إسرائيلُ تقتل شعباً وتتباكى على رفاة
عجيبٌ أمرهم وغريبٌ فعلهم، وإن كان الأمر بينهم محمود وعندهم مندوب، ونقيضه عيبٌ ومنقصة، وتقصيرٌ وإهمال، أو خيانةٌ وتفريطٌ، يجعلهم محل اتهامٍ وموضع شكٍ، فهو في عرفهم مسؤولية وطنية تجاه شعبهم، وتكليف ديني أمام أتباع دينهم، يحاسبهم عليه الشعب، ويعاقبهم عليه الرب.
لكن الأكثر غرابةً والأشد استنكاراً هو وقوف العالم معهم، وتأييده لهم في طلبهم، ومساندتهم في الحصول عليه وتحقيقه، واقتناعهم به ودفاعهم عنه، وتعاطفهم معه وانحيازهم إليه، والضغط على من يضيق عليهم ويمنعهم، ويعتقل بعضهم أحياءً أو يحبسهم رفاةً، أو يحتفظ ببعض أجسادهم وبقايا أعضائهم.
فالكيان الصهيوني الغاصب للأرض، والقاتل للشعب، والمطهر عرقياً للسكان، والذي يرتكب جرائم ضد الإنسانية، وأخرى إبادة جماعية للبشر، والمجرم وفق القانون الدولي والإنساني، يشعر بالأسى لغياب بعض أبنائه وحبس حريتهم، أو احتجاز رفاتهم أو بعض أعضائهم، بينما يقوم إلى جانب جرائمه العديدة التي ذكرت، باحتجاز أجساد مئات الشهداء، يحبسهم في مقابر سرية، يحمل المدفونون فيها أرقاماً تميزهم، حتى غدا اسمهم "شهداء الأرقام"، فلا يعرف أهلهم عنهم شيئاً، ولا يدل على أسمائهم الحقيقية غير أرقامٍ خاصة أو علاماتٍ فارقة مدونة، أو شواهد ودلائل عند استشهادهم، كثيابهم التي كانوا يلبسونها، والأوراق التي كانوا يحملونها، أو اليوم الذي فيه استشهدوا، والواقعة التي تمت فيها المعركة أو وقعت فيها الشهادة.
يعيب هذا العدو الغاشم، الذي يرتكب في حق الشعب الفلسطيني كل الموبقات ومختلف الجرائم، أسر المقاومة الفلسطينية لجنودهم المقاتلين، وضباطهم المجرمين، وعملائهم الخائنين، ويستنكر عليها قيامها باحتجاز رفاة جنودهم الذين قتلوا في دباباتهم أثناء العدوان، بينما كانوا يمارسون القتل ضد الفلسطينيين، ويطالبها بالكشف عن مصيرهم، وتحديد حالتهم، والإفراج عنهم، والسماح بعودة الأحياء منهم إلى بيوتهم وأسرهم، وإعادة رفاة القتلى منهم أو بعض أعضائهم، إلى أهلهم وأسرهم، ليدفنوهم في مقابر اليهود، ولتكون لهم قبورٌ معروفة، وشواهد معلومة، يزورهم أهلهم ويكتبون أسماءهم ويرفعون صورهم عليها، ويبكون عليهم وينثرون الورود على قبورهم.
لا ينسى الإسرائيليون قتلاهم، ولا يفرطون في شيءٍ من بقاياهم، أعضاءً كانت أو مقتنياتٍ كانت لهم أو معهم، ولو كانت قصاصة ورقٍ في جيوبهم، أو سلسلةً يطوقون بها أعناقهم، أو ساعةً يضعونها على معاصمهم، وينظمون لتحقيق أهدافهم والوصول إلى غاياتهم، المسيرات الشعبية، وحملات الأمهات المؤثرة، ومظاهرات التأييد والتحريض لاستعادة جنودهم، ويوظفون معهم المؤسسات الدولية وحكومات العالم وأنظمتها، ويطلبون وساطة الرؤساء والملوك والقادة، ولا يبقون على وسيلةٍ عاطفيةٍ ومعنويةٍ، أو ماديةٍ وعمليةٍ، إلا ويقومون بها أملاً في الوصول إلى ما يريدون.
ولا تتوقف وسائل البحث الإسرائيلية المباشرة، أو تلك التي يقوم بها غيرهم بالوكالة، أو ينوب بها سواهم خدمةً لهم وتقرباً إليهم، وهم إن كانوا قد عجزوا في قطاع غزة عن تحقيق ما يريدون، وفشلوا أمام المقاومة التي نجحت في أسر جنودهم وإخفاء آثارهم، في الوصول إلى أي دليلٍ يدلُ عليهم أو يقود إلى الوصول إليهم واستعادتهم، إلا أن يرضخوا لإرادة القوة ومعادلة الفرض والقهر، ويقبلوا بصفقات تبادل الأسرى، ويستجيبوا إلى شروط المقاومة ومحدداتها.
إلا أنهم لم ييأسوا من البحث عن آخرين في أماكن أخرى، وإن كانوا لا يستطيعون القيام بالمهمة بأنفسهم أحياناً، فإنهم يوكلون بها غيرهم ويبقون قريباً منهم، يوجهونهم ويمدونهم بالمعلومات، ويفحصون معهم التراب، ويدققون في بقايا العظام، ويقارنون الأدلة التي عندهم بالجديدة التي تصلهم، ولعلهم يحققون انجازاتٍ خفيةٍ، ويصلون إلى نتائج مرضيةٍ، يعلنون عن بعضها أحياناً، كتلك التي سلمتهم إياها القيادة الروسية في موسكو، والتي تأمل أن تستلم المزيد منها من خلالهم أو بالتعاون معهم.
أما في سوريا الجريحة، فإن الإسرائيليين لا يملون البحث عن رفاة الجاسوس إيلي كوهين، ويعدون زوجته بتسليمها قبل وفاتها جثمان زوجها، وقد سلموها بالفعل رسالةً بخط يد زوجها قبل إعدامه، وأعطوها ساعته التي كان يحملها، ولا أعتقد أنهم سيتوقفون عن البحث عنه، ونبش القبور وحرث الأرض، أملاً في الوصول إليه، وإعادته وتكريمه.
وما زال الإسرائيليون يعملون بجدٍ لاستعادة بقايا جنودهم من أرض المعارك في البقاع اللبناني، ومن أماكن أخرى كثيرة في لبنان، التي يعتقدون أنه يوجد فيها بقايا جنودهم، ولكن عيونهم المفتوحة، ومحاولاتهم المكشوفة، وسعيهم الدؤوب الذي لا يتوقف، هو لاستعادة الطيار الحربي رون أراد، والحصول على معلوماتٍ يقينية تدل عليه، ورغم أنه فقد في العام 1986، وقد مضى على فقدان آثاره قرابة خمسة وثلاثين سنةً، إلا أنهم يصرون على الوصول إليه وإعادته إلى "الأرض".
وقد رأينا في الأيام القليلة الماضية احتفالاتٍ أمنية إسرائيلية، برعاية نفتالي بينت شخصياً، لتكريم فرقٍ أمنية إسرائيلية خاصة، تمكنت –حسب زعمهم- من الوصول إلى مستودع أسرارٍ، من شأنها أن تدل على الأماكن التي كان فيها رون أراد أو نقل إليها، تمهيداً لإنهاء ملفه ونقله إلى مكانٍ مناسبٍ يليق به ليدفن فيه، ولا تتوقف جهود المخابرات الإسرائيلية، التي يتصل عشوائياً ضباط أجهزتها الأمنية، بمواطنين لبنانيين وفلسطينيين يقيمون في لبنان، يطلبون منهم مقابل مكافئاتٍ ماليةٍ هائلة، أي معلوماتٍ مهما كانت بسيطة وقليلة، تساعد في التعرف على مكان رون آراد.
قد ينجح العدو الصهيوني ومن تحالف معه، في الوصول إلى بعض مبتغاه، وتحقيق بعض أهدافه، واستعادة من يستطيع من جنوده وضباطه، ولكنه بالتأكيد لن ينجح في تحقيق ما يريد من المقاومة، التي تحسن صر أسراها والكز عليهم، وتتقن فن إخفائهم، وتعرف كيف تبقيهم بعيداً عن أعين العدو وأيديه، وسيجد نفسه في نهاية المطاف مضطراً للقبول بصفقة تبادل الأسرى، والخضوع لشروط للمقاومة والتنازل أمامها، وبغير هذه الوسيلة التي يفرضها الشعب وتبسطها مقاومته، فإن أسراه لن يعودوا إلى بيوتهم، ورفاة جنوده لن يدفنوا في مقابرهم، ولن يكون لذويهم حجارةً يقفون عليها، ولا نصباً يبكون عنده.
وعدُ بلفور جريمةٌ بريطانيةٌ ومسؤوليةٌ أمميةٌ
عاماً بعد عامٍ نحيي ذكرى وعد بلفور المشؤوم، ونتوقف عند أبعاده القانونية ومنطلقاته الشرعية ونتائجه الكارثية، ونسلط الضوء على الحقبة التاريخية التي واكبته، والظروف السياسية التي كانت سائدةً إبانه، ونعرض لأوضاع الخلافة الإسلامية المتهالكة، وشؤون الولايات العربية التي كانت متدهورة، وغياب الهوية الفلسطينية المستقلة، التي سهلت ظروفها البائسة وقياداتها الضعيفة، إعلان التصريح وساعدت على تحقيقه، ولولا ذلك ما تمكن اليهود من الوصول إلى فلسطين والاستيطان فيها، وبناء منظوماتهم العسكرية وتشكيلاتهم القيادية، والتضييق على أهل فلسطين، وطرد أغلبهم والحلول مكان من تشرد منهم.
مضى على إصدار تصريح بلفور مائة وأربع سنوات، وما زلنا نذكره ونأبى تجاوزه، وقد مضت السنون وكأنها العمر كله، وألقت بظلالها على العالم بأسره، فضلاً عن العالمين العربي والإسلامي، وتركت آثارها الدامية وواقعها الأليم على الحجر والشجر والبشر في فلسطين، وعلى المقدسات والمقدرات والخيرات، وعلى الشعوب العربية والأمة الإسلامية كلها، وطوت فيها سنةً بعد أخرى، أحلام شعبِ أصيلٍ، وضاعت فيها حقوق وطنٍ عتيدٍ، واغتصبت فيها أقدس أرضٍ وأطهر بقاعٍ، ولعلها غيرت معالم الكون كله لا المنطقة فحسب، وسيبقى التغيير قائماً وميزان العدل مكسوراً، إلى أن يأتي اليوم الذي تكتمل فيه دورة الزمان، ويعود التاريخ إلى نقطة البدء، ويتحقق العدل ويسود السلام، ويستعيد أصحاب الأرض حقوقهم، ويعودون فيه إلى وطنهم.
التصريح الذي أعلن عنه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في نهاية العام 1917، والذي هو في أصله إعلانٌ أو تصريح، أخذ شكل الوعد السياسي المقدس، والالتزام الدولي الثابت، بتمكين اليهود في الأرض الفلسطينية وبناء دولتهم، ورعايتهم ليشتد عودهم ويتحقق أمنهم ويتحصن كيانهم، وتوالت على الوعد قيادات أوروبية ثم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد ذلك، التي مكنت الكيان الصهيوني وساعدته، وأمدته بالمال والسلاح، والخبرة والتقانة، وسهلت موجات الهجرة اليهودية إليه، وسهلت لحكوماته مصادرة أراضي الفلسطينيين والتوسع الاستيطاني فيها، حتى غدا جيشه الأقوى في المنطقة، والأكثر عدواناً وفساداً.
كانت بريطانيا بجيوشها المنتشرة في كل مكان، وبأساطيلها الحربية التي تجوب البحار القريبة والبعيدة، وبمستعمراتها الضخمة المغروسة في قلب المدن والحواضر، وفي أقصى الشرق الآسيوي والغرب الأمريكي، تسوس العالم وتتحكم مع عددٍ قليل من الدول بمفاصل القرارات الدولية، وقد كانت تدرك عظم ما أقدمت عليه، وفداحة ما أعلنت عنه، وتعرف الجريمة الكبرى التي قامت بها، ولهذا فهي تتحمل كامل المسؤولية التاريخية، السياسية والإنسانية والقانونية، تجاه ما حدث مع الشعب الفلسطيني، وتجاه المصائب التي لحقت به، والخسائر التي مني بها، وأرضه التي احتلت، وحقوقه التي انتهكت، ومقدراته التي أهدرت، وأجياله التي شردت.
رغم مضي أكثر من قرنٍ على الجريمة البريطانية بحق الشعب الفلسطيني، وهي الجريمة التي لم تتوقف فصولها، ولم تقتصر على الوعد، ورغم أن دورها قد تراجع ونفوذها قد تقلص، ولم تعد هي الدولة العظمى التي كانت، ولا سيدة البحار التي سادت، إلا أنها ما زالت واحدة من خمسة دول عظمى في العالم، وما زال لها تأثيرها الكبير ودورها الفاعل في إدارة العالم، لذا فإنه ينبغي عليها أن تتحمل كامل المسؤولية عن جريمتها، وأن تعمل على تصحيحها وتصويبها، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، فهي من خلق هذه الأزمة، وهي من أسس لهذا الصراع، وهي التي زرعت الكيان الصهيوني بيننا، وجعلته كالسرطان في جسد الأمة العربية ينهشها ويفتك بها.
في ظلال وعد بلفور السوداوية القاتمة، ينبغي التوقف عن البكاء والعويل، والكف عن لطم الخدود وشق الجيوب، والعمل بصورة جديةٍ على رفع دعوةٍ أمام المحكمة الدولية ضد دولة بريطانيا، واتهامها بالمسؤولية المباشرة عن جريمة تشريد الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه، ومطالبتها بالاعتراف بجريمتها، والإقرار بمسؤوليتها، وتقديم الاعتذار الفعلي للشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية، وذلك بالتراجع عن وعد بلفور، واعتباره وعداً باطلاً، وتصريحاً غير مسؤول، والتعهد بالعمل أمام المجتمع الدولي كله، وتحت قبة مؤسساته الدولية، لإلغاء كافة الاستحقاقات التي تلت هذا الوعد واستفادت منه.
لا يكفي أن نقف ونعد السنوات، ونضيف عاماً جديداً بعد آخر إلى الذكرى الأليمة، بل ينبغي التحرك وفق رؤية واضحة، وخطة محكمة، وبرنامج عمل دقيق، بالتعاون مع خبراء قانونيين دوليين، ومحامين كبار، ومستشارين ذوي خبرة وكفاءة، للعمل على محاصرة بريطانيا وحشرها، وتحميلها المسؤولية الكاملة، وإجبارها على بذل أقصى الجهود على كل المستويات الدولية، وممارسة الضغط على الحكومات الإسرائيلية، لوضع حدٍ نهائي لمعاناة الشعب الفلسطيني، ووقف الجرح النازف في حياة أجياله ومستقبل بلاده، وأظنها قادرة على لعب هذا الدور، فضلاً عن أنها ملزمة به، في ظل مسلسل الاعتذارات التي تشهدها الأنظمة الاستعمارية القديمة، لصالح شعوب البلاد التي احتلتها، وأجرمت في حقها قتلاً واعتقالاً، وتخريباً وتدميراً لأوطانهم.
علينا أن نفتح كل الجبهات ضد العدو الصهيوني، وأن نعود به إلى الوراء، ونحشره في المربعات الأولى التي نشأ فيها واعتمد عليها، ونستغل السياسة والقانون، والمجتمع الدولي والأمم المتحدة، ونتقدم أمام محاكمهم الوطنية وهيئاتهم الدولية، بشكاوى ضد سياسة بلادهم، التي أفضت إلى ارتكاب هذه الجريمة النكراء، وسكتت عن الوعد الباطل والتصريح الآثم، ونجبر المجتمع الدولي الذي احتضن الكيان الصهيوني ورعاه، وتكفل به وحماه، واعترف به وتبناه، أن يعيد النظر في مسؤوليته، ويتحمل نتائج قراراته، ويصحح الأخطاء التي وقع فيها، فهو مسؤول مسؤولية مباشرة بصمته أو قبوله، وبتآمره أو مشاركته، عن نكبة الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه.
التدخلُ الفلسطيني المحمودُ والتدخلُ المرفوضُ
لا تنفك المنطقة العربية على مدى الأيام كلها، من طنجة في المغرب العربي إلى بوابة العرب الشرقية في العراق، تغلي بالأحداث الجسيمة والتطورات الكبيرة، وتنتابها تغيرات كثيرة، تميد بها أرضها، ويضطرب بسببها أهلها، وينقسم شعبها، وتتغير أحوالها، وتتبدل أشكالها، وتنعكس نتائجها على مساراتها، وتنقلب على إثرها حياتها، وتنقلها من مسارٍ إلى آخر، ومن سياسةٍ إلى أخرى، وقد تسلمها من نظامٍ إلى غيره، لا يتفق مع سابقه ولا يتوافق معه، بل ينقلب عليه ويحاربه، ويجتثه ويعزله، ويعتقل رموزه ويعاقب قيادته، ويعادي كل من حالفه وأيده، أو كان معه وناصره، مواطنين محليين كانوا أو عرباً مؤيدين، فيقسو عليهم الجديدُ ولا يرحمهم، ويحاسبهم ولا يسامحهم، ولا يغفر لهم ماضيهم ولا يتفهم مواقفهم، رغم حسن نيةِ بعضهم وسلامة قصدهم.
قد يكون من الطبيعي جداً أن تعلق الحكومات على ما يقع في بعض البلاد، وأن يكون لها موقفٌ منها، تأييداً أو رفضاً، واستنكاراً أو إدانة، أو صمتاً وحياداً، كالانقلابات الحادثة، أو الانتخابات الجارية، أو الاعتقالات الأمنية والتعسفية، وعمليات الاغتيال والتصفية، والافتئات على حقوق الإنسان والاعتداء عليها، أو الصراعات الداخلية والحروب البينية، والحملات العسكرية ضد المجاميع الوطنية والفئات السكانية، وغير ذلك من الحوادث التي تتعرض لها الدول وتمر فيها، مما يستلزم ردود فعلٍ دوليةٍ، أو تدخلاً من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية.
قد يبرر البعض للدول والحكومات تدخلها في بعض الأحداث، والتعليق عليها أو التعقيب على نتائجها، والتحذير منها وتسليط الضوء عليها، كونها دولاً كبرى، ولديها مصالح ومنافع في المنطقة محل التدخل، تخشى فيها على مكتسباتها أو نفوذها، وتقلق من اضطراب الأوضاع فيها، مما يدفعها للتدخل المباشر أو غير المباشر، وبوسائل عديدة ومختلفة، ولكن تدخلها قد لا ينعكس سلباً عليها، ولا يؤثر على مصالحها، أو يضر مواطنيها، أو يتسبب بأذى أمني أو مادي لها، بسبب قوة الدولة المتدخلة، أو ضعف الدولة محل التدخل، وبالتالي لا تكون هناك أي مخاوف أو مغامرات نتيجة تدخلها السافر أو اللطيف.
الدول مخيرة دائماً في سياستها الخارجية، وهي غير مضطرة أن تمضي على نسقٍ واحدٍ، فهي تعتمد على ميزان مصالحها الحساس، الذي تستطيع به أن توجه بوصلتها، ولكنها غالباً ما تكون حكيمةً في مواقفها، دقيقةً في قراراتها، مضبوطةً في أحكامها، وفق مصالحها المرجوة، ومنافعها المتوقعة، وأطماعها المأمولة.
هذه السياسة لا تنطبق على الفلسطينيين أبداً، الذين يلقون الدعم الكبير من جميع الشعوب العربية بلا استثناء، ويتمتعون بمكانةٍ مرموقةٍ لديهم، ويتلقون منهم الدعم المادي والإسناد المعنوي، ويشعرون أن هذه الشعوب تمثل عمقهم ورصيدهم، وسندهم وظهيرهم، إذ عاشوا معهم طويلاً، ونشأوا بينهم أجيالاً، فلا يجوز الانقلاب عليهم وخذلانهم، أو الالتفاف عليهم والإضرار بمصالحهم، أو الاصطفاف مع فريقٍ منهم ضد آخر، أو المساهمة في معاركهم الداخلية كطرفٍ، والمشاركة معهم ضمن فريقٍ، كما أنه ليس من الحكمة والمنطق، ولا من العقل والحصافة، أن يصدر الفلسطينيون، سلطةً وفصائل، ومؤسساتٍ ومنظماتٍ، مواقف سياسية تؤيد فريقاً وتحابيه، وتعارض آخر وتجافيه.
في ظل الحوادث الداخلية التي تمر بها الدول العربية، كالقلاقل والاضطرابات، والانقلابات والاشتباكات، والشكاوى ودعاوى حقوق الإنسان، لا يبرر للفلسطينيين في ظل قضيتهم التي تراها الشعوب العربية مقدسة، ويريدون منها أن تبقى بمنأى عن أي خلافٍ، وبعيدةً عن أي صراعٍ، أن يدنسوها بمواقف سياسية مؤيدة أو معارضة، أو يلوثوها بالتدخل السافر والاشتراك المباشر، فالقضية الفلسطينية يجب أن تبقى محل إجماع العرب واتفاقهم، وموضع ثقتهم وتقديرهم، فلا يجوز إقحامها في أحلافٍ أو محاور، أو إرغامها على أن تكون طرفاً في الحوادث وشريكاً مع المتقاتلين.
فقد عانى الفلسطينيون كثيراً في سني نضالهم الطويلة، ومسار قضيتهم المعقد، من بعض التدخلات في الشؤون العربية، التي لم يكن لنا بها ضرورة أو حاجة، فدفع شعبنا من قضيته أثماناً كبيرة بسببها في الأردن ولبنان، نتيجةً لتورطهم في المعادلات الداخلية للبلاد، ثم دفعوا الثمن أكبر في العراق والكويت، نتيجةً لاصطفاف قيادتهم مع فريقٍ ضد آخر، دون مراعاةٍ لحساسية القضية الفلسطينية، ومكانة فلسطين وأهلها، وتواجد أبنائها وشتاتهم، فكانت النتيجة تشريداً جديداً وضياعاً آخر، لكنه كان تشريداً مؤلماً ومزمناً، وقاسياً وصعباً، عانى الشعب من آثاره وتداعياته سنين طويلة.
اليوم لا يكاد يخلو بلدٌ عربي من الأزمات والمشاكل، والتحديات والصعاب، سواء كانت اضطراباتٍ داخلية، وحراكاتٍ شعبية، أو انقلاباتٍ عسكرية، أو نزاعاتٍ سياسيةٍ، أو حصر للسلطات وتعطيل للدستور والبرلمانات، أو عملياتٍ عسكرية ومعارك حربية، أو نزاعاتٍ بينية وخلافاتٍ على الحدود والنفوذ، أو تحالفاتٍ ومحاور، وعلاقاتٍ خارجية وولاءاتٍ أجنبية، تظهر كلها بحدةٍ وغلظةٍ في الخطاب السياسي والإعلامي، وفي التعبئة الجماهيرية والتحريض الشعبي، الأمر الذي جعل الساحات العربية كلها ساحات حربٍ وجبهات قتالٍ، اختلط فيها الخصوم واحتدمت بينهم المعارك، وساد شعار من ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يؤيدنا فهو عدونا، ومن لا يقاتل معنا ويكون في صفنا فهو ليس منا.
أمام هذه الخارطة المتشعبة الخيوط، الدامية الأحداث، المذيلة بالدماء، والموقعة بالخراب، التي لن ينجو من ويلاتها أحدٌ ما لم يتفقوا، ولن يسلم منها بلدٌ ما لم يعقلوا، ينبغي على القيادة الفلسطينية عموماً، سلطةً وفصائل وتنظيمات، كما النخب السياسية والإعلامية والشخصيات البارزة والفعاليات، أن تقف على الحياد التام من كل ما يجري، وألا تساهم في أي أزمةٍ أو صراعٍ بالكلمة أو السلاح، وبالموقف أو الاصطفاف، وأن يلتزموا سياسة النأي بالنفس عن أي مستنقعٍ قد يضر بهم وبقضيتهم، اللهم إلا أن يكونوا وسطاء خيرٍ بين الفرقاء، ورسل سلامٍ بين الأطراف.
ردي على المعترضين على الحيادِ الفلسطيني
استغربت من حجم الردود المختلفة التي وردتني على خلفية مقالي السابق، المعنون بـــ "التدخل الفلسطيني المحمود والتدخل الفلسطيني المرفوض"، فقد انهالت علي ردودٌ متباينة، وتعليقاتٌ متناقضة، وانتقاداتٌ مختلفة، ٌأتجاوز كلياً عن تلك التي طالتني واتهمتني، وشككت في قلمي وفكري، وولائي وانتمائي، رغم استنكاري لها واعتراضي على أصحابها، الذين يتجاوزون النص إلى القلم، والمضمون إلى الشكل، والمحتوى إلى العنوان، ويصبون جام غضبهم على الكاتب ويتجاهلون رأيه.
وقد كان بإمكانهم المحاججة والحوار، والنقاش والسؤال، ولكنهم يستسهلون الشتائم والسباب، ويتقنون التشويه والإساءة، ويجدون أنها أيسر الطرق نحو الهدم والتخريب، والتدمير والتعريض، فهي لا تحتاج إلى ثقافة أو معرفة، ولا إلى علمٍ ودرايةٍ، وإنما إلى رصيدٍ كبيرٍ من البذاءة وسوء الأخلاق، وغنىً في مفردات السوق ومصطلحات الدهماء، وهم فيها يتميزون ويبرعون، ولها يحفظون ويتقنون، ولهذا سأتجاوز ردودهم التي لا تدل إلا على شخصياتٍ جاهلةٍ وأفكارٍ ضحلةٍ ونفوسٍ مريضةٍ.
أما الردود الموضوعية العلمية الرصينة التي أحترمها وأقدرها، فقد جاءتني من جهتين مختلفتين، هما في الأصل متناقضتين وغير متفقتين، وبينهما خلافاتٌ كثيرة على أغلب القضايا العربية الراهنة والأحداث الجارية فيها، سواء في سوريا والعراق، أو في اليمن والسودان، أو في تونس ومصر، والتي تمتد إلى الدولتين المسلمتين الجارتين الكبيرتين، تركيا وإيران، فضلاً عن السعودية ودول الخليج العربي التي انساقت نحو التطبيع، واعترفت بالكيان، وتبادلت معه الزيارات، وأنشأت وإياه مختلف العلاقات.
طالبني البعض بأن أكون موضوعياً ومنطقياً، وأن أكون عربياً فلسطينياً، فلا أتناقض مع هويتي وقوميتي، وألا أنأى بنفسي وبفلسطين وأهلها عن قضايا العرب المحقة، التي تعبر عنها شعوبها، أو يدافع عنها قادتها، ويرون أن قضاياهم عادلة وصريحة، ومعلومٌ فيها المصالح الوطنية والقومية العربية، ومكشوفٌ فيها التآمر والارتباط، والعمالة والارتهان، ولذا كان ينبغي علي شخصياً، وعلى الفلسطينيين عموماً، أن نكون مع الدول العربية، التي وقفت إلى جانب الفلسطينيين وأيدتهم، وساعدتهم وساندتهم، وأمدتهم على مدى عشرات السنوات بالأموال والمشاريع، التي جعلت قضيتهم حاضرة، وحياتهم كريمة، وشعبهم عزيزاً، وهو الذي يعيش أبناؤه بكرامةٍ في البلاد العربية، ويعملون فيها بشرفٍ وأمانةٍ، ويتكسبون منها بطمأنينةٍ واستقرارٍ.
استغرب هذا الفريق الذي أجلُ وأقدرُ، وأناقشه وأحاوره، ألا يعلن الفلسطينيون وقوفهم الصريح والواضح، وتأييدهم العلني والعملي، للملكة العربية السعودية وتحالفها في عملياتها العسكرية ضد "المليشيات الحوثية" في اليمن، واعتبار ما يقومون به في اليمن مهمة قومية عربية رائدة بامتياز، تستحق التضامن العربي، والدعم الشعبي والرسمي، وتوجب على الفلسطينيين دعمها وإسنادها، اعترافاً بالفضل ورداً للجميل، والتزاماً بالتضامن العربي والإخاء الشعبي.
كما وصلتني ردودٌ تستنكر الصمت الفلسطيني إزاء ما تتعرض كل البلاد العربية من عمليات انتهاكٍ سافرةٍ لسيادتها، واعتداءاتٍ على أرضها وسرقة لخيراتها وثرواتها، واعتبروا أن الصمت إزاء عمليات التدخل الأجنبية في بلادنا العربية، وعدم إدانتنا لها أو اعتراضنا عليها، إنما هو تواطؤ وخيانة، وتفريطٌ وتنازلٌ، وأن تحالفاتنا بهذا الشأن مشبوهةٌ وغير مقبولة، وهي تسيء إلينا ولا تخدم قضيتنا، وهي تقود إلى مزيدٍ من التمزق العربي، الذي لا يستفيد منه إلا المعادون للعرب والمتآمرون على بلادهم.
علا صوت هذا الفريق متهماً إياناً بالتحالف مع أعدائهم، والتعاون مع خصومهم، والولاء للفرس تارةً وللترك تارةً أخرى، وأننا لا ندين تدخلهم، ونسكت عن جرائمهم، ونوافق على اقتطاعهم للأرض العربية، واشتراكهم في الحروب الدموية التي تجري فيها، ولا نقوى على انتقادهم أو الاعتراض عليهم.
بينما رأى آخرون أننا ناكرون للجميل، ولا نحفظ الفضل ولا نشكر أصحاب السبق، وأننا لسناء أوفياء ولا مخلصين، وأننا لم نقدر تضحيات الشعوب العربية التي قدمت إلى جانب الدعم المادي، تضحياتٍ كبيرة في الأرواح، وأخرى أثرت على حياة المواطنين ورخائهم، في الوقت الذي نطلق فيه أبواقنا الإعلامية تنتقد السياسات العربية، وتسيء إلى الأنظمة والشعوب، وتستخدم ضدها أبشع الصفات وأشنع النعوت، بحجة اعترافها بــ"إسرائيل"، وتطبيع العلاقات معها، بينما يقوم الفلسطينيون أنفسهم، سلطةً وقوىً وأحزابَ، بالتعامل مع الإسرائيليين والتنسيق معهم.
بالمقابل وصلتني عشرات الرسائل الأخرى، التي تنتقد مقالي وتعتبره تخاذلاً وجبناً، وتطالبني بأن أكون شجاعاً وصريحاً، وأن أكون صادقاً ومنصفاً، وإنسانياً مؤمناً، فأصف الحرب على اليمن بأنها حربٌ ظالمة، وأنها عدوانٌ سافرٌ، تستهدف الأطفال والنساء وشعب اليمن.
وأن يكون لي موقف مما يتعرض له الشعب البحريني، الذي يعاني من محنةٍ كبيرةٍ وحربٍ قذرةٍ يشنها نظامه على فئاتٍ من شعبه.
وأن الانقلاب العسكري في السودان نفذته قوىً متحالفة مع إسرائيل ومتعاونة معها.
وأن سوريا تتعرض لمؤامرة دولية كبرى، تشترك فيها الأنظمة العربية، التي غذت أطرافها بالمال، وأمدتهم بالسلاح، وساهمت في خلق داعش، وأشرفت على جرائمها خدمةً لأهدافها، وأملاً في الوصول إلى غاياتها المشبوهة.
وأن ما حدث في تونس انقلابٌ على الدستورٌ، وإقصاءٌ للشرعية وتعطيل للعملية السلمية.
وعلا صوت بعضهم منتقداً صمتي في مقالي عن الاعتقالات والمحاكمات السعودية لمقيمين فلسطينيين، وعن الهرولة العربية نحو الكيان الصهيوني، وعمليات التطبيع معه، وعن مساعي الحصار العربية لقطاع غزة، ومحاولات تجويع أهلها وتركيعهم، وعن الجهود التي تبذل لشيطنة المقاومة والمقاومين، وتصنيفها إرهاباً وعملاً غير مشروعٍ، والمساهمة في حصارها وتجفيف منابعها واعتقال أبنائها والحرب عليها.
كنت قد كتبت مقالي مقتنعاً به وموافقاً عليه، ومتأكداً منه ومصراً عليه، فقد أخذت الدروس وتعلمت مما مضى، أن على الفلسطينيين أن يقفوا على الحياد، وألا ينحازوا مع فريقٍ ضد الآخر، ولكنني وبعد الرسائل التي وصلتني، والردود التي قرعت آذاني، والتي آذى بعضها نفسي، وجدت أنني كنت مصيباً في رأيي، وحكيماً في قولي، وأن على شعبنا الفلسطيني أن يبقى محافظاً على حياده، وملتزماً بسياسة النأي بالنفس عن الصراعات العربية، ذلك أن أحداً في حال أعلنا انحيازنا، لن يغفر لنا موقفنا، أو يقبل عذرنا، ويقتنع برأينا، فكل فريقٍ يريدنا معه ولجانبه، وإلا فإنه سيكون علينا وضدنا إن خالفناه وأيدنا غيره.
أسرى الجهادِ الإسلامي بين الانتقام الإسرائيلي والتضامن الفلسطيني
يريد العدو الإسرائيلي، بقرارٍ صارمٍ حازمٍ، وتفويضٍ صريح واضحٍ، وممارساتٍ مدروسةٍ ومعلومة، وسياساتٍ مقصودةٍ وممنهجةٍ، من قيادته السياسية والأمنية، التضييق على أسرى حركة الجهاد الإسلامي، في مختلف سجونه ومعتقلاته، وتعذيبهم والانتقام منهم، وقمعهم وعزلهم، وتفريقهم وتشتيتهم، ثأراً لكرامته التي أهينت، وسيادته التي انتهكت، وسمعته التي لوثت، وصورته التي شوهت.
فقد نال أسرى حركة الجهاد الإسلامي منهم، وعلَّموا عليهم، واستهزأوا بهم، وتهكموا عليهم، وجعلوا منهم أضحوكةً يسخرون منهم ويتندرون عليهم، بعد أن نجحت كوكبةٌ منهم بالفرار من أعتى سجونهم وأكثرها تحصيناً، وأحدثها بناءً وأعلاها إجراءات أمنية، وهو سجن جلبوع، المعروف لشدة تحصينه وضبط شروطه الأمنية بسجن الخزنة، ولكن أسرى حركة الجهاد الإسلامي استطاعوا أن يكسروا الخزنة، وأن ينقبوا الجدار، وأن يفتحوا الأبواب، ويعبروا منها إلى الفضاء المفتوح والحرية الحمراء.
لم تتأخر سلطة مصلحة السجون الإسرائيلية في تنفيذ مخططاتها، وترجمة قراراتها، والتنفيس عن غضبها، والتعبير عن حقدها وخبثها، فعمدت بعد أن حققت مع الأسرى الأبطال الستة، الذين تعرضوا للتعذيب الشديد والانتقام العنيف، إلى تفريق أسرى حركة الجهاد الإسلامي أكثر من غيرهم، وحرمتهم من حقوقهم المشروعة التي حققوها بالتضحية والنضال، وخاضوا من أجلها أصعب معارك الإضراب عن الطعام، واقتادت العديد منهم إلى سجونٍ سريةٍ وزنازينٍ قصيةٍ بعيدةٍ، وفرضت عليهم العزلة والوحدة، لئلا يتمكنوا من التواصل مع غيرهم، أو التفكير مرةً أخرى في محاولة الهرب من السجون والفرار من الأحكام القاسية بحقهم.
لكن أسرى حركة الجهاد الإسلامي قرروا مواجهة السجان الإسرائيلي، وخوض غمار معركة التحدي ضده، وأصروا على التصدي لإجراءاته القمعية، والصمود في وجه سياساته اللا إنسانية، ورفض ممارسات العقاب والبطش والتنكيل، وقرارات العزل والفصل والحرمان، وأعلنوا عزمهم، فرادى وجماعات، على اللجوء إلى سلاح الأمعاء الخاوية، وخوض غمار معارك الإضراب عن الطعام، والمضي فيها حتى النهاية، ولو كلفتهم المعارك المفتوحة حياتهم، واستنفذت صحتهم وعافية أبدانهم، فإنهم يصرون عليها ويتمسكون بها، إلى أن يوقفوا العدو عند حده، ويمنعوه عن غيه، ويستعيدوا حقوقهم منه، التي طالما انتزعوها منه بقوةِ عزمهم، ومضاء إرادتهم، وصلابة مواقفهم، ووحدة صفهم، وتلاحم الأسرى معاً، واتفاقهم على برنامجٍ واحدٍ وخطةٍ مشتركةٍ.
يدرك الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون الذين يناهز عددهم الخمسة آلاف أسيرٍ وأسيرة، أنهم جميعاً مستهدفون من العدو الصهيوني، وأنه يحقد عليهم جميعاً ولا يفرق بينهم، ولا يميزهم عن بعضهم أو يفاضل بينهم، وأنهم وإن اختلفت أحزابهم وتباينت تنظيماتهم، فإنه يصنف الكثير منهم بأنهم خطرون، وأن أيديهم ملطخة بالدماء، وقد ألحقت أذىً وتسببت بأضرار كبيرة لدى المجتمع الإسرائيلي، لهذا فإنه لا ينوي الإفراج عنهم، ولن يقبل بمبادلتهم، ولا يفكر بالتخفيف عنهم أو تحسين شروط اعتقالهم.
قرر ممثلو الأسرى والمعتقلين، وقادة اللجان الاعتقالية الوطنية العليا، الذين يمثلون مختلف القوى والفصائل الفلسطينية، ألا يتركوا أسرى حركة الجهاد الإسلامي يخوضون المواجهة وحدهم، ويتصدون للممارسات الإسرائيلية القمعية بمفردهم، وأعلنوا أنهم سيكونون معهم، ولن يتخلوا عنهم في هذه المعركة التي فرضت عليهم، وسيشكلون معهم جبهة وطنيةً موحدة، تضم أسرى جميع القوى والفصائل، وسيخوضون المعركة موحدين، وسيتحدون إدارة السجون متوافقين، وسيتصدون لقراراتِ مصلحة السجون وضباط المخابرات بثباتٍ، ليقينهم أن دورهم قادم، وأن استهدافهم مؤكدٌ، وأن العدو يتربص بهم جميعاً ويغدر، ويمكر بهم ويتآمر عليهم، إلا أنه غير قادر على مواجهتهم، وإن بدا أنه الأقوى والأكثر تماسكاً وثقةً بنفسه وبقدراته.
ربما يدرك الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، أن العدو يريد بانتقامه وتنكيله بأسرى الجهاد الإسلامي، التعمية على فشله، والتعويض عن عجزه، وستر عيوبه ومخازيه التي أصابته بها عملية الفرار البطولية، ولهذا فهو يخطط في سابقةٍ خطيرةٍ إلى تفكيك كاملٍ لبنيةٍ تنظيميةٍ فلسطينيةٍ، فهو بإجراءاته التي اتخذها ضد أسرى حركة الجهاد الإسلامي، التي قضت بعزلهم وتشتيتهم وتفريقهم ومنع اجتماعهم بأكثر من أسيرين في أي غرفة، فهو يريد إنهاء الحالة التنظيمية لهم، وشطب الهوية الحزبية لتجمعهم، وقطع أواصر الاتصال وسبل التواصل بينهم، وتفكيك تنظيمهم والقضاء على هيكليته الإدارية والتنظيمية.
أمام هذه المعركة المفتوحة مع العدو الصهيوني، التي أعلنها سافرةً عنيفةً ضد أسرى حركة الجهاد الإسلامي، ينبغي على الكل الفلسطيني في كل مكان، بكل انتماءاتهم وتصنيفاتهم الحزبية والسياسية، أن يوظفوا كل طاقاتهم، وأن يوجهوا جهودهم للتضامن مع الأسرى عموماً، والدفاع عن قضيتهم العادلة، والعمل على تحريرهم أو تحسين شروط اعتقالهم، والاهتمام على وجه الخصوص في هذه المرحلة بأسرى حركة الجهاد الإسلامي، الذين يتعرضون لأبشع عملية بطشٍ وتنكيلٍ ضدهم، فلا نتركهم وحدهم، ولا نتخلى عنهم، ولا نستخف بمعاناتهم، ولا ندخر جهداً في الدفاع عنهم، فقد والله رفع خمستهم رؤوسنا عالية، وأشعرونا بالعزة والكرامة، وكتبوا لنا على هام الزمان بفرارهم المستحيل آياتٍ من العز والفخار.
أما المقاومة الفلسطينية بكل أذرعها وكتائبها العسكرية، فإن عليها الدفاع عن الأسرى دفاعها عن المسرى، فكلاهما قضية مقدسة لدى الفلسطينيين، وينبغي العمل على الجمع بينهما والنضال من أجلهما، فلا تنام عيون المقاومين حتى يخرج آخر أسيرٍ من سجون العدو، وتتحقق حريته، وتكتحل عيونه برؤية أهله ومصافحة أحبته، ويقبل يد أمه ويعانق أخته، ويضم بين ذراعيه أطفاله الصغار وأبنائه الذين صاروا كباراً، فهذا وعدٌ نترقبه، وأملٌ نعيشه، ورجاءٌ نعمل معه ونسعى إليه.
إسرائيلُ تقتل شعباً وتتباكى على رفاة
عجيبٌ أمرهم وغريبٌ فعلهم، وإن كان الأمر بينهم محمود وعندهم مندوب، ونقيضه عيبٌ ومنقصة، وتقصيرٌ وإهمال، أو خيانةٌ وتفريطٌ، يجعلهم محل اتهامٍ وموضع شكٍ، فهو في عرفهم مسؤولية وطنية تجاه شعبهم، وتكليف ديني أمام أتباع دينهم، يحاسبهم عليه الشعب، ويعاقبهم عليه الرب.
لكن الأكثر غرابةً والأشد استنكاراً هو وقوف العالم معهم، وتأييده لهم في طلبهم، ومساندتهم في الحصول عليه وتحقيقه، واقتناعهم به ودفاعهم عنه، وتعاطفهم معه وانحيازهم إليه، والضغط على من يضيق عليهم ويمنعهم، ويعتقل بعضهم أحياءً أو يحبسهم رفاةً، أو يحتفظ ببعض أجسادهم وبقايا أعضائهم.
فالكيان الصهيوني الغاصب للأرض، والقاتل للشعب، والمطهر عرقياً للسكان، والذي يرتكب جرائم ضد الإنسانية، وأخرى إبادة جماعية للبشر، والمجرم وفق القانون الدولي والإنساني، يشعر بالأسى لغياب بعض أبنائه وحبس حريتهم، أو احتجاز رفاتهم أو بعض أعضائهم، بينما يقوم إلى جانب جرائمه العديدة التي ذكرت، باحتجاز أجساد مئات الشهداء، يحبسهم في مقابر سرية، يحمل المدفونون فيها أرقاماً تميزهم، حتى غدا اسمهم "شهداء الأرقام"، فلا يعرف أهلهم عنهم شيئاً، ولا يدل على أسمائهم الحقيقية غير أرقامٍ خاصة أو علاماتٍ فارقة مدونة، أو شواهد ودلائل عند استشهادهم، كثيابهم التي كانوا يلبسونها، والأوراق التي كانوا يحملونها، أو اليوم الذي فيه استشهدوا، والواقعة التي تمت فيها المعركة أو وقعت فيها الشهادة.
يعيب هذا العدو الغاشم، الذي يرتكب في حق الشعب الفلسطيني كل الموبقات ومختلف الجرائم، أسر المقاومة الفلسطينية لجنودهم المقاتلين، وضباطهم المجرمين، وعملائهم الخائنين، ويستنكر عليها قيامها باحتجاز رفاة جنودهم الذين قتلوا في دباباتهم أثناء العدوان، بينما كانوا يمارسون القتل ضد الفلسطينيين، ويطالبها بالكشف عن مصيرهم، وتحديد حالتهم، والإفراج عنهم، والسماح بعودة الأحياء منهم إلى بيوتهم وأسرهم، وإعادة رفاة القتلى منهم أو بعض أعضائهم، إلى أهلهم وأسرهم، ليدفنوهم في مقابر اليهود، ولتكون لهم قبورٌ معروفة، وشواهد معلومة، يزورهم أهلهم ويكتبون أسماءهم ويرفعون صورهم عليها، ويبكون عليهم وينثرون الورود على قبورهم.
لا ينسى الإسرائيليون قتلاهم، ولا يفرطون في شيءٍ من بقاياهم، أعضاءً كانت أو مقتنياتٍ كانت لهم أو معهم، ولو كانت قصاصة ورقٍ في جيوبهم، أو سلسلةً يطوقون بها أعناقهم، أو ساعةً يضعونها على معاصمهم، وينظمون لتحقيق أهدافهم والوصول إلى غاياتهم، المسيرات الشعبية، وحملات الأمهات المؤثرة، ومظاهرات التأييد والتحريض لاستعادة جنودهم، ويوظفون معهم المؤسسات الدولية وحكومات العالم وأنظمتها، ويطلبون وساطة الرؤساء والملوك والقادة، ولا يبقون على وسيلةٍ عاطفيةٍ ومعنويةٍ، أو ماديةٍ وعمليةٍ، إلا ويقومون بها أملاً في الوصول إلى ما يريدون.
ولا تتوقف وسائل البحث الإسرائيلية المباشرة، أو تلك التي يقوم بها غيرهم بالوكالة، أو ينوب بها سواهم خدمةً لهم وتقرباً إليهم، وهم إن كانوا قد عجزوا في قطاع غزة عن تحقيق ما يريدون، وفشلوا أمام المقاومة التي نجحت في أسر جنودهم وإخفاء آثارهم، في الوصول إلى أي دليلٍ يدلُ عليهم أو يقود إلى الوصول إليهم واستعادتهم، إلا أن يرضخوا لإرادة القوة ومعادلة الفرض والقهر، ويقبلوا بصفقات تبادل الأسرى، ويستجيبوا إلى شروط المقاومة ومحدداتها.
إلا أنهم لم ييأسوا من البحث عن آخرين في أماكن أخرى، وإن كانوا لا يستطيعون القيام بالمهمة بأنفسهم أحياناً، فإنهم يوكلون بها غيرهم ويبقون قريباً منهم، يوجهونهم ويمدونهم بالمعلومات، ويفحصون معهم التراب، ويدققون في بقايا العظام، ويقارنون الأدلة التي عندهم بالجديدة التي تصلهم، ولعلهم يحققون انجازاتٍ خفيةٍ، ويصلون إلى نتائج مرضيةٍ، يعلنون عن بعضها أحياناً، كتلك التي سلمتهم إياها القيادة الروسية في موسكو، والتي تأمل أن تستلم المزيد منها من خلالهم أو بالتعاون معهم.
أما في سوريا الجريحة، فإن الإسرائيليين لا يملون البحث عن رفاة الجاسوس إيلي كوهين، ويعدون زوجته بتسليمها قبل وفاتها جثمان زوجها، وقد سلموها بالفعل رسالةً بخط يد زوجها قبل إعدامه، وأعطوها ساعته التي كان يحملها، ولا أعتقد أنهم سيتوقفون عن البحث عنه، ونبش القبور وحرث الأرض، أملاً في الوصول إليه، وإعادته وتكريمه.
وما زال الإسرائيليون يعملون بجدٍ لاستعادة بقايا جنودهم من أرض المعارك في البقاع اللبناني، ومن أماكن أخرى كثيرة في لبنان، التي يعتقدون أنه يوجد فيها بقايا جنودهم، ولكن عيونهم المفتوحة، ومحاولاتهم المكشوفة، وسعيهم الدؤوب الذي لا يتوقف، هو لاستعادة الطيار الحربي رون أراد، والحصول على معلوماتٍ يقينية تدل عليه، ورغم أنه فقد في العام 1986، وقد مضى على فقدان آثاره قرابة خمسة وثلاثين سنةً، إلا أنهم يصرون على الوصول إليه وإعادته إلى "الأرض".
وقد رأينا في الأيام القليلة الماضية احتفالاتٍ أمنية إسرائيلية، برعاية نفتالي بينت شخصياً، لتكريم فرقٍ أمنية إسرائيلية خاصة، تمكنت –حسب زعمهم- من الوصول إلى مستودع أسرارٍ، من شأنها أن تدل على الأماكن التي كان فيها رون أراد أو نقل إليها، تمهيداً لإنهاء ملفه ونقله إلى مكانٍ مناسبٍ يليق به ليدفن فيه، ولا تتوقف جهود المخابرات الإسرائيلية، التي يتصل عشوائياً ضباط أجهزتها الأمنية، بمواطنين لبنانيين وفلسطينيين يقيمون في لبنان، يطلبون منهم مقابل مكافئاتٍ ماليةٍ هائلة، أي معلوماتٍ مهما كانت بسيطة وقليلة، تساعد في التعرف على مكان رون آراد.
قد ينجح العدو الصهيوني ومن تحالف معه، في الوصول إلى بعض مبتغاه، وتحقيق بعض أهدافه، واستعادة من يستطيع من جنوده وضباطه، ولكنه بالتأكيد لن ينجح في تحقيق ما يريد من المقاومة، التي تحسن صر أسراها والكز عليهم، وتتقن فن إخفائهم، وتعرف كيف تبقيهم بعيداً عن أعين العدو وأيديه، وسيجد نفسه في نهاية المطاف مضطراً للقبول بصفقة تبادل الأسرى، والخضوع لشروط للمقاومة والتنازل أمامها، وبغير هذه الوسيلة التي يفرضها الشعب وتبسطها مقاومته، فإن أسراه لن يعودوا إلى بيوتهم، ورفاة جنوده لن يدفنوا في مقابرهم، ولن يكون لذويهم حجارةً يقفون عليها، ولا نصباً يبكون عنده.
الغفرانُ اليهوديُ يحققُه الصدقُ ويثبتُه الفعلُ
يعتبره اليهود منذ آلاف السنوات، أنه العيد الأكثر أهميةً وقداسةً بالنسبة لهم، والأهم بالنسبة لأتباع دينهم المشتتين في الأرض والعائدين إلى "الوطن اليهودي"، كونه يجمعهم ويوحدهم، ويخصهم ويميزهم، فهو اليوم الذي عليه يتفقون وله وينتظرون، وفيه يلتقون وعليه يلتفون، وبتعاليمه يلتزمون وبطقوسه يحتفلون، يقدسه المتدينون ويحترمه العلمانيون، وتخضع له الحكومة وتعطل فيه الدولة، وتتوقف فيه مظاهر الحياة العامة، الحركة والمواصلات والإعلام والسفر والتجارة وغيرها.
فهو العيد الذي يرتبط بتاريخهم القديم ويتصل بمستقبلهم الموعود، الذي حافظ على انتمائهم قديماً، وحصن شخصيتهم وفرض هويتهم حديثاً، وتزداد أهميته عندهم عاماً بعد آخر دينياً وقومياً، لما يرتبط به من أحداث وتتصل به وقائع جديدة، تجعل منه عيدهم الأكبر، ويومهم الأشهر.
يعتقد اليهود أن هذا العيد يطهرهم من كل ذنب، ويخلصهم من كل معصية، ويبرؤهم من كل جريمة، ويجعلهم صفحةً ناصعة البياض نقيةً طاهرة، لا رجس فيها ولا نجس، ولا عيب فيها ولا نقيصة، فيه يرضى الرب عنهم ويباركهم، ويسبغ عليه نعمه ويسعدهم، بعد أن أقبلوا عليه طائعين مختارين، صائمين ملتزمين، مصلين داعين، صادقين مؤمنين، معترفين نادمين، خاضعين لحاخاماتهم الكبار يطهرونهم، ومن الآثام يخلصونهم، وبدجاجة الرب يباركونهم، التي إليها تنتقل معاصيهم، فتطهر أجسادهم وتسمو أرواحهم، ويعودون إلى الرب الذي -بزعمهم- باركهم وجعلهم شعبه المختار وأبناءه الأطهار.
لا يكتفي اليهود في هذا اليوم بالصلاة والدعاء لأنفسهم، أو أداء طقوسٍ غريبةٍ يعتقدون أنها تكفر عن الآثام والخطايا، وتغفر الذنوب والزلات، بل يدعون "الرب" لغيرهم ويترحمون على سواهم من اليهود، أحياءً وأمواتاً، ولكنهم يخصون المجرمين من قادتهم، والقتلة من زعمائهم، والمتطرفين من أحبارهم، والمتشددين من حاخاماتهم، ممن أوغلت أيديهم في دماء الفلسطينيين والعرب، بمزيدٍ من الدعاء والبركة، بحجة أنهم خدموا الشعب اليهودي وحافظوا على دينه ومعتقداته، وقاتلوا من أجل حقوقه وممتلكاته.
يظن اليهود أن صيام يومٍ أو أكثر يطهرهم من ذنوبهم، ويخلصهم من معاصيهم، ويغفر لهم خطاياهم وجرائمهم، ويجعل منهم أناساً صالحين وشعباً مسالماً، لا يظلم ولا يقتل، ولا يبغي ولا يبطش، ولا ينفي ولا يطرد، ولا يسفك الدماء ولا يستنزف الأجساد ولا يزهق الأرواح، ولا يحرم الخلق من حقوقهم، ولا يجردهم من ممتلكاتهم، بحجة أنهم غويم، خلقهم الله لخدمتهم والسهر عل راحتهم، فقد خلقهم الرب بهذا الشكل ليكونوا عبيداً لهم وأجراء عندهم، فلا إثم بقتلهم، ولا معصية بعقابهم، ولا يسخط الرب عليهم باستخدامهم وظلمهم، واستعبادهم وضربهم، وحصارهم وتجويعهم، ولعل بعض حاخاماتهم يصفون غيرهم بأنهم صراصير ضارة يجب أن تقتل، أو أفاعي سامة يجب أن تحبس.
الطهارة والبركة، وطلب المغفرة والرحمة، وادعاء الصدق والبراءة، لا يكون بمزيدٍ من الظلم والقتل، والعدوان والقهر، والاحتلال والغصب، ولا يتحقق وأيديهم بالدماء الطاهرة ملوثة، وسلاحهم ضد المدنيين والمستضعفين مثخناً، ومستوطنوهم يعيثون في الأرض فساداً، يعتدون على السكان ويحرقون بيوتهم، ويتلفون محاصيلهم ويعطبون سياراتهم، وإنما تكون بالصدق والعدل، والامتثال للحق والإذعان له، والاعتراف بالخطأ والعدول عنه، والتراجع عن العدوان والكف عن المزيد منه، وإعادة الحقوق إلى أصحابها والامتناع عن انتزاعها منها أو منافستهم عليها.
الله عز وجل، الحكم العدل، السلام الحق، والأديان السماوية الصافية النقية، التي لم تستبدل ولم تُغيرُ، لا تقبل بالظلم ولا تباركه، ولا تسكت عنه ولا تهادنه، ولا تدعو إليه ولا تشجع عليه، فإن كان اليهود يتطلعون إلى رضا "الرب" ونيل بركته، وهو الإله الخالق الغفور الرحيم، فهذا الهدف لا يتحقق بقرنٍ فيه ينفخون، ولا بوقٍ به يصدحون، ولا بصيامٍ زائفٍ أو صلاةٍ ناقصةٍ، وإنما يتحقق بتوبةٍ نصوحٍ، وإنابةٍ صادقٍ، وطهارةٍ فعليةٍ، لا يختلط فيها عدوانٌ أو احتلالٌ، أو ظلمٌ وبغيٌ، أو اغتصابٌ وتدنيسٌ، مع الدعوات بتطهير النفس، والمباشرة بحياةٍ جيدةٍ تقوم على الصفاء والطهر والنقاء.
هل يظن الإسرائيليون أن الله عز وجل سيغفر لهم المجازر التي ارتكبوها، والمذابح التي نفذوها، وعمليات القتل التي يمارسونها، وسيتجاوز عن جرائمهم في حق آلاف الأسرى والمعتقلين الذين يحبسون حريتهم، ويضهدون إنسانيتهم، ويحرمونهم من أبسط سبل الحياة الكريمة، أم أنهم يأملون أن يغفر الله عز وجل خطاياهم ويتجاوز عن آثامهم بحقِ الشعب الذي انتزعوه من أرضه وطردوه، وحرموه من بلاده وشردوه، وتسببوا في معاناته وعذاباته لأكثر من سبعين عاماً وما زالوا.
ألا يعلم اليهود أن أحد أهم شروط قبول التوبة والمغفرة، والصفح والعفو والمسامحة، هو إعادة الحقوق إلى أصحابها، والاعتذار منهم وطلب السماح من كل أجيالهم، والتعويض عن جرائمهم وقبول ما يطلب منهم، والندم والاستغفار عما مضى، والعزم على الإقلاع عنها وعن مثيلاتها، وإلا فإن التوبة باطلة، والاستغفار فاسد، ومظاهر التذلل كاذبة، وطقوس العبادة زائفة.
فهل يصدق الإسرائيليون في عيدهم، ويكونون عباداً مخلصين لربهم، ويتوبون إليه توبةً نصوحاً، ويتخلصون من أدرانهم وآثامهم، ويلتزمون بالحق ويقبلون به، ويعودون عن ضلالتهم، ويطهرون أنفسهم بطرد الأشرار من بينهم، أم أنهم يكذبون على أنفسهم وعلى الله ربهم، ويخادعون الله وعباده، ويصرون بصلفٍ وعنادٍ، وحقدٍ وكرهٍ، على اقتراف المزيد من الذنوب وارتكاب الكثير الخطايا، فبذا ترد توبتهم ولا تغسل حوبتهم، ولا يستحقون مغفرةً ولا يستأهلون رحمة.
المحررون الستةُ قاماتٌ تشمخُ وعدوٌ يقمعُ
يتعرض الأسرى الفلسطينيون الستة، الذين تمكنوا من الفرار من سجن جلبوع "الخزنة"، بعد أن تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من إعادة اعتقالهم، إلى أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، انتقاماً منهم، وحقداً عليهم، وعقاباً لهم، وتصفية للحسابِ معهم، وتأديباً لهم، ودرساً لغيرهم، وإغاظة لشعبهم، وشماتةً بأهلهم، ومحاولةً دنيئةً لرد الاعتبار لمؤسساتهم الأمنية والعسكرية، التي تلقت صفعةً مؤلمةً وركلةً مخزيةً، بنجاح الأسرى الستة بالفرار من سجنهم المحصن، المصنف أمنياً بأنه الأول بين السجون الإسرائيلية، والأكثر تحصيناً وحمايةً، فعمدوا إلى تعذيبهم بساديةٍ مفرطةٍ، وعنصريةٍ مستنكرةٍ، وبطريقةٍ تعبر عن نفوسهم المريضة، وأخلاقهم الدنيئة، وهزيمتهم الداخلية، ومرارتهم الخفية.
منذ اللحظات الأولى لعملية اعتقال الأسرى الأبطال الستة، التي تمت في أكثر من مكانٍ، وعلى مراحل مختلفة، كان آخرها بعد ثلاثة عشر يوماً من فرارهم، انهال عليهم الجنود الإسرائيليون ورجال الأمن ضرباً عنيفاً وركلاً مبرحاً، وحرصوا على تصوير الأسرى وقت اقتيادهم، وقد بدت آثار الضرب والتعذيب على وجوههم وأجسادهم، في أوضح تعبيرٍ عن إحساسهم بمرارة الهزيمة، وشدة اللطمة، وانكسار الهيبة، واهتزاز الصورة، التي بدو فيها ضعافاً أمام شعبهم، وصغاراً أمام أنفسهم، ومخزيين أمام قيادتهم العسكرية وحكومتهم السياسية.
لو أن العدو الإسرائيلي كان صادقاً فيما يدعي، بأنه صاحب الجيش الأكثر مناقبية في العالم، وصاحب المؤسسة الأمنية الأكثر أخلاقية، لكان لزاماً عليه أن يرفع القبعة احتراماً، ويؤدي التحية تقديراً للرجال الستة الذين مرغوا أنف كيانه الذي يدعي القوة والفوقية، وأجبروه على أن يجرد أضخم حملاته الأمنية والعسكرية، المؤلفة من آلاف الجنود والضباط، المزودين بالطائرات المروحية والطيارات المسيرة، والأقمار الاصطناعية، وآلاف الكاميرات المنصوبة، وأجهزة الكمبيوتر العملاقة التي تتابع الصور وتحلل البيانات وتجمع المعلومات.
إلا أن هذا العدو أبى إلا أن يسفر عن أخلاقه الدنيئة، وفطرته المريضة، ومفاهيمه الفاسدة، وقيمه المنحرفة، وعنصريته المفرطة، فقام بصب جام غضبه على الأسرى الستة تحديداً، وعموم الأسرى بصورةٍ عامةٍ، وأخضعهم لعمليات تحقيقٍ قاسيةٍ، لم تخلُ من التعذيب الجسدي والمعنوي، التي سبقها اعتقالُ عددٍ من ذويهم وأفراد أسرهم، والتهديد بهدم بيوتهم وطردهم من أرضهم إلى قطاع غزة أو إلى غيره، ورغم أن العدو كان يخشى مقتل الأسرى أو بعضهم، إلا أنه بالغ في تعذيبهم بما لا يفضي إلى موتهم، خشية أن تتسبب شهادتهم في اندلاع "موجة عنفٍ" انتفاضةٍ عامةٍ وثورةٍ شاملةٍ، لا يقوى على صدها أو وضع حدٍ لها ومنع انتشارها.
قامت سلطات السجون الإسرائيلية بتفريق الأسرى الستة عن بعضهم البعض، ونقلتهم إلى سجون ومعتقلاتٍ أخرى، وقررت وضعهم في زنازين العزل الانفرادي، بعد أن جردتهم من كل الأدوات الشخصية، فلم تبق معهم غير ثيابهم التي يلبسونها، وفراشهم الذي ينامون عليه، بينما قامت بتثبيت كل شيءٍ آخر قد يحتاجون إليه أو يضطرون لاستخدامه، ومنعت أي احتكاكٍ أو تواصلٍ بينهم وبين إخوانهم المعتقلين، وحرمتهم من "الفورة" والخروج إلى الساحة للمشي، وحرمتهم من زيارة المعتقلين الآخرين في غرفهم، ولم تسمح لأحدٍ من المعتقلين بزيارتهم، وقد كان هذا حقاً مشروعاً ومكتسباً نضالياً قديماً.
لا يبدو أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ستسمح على المدى القريب لذوي الأسرى الستة بزيارتهم، وإن سمحت فإنها ستجعل من زيارتهم قطعة من جهنم، ورحلة إلى الجحيم لا تطاق، بالنظر إلى حجم الصعوبات والمعوقات والشروط التي يجب أن يجتازها أو يمر بها الأهل للحصول على حقهم في زيارة أبنائهم، وهو ما يعانيه ذوو الأسرى بصورة عامةٍ، خلال رحلة زيارتهم القصيرة لأبنائهم الأسرى، وقد بدأت سلطات السجون في الإعداد للشروط الجديدة التعجيزية المعقدة، التي ستفرضها على ذويهم، وقد باشرت في سحب امتيازاتهم التي حققوها بنضالهم، وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية والمشروعة.
لن يكون مفاجئاً لنا إقدام سلطات السجون الإسرائيلية، على تقييد أيدي الأسرى الستة بقيودٍ ثقيلة، وتكبيل أقدامهم بسلاسل طويلة، ووضعهم في زنازين خاصةٍ، مفتوحة ومكشوفة بقضبان معدنية، بعيدةٍ عن أقسام الأسرى والمعتقلين، وإخضاعهم للمراقبة والمتابعة والتصوير، بما ينتهك حقوقهم الشخصية، ويعتدي على حرماتهم، ويفقدهم القدرة على القيام بحاجاتهم الخاصة، وغير ذلك من الإجراءات التي قد يتفتق عنها ذهن الحراس والسجانين، وعقلية الضباط والأمنيين.
يبدو أن الأيام القادمة ستكون صعبة وعسيرة على أبطالنا الأسرى الستة، وقد يتعرضون لما لا نعلم أو ندرك، وقد يصار إلى تعريضهم لما يمكن أن يضر صحتهم العامة، ويعرضهم لأمراضٍ خطيرةٍ، تمس أجسادهم وسلامة عقولهم، فما أحدثوه في الكيان الصهيوني صعبٌ أن ينسى، ومن المستحيل أن يمر دون عقابٍ، ولكن الإسرائيليين لن يملكوا الجرأة لمواجهة الشعب الفلسطيني وأسراه ومعتقليه بخطواتٍ علنيةٍ مكشوفةٍ، أو إجراءاتٍ سافرةٍ مباشرةٍ، وإنما قد يلجأون إلى طرقٍ عديدةٍ ووسائل مختلفة، كتسميم الطعام أو تلويث الهواء، أو تعريضهم لأنواع من الأشعة التي لا تترك أثراً ولكنها تهتك النفوس وتفتك بالأجساد.
أمام هذه الإجراءات الإسرائيلية المقصودة، والنوايا الخبيثة المُبَيَّتةِ، ينبغي علينا أن نكون منتبهين وحذرين، ويقظين ومستعدين، لمواجهة العدو والتصدي لسياساته، وإفشال مخططاته وتحدي إرادته، والعمل بكل السبل الممكنة أولاً لتسليط الضوء على معاناتهم وظروفهم، والمطالبة بتحسين شروط اعتقالهم، ومنع الاعتداء عليهم والانتقام منهم، والعمل على إتمام صفقة تبادل الأسرى القادمة، بعد ضمان إدراج أسماء الأبطال الستة فيها، وفي المقدمة منها، واشتراط عدم إنجازها أو الموافقة عليها، إلا أن يكونوا في مقدمة المحررين، أو أن يسبقوهم ثمناً لمعلوماتٍ أو بياناً لحسن الثقة وجدية الالتزام.
فتيانُ التلالِ عصاباتٌ محترفةٌ وجماعاتٌ منظمةٌ
إنهم يسيئون إلى مصطلح الفتية البريء، وإلى أعمارهم الصغيرة وأعمالهم البسيطة، وإلى أجسادهم الرقيقة وأفكارهم البريئة، ويشوهون فطرتهم السليمة وحياتهم الطاهرة، ويحرفون تصرفاتهم الطيبة ومسلكياتهم العفوية، ويظهرون طهرهم الكاذب وصفاء نفوسهم المخادع، ويدافعون عن جرائمهم بصغر سنهم ونقاء قلوبهم، وحسن نواياهم وصدق سرائرهم، ويصفونهم بالأطفال غير المسؤولين، وبالصبية غير المحاسبين، ويطالبون الضحايا بمسامحتهم والعفو عنهم، وبعدم الحقد عليهم أو المساس بهم.
إنهم ليسوا فتياناً أبرياء، بل هم شياطينٌ مجرمون، وأبالسةٌ متمردون، ودهاقنةٌ متمرسون، يفسدون في الأرض ويعتدون، ويقتلون الآمنين ويخربون، ويحرقون بيوت المواطنين ويهربون، ويغتصبون الأرض والحقوق ويُزَّوِرُونَ، وينهبون الأموال والبيوت ويدمرون.
إنهم ليسوا فتيةً صغاراً بل هم كبارٌ بالغون، ومميزون راشدون، وقادةٌ مسؤولون، وجنود نظاميون، وضباطٌ سابقون، ومتدينون متطرفون، ومستوطنون متشددون، وسياسيون موجهون، وإعلاميون مؤدلجون، وعامةٌ غوغائيون، ووافدون حاقدون، ومتضامنون عنصريون، وموالون عقائديون، ومسيحيون إنجيليون، إنهم كل الكيان الصهيوني بكل مكوناته وفئاته، وشرائحه وتوجهاته، ومعهم حلفاؤهم الظالمون، ومؤيدوهم المنحازون، الذين يناصرون الباطل ويدعمون المعتدي، ويسكتون عن الظلم، ولا يدينون العدوان.
إنهم عصابةٌ منظمةٌ وفرقةٌ فاسدة، وشرذمةٌ ضالةٌ، ترعاها الحكومة، ويحميها الجيش، وتسكت عنها الشرطة، ولا يدينها القضاء، ولا يحاسبها المسؤولون، ولا يدينها الشعب، ولا يستنكرها المجتمع الدولي، ولا يرفع الصوت معترضاً عليها رافضاً لها، بينما يرى أرض الفلسطينيين تغتصب، وبيوتهم تحرق وتحتل، وحقوقهم تنتزع، وممتلكاتهم تنهب، وعيشهم يضيق وحياتهم تتعرض للخطر.
إنهم فتية التلال، اسمٌ جميلٌ وفعلٌ قبيحٌ، لجماعةٍ من المستوطنين اليهود، الذين ينشطون في المناطق الفلسطينية، ويرتكبون فيها أفعالاً شنيعة وجرائم فظيعة، ويعملون عن تحقيق أحلامهم وتنفيذ مخططاتهم، فيحتلون كل أرضٍ يرونها تحقق أهدافهم، وتلبي رغباتهم، وتصلح لبناء مستوطناتهم، ويعتدون على البيوت الآمنة فيحرقونها، ويروعون أهلها ويرهبون أطفالها، ويحطمون السيارات العربية، ويهشمون زجاجها، ويبقرون دواليبها، ويقطعون خطوط الهاتف والكهرباء، ويحرقون أعمدتها ويعطلون شبكاتها، ويخلعون أو يحرقون أشجار الزيتون والمزروعات المثمرة، ويمنعون الفلسطينيين من الوصول إلى حقولهم ورعاية مزروعاتهم.
تنشط عصابة "فتية التلال" في الضفة الغربية أكثر من غيرها، التي تراها أرضاً يهودية مغتصبة، وحقاً يهودياً يجب أن يعود، فتراها تسابق الزمن، وتتحدى الصعب في سبيل استعادة الأرض وتهويدها، وقد جعلتها نصب عينيها مطمعاً يجب تحقيقه، وهدفاً ينبغي الوصول إليه، وفي الوقت نفسه فهي لا تؤمن ببقاء الفلسطينيين العرب في أرضهم المحتلة عام 1948، فتعتدي عليهم، ولعلها هي التي تقتل رموزهم وقادتهم، ورجالهم ونساءهم، وهي التي تحرق المساجد وتخرب الكنائس، وتكتب على الجدران محذرةً، أو توزع بياناتٍ وصوراً مروعةً، بقصد إرهاب الفلسطينيين ودفعهم نحو الهجرة واللجوء.
لا يكاد يمرُ يومٌ دون أن تقوم عصابة "فتية التلال"، التي تستهوي السيطرة على التلال العالية والجبال المرتفعة، بارتكاب جريمةٍ جديدةٍ بحق المواطنين الفلسطينيين، ولكن أحداً من سلطة الاحتلال لا يحرك ساكناً أو يغضب، فلا الحكومة تعارض، ولا الشرطة تمنع، ولا الجيش يصد، ولا القضاء يحاكم، فتراهم يرتعون في المناطق الفلسطينية بلا خوفٍ كضواري الفلاة الجائعة المفترسة، التي تركض وراء طرائدها، وتصطاد ضحاياها، وتعتدي على كل ما يعترض طريقها، فإن كان بيتاً تحرقه، أو سيارةً تحطمها أو تهشم زجاجها، أو حقلاً فتخلع أشجاره أو تحرقها، أو أرضاً مميزةً تحتلها، وتنصب فيها خيامها، أو تقيم فوقها المباني المسبقة الصنع، أو المحمولة على المقطورات الضخمة، لتتحول بعد ذلك من بؤرٍ صغيرةٍ إلى مستوطناتٍ كبيرةٍ.
بينما تقوم الدنيا ولا تقعد، وينتفض الإسرائيليون ويغضبون، إذا اعتدى فتية التلال على مستوطنيهم، أو قاموا بعرقلة عمل جنودهم، أو تعريض حياتهم للخطر، ويتهمونهم بالتطرف والعنف، وبإثارة الفوضى والاضطراب، ويلقون القبض على زعمائهم، ويضيقون على نشطائهم، ويمنعونهم من محاولة الاعتداء على جنودهم أو مواطنيهم، ويلزمونهم بالتوقيع على تعهداتٍ قانونية، ويفرضون عليهم عقوباتٍ مالية، وتعويضاتٍ مادية يؤدونها للمتضررين اليهود، سواء كانوا جنوداً أو مستوطنين أو مؤسساتٍ عامةٍ.
تكذب سلطات الاحتلال الإسرائيلي عندما تدعي أن تنظيم "فتية التلال" خارجٌ عن القانون، وأنه تجمعٌ غير مشروع، وأن ما يقوم به المنتسبون إليه من أعمال تدينها الحكومة ولا تقبل بها، ولكن الحقيقة أن الجهات الرسمية والشعبية الإسرائيلية بكل مستوياتها، تؤيد هذه المجموعات وتشجعها، ذلك أن أغلب المنتسبين إلبها هم من أتباع الأحزاب الدينية والقومية اليمينية المتطرفة، التي تؤمن مثلهم بيهودية الدولة، وملكية الأرض، وحق اليهود المطلق في استيطانها والعيش فيها، وطرد كل من ينافسهم على امتلاكها أو العيش فيها، وهم في أصلهم ورثة مئير كاهانا مؤسس حركة "كاخ" العنصرية، وقد نالوا بركة العديد من حاخامات إسرائيل الكبار، وأيدهم في أفعالهم أرئيل شارون وقادة حزب الليكود وزعيمه بنيامين نتنياهو.
لعله التاريخ يعيد نفسه من جديد، وكأننا أمام منظمات "الهاغاناة" و"شتيرن" و"الأرغون"، الذين روعوا الفلسطينيين وأرهبوهم، وقتلوهم وارتكبوا في حقهم أبشع المجازر، وخاضوا ضدهم أقذر المعارك، مما دفع الفلسطينيين إلى الفرار واللجوء، والنجاة بحياتهم والهروب، فخلت لهم الأرض لتأسيس كيانهم، ودانت لهم البلاد فأعلنوا دولتهم، واليوم تقوم عصابة "فتية التلال" بالفعل نفسه، وبالأداة نفسها، وغاية ما يتمنون رحيل الفلسطينيين وتخليهم عن أرضهم ووطنهم، واستسلامهم وخضوعهم، وقبولهم بالأمر الواقع ورحيلهم، ولكن الفلسطينيين الذين تعلموا من ماضيهم، واستفادوا من تجربتهم، باتوا يتصدون لكل العصابات الصهيونية ويفشلون مخططاتهم، ويحبطون عملياتهم، وما قرية بيتا في نابلس عنا ببعيد، وما انتصارهم على فتية التلال بعزيز.
فلسطين بالدمِ حاضرةٌ وفي خطابِ الأممِ غائبةٌ
كأنه نسي أن كيانه هو سبب الاضطراب والتوتر في المنطقة، وسبب الفوضى وعدم الاستقرار، وأنه السبب الرئيس في اندلاع الحروب وتفجر الصراعات، وخلق الفتن وصناعة المؤامرات، ونشر الكراهية وشيوع الإرهاب، وغياب الديمقراطية وفرض الديكتاتوريات، وشحذ النعرات العرقية واستنفار العصبيات المذهبية، ورعاية مظاهر التمرد ودعوات الانفصال، ودعم أطرافها بالخبرة والسلاح، وتشجيعها بالمال والمساعدات، وتحريضها على إشعال المنطقة وإرباكها، وفقدانها أمنها وانهيار اقتصادها وفشل بلادها.
حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت، في أول كلمةٍ له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي بدا فيها متمكناً من لغته الانجليزية الأم، إظهار الإنكار ورفض الاعتراف، وتجاهل حقائق الواقع، والإصرار على الهروب إلى الأمام، وعدم الإقرار والتسليم بالبديهيات المعروفة والوقائع الدامغة، بأن كيانه هو المسؤول عما يعاني ومنه يشكو، وأنه هو الذي وضع نفسه وشعبه في مربع الخوف ودائرة الرعب، وأنه المسؤول عن كل الدماء التي تسيل، والأرواح التي تزهق، والبلاد التي تدمر، والأموال التي تهدر، والخراب العام الذي يسود وينتشر، ويطغى ويكثر.
تعمد بينت أن يظهر نفسه على منصة الأمم المتحدة مظلوماً مستضعفاً، ومستهدفاً مهدداً، وأن شعبه مسكينٌ يضطهد، ومظلومٌ يُرَّوع، ومسالمٌ يُهدَّدُ، رغم أن أيدي كيانه ظاهرة، وآثار مؤامراته بادية، ونتائج عدوانه طاغية، وظلمه وبغيه لا يخفى على أحد، ولا ينكره إلا نفسه والمتحالفون معه، إلا أنه تجاهل كل ذلك وانشغل بغيرها، وادعى الخوف والمظلومية، وشكى من التهديد والخطر، وطالب المجتمع الدولي بنصرته ومساعدته، وتأييده والوقوف معه، وتصديق روايته والموافقة على خطته.
أغفل بينت متعمداً وتجاهل قاصداً أن كيانه يحتل أرضاً عربيةً فلسطينية، وأنه طرد سكانها وشرد أهلها، وقتل واعتقل عشرات الآلاف من أهلها، وأن مستوطنيه قد حلوا مكانهم واستوطنوا أرضهم، وعمروا بيوتهم وحقولهم، وسكنوا منازلهم ومزارعهم، واستولوا على حقوقهم وممتلكاتهم.
وما زال كيانه يمعن في قضم ما بقي من أراضي الفلسطينيين ويصادرها، ويبني عليها مستوطناته وينقل إليها مستوطنيه، بينما يحرم الفلسطينيين، وهم سكان الأرض الحقيقيين، من حقوقهم المشروعة في أرضهم وبيوتهم وحقولهم وبساتينهم ومياههم، ويعمل على طردهم مما بقي لهم، وخلعهم من أرضهم، واستئصالهم من جذورهم، وشطب هويتهم، وطمس حضارتهم، وإنكار تاريخهم، وتغير أسمائهم، وفرض وقائع جديدة كاذبة ومزورة، تؤيد حق كيانه، وتنكر حق الشعب الفلسطيني وأصالة وجوده.
في الوقت الذي يصر فيه بينت وقادة الكيان الصهيوني، على حرمان الفلسطينيين من حقهم في الحياة الحرة الكريمة الشريفة، والاستمتاع بأرضهم ووطنهم ودولتهم السيدة الحرة المستقلة، فإنه يستنكر مقاومتهم، ويعيب عليهم صمودهم، ويدين ثورتهم، ويقف ضد انتفاضتهم، ويريد منهم يكفوا عن مواجهتهم، وأن يسلموا أسلحتهم، وينبذوا نضالهم، ويلعنوا تاريخهم، ويجحدوا ماضيهم، وأن يتخلوا عن شهدائهم وأسراهم، وأن يكفوا عن دعمهم ومساندتهم، وأن يسلموا له بما سلب، وأن يقروا لكيانه بشرعية الوجود وحق البقاء. دون أن يقدم لهم شيئاً مما لهم، أو يسلم لهم ويعترف بحقوقهم.
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يأت بينت على ذكر الفلسطينيين، ولم يذكر قضيتهم، ولم يشرح معاناتهم، ولم يعدد مآسيهم، ولم يذكر أنهم يعانون من الاحتلال، ويقاسون من سياسته، وأن جلهم يقع تحت الحصار، ويخضع للأحكام العسكرية، فيقتلون ويعتقلون، وتداهم بلداتهم وتجتاح مناطقهم، وكأن القضية الفلسطينية غير موجودة أصلاً، وفلسطين ليست حقيقة، فلا اسم لها على الخارطة السياسية، ولا وجود لها على الأرض الجغرافية، فلا أرض لها ولا شعب، ولا مقدسات لها ولا أسرى، ولا تاريخ لأهلها فيها ولا حضارة لهم.
أنكر نفتالي بينت القضية الفلسطينية في وقتٍ كانت فيه فلسطين تشتعل ناراً، وتستعر أواراً، وتلتهب اشتباكاتٍ في أكثر من مكانٍ في الضفة الغربية، سقط خلالها شهداءٌ عديدون في القدس ورام الله وجنين، واجتاحت قواتُ النخبة في جيش الاحتلال أكثر من منطقة في الضفة الغربية، قبل وبعد اعتقال الأسرى المحررين الستة، الذين تمكنوا من الفرار من سجن جلبوع المحصن، وما زالت قواته تقتل الفلسطينيين على الحواجز الأمنية التي نصبتها، والمعابر التي فرضتها وأبقتها، في الوقت الذي تواصل فيها طائراتها الحربية ودباباتها المدمرة قصف أهدافٍ متفرقة في قطاع غزة، تطال البيوت والمساكن، والمزارع والمعامل، والمؤسسات الأمنية والمقرات الشرطية وغيرها.
يظن نفتالي بينت، الذي يوصف بأنه الأضعف بين رؤساء الحكومة وأقلهم حيلة، أنه يستطيع أن يحقق ما لم يحققه أسلافه، وأنه سينجح في دفع دول العالم إلى تأييد كيانه، والإصغاء إليه وتصديق روايته، والالتفات إلى الملف النووي الإيراني والانشغال به عن القضية الفلسطينية، والعمل معه لمواجهة إيران والتصدي لأطماعها النووية.
فهي الخطر الداهم والرعب القادم، الذي سيغير وجه المنطقة في حال امتلاكها للقنبلة النووية، لهذا فقد أكثر من ذكر اسمها وعدد أخطارها، وحذر من نواياها، ونبه إلى مشاريعها، ولكن مسعاه قد فشل، وهدفه لم يتحقق، إذ لم يصغ إلى كلمته سوى قلةٍ من المعروفين بالولاء إلى كيانه، الذين يدافعون عن ظلمه وعدوانه وبغيه وطغيانه.
لكن أغلب مندوبي وممثلي دول العالم في الأمم المتحدة يعرفون فلسطين جيداً، ويدركون عدالة قضيتها، ويؤمنون بحق الشعب الفلسطيني في العيش على أرضه الحرة، وفي ظل دولته المستقلة، وبكامل سيادته الوطنية، وقد سبق للأمم المتحدة أن أصدرت قراراتٍ دولية، تعترف فيها بالدولة الفلسطينية، وتمنحها حق العضوية فيها، وتدين الكيان الصهيوني وتتهمه بالمسؤولية عن مأساة الشعب الفلسطيني، وتصنف الصهيونية بأنها حركة عنصرية، وتدين عمليات الاستيطان الإسرائيلية وتعتبرها غير شرعية، وتدعو "إسرائيل" إلى الاعتراف بقرارتها والالتزام بها، وتمكين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم.