أبو قصيدة النثر.. شاعر أخلص لمدينته
يحفل النتاج الشعري عند الأديب السوري محمد الماغوط بنمط مغرق في حداثته، حتى عد من رواد قصيدة النثر عربيا، ما دفع مواطنه الناقد جمال أبوسمرة إلى تخصيص ندوة للحديث عن الحداثة في شعر هذا الأديب والتقنيات التي استخدمها.
وبين أبوسمرة في الندوة التي استضافها اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين أن الماغوط كان الأب الروحي لقصيدة النثر، كما تجلى في قصائده اهتمامه بالهم الاجتماعي، ولكن ليس على حساب جودة القصيدة، فكان يلّمح ويشير ويطوع لنصه مكونات الحداثة والبنية الدرامية مثل الصراع والمونولوج والديالوج، أي الحوار الداخلي والخارجي والمفارقة الشعرية، ولكن بشكل منظم مركز بقلم شاعر محترف.
وُلد الماغوط في مدينة السلمية شرق محافظة حماة عام 1934، مدينة قال عنها الشاعر في قصيدة مميزة "سلمية:
الدمعة التي ذرفها الرومان
على أول أسير فك قيوده بأسنانه
ومات حنينا إليها
سلمية…
الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا
وهي تلهو بأقراطها الفاطمية
وشعرها الذهبي
وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين"
في تلك المدينة التي يسترجعها الماغوط لاحقا درس الشاعر طفلا، ولكن الفقر أجبره على ترك مدرسته في سنّ مبكرة، لكنه لم يسقط الموهبة الأدبية، ولم يقف الفقر عائقا أمام حبّه للأدب قراءة وكتابة، لتتطور تجربته مع الأدب السياسي الساخر، والقصائد المتحررة من الوزن والقافية، والتي وضعته ضمن رواد ما أصبح يسمى لاحقا "قصيدة النثر"، كما ألف عددا من المسرحيات والأعمال الدرامية، لكن دوره كشاعر ظل مهيمنا على تجربته.
الشاعر كان الأب الروحي لقصيدة النثر
تجلى في قصائده اهتمامه بالهم الاجتماعي والسياسي
دون إغفال جودة القصيدة
وسجن الشاعر بسبب انتمائه السياسي، وكانت تجربة السجن مؤثرة في ما يكتبه، بعد خروجه من السجن فر إلى لبنان مشيا على الأقدام، وهناك التحق بجماعة أدبية أسمها مجلة شعر بمساعدة أدونيس. في بيروت نشأت بين محمد الماغوط والشاعر العراقي الشهير بدر شاكر السياب علاقة صداقة حميمة، وتعرّف في بيروت أيضا إلى عدد من الأدباء وأهمهم الشاعرة سنية صالح زوجته المستقبلية، وشقيقة خالدة سعيد زوجة أدونيس، وقد عاد الماغوط إلى دمشق وهو نجم كبير له أسلوبه الشعري الخاص. وتوقف أبوسمرة عند تميز الماغوط في مفارقة السخرية والإشارة إلى أمر سلبي بنقد مبطن ساخر يوحي خارجه بشيء وداخله بآخر.
وقدم الناقد نموذجا قصيدة للماغوط يرثي فيها الشاعر بدر شاكر السياب بشكل مختلف عما درج في قصائد الرثاء، وكأنه ينقلب على القصيدة العمودية شكلا ومضمونا ويخرج على طريقة الأقدمين في البكاء وذكر المناقب إلى أسلوب هزلي غير دارج في الرثاء وأقرب إلى المضحك المبكي.
وأوضح أبوسمرة أن من عناصر القصيدة الحديثة ليس الوزن والقافية بل الإدهاش الشعري وخلق الصورة الجمالية الجديدة والتكثيف والانزياح اللغوي والتخييل والإيقاع الداخلي والنفسي والمناخ العاطفي الانفعالي والتوترات النفسية والدفقات الشعرية القصيرة التي تتجلى في ما يسمى التوقيعة الشعرية، فضلا عن عناصر الامتاع والإثارة والتصوير كما أكد على الوحدة المعنوية والترابط في القصيدة الطويلة.
ويؤكد حديث الناقد ما قاله في وقت سابق الشاعر اللبناني عباس بيضون، عن علاقة قصيدة النثر بالشعر وهل للنثر أن يكون شعرا، حيث قال بيضون "لنبدأ بالبسيط بل الأبسط، بالسؤال الذي بدأ نكاية وغدت العودة إليه نكوصا إلى طفولة النقاش. سؤال هل قصيدة النثر شعر وهل للنثر أن يكون شعرا. إنه كما ترون سؤال لعوب وضرورة منطقية، لم يكن خطرا لأن واضعيه كانوا يفترضون أنهم يعرفون ما هو الشعر وما هو النثر. وعليه فإن الشعر ليس نثرا والنثر ليس شعرا. لم يدر في بالهم أن يبدأوا بسؤال أول ما هو الشعر".
تقنيات شعرية على غير العادة
كما تحدّث بيضون عن الشاعر محمد الماغوط فقال "المدينة الانتقالية الموقوفة، على حد تعبير وضاح شرارة، هي التي صنعت المفاجأة الماغوطية، كانت للماغوط عينان جديدتان، لأنهما رأتا في هذه اللحظة ما لم يره الشعراء. فتنة الشارع وارتجالات الشارع وقوة الفعل والمادة والمفارقة في الصورة الشاعرية. ثم الإيقاع المونولوجي الحواري لحياة التجوال والإغراء المونتاجي الكولاجي والفيلمي للتسكع المديني".
ووصف بيضون الماغوط بالشخصية الصعلوكية التي هي نتاج المجانية المدنية، وفي شعره هناك لغة المفارقة، لغة الاندهاش والاكتشاف والصدمة. فالسحر المدني وإدمان المدن هما المرض المقابل لخيانة أصلية، بل هنا الخيانة والانشقاق الإدمانيان اللذان يؤسسان للتجربة المدينية.
ووجد الناقد أحمد هلال أن الماغوط كان ظاهرة مختلفة في الشعر العربي رغم أن البعض نفى عنه الصفة الشعرية، والحقيقة أنه هز الأنساق المجتمعية بمحاولة التجاوز والتخطي، فاستطاع كسر الأنماط الشعرية وحرر القصيدة من ثوابتها، وكان حرا منفردا متفردا، ولاسيما مع ديوانه البدوي الأحمر الذي ضم الكثير من المفارقات والانزياحات الشعرية.
منجز الماغوط خول له أن يكون بجدارة واحدا من ثلاثة شعراء مهمّين أسسوا لتيار "قصيدة النثر" في الثقافة العربية، أولهم توفيق صايغ الذي نشر ديوانه الأول "ثلاثون قصيدة" بيروت 1954، وثانيهم الماغوط الذي نشر ديوانه "حزن في ضوء القمر" 1959، والثالث أنسي الحاج الذي نشر ديوانه الأول "لن" 1960. ويذكر أنه قدم على هامش الندوة التي احتفت بالماغوط شاعرا عدد من القاصين والشعراء الشباب نصوصا أدبية وشعرية تم عرضها على طاولة النقد.