السوريون يشيعون الفنان الراحل صباح فخري إلى مثواه الأخير في مدينته حلب
شيع الفنان السوري الراحل صباح فخري إلى مثواه الأخير في مدينته حلب، في جنازة شارك فيها عشرات المواطنين وانطلقت من مستشفى الشامي بدمشق الذي توفي فيه فخري، الشهر الماضي، ولف نعش "ملك القدود الحلبية" بالعلم السوري وسار خلفه حشد من المشيعين بينهم فنانون ومسؤولون. وشيع السوريون الفنان صباح فخري في دمشق، بعد مسيرة فنية غنية تميزت بالموشحات الأندلسية والقدود الحلبية وأطرب خلالها أجيالا متعاقبة في بلاده والعالم العربي.
"العمالقة لا يأتي أحد من بعدهم"
وصرح الفنان دريد لحام "قد يكون رحل، لكنه لن يغيب بل سيبقى حاضرا في الوجدان والذاكرة لأن عظمته وعظمة صوته في أنه عرفنا على تراثنا الذي كنا نجهله، ولولا صباح فخري لما تعرفنا عليه". بدورها، قالت الممثلة السورية منى واصف للصحافيين على هامش مشاركتها في التشييع: "إنها خسارة كبيرة وليست عادية، صباح فخري لا يتجدد ولن يأتي من بعده، فالعمالقة لا يأتي أحد من بعدهم". مضيفة "صباح فخري هو صاحب القدود الحلبية، وأحد رموز قلعة حلب. يقولون قلعة حلب، إنها صباح فخري".
رحيل "ملك القدود الحلبية"
وترك فخري، المولود في 1933 بمدينة حلب، خلفه عشرات المقطوعات الموسيقية والأغاني التي حفظتها الألسنة على مدار عقود، مثل أغاني "يا طيرة طيري يا حمامة" و"يا مال الشام" و"قدك المياس" و"قل للمليحة" وغيرها من الموشحات. وفي حفلاته التي جال فيها عواصم ومدن العالم، امتلك فخري أسلوبا خاصا في إشعال تفاعل الجمهور الحاضر، من خلال رقصته الخاصة على المسرح، حيث تميز بحركة يديه ودورانه حول نفسه، في ما يعرف برقصة "السنبلة" في محاكاة لرقصة الدراويش. ولم يكن صباح الدين أبو قوس، وهو الاسم الأصلي للفنان، يهدأ طوال ساعات من الغناء، ولا كان يتعب من الانتقال بخطى متسارعة على أطراف المسرح من جهة إلى أخرى، على وقع تصفيق الجمهور وتمايل الحاضرين طربا.
وحقق فخري الرقم القياسي في الغناء عندما غنى في العاصمة الفنزويلية مدة عشر ساعات من دون انقطاع العام 1968 على ما أوردت وكالة الأنباء السورية (سانا). وشكل "ملك القدود الحلبية" حالة طرب دائمة للسوريين، وصوتا لا يُفارق سهرات أُنسهم وجمعاتهم الليلية. ويكاد لا يخلو منزل سوري عموما وحلبي على وجه الخصوص من أشرطة التسجيل القديمة التي كانت تجمع أغانيه وموشحاته.
"قلعة الطرب الأصيل"
وفور إعلان خبر وفاة فخري شارك فنانون ومطربون ورواد منصات التواصل في سوريا عبارات نعيه، وتغنى البعض بكلمات من أغانيه مطلقين عليه لقب "قلعة الطرب الأصيل". وفي هذا الشأن، صرح الموظف المتقاعد عبد الفتاح حنانا (74 عاما)، خلال مشاركته في التشييع، "أغانيه جزء من تراثنا، صباح فخري وجد تراثنا وقدمه للناس، لديه فضل علينا بأنه تبنى التراث الغنائي وقدمه لنا".
صوت سوري معبّر غنى القصيدة والدور والموشح من أساطين الشعر العربي.
أيقونة الطرب ورقص السماح
وولد فخري، الذي منح له تقديرا لفخري البارودي الذي رعى موهبته، باسم صباح الدين أبوقوس عام 1933 في حلب القديمة، حيث كان محاطا بثلة من شيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، واعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع الأطروش في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والإنشاد.
وفي باب النيرب كانت له أول حلقة إنشاد بمقابل وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، ولقاء ليرتين سوريتين غنى أولى القصائد أمام الملأ، والتي تقول "مقلتي قد نلت كل الأرب/ هذه أنوار طه العربي/ هذه الأنوار ظهرت/ وبدت من خلف تلك الحُجب". وفي سن مبكرة أيضا تمكّن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية، مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى
نبوغ مبكّر
اشتد عود فخري وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته لكبار منشدي الطرب الأصيل، واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتّعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينات القرن الماضي.
وقد ساهمت “خوانم” أو نساء ذلك الزمن في صعود نجم الفتى، حيث أن من العادات الاجتماعية لسيدات حلب تحديد موعد شهري لكل سيدة تستقبل فيه من ترغب من معارفها وتكون الدار مفتوحة على الغناء والعزف والرقص، وهو ما كان يسمى "القبول" وصارت النساء يطلبنه للغناء في هذه التجمعات.
التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب، وهناك برز تفوّقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة. ويروي كتاب "صباح فخري سيرة وتراث" للكاتبة السورية شدا نصار أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود، حيث تقول الكاتبة إن الفنان سامي الشوا تعهّده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى “محمد صباح” واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات.
موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب قال لصباح فخري عندما سمع صوته "مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه" . ولم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946، ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب.
ودرس فخري في أكاديمية الموسيقى العربية في حلب ودمشق، وتخرّج من المعهد الموسيقي الشرقي عام 1948، كما أنهى دراسة الموشحات والإيقاعات ورقص السماح والقصائد والأدوار والصولفيج والعزف على العود على أيدي شيوخ الفن كالشيخ علي درويش ومجدي العقيلي.
رفض محمد صباح العرض الذي قدّم له بالسفر إلى مصر آنذاك لصقل موهبته وآثر البقاء في دمشق والغناء عبر إذاعتها الرسمية. وتقول الكاتبة نصار إن السياسي المخضرم النائب فخري البارودي كان قد أسّس معهدا للموسيقى في دمشق وأعجب بخامة صوت محمد صباح الفريدة وتوقّع لها مستقبلا ساطعا.
وتضيف الكاتبة "في إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء والتي كان يقدّمها المذيع صباح القباني شقيق الشاعر نزار قباني أراد النائب فخري البارودي أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه، فقدّم المذيع المطرب باسم صباح فخري".
وبمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز الرابعة عشر ربيعا، وكانت أنشودة "يا رايحين لبيت الله/ مع السلامة وألف سلام/ مبروك عليك يا عبدالله/ يا قاصد كعبة الإسلام". وجاءت أول أدوار فخري القديمة من ألحان سري الطنبورجي وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق وعمل بائع أحذية. وتقول الأغنية "أنا في سكرين من خمر وعين/ واحتراق بلهيب الوجنتين/ لا تزدني فتنة بالحاجبين/ أنا في سكرين". وقد غدت هذه القصيدة ملتصقة باسم صباح فخري بعد أن أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.
غياب الصوت واستعادته
تسبّب انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء، إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيّرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح. وتقول نصار "لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي، كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضجّ بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق".
وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها، فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بالخدمة العسكرية عندما أصبح شابا يافعا. وتقول الكاتبة "مع اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه، وعاد صوت صباح فخري الرجل يشقّ لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها".
الراحل سجّل ما يزيد عن مئة وستين لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال، محافظا على القدود الحلبية من الاندثار. عاد فخري إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق وما كان يعرف بخيمة حماد التي غنى فيها مع المطربة اللبنانية صباح، وهناك قدّم الموال بالقدود الحلبية وغنى "مالك يا حلوة مالك" و"يا مال الشام ويالله يا مالي/ طال المطال يا حلوة تعالي".
وغنى فخري "نغم الأمس" مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري، حيث سجّل ما يزيد عن مئة وستين لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال، وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرّد وتشتهر به حلب. كما تلا أسماء الله الحسنى مع الفنان السوري عبدالرحمن آل رشي والفنانة منى واصف والفنان زيناتي قدسية.
وسجّل المسلسل الإذاعي "زرياب" كما لحن وغنى العديد من القصائد العربية، حيث غنى لأبي الطيب المتنبي وأبوفراس الحمداني ومسكين الدارمي ولابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب. كما لحّن وغنى لشعراء معاصرين على غرار فؤاد اليازجي وأنطوان شعراوي وجلال الدهان وعبدالعزيز محي الدين الخوجة وعبدالباسط الصوفي وعبدالرحيم محمود وفيض الله الغادري وعبدالكريم الحيدري.
ووقف في العام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل "الوادي الكبير" الذي تم تصويره في لبنان. وتقلّد الراحل وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 "تقديرا لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل". كما قدّمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم/ الألكسو في العام 2004 الجائزة التقديرية مع درع المنظمة ووثيقة الأسباب الموجبة لمنح الجائزة، لحفاظه على الموسيقى العربية ونشرها. وشغل الراحل العديد من المناصب بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة، ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، كما انتخب عضوا في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.