تفتقر الصحافة المصرية على الرغم من تاريخها الطويل، إلى رسامين يملكون القدرة على الكتابة، وباستثناء محاولات قليلة لمحيي اللباد وجورج البهجوري ورجائي ونيس، لا نجد سيرة ذاتية كتبها رسامو الكاريكاتير خصوصا. من هنا، تكتسب السيرة التي كتبها رسام الكاريكاتير المصري أحمد عز العرب في كتابه "حكايات طائر الطباشير" أهمية خاصة، فهي أولاً تكشف عن سيرة فنان ينتمي للطبقة الوسطى المصرية وكيف تكون ثقافياً خلال أعوام الخمسينيات في ظل ذروة المد القومي الناصري. وإضافة إلى ذلك، يستعيد الكتاب زمناً كانت الصحافة تلعب فيه أدواراً كبيرة، وتسهم في صياغة جدول أعمال مجتمعها منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي.
في تلك الأعوام، تولّت مؤسسة "روز اليوسف" ومجلة "صباح الخير" التي تصدر عنها، مسؤولية تقديم كثير من الأسماء اللامعة، مثل صلاح جاهين وأحمد حجازي وبهجت عثمان وجورج بهجوري وإيهاب شاكر ونبيل السلمي وصلاح الليثي ومحمد حاكم. وهؤلاء جاؤوا بعد جيل صاروخان ورخا وعبد السميع، وتحوّلت غالبيتهم إلى نجوم كبار، لهم أدوارهم ومعاركهم التي خاضوها دفاعاً عن حرية التعبير، وهي معارك امتدت حتى نهاية عصر الرئيس السابق حسني مبارك، قبل أن يتحوّل معظمهم إلى رسوم كتب الأطفال ومجلاتهم
يكشف الكتاب الصادر عن دار المحروسة للنشر 2021، كثيراً من التفاصيل المرتبطة بتاريخ الكاريكاتير ومراحل تمصيره، ولا يفصل تلك التواريخ عن لحظات مفصلية في تاريخ مصر. فارتبطت نشأة الكاريكاتير بميلاد الصحافة واتساع المجال العام. ومنذ أوائل القرن العشرين، وفد إلى مصر كثرٌ من الرسامين الأجانب مثل الإسباني سانتوس والأرمني صاروخان اللذين لعبا دوراً مهماً في لفت الانتباه إلى قيمة الرسم الكاريكاتيري بوصفه من أدوات الرأي في الصحف. ثم جاءت الانتقالة الكبرى بتمصير هذا الفن على يد رخا الذي قدّمه الصحافي محمد التابعي ضمن موجات أخرى من التمصير شملت مختلف أوجه النشاط في البلاد.
يقرّ المؤلف بصعوبة فصل صعود الكاريكاتير عن صعود فكرة الثورة، بحيث لفتت ثورة 1919 النظر إلى صاروخان، وجاءت الخمسينيات لتبرز موهبة رخا الذي ابتكر شخصية "ابن البلد" أو "المصري أفندي"، الدالة على قوة حضور الطبقة الوسطى في المشهد العام. في حين كانت الستينيات كلها مرحلة النجومية مع "أبناء" مدرسة مجلة "صباح الخير" التي أسستها الممثلة روز اليوسف وترأس تحريرها الصحافي أحمد بهاء الدين واعتبرت نفسها الناقل الرسمي لأفكار جيل التغيير الذي جاء مع يوليو (تموز) 1952.
شذرات بصرية
ويربط المؤلف بذكاء بالغ بين سيرته الحياتية وسيرة المهنة التي امتهنها، ليتجاوز الذاتي إلى الموضوعي في تجربته التي ينظر إليها بعين متواضعة. غير أنه يكشف عن موهبة فذة في السرد المتقشف بلاغياً، إذ يقوم الكتاب بالكامل على "التلخيص" وعلى نمط من السرد البصري لا يسير بشكل أفقي، بل يرتكز إلى تقاطعات تجمع بين أكثر من زمن سردي أقرب إلى طريقة "الشذرات"
ومنذ الصفحات الأولى، يكشف المؤلف دلالة العنوان الذي اختاره لكتابه، منطلقاً من واقعة حقيقية عاشها حين كان طفلاً في صفه الدراسي الأول، عندما حالت إعاقة في قدمه دون خروجه ليلعب مع زملاء الصف في الفناء، فيظل في غرفة الدراسة، يتأمل ما حوله. وحين نظر إلى السبورة، لاحت له فيها خطوط ودوائر بيضاء متقاطعة تخلفت كرواسب وبقايا من دروس سابقة، فظهرت أمامه مثل كتل السحاب المبعثرة في السماء كائنات هلامية الملامح. فأعاد تشكيلها وأضاف إليها حتى تجسد أمامه طائر كبير في الوسط، يمدّ جناحيه بعرض السبورة، شاغلاً نصفها الأعلى، بينما رسم في النصف الأول الحقول الممتدة والفلاحين حولها.
حين رجع التلاميذ إلى الدرس، انبهروا بالرسم ثم جاء الأستاذ وسأل عن صاحب الرسم، وحين تعرف إليه كلّفه رسم المزيد في كراسة خاصة وأبدى حماسة لموهبته. ومنذ تلك الساعة، وجد أحمد عز العرب طريقه، إذ جلب له طائر الطباشير المعرفة والمتعة وتحول إلى رفيق لازمه طويلاً في رحلة العمر التي يوثقها الكتاب.
أعوام التكوين
ومن هذا المجاز الدال، ينطلق المؤلف كاشفاً عن أعوام تكوينه الأولى في منطقة مجرى العيون، لافتاً إلى تأثره بتكوينات السور الممتد من النيل إلى القلعة بمعالمه العمرانية ذات الإيقاع المتميز. ويكشف حرصه على اختزان الصور في ذاكرته البصرية وتماهيه مع طائره المحلق، إذ أصبحت نظرته إلى العالم من "عين الطائر" الذي لازمه وأسهم في شحذ مخيلته التي زادتها حكايات الجدة ولعاً بالفانتازيا والروايات الغرائبية. وعطفاً على الجدة، لعب الأب دوراً في تنمية شعور الابن بالمجال العام والارتباط بقضايا راهنة خلال سنوات الخمسينيات التي كانت حاسمة في مواجهة جمال عبد الناصر مع الغرب. وخلق الأب داخل الإبن حوافز التفوق وبث داخله طاقة إيجابية عبر سيرة طه حسين ليكون مثله ويقتدي بقوة إرادته وشجاعته في التغلب على ظروف الإعاقة، فنجح في التحصيل الدراسي وبلغ حدود التفوق.
وعلى الرغم من دراسته الطب البيطري، لم يتوقف شغف عز العرب بالرسم، وظل مشدوداً إلى العمل بالصحافة وتعلّق برسم الكاريكاتير وتقدم برسومه إلى مجلة "روز اليوسف" في عصرها الذهبي، وتولّى الصحافي البارز صلاح حافظ دعمه. لكنه اعتُقل بسبب رسمة، ما دفعه إلى سرد وقائع رسامين آخرين سبقوه إلى السجن مثل عبد المنعم رخا وزهدي العدوي. وجاء دوره بعد أسابيع من هزيمة يونيو 1967 بسبب رسمة على صحيفة من صحف الحائط في الجامعة.
الديكتاتور والرسام
يفسّر أحمد عز العرب الأسباب التي تدفع الرسامين إلى السجن في الأنظمة القمعية، مؤكداً أن رسام الكاريكاتير ينزع عن الحاكم الهالة المقدسة الوهمية، ويعيد "أنسنته" ليذكّر الناس بأنه بشر مثلهم، يصيب ويخطىء ويمكن السخرية منه. لذلك، فإن التذكير بقانون الحياة هو ما يثير غضب السلطة على الرسام.
ويسرد المؤلف خبراته في تأسيس صحيفة " الأهالي" المصرية اليسارية المعارضة في الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس السادات، وهي خبرة فريدة تكشف عن كواليس صناعة صحيفة حزبية في أوقات المد والجزر مع السلطة الحاكمة. ومن ناحية أخرى، يبرز عز العرب أدوار أسماء رائدة في مهنة الصحافة وقفت وراء التجربة وأدارت صراعاتها السياسية بكفاءة مثل محمد عودة وعبد الغني أبو العينين ولطفي الخولي، على خلاف من هم أقل عمراً من الجيل الذي ضم لطفي الخولي وصلاح عيسى وحسين عبد الرازق ومحمود المراغي.
يستعير الكاتب تعبيراً صاغه رسام الكاريكاتير المصري الراحل بهجت عثمان لرسم بورتريهات وصور قلمية لعدد من الأسماء المعطاءة التي عمل معها، وهذا التعبير هو "الإنسان الشجرة" ليدلّ على استمرار العطاء ومد الأثر والظلال. ومن بين تلك الأسماء التي يؤكد فاعلية تأثيرها في حياته، بهجت عثمان نفسه ورسام الكاريكاتير البارز حجازي الذي يؤرخ لتجربته، ويكشف الكثير عن حياته وخلفيات تفرّده في التلخيص وابتكار "فورم" مثالي في تحريف الأشكال والخطوط.
وإضافة الى هؤلاء، يرسم صوراً لعبد الغني أبو العينين الذي كان يتولّى الإخراج الفني لصحيفة "الأهالي"، وكذلك السياسي عبد الغفار شكر والنقابي عبده كراوية والمخرج سيد سعيد والكاتب الساخر ناجي جورج، إلى جانب المفكر السياسي محمد السيد سعيد الذي تشارك معه في تأسيس صحيفة "البديل" خلال عام 2007. وكانت آخر التجارب المهنية التي انخرط فيها آملاً في تحقيق حلم التغيير بعد تجارب عدة خاضها لخلق "الإعلام الجماهيري البديل.
اندبندنت عربية