرجاناتنا السياسية والشعرية، وارتبطنا بثقافتنا وبدأنا خطواتنا الأولى كأدباء امامنا أفضل نموذج يمكن أن يحلم عليه الأدباء الناشئين. وحقا أثبت هذا النموذج أهليته وأهميته ومضمونه التربوي والثقافي والسياسي. خلال النكبة ومع انسحاب جيش الانقاذ، وزع حنا إبراهيم مع رفاقه الشيوعيين منشورا، هو صاغ نصه، يدعو اهل بلده والبلدات المجاورة بعدم ترك منازلهم وقراهم، والصمود في وطنهم مهما كانت الظروف والمخاطر.
أصدر خلال حياته العديد من الأعمال الشعرية والقصصية والروائية والمذكرات التي تنقل واقع الجماهير العربية. ولا بد هنا ان اشير الى كتاب هام جدا ومميز جدا لحنا ابراهيم، كتاب "ذكريات شاب لم يتغرب" وهو كتاب مذكراته الشخصية، ويمكن القول كتاب يعرض تاريخ تجربة اديب ومناضل ارتبط بقضايا شعبه، سأقتبس من كتابة لوحة هامة تعبر عن شخصية الراحل ودوره النضالي. وبالأخص مذكراته التي سجلت مرحلة هامة من تاريخ النضال الشرس للفلسطينيين الباقين في وطنهم رغم عاصفة النكبة وجرائم التهجير والمذابح وهدم البلدات الفلسطينية، والتي تعرف ب "معارك الهويات".
معارك الهويات، كانت نضالا بطوليا خاضها رفاق الحزب الشيوعي والجماهير العربية والمحامي حنا نقارة الذي أطلق علية الناس لقب "محامي الشعب". هي قصة لا بد ان تسجل كرواية في يوم من الأيام، كان ابناء شعبنا بعد النكبة ينشدون الأهازيج الوطنية لحنا نقارة وحزبه الشيوعي فرحا بتحصيله للهويات الزرقاء عبر المحاكم الأمر الذي كان يعني البقاء في الوطن وعدم اعتبار الفلسطيني "متسللا" (أي من أصحاب الهويات الحمراء) يجب قذفه وراء الحدود، وتحديا أيضا للحكم العسكري الذي فرض على العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم. وهذه نماذج من الأهازيج الوطنية التي اشتهرت في تلك الفترة وهي من يراع حنا ابراهيم:
طارت طيارة من فوق اللية الله ينصركو يا شيوعية (اللية: اسم مكان في الجليل)
حنا نقارة جاب الهوية غصبا عن رقبة ابن غريونا (اول رئيس لحكومة اسرائيل):
ويكتب حنا إبراهيم شارحا: كانت تمنح هويات حمراء لمن يعتبروا "ضيوفا" بالتعبير الاسرائيلي، أي المرشحين للطرد من الوطن. أما غير الضيوف فكانوا يحصلون على هويات زرقاء. ويذكر حنا ابراهيم أغاني التحدي التي كانت تنشد في حلقات الدبكة، ومنها:
يا أبو خضر يللا ودينا الزرقات والحمرا ع صرامينا (ابو خضر: اسم شرطي ترك ذكريات سوداء بعنفه - "الزرقات والحمرا" اشارة الى الهويات)
هذا وطنا وع ترابه ربينا ومن كل الحكومة ماني مهموما
يقطع نصيب ال قطع نصيبي لو انه حاكم في تل أبيب
توفيق الطوبي واميل حبيبي والحزب الشيوعي بهزو الكونا
ويتلقف الشبان الكرة ويعلو نشيد المحوربه (نوع من الغناء الشعبي الفلسطيني):
لو هبطت سابع سما عن حقنا ما ننزل
لو هبطت سابع سما عن أرضنا ما نرحل
حنا ابراهيم ليس اديبا آخر في ثقافتنا، انما هو الأديب الذي أرسي بمشاركة روادنا الثقافيين، جذور أدبنا، وصيغنا النضالية، وتمسكنا بأرض الآباء والأجداد، عبر تحد سياسي بطولي نادر في تاريخ الشعوب. المعركة العملاقة التي خاضها جيل حنا ابراهيم جعلت منا شعبا متراص الصفوف، جريئا في النضال ومقاومة الاضطهاد القومي وارهابه، في أكثر الظروف سوادا بتاريخنا، بعد نكبة شعبنا الفلسطيني.
وهنا لا بد ان اذكر حادثة من عام 1958، يومها حاولت حكومة إسرائيل منع مظاهرة اول أيار في الناصرة، لوقوعها بذكري عشر سنوات على إقامة الدولة اليهودية، فهبت الناصرة متحدية ووقع يومها أكبر صدام بتاريخ الأقلية العربية بين المواطنين والشرطة، استمر الصدام من ساعات الصباح وحتى ساعات المساء المتأخرة، وجرى اعتقال ما يقارب 400 شخص من الناصرة والقرى العربية التي تسلل رجالها الى مدينة الناصرة للمساهمة بالمعركة من اجل حق شعبنا بالتظاهر وخاصة في يوم اول أيار.
لا اعرف اذا اعتقل حنا إبراهيم في تلك المناسبة، لكنه وصل الناصرة مع مئات الشباب بعد ان أوقفت الشرطة وسائل النقل التي جاؤوا بها من قراهم، ومنعوهم من دخول مدينة الناصرة، بفرضهم حصارا عليها، فتسللوا لمدينة الناصرة، عبر الطرق الوعرية سيرا على الأقدام وشاركوا اهل الناصرة بالمعركة المحتدمة مع الشرطة، ويمكن القول انها اول معركة تواجه بها شرطة إسرائيل حجارة المتظاهرين، واذكر ان بلاط الشوارع التركي، الذي رصف له الأتراك الكثير من الممرات والساحات، كان الشباب يقتلعونه ليقذف على الشرطة، فاضطرت البلدية فيما بعد لتزفييت الشوارع بدل البلاط الذي اصبح سلاحا بأيدي المتظاهرين. في ذلك اليوم انشد المتظاهرون مقاطع شعرية ارتجلها حنا ابراهيم ما زلت اذكر منها مقطعا واحدا:
والناصرة ركن الجليل فيها البوليس مدحدل.
رحم الله الشاعر، الأديب والمناضل حنا ابراهيم وستبقى ذكراه عطرة دائما وابدا بتاريخ شعبه ونضاله.