ما الذي يمكن أن يجعل محمد شكري، الغاضب، اليائس، الساخط، كما عمَّدته سيرة الخبز الحافي، راضيا عن نفسه"؟
"ورد ورماد" كتاب صدر سنة 2000 يحمل مجموعة من الرسائل المتبادلة بين محمد برادة ومحمد شكري. يقول برادة في تقديمه لها: " قد تكون مضيئة لبعض التفاصيل التي التقطتها الرسائل وهي في حالة مخاض وقد ترسم ملامح أخرى لا يتسع لها النص الإبداعي".
التقطتُ هذه الإشارة، ورحت أفتش عن وجه آخر لنصوص محمد شكري بين هذه الرسائل، خصوصا، تلك التي كتبها وهو في مستشفى الامراض العقلية، والتي حمل بعضها توقيع "شكري... الراضي عن نفسه". ويسميها بالرسائل "المستشفائية" كما ورد في إحداها.
عددها ثمانية، كتبها في الفترة الممتدة بين 18/12/1977 و27/12/1977* أي خلال عشرة أيام. وهذا يعني أنه كان يكتب يوميا تقريبا، إلا في رسالتيه الأخيرتين حيث يفصل بينها يوم عن سابقتها. وهذا يفسر عدم وجود أية رسالة من محمد برادة خلال هذه الفترة.
هل كان شكري راضيا عن نفسه خلال هذه الفترة؟ وما هي مظاهر هذا الرضى؟ وهل انعكس ذلك على تصرفاته وعلى علاقته بمحيطه؟ هل وجود شكري داخل جدران المستشفى يظهر وجها آخر غير معتاد؟
يقول الفيلسوف والمعلم الهندي، "كريشنامورتي جيدو" بأن الخوف من الوحدة يدفعنا للهروب، إلى الكنائس والمساجد أو الاستماع إلى الراديو او القراءة، الكأس، الجنس....
فهل يهرب شكري من الوحدة على المستشفى؟
في آخر رسالة كتبها قبل دخوله المستشفى، يبدو في غيبوبة اختيارية عن العالم. يقول لبرادة:" عندما استلمت رسالتك كنت شبه فاقد وعيي، جد سكران...وضعتها في جيبي ولم أقراها إلا بعد يومين" إضافة إلى ذلك تعبر الرسالة عن حالة خصام شديدة مع الناس ومع نفسه ورغبة في الابتعاد عن كل شيء:" كنت جد متخاصم مع نفسي وأيضا مع الناس "ويصل غضبه إلى مداه فينفجر بأسلوبه المعروف:" عندما امتلئُ غضبا أبول على الأشخاص ويبولون علي ثم أبول على نفسي فرحا أو حزنا لأحقق للكلبيين زمنهم المنسي."
هذه الصورة التي التصقت بشكري والواضحة من رسالته، ستتلاشى داخل المستشفى. وكأننا أمام مسرحية أو عمل درامي في ديكور جديد وفضاء مختلف تنقلب فيه الأجواء والصور والحكايات ويليق بتوقيع "الراضي عن نفسه". صور بعيدة عن الظلمة والخوف والروائح الثقيلة. في المستشفى يبدأ نهاره مبكرا محملا بانتعاش البرتقال. "أفقت هذا الصباح حوالي الخامسة، المرضى نائمون. بقيت في فراشي. أكلت برتقالة ثم دخنت سيجارة... وأخذت أقرأ" وفي رسالة أخرى يقول:" الساعة الآن خمس دقائق نحو العاشرة. استيقظت في المستشفى في الخامسة صباحا. أكلت برتقالتين ودخنت أول سيجارة ثم رحت أقرأ"
أول ما يثير الانتباه، أن هذه الرسائل يومية. عكس ما كانت عليه قبل ذلك. فبينما يقول في آخر رسالة قبل المستشفى" منذ شهرين لم أكتب سوى خواطر"، يقول في أول رسالة من داخله، ضمها الكتاب، "الإحساس بالكتابة بدأ يغزوني في هذا المستشفى" نفس الشيء بالنسبة للقراءة والتي تحضر في كل الرسائل تقريبا، رواية "زمن الصمت" و"لوف ستوري"، والشعر، بل إنه يتمتع بمناقشات فكرية، أدبية وفنية مع رفاق المقهى والدكتور الجعيدي، الذي يقول عنه" إنسان مثقف، يهتم بالأدب والفن، عموما، وبالمذاهب السياسية والفكرية"
رسائل شكري من المستشفى تحمل إحساسا بالحرية والانطلاق، وكأنه غادر سجن حياته اليومية إلى فضاء أرحب. يتجلى ذلك في كونه يكتب رسائله يوميا من المقهى، نيبون أو ما نيلا، ثم يتحدث عن ذهابه إلى طنجة لقضاء بعض حوائجه أو للعمل والعودة إلى المستشفى. يقول "... في اليوم التالي سأعود من جديد إلى المستشفى لأقضي كل عطلتي" المستشفى فضاء للعطلة والانطلاق والتحليق حتى وإن يكن بأجنحة إيكاروس".
في هذه الرسائل نكتشف شكري المنفتح على محيطه، في حالة انسجام ورغبة في لقاء الناس والتفاعل معهم سواء من قاطني المستشفى أو أصدقاءه الذين يلتقيهم في المقهى. وهذه بعض النماذج من رسائله:
"داخل المستشفى، أتمشى وحيدا أو أجالس أحد المرضى فيحكي لي عن مآسي حياته". وفي أخرى يقول: "انت ترى أن علاقاتي محدودة ومع أناس لا يزعجونني ولا أزعجهم"
يمكن أن نصف حالة شكري في مستشفى الأمراض العقلية على لسانه، بأنها إحساس بصفاء ذهني غريب كما يقول مخاطبا برادة، بل ويؤكد أنه لا يشعر بأي ملل.
هذه الحالة جعلته يفكر في تغيير حياته وهي رغبة كانت حاضرة في جل رسائله. "عندما سأخرج من هنا سأحاول أن أغير حياتي نحو الأجمل"
" سأبقى هنا حتى آخر هذا الشهر ثم أعود إلى طنجة لاستئناف عملي مغيرا نمط حياتي"
"كم أتمنى أن أكون بعيدا في بلد لا يعرفني فيه أحد ليكون لي من جديد أول صديق، أول خصم، أول عمل لم أمارسه من قبل إلى ما لا نهاية من الأوائل"
في المستشفى نكتشف محمد شكري المنضبط لقوانين صحته، حيث يتوقف عن شرب الكحول، وحتى الرغبة فيه لم تعد توتره كما يؤكد لبرادة. والمنضبط للمجاملات الاجتماعية، حين يطلب من برادة أن يشكر الطبيب الذي يعالجه: "صحتي تحسنت كثيرا بفضل عناية الدكتور الجعيدي. أرجو أن تكتب له رسالة شكر نيابة عني". وحتى عندما يشير إلى بعض مشاكله أو صراعاته مع أحد المرضى، فإن ذلك لا يخدش صفاء تلك الصورة التي نسجها شكري بين ثنايا كتابته اليومية لبرادة والتي تبدو على شاكلة مذكرات يومية يكتبها لنفسه.
رسائل شكري "المستشفائية" غنية جدا في إيحاءاتها ودلالاتها وتستحق قراءة متأنية متعمقة، لاستنطاق أوجه أخرى في كتاباته.
(*) الرسائل "المستشفائية"