يحتفي العدد ضمن فقرة ذاكرة بالشاعر العراقي سركون بولص (1944- 2007م)، أحد الشعراء الذين رسخوا من خلال تجربتهم الإبداعية أفقا مختلفا للكتابة والقصيدة، تجربة أثرت، من خلال حضورها وبوعيها النقدي لأسئلة الشعر، المشهد الشعري العربي والإنساني، ومع "جماعة كركوك" التي انتمى إليها بولص مع مجموعة من الشعراء المتمردين، والتي كان أثرها جليا في المثن الشعري العراقي، أصبح اسمه حاضرا بقوة كأحد رموز قصيدة النثر العربية.

قصائد

سركون بولص

 

مذكرات غريق
مطاردةُ الدمعة المخفيّة في الرحم في الورقة
والشجرةُ الظاهرة من النهر بعد الفيضان
منفوخة كالبقرة. وجدوا مهْدَ طفلٍ يجري بهدوءٍ
على الأمواج. والأمّ بشعرها الطافي تلاحق المهد وهي تغرق.
على الضفاف أكرادٌ يلفّون الحبال حول أكتافهم العارية
يخوضون النهر حتى الرقبة ويلقون بالحبال نحو المهد.
يا مُقوِّس الفارزة والحرف، والكلمة وإيقاعها كالرصاصة
ماذا تريد أن تصيب؟ أي أعداءٍ لك
يطرقون الأبواب في المساء؟
وهل تجد
أنّ الفرار فائدة
أن المساء في الحقيقة
ليس حقيقيًا أرضٌ غامضة
حيث يبحث الأحياء عن الأحياء؟
وذات يوم
وجدتها حيّة ترتعد بين ذراعيك والأرض
قد اختفت
على ضوء الأسنان كالبيت
الذي ولدت فيه
وتولد فيه كلّ يوم بجوعك الأسطوري
وبين أسناني هذه الرسالة التي
تهبط منها الكلمات الضامرة
كالمشاة إلى غبار الجبهة: تأمرني بالذهاب
إلى وادي المناجل الزرقاء
أجرّ أعناق حروفي إلى الحصادِ
وأن أخطو إلى أيّة هاويةٍ للعالم قُيّدتِ فيها

وكما يرثُ الابنُ ديونَ أبيه
ورثتُ هذه الصرخةُ عن البقيّة

 

مفتاح
جئت لأقتلهُ:
ثعبان يُعبد في جزر الحاجة
لدغتهُ تنشرُ نومًا سحريًا
في الأعضاء

وعن بُعدٍ. نظرتهُ وعْدٌ
بالجنّة: في هاويةٍ
لا أبواب لها، سمّرني
في حضرته الساسةُ والحرّاس

أعرفُ أنَّ البوّابة
ليست إلا جرحًا
والمفتاح إليها:
صدقٌ
ليس له آباءْ

 

حضور دائم
أقتفي خطوي
وحتّى في دمي جئتُ
على آثار عينيه وخلفي
نزفتْ رجلاهُ حتى احترقتْ
من فقره الدنيا وفي حضرتهِ
اتّهمنا كلّ شيء ونفضنا الأرضَ في أسمالِها فاستيقظتْ

 

سأروي لك حلم البارحة
حلُمٌ طاردني
وانفتحت فوقي مثل جناحٍ
شفتاهُ، ركعتْ فوق الماءِ
الغاباتُ
وارتجفت أيّامي وسجدتُ
طويلًا تحت فضاء غنائي
الصامت، وانحدرتْ نحوي الأصواتُ
تائهةً، من كلّ فمٍ كان يناديني
ويُتابعُ بين الأنهار رحيلي
مختبئًا في جحرٍ
أو في جسد امرأةٍ
تخرج من بيت
في أقصى الأرض، وتسعى
للقائي

 

أتركْ عينيك على جحرٍ
اتركْ عينيك على حجرٍ
لم تعبر به قافلةٌ
لم يَخْطُ عليه أحدٌ
كنْ رجلًا واتبعني!
الطرقُ الصعبةُ، تمتدُّ بعيدًا
وهي جميعًا ملتويةْ
لن تخرجَ منها بأقلَّ من الحتْفِ

إن حدّقْتَ طويلًا
ستراني في الأٌفْق، وأنهارٌ
كالأحشاء اشتبكتْ في قدمي
تسطعُ هائجةً
وطريقٌ
تربضُ في النبع الجبليِّ كثعبانٍ
منتظرٍ، يعرف أنك مثلي
لا شكَّ ستأتي

وعميقًا في مدُن النبضةِ
في منجمها السريِّ، سيدعو
جلد أيادينا فجرٌ، يتخفّى، يتجلّى
بإشاراتٍ جائعةٍ
سنُجالدُ حتى الموت
لنعرفها..


مديح
سأمضي في مديحي لكِ
وكأنَّك أسيرةُ فنارٍ بعيد
سأمضي في مديحي لك
وكأنك نهري الذي يتكرر في كل قصيدة

 

(ابتداءً من هذه القصيدة)

سأمضي حتى لو جازفت
بإقلاق نوم العالم
معلقًا من شعره الطينيّ
في أبراج القصائد
حيث الشاعر محاصر
يحرق وثائق الليلة الماضية
بنظرة ختاميّة لا تعرف الصَلح

 

و حتّى
في خط الذوق العمودي
لهذا العصر الذي يدلّلونه
كعسكري مغطى بأوسمة الموتى كالمنطاد
سأمضي في مديحي حتى في الحدود الشعرية، التي لا يعرف
أحدٌ ما هي
وأناقضُ نفسي
في ألّا أحاول إظهار القصيدة بالعنف
أو سحبها من شعرها كامرأة عنيدة
عبر الحانات والخنادق
هذه المرة
وأناقض نفسي، التي
تركتها خلفي (ولا تهمّ أحدًا غيري) لتأخذ قسطًا من الراحة
بين أقدام العصور المتورّمة
التي اقتلع أظافرها
بالأزاميل والمطارق والكلّابات
آلافُ الجلّادين، وحتى
قبل أن نأتي إلى هذه اللحظة
في أن أترك القصيدة وشأنها هذه المرة
في أن أترك القصيدة البائسة
وشأنها هذه المرة
وأمضي في مديحي
لك، فربما حدث شيءٌ أفضل
من مجرد قصيدة

 

العودة
في منتصف الطريق كففت
عن السير. أدرت ظهري للزمان
وبدل أن أستمر في المستقبل
حيث لم يكن أحد ينتظرني
عدتُ أدراجي، قاطعًا الطريق المقطوعة من قبل
تركت ذلك الخط حيث الكل
منذ بداية البدء ينتظرون
بطاقة ما، مفتاحًا ما، إشارة
بينما الأمل يأمل يائسًا
أن يُفتح له باب القرون،
أن يقول له أحد: ما من أبواب الآن،
ما من قرون

عبرت شوارع وساحات،
تماثيل رمادية في الفجر القارس
والريح وحدها كانت تعيش
بين الأشياء الميتة.
ما وراء المينة الريف وما وراء الريف
الليل في الصحراء.
كان قلبي ليلًا، كان صحراء.
ثم كنت حجرًا في الشمس،
حجرًا ومرآة.
وبعد ذلك البحر خارجًا
من الصحراء، والخرائب
وفوق البحر السماء السوداء،
حجر هائل لحروف مقضيّة:
لم يُرني شيء ما النجومَ
(ما من شيء أراني النجوم)

جئت إلى النهاية. الأبواب مخلّعة
والملاكُ، بلا أسلحة ونائم.
في الداخل، الحديقة: أوراق متشابكة،
تنفّس حجارة حيّة تقريبًا،
نعاس مغنوليات وضوء
عارٍ بين جذوع موشومة.

عانق الماءُ المرعى
الأحمر والأخضر بأذرع أربع.
وفي المركز المرأةُ، الشجرة،
شعر طيور نارية.

بدا عريّي طبيعيًا:
كنت كالماء، كالهواء،
تحت نور الشجرة الأخضر،
نائمة في الأعشاب،
كانت ريشة طويلة
هجرتها الريح، بيضاء.

 

بورتريه للشخص العراقي في آخر الزمن

أراه هنا، أو هناك:
عينهُ الزائغة في نهر
النكبات، منخراه المتجذّران
في تُربة
المجازر، بطنه التي طحنتْ
قمحَ
الجنون في طواحين بابل
لعشرة آلاف عام
أرى صورتَهُ
التي فقدت إطارها
في انفجارات التاريخ
المستعادة
تستعيد ملامحها كمرآةٍ
لتدهشنا في كل مرة
بمقدرتها الباذخة على التبذير.
وفي جبينه الناصع
يمكنك أن ترى
كأنما على صفحات كتابٍ
طابورَ الغزاة يمرُّ
كما في فيلم بالأبيض والأسود:
أعطه أيَّ سجن ومقبرة
أعطه أي منفى
أي هنا، أو هناك
ورغم ذلك يمكنك أن ترى
المنجنيقات تدكُّ الأسوار
لتعلو مرّة أخرى.
وتصعد أوروك من جديد.