القضيةُ الفلسطينيةُ بين المراكبِ الصدئةِ والقياداتِ المهترئةِ
يرفض بعض الفلسطينيين الاعتراف بأنهم يعانون من تقديس الرموز، وتأليه القيادات، وتنزيه المسؤولين، ورفع قدرهم وإعلاء كلمتهم، والهتاف بحياتهم والتضحية في سبيلهم، وتبرير أفعالهم وتبرئة ساحاتهم، وحسن الظن بهم ورفض التشكيك بنواياهم، أو سوء الظن بأفعالهم، واتهامهم بالخيانة والتفريط، وبالكذب والنفاق، وبعدم الصدق والإخلاص، وبأنهم يسعون لمصالحهم، ويخافون على منافعهم، ويتطلعون لحماية أنفسهم وتأمين مكتسباتهم، وضمان مستقبل أبنائهم وتوظيفهم، وتعليمهم وابتعاثهم، وزيادة ثرواتهم ومضاعفة مشاريعهم، وتحصين أنفسهم من المساءلة والمحاسبة، والجزاء والعقاب، والنجاة من الخلع والإفلات من الثورة والانقلاب.
كما يصر آخرون منهم على الحفاظ على هياكلهم القديمة، ومؤسساتهم البالية، ومنظماتهم المهترئة، وآلياتهم الثلمة، وأسلحتهم الصدئة، ومعابدهم المتهالكة، ويظنون أنها الناجية والمنجية، والمنقذة والمخلصة، وأنها الوسيلة والأداة، والمركب والمعبر، والإطار والهيكل، ورغم أنها أصبحت قديمة وتجاوزها الزمن، ومهترئة لا تصمد أمام المحن، وغدت عجوزاً لا يصلح معها الرتق والوصل، ولا الدواء والعلاج، ولا يعيدها إلى الحياة صيانةٌ أو إصلاحٌ، أو تعديلٌ وتغييرٌ، أو حقنٌ ورقعٌ، وغدا مشغلوها وساكنوها أقرب إلى القبر منهم إلى الحياة، وأدعى لو كانوا يعقلون، إلى طلب الآخرة أكثر من السعي إلى الدنيا.
نحن الفلسطينيين في الوطن والشتات، نعيش مراحل خطرة، ونمر في أزماتٍ صعبةٍ، ونواجه تحدياتٍ غير مسبوقةٍ، وما تتعرض له قضيتنا على مستوى العدو ودول الاستعمار الكبرى، ودول الجوار القريبة والبعيدة، لم تتعرض له على مدى تاريخها الممتد لقرابة المائة عامٍ، منذ الانتداب الانجليزي مروراً بالاستيطان الإسرائيلي حتى اليوم، فما كانت فلسطين كما اليوم عرضةً للشطب والضياع، والفقد والسلخ، كما هي اليوم، فالمشروع الصهيوني كبر وتمكن، وعظم واستحكم، وبات يجاهر بنواياه، ويتحدى بأحلامه، فهو لا يريد أن يعيد للفلسطينيين شبراً من أرضهم، ولا حقاً من حقوقهم، ويريد أن يستأثر بالأرض كلها وحده، فلا يشاركه فيها أحد ولا يعيش معه فيها سواه.
أمام هذا التحدي غير المسبوق لقضيتنا وشعبنا، ومستقبلنا ووجودنا، وهويتنا ومقدساتنا، ينبغي على الشعب الفلسطيني أن ينظر في آلياته ووسائله، وأن يعيد النظر في قياداته ومسؤوليه، فلا يقبل بآلية ضعيفةٍ، ولا وسيلةٍ عاجزةٍ، ولا عربةٍ ميتةٍ لا محرك فيها، ولا وقود يحييها، ولا بوصلة وطنية توجهها، ولا ضوابط أصيلة تحميها أو ثوابت قديمة تصونها.
ولا يصر على هياكل لم تعد تنفع، وغدت لا تصلح إلا للتوقيع المطلوب والقرار المرهون، الذي يعارضه الشعب ولا تقبل به الأمة، فلو أنها كانت حرةً مستقلةً ما بقي اسمها بين الأحياء، ولا حافظ المُسّيرون لقضيتنا على وجودها الشكلي ورسمها الخطي، فهي مؤسسة رسميةٌ، تحميها المؤسسات الرسمية العربية، وتبقي عليها حيةً لتأتمر بأمرها، وتنساق لرأيها، وتقبل بما تمليه عليها، وإلا فإنها تجوع وتعرى، وتفقر وتعدم، وتعود تمد يدها بالسؤال طالبةً العون المشروط والمساعدة المرهونة.
كما ينبغي على الشعب الفلسطيني أن يقف وقفةً شجاعةً جريئةً أمام من يدعون تمثيله، ومن يفترضون أنفسهم نواباً عنه وقادة له، فيجردهم من قداسة المناصب، ونزاهة المواقع، وينزلهم من صياصيهم العالية وأبراجهم المرتفعة، ويخضعهم للسؤال والمحاسبة، والعقاب والحساب، فلا يسكت عن أخطائهم، ولا يقبل بانحرافهم، ولا يستر جرائمهم، ولا يرضى عن أفعالهم الخبيثة وسلوكياتهم الدنيئة، سواء تلك التي تتواطأ مع العدو وتتعاون معه، أو تنسق معه وتجتمع وإياه، وتقبل بسياسته وتساعده في إجراءاته.
أو تلك التي تسخف بنضال شعبها، وتتآمر على مقاومته، وتساعد العدو في النيل من رجاله والوصول إلى مطارديه، وتسخر من عطاء أبنائها، وتهمل أبطالها الأسرى، وتغمط حقوق الشهداء والجرحى، وتقايض على دمائهم وحرياتهم، مقابل أثمانٍ بخسةٍ لا يقبل بها شعبها، ولم يضحِ أساساً من أجلها، رغم علمها أن هذه الأثمان ليست إلا سراباً يخدعنا به العدو، أو وهماً كاذباً يوحي لنا به نصراً وكسباً.
المحاسبة والسؤال شاملة، والعقاب والجزاء ينبغي أن يكون عاماً وألا يستثني أحداً، فكل مسؤولٍ تثبت إدانته ويظهر تقصيره، أو يعرف عنه انحرافه وتكثر أخطاؤه، أو يبدو عليه غنىً مفرط وثراءً لافتاً، أو يطغى وأولاده، وأنصاره وأنسباؤه، ويحتكر السلطة وأبناؤه، أو يميز عن الشعب ويختلف عن العامة في سلوكه وهندامه، وطعامه وشرابه، ومسكنه ومركبه، أو يتسبب في معاناة الشعب ويلحق ضرراً بهم، أو يتأخر عن مساعدتهم ويقصر في عونهم، أو يحجب حقهم ويحبس عطاءهم، أو يحرمهم ويقدم غيرهم، أو يجردهم ويغدق على سواهم، أو يتسبب في فقرهم وبؤسهم، أو يكون سبباً في مرضهم وانتحارهم، أو فرارهم وغرقهم، وهجرتهم ومغامرتهم، فهؤلاء وأولئك في المحاسبة الوطنية سواءٌ، وفي المسؤولية والأمانة شركاءٌ، وكلاهما يجب أن يحاسب ويعاقب، ولا يُحابى ولا يُقرب، ولا يدافع عنه أحد أو يسقط الاتهاماتِ عنه آخر.
القضية الفلسطينية قضيةٌ مقدسةٌ مباركة، باركها الله عز وجل بأن جعل فيها المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشرفين، وجعلها أرض الإسراء ومنطلق المعراج، وأوردها في كتابه العزيز آياتٍ تتلى إلى يوم القيامة، وجعل أهلها منتقين مختارين، مرابطين مجاهدين على مدى الزمان، وشرف كل من انتسب إليها وعمل لأجلها، ورفع قدر كل من انتمى إليها وسعى لطهرها، ولعن كل من خانها وفرط بها، أو تآمر عليها وانقلب ضدها، ووعد بفضح الكاذبين المفسدين، وتعرية المنحرفين الضالين.
ولهذا ينبغي أن تكون أدوات قضيتنا ووسائل تحرير بلادنا ورموز قيادتنا، طاهرة غير نجسةٍ، ونظيفةً غير خبيثةً، وصادقةً غير كاذبةٍ، فلا تتحقق الأهداف النبيلة بمراكب وضيعة، ولا يتقدم الشعب المقاوم والثلة المؤمنة، والطائفة المرابطة، إلا الأطهار الصادقون، المجاهدون المخلصون، الزاهدون الورعون، المتعففون المتقون، الذين يصلون الليل والنهار بعملهم، وينسون ذاتهم لصالح شعبهم، ويتجردون من رغباتهم من أجل وطنهم، ويزهدون بما في أيدي الناس حباً فيهم وسعياً لهم وحرصاً عليهم.
الفلسطينيون مسؤولون عن صورتهم ومحاسبون على قضيتهم
لا يوجد في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية قضيةً ناصعةً طاهرةً، نقيةً صافيةً، عقدية قومية، تجتمع عليها الأمة وتتوارث الإيمانَ بها ودعمها الأجيالُ المتعاقبة، وتضحي من أجلها بالغالي والنفيس، وتقدم في سبيلها أقصى ما تستطيع وغاية ما تملك، مثل القضية الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى المبارك، التي تسبق القضايا الوطنية، وتنافس الأولويات المحلية، وتنتصر في كل تحدي وسباقٍ داخلي، وتتصدر الملفات القومية، وتفرض نفسها على كل المحافل الشعبية، والقمم العربية الرسمية، وتكون سبباً في الوحدة والاتفاق، وعاملاً في الفرقة والانقسام، فهي على مر التاريخ توحد الأمة، وتلتقي عليها جهودها، ويتوافق عليها أبناؤها، ومن شذ عنها وتآمر عليها فإنه يقصى ويحارب، ويعاقب ويجازى، وقد يسقط ويهوي، وينهار ويندثر.
لكن سلوك القيادة الفلسطينية، والقوى والفصائل والتنظيمات، والنخب والفعاليات، والاتحادات والنقابات، والتجمعات والسفارات، والهيئات ومراكز السلطة والقرار، فيما يتعلق بعلاقاتهم الداخلية وقضاياهم المشتركة، وتنسيقاتهم البينية، وتعاونهم على كل المستويات الوطنية، وصورتهم العامة وخطابهم الإعلامي، يفقد القضية الفلسطينية رونقها، ويحرمها من نقائها، ويتسبب في تشويهها والإساءة إليها، ويعرض الفلسطينيين عامةً للنقد والإدانة، والغضب والعتاب، ويدفع الموالين للقضية الفلسطينية والمحبين للشعب الفلسطيني إلى التساؤل والحيرة، عن الأسباب التي تجعل الفلسطينيين مختلفين، وتتسبب في صراعهم وانقسامهم، وهم جميعاً يخضعون للاحتلال ويعانون من ممارساته، ويقاسون من سياساته.
لا تنعكس الخلافات الفلسطينية وتناقضاتهم الداخلية، على نفسية الموالين لهم والمؤيدين لقضيتهم، والمؤمنين بها والمضحين في سبيلها، والمتمسكين بها كأهلها وحسب، وإنما تمتد آثارها السلبية إلى قطاعٍ من الأمتين العربية والإسلامية، على المستويين الرسمي والشعبي، الذين رأوا أن الفلسطينيين لا يحترمون قضيتهم، ولا يسعون لخدمة شعبهم، ولا تعنيهم صورتهم، ولا يقلقون على مستقبلهم، ولا يتفقون فيما بينهم إكراماً لشعبهم ووفاءً له، وسعياً لراحته وتقديراً لتضحياته، وَهَمُ قيادتهم الأول بكل مستوياتها واتجاهاتها، المكاسب والمصالح، والمنافع والامتيازات، في الوقت الذي يتضور فيه شعبها جوعاً، ويقاسي ألماً، ويشكو حصاراً، ويكتوي أبناؤه أسراً واعتقالاً، وإصابةً وإعاقةً، وشهادةً وغياباً.
وجد بعض المتخاذلين من العرب، أنظمة حكمٍ ورجال سياسة، ونخباً اجتماعية وثقافية، ورموزاً فكرية وإعلامية، وقاماتٍ رأسمالية واقتصادية، ضالتهم المنشودة في التقارب مع العدو الإسرائيلي، والاعتراف به والتطبيع معه، في الحالة الفلسطينية المزرية، وواقعهم المهين، وصراعهم المخزي، وصورتهم المشوهة، التي يتحمل الفلسطينيون كامل المسؤولية عنها، فهم من صنعها ورسمها، وهم من فرضها وعرضها، وإن كان هذا لا يبرر للآخرين سقوطهم وترديهم، ولا يجيز لهم أفعالهم الأخيرة التي تتناقض مع قيمنا، وتتعارض مع موروثاتنا، ولا تتفق مع ديننا وتقاليدنا، فضلاً عن أنها تعود بالضرر الشديد على أمننا وسلامتنا واستقرار أوطاننا، وتهدد اقتصادنا وتنهب خيرات بلادنا.
يتحمل الفلسطينيون وحدهم ما آلت إليه أوضاع بعض أنظمتنا العربية، وانهياراتها القومية، وتصدع جدرانها التاريخية، وتغير مزاج شعوبها الأصيلة، وانفضاض بعضها من حولنا، وقد كانوا جميعاً أنظمةً وشعوباً معنا، يساندوننا ويؤيدوننا، ويحملون مواقفنا ويدافعون عنا، ويتطوعون معنا ويقاتلون إلى جنبنا.
لكن سوء أداء القيادة الفلسطينية، سلطةً وقوىً وأحزاباً، والصورة المشوهة التي أظهروها، والتضارب الوطني المشين، والتناقض الحزبي البغيض، والتراشق الإعلامي المهين، والسقوط الأمني المخزي، الذي يترجم على الأرض تنسيقاً أمنياً لا معنى له غير العمالة والخيانة، والتبعية والانقياد، يزيد في تشوه الصورة الفلسطينية واتهام قيادتها، ويظهرها عابثةً غير مسؤولة، ومهملة غير جادة، وشخصانية أكثر مما هي وطنية، وهو الأمر الذي جرأ البعض على الحرام، ودفعهم نحو الخبيث، وزين لهم الفحشاء والمنكر، وبرر لمن فرط وتخاذل، واعترف وطبع، رغباتهم الوضيعة وأمانيهم المريضة في التخلي عن القضية الفلسطينية، والنأي بأنفسهم عنها، ومصادقة العدو والاعتراف به، والتعاون معه.
يسوغ هؤلاء لأنفسهم، بجهالةٍ وقلة وعي، وضحالة فكرٍ ونقصٍ في التجربة، بحجة الواقع الفلسطيني السيئ، التوغل أكثر في التطبيع مع العدو في كل المجالات وعلى كل المستويات، دون أدنى إحساس بالحرج أو الخجل، أو بالعيب والخيانة، وحجتهم في ذلك أن أصحاب القضية فرطوا، وهم اعترفوا، ومع العدو نسقوا، وبه اجتمعوا، ومعه عملوا، وله قدموا، وفي مشروعه ساهموا، وفي أجهزته ومؤسساته تطوعوا.
فإلامَ يُعابون ويُعاتبون، ولماذا يُخَونون ويُتَهمون، وهم الذين تأخروا في الاعتراف والتطبيع، ولم يعجلوا به أو يسرعوا إليه، بينما سبق الفلسطينيون واعترفوا، وهم أصحاب القضية والشأن، وأهل المعاناة والكرب، وهم الذين ضربوا للجميع مثلاً، وكانوا لغيرهم أسوةً، إذ قبلوا بالتوقيع والاعتراف، والسلام والاتفاق، قبل أكثر من ثلاثين سنة، وما زالوا على عهدهم، يحافظون على اتفاقياتهم، ويصرون على تطبيعهم، ويمعنون في التعامل مع عدوهم بما يريد وكيف يريد، بل يعاقبون من يخرج على الاتفاق، ويعتقلون من يمس أمن العدو ويهدد مصالحه، وسجونهم على ذلك شاهدة، وسجلات شعبهم ضدهم تفضحهم وتكشف أسرارهم.
قد يكون من حقنا أن نلوم غيرنا، وأن نعتب على سوانا، وأن ننتقد أفعالهم ونغضب من سلوكهم، ونغتاظ من سياساتهم، ونتهمهم بالتخلي عنا والانقلاب علينا، ولكن علينا قبل ذلك كله أن نحاسب أنفسنا، وأن نراجع سياستنا، وأن نصلح ما أفسدنا، ونصحح ما أخطأنا، وأن نعيد رسم قضيتنا وعرض مشكلتنا، وأن ننهج بيننا سياسةً حكيمةً، تنهي الخلافات، وتقضي على الصراعات، وتؤسس للوحدة والاتفاق، والتعاون والتكامل، ونمنح شعبنا العظيم، المضحي المعطاء، الصابر الصادق، فرصةً للعيش الكريم والحياة الآمنة المستقرة، فلعله يشكو أيضاً من سوء الإدارة، وانحراف القيادة، وغياب الثقة، وفقدان الصدق والنزاهة.
سماءُ غزةَ ملبدةٌ بالطيرانِ الحربي الإسرائيلي
يتساءل أهل قطاع غزة، ومعهم المراقبون لأوضاعهم والمتابعون لشؤونهم، عن سر أسراب الطائرات الإسرائيلية، التي تجوب الآفاق وتحلق في سماء القطاع، وتكاد لا تغيب ساعةً في الليل والنهار، وكأنها أجواء حربٍ وشيكةٍ، أو عشية معركة قريبةٍ، تذكر الفلسطينيين بسماء القطاع خلال حرب أكتوبر عام 1973، التي حجبتها الطائرات الحربية الإسرائيلية والأمريكية، ونشطت فيها على مدى الساعة، رغم أن تحليقها كان حينها خوفاً وقلقاً، وصداً ومنعاً لأي انهياراتٍ جديدةٍ على الجبهات، التي تقدمت فيها الجيوش العربية محققةً انتصاراتٍ حقيقيةٍ، وانكفأ خلالها الجيش الإسرائيلي مصاباً بنكسةٍ ومهدداً بهزيمةٍ شاملةٍ، وقد كاد أن ينسحب ويتراجع إلى العمق شمالاً، لولا التدخل الأمريكي المباشر، والتراجع العربي المفاجئ.
قد لا يشبه اليوم البارحة أبداً إلا في سماء القطاع، فلا حرب معلنة، ولا معركة متوقعة، ولا جبهات مشتعلة، إلا أن الطائرات الإسرائيلية التي ملأت السماء، وأزعج أزيزها السكان، وأقلق صوتها المواطنين، أخذت تحلق على ارتفاعاتٍ مختلفةٍ، منخفضةٍ وعاليةٍ، تقترب من أهداف متوقعة، وترتفع إلى أجواء عاليةٍ، في ظل تصريحاتٍ عامةٍ، لعددٍ من قادة أركان جيش العدو وكبار ضباطه، أن الجبهة الجنوبية تشهد هدوءً غير معهودٍ، وتتمتع بسكونٍ واستقرارٍ لم تشهد مثله منذ سنواتٍ طويلةٍ، فلا إشارات تدل على قرب انفجار الأوضاع وتدهورها، بل إن الاستعدادات الجارية لجملة التسهيلات الاقتصادية المتوقعة، تؤكد أن الهدوء على الجبهات حقيقي، وأن الاستقرار على جانبي الحدود مطمئن.
يسأل الفلسطينيون عامةً ومسؤولين، الذين يراقبون السماء، ويرفعون رؤوسهم قبلتها فيرونها ملبدة بغموضٍ غير معروفٍ، ومسكونةً بحركةٍ غير مفهومةٍ، ما سر أسراب الطائرات، وما الذي تريده بطلعاتها، وماذا تحقق خلال تجوالها، وماذا تهدف من نشاطها الملحوظ، وحركتها المكشوفة، وأصواتها التي يعرفها السكان ويميزونها، فحركة الطيران غير عادية، ونوعية المسيرات متطورة وحديثة، وقد فاقت مستوى نشاطها المعتاد، وطالت ساعات تحليقها واتسعت مساحة انتشارها، وهي ليست ضمن مناورة معلنة، أو جزءً من تدريباتٍ يوميةٍ للجيش الإسرائيلي وقطاعاته المختلفة، ولا تصاحبها تصريحاتٌ سياسية أو تجهيزاتٌ على مستوى الجبهة الداخلية.
لا يستبعد الفلسطينيون أبداً أن تكون هذه الطلعات المكثفة تمهيداً لعمليةٍ عسكريةٍ واسعةٍ ضد إحدى الجبهات في الجنوب أو الشمال، في فلسطين أو لبنان، أو تستهدف مراكز قريبةً في سوريا، أو أهداف بعيدة في إيران، فأرادت هيئة أركان جيش العدو أن تكون قواتها جاهزة، وطيرانها مستعداً، وقرارها صادراً، ليكون قادراً على توجيه ضرباتٍ استباقية أو عقابية ضد أهدافٍ "معادية" أينما كانت، وبما لا يسمح للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بالمبادرة أو الهجوم، وهذا الأمر ليس بمستبعدٍ أو غريبٍ عن عدوٍ غادرٍ، خبيثٍ ماكرٍ، اعتاد على المعارك والحروب، ونشأ على الغارات والمفاجئات، واستمرأ البغي والعدوان.
لكن بعض المراقبين الفلسطينيين، الذين يدركون عقلية العدو الصهيوني ويعرفون تفكيره، ويدرسون سلوكه ويفهمون سيكولوجيته، يرون أن هذه الأجواء تذكرهم بنشاط الطيران الإسرائيلي الاستطلاعي المسير، الذي نشط عشية الاتفاق على صفقة وفاء الأحرار "1"، عندما استعظم العدو الثمن الذي أجبر على دفعه، وشعر بأنه ملزم بالإفراج عن مئات الأسرى والمعتقلين، الذين دأب على صفهم بأن "أيديهم ملوثة بالدماء"، وأنه من المستحيل الإفراج عنهم وإطلاق سراحهم، فنشطت أجهزته الأمنية، مستخدمةً أحدث الطائرات الاستطلاعية، تصور وتسجل، وتراقب وتتابع، علها تصل حينها إلى الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط قبل إتمام الصفقة، فيفرجون عنه بلا ثمن، ويستعيدونه بلا ندمٍ أو ألمٍ.
يعتقد المراقبون للسلوك الإسرائيلي بنوعٍ من المقارنة والتشبيه، أن الأجواء العامة في قطاع غزة، تشبه تلك التي كانت سائدة قبيل تنفيذ صفقة وفاء الأحرار "1"، الأمر الذي يعني أن صفقة وفاء الأحرار "2" قد باتت وشيكة أو قريبة، أو أنها قد تمت بصمتٍ وأبرمت بهدوءٍ، أو أنها أصبحت جاهزة للتوقيع والتنفيذ، ولم يبق منها سوى الإعلان والتنفيذ، فأراد العدو أن يستخدم آخر أوراقه، ويستغل آخر فرصه، عله ينجح في استعادة جنوده الأسرى الأحياء، ورفات الأموات، في الدقائق الأخيرة المتبقية، وفي الوقت المستقطع ما قبل إعلان نهاية التفاوض، وعلى ما يبدو ومن خلال التجربة، أنه سيبقى يحاول حتى اللحظات الأخيرة، وهو ما تدركه المقاومة وتعلمه، وما تعمل على إفشاله وإحباطه.
أم أن العدو بطيرانه الكثيف وطلعاته النشطة، يقوم فقط بتجديد بنك أهدافه، وتحديث معلوماته، وإعادة ضبط إحداثياته، ويريد إرباك المقاومة وإشغالها، وحرفها عن نشاطها وتعطيل مخططاتها، وتبديل أولوياتها، وإفشال مشاريعها، وقد علم يقيناً أنها لم تعد سهلة أو ضعيفة، ولا مترددة أو مهزوزة، ولا مقيدة أو محدودة، بل باتت قوية وقادرة، وحازمة وماضية، ولديها القدرة على أن تؤذيه وتؤلمه، وأن تصيبه وتوجعه، فعزم على تحديد عوامل قوتها ورصد مكامن تفوقها، تمهيداً لضربها، واستعداداً لمهاجمتها.
لا ينبغي علينا أن نستبعد أياً من الخيارات أو الاحتمالات، فهذا عدوٌ غادرٌ شرسٌ، خبيث ماكرٌ، تاريخه حافلٌ وسجله الأسود زاخرٌ، فقد يفاجئنا بما لا نتوقع، وقد يصدمنا بما لا نحسب، فالحرب معه محتملة، والعدوان منه متوقع، ومحاولات التجسس والتصوير، وجمع المعلومات والتسجيل، قائمة ولا تتوقف، فلا نغمض عيوننا ولا تغفل قواتنا، ولا نركن قليلاً ونهدأ، ولا نفقد حذرنا ونتخلى عن سلاحنا، بل ينبغي علينا أن نبقى يقظين حذرين، واعين ومنتبهين، فلا يباغتنا العدو، ولا ينكث غزلنا الذي قضينا العمر ننسجه، ونبني عليه آمالنا ونترقبه، فأسرانا ينتظرون، وأهلهم يتطلعون، وأطفالهم إلى عيون آبائهم يرنون، فلا نلتفت إلى ما يشغلنا عن هدفنا، ولا نسمح لعدونا أن يأتينا من حيث لا نحتسب.
حربٌ يهوديةٌ مسعورةٌ على المقابرِ والمقاماتِ الإسلاميةِ
فيما يبدو أنه أوسع هجمةٍ وأكبر اعتداءٍ مقصودٍ ومنظمٍ، يقوم به المستوطنون الإسرائيليون وحكومتهم على المعالم العربية والإسلامية في فلسطين المحتلة، فقد تكرر قيام مجموعاتٍ كبيرةٍ من المستوطنين اليهود، ومعهم جنودٌ من جيش الاحتلال مدججين بالأسلحة، ورجال الشرطة وعناصر بلدية القدس، المزودين بتعليماتٍ صارمةٍ وقاسيةٍ، بالانتشار في محيط المسجد الأقصى وأرجائه، ومداهمة المقابر والمقامات الدينية في أنحاء المدينة، وذلك بعلم وموافقة الحكومة، ومباركة الجيش وقيادة الشرطة، الذين يقومون على حراسة المستوطنين وحمايتهم، وتسهيل مهمتهم ورعاية جريمتهم، والاعتداء على الفلسطينيين ومنع مقاومتهم، والتصدي لهم وإطلاق النار عليهم في حال دفاعهم عن مسجدهم ومقدساتهم، وقبورهم ومقاماتهم.
يتعمد الإسرائيليون حكومةً ومستوطنين الاعتداء على حرمة المقابر، ويقصدون شطبها وإزالتها، وتجريفها وإنهاء وجودها، فهي شاهدٌ على وجود الفلسطينيين، ودليلٌ على عمق تاريخهم وأصالة انتمائهم، وهي وشيجة قربى ومشاعر وصلٍ، وهي رموز عقيدة راسخةٍ وشواهد وطنٍ عتيدٍ، تثير الشجون وتحرك المشاعر، وتعمق الانتماء وترسخ الوجود، فتراهم لغايةٍ يعلمونها ولهدفٍ يريدونه، يجوسون خلالها تخريباً وهدماً وتدميراً، فيكسرون الشواهد، ويهدمون القبور ويجرفونها، ويخلعون الأشجار الصغيرة ويقتلعون الأعمدة واللوحات المنصوبة، ولا يبقون فوق الأرض أو تحتها على أي شيءٍ يدل عليها، أو يشير إلى بقايا الوجود وأصل الأثر.
لا يستعدي الإسرائيليون الفلسطينيين الأحياء فقط، وإن كانوا يقولون أنه لا يوجد فلسطيني جيدٌ إلا الفلسطيني الميت، ومع ذلك فإنهم يكرهون الفلسطينيين الأموات كما يكرهون الأحياء، ويحاربون الأموات كما يحاربون الأحياء، ويهدمون القبور كما يهدمون البيوت، ويجرفون المقابر كما يجرفون كروم العنب وأشجار الزيتون، ويدمرون الشواهد كما يشطبون أسماء المدن والبلدات العربية، وينكرون وجود الأجداد والأصول العريية، كما يزورون التاريخ ويشوهون الحقائق، ولعل من الأموات العرب والمسلمين المدفونين في أرض فلسطين، من يستفزهم اسمه، ويزعجهم قبره، ويغضبهم ذكره، ويخرجهم عن طورهم إطلاق اسمه على الشوارع والمدارس، والمشاريع والمساجد.
يتطلع الإسرائيليون لإخراج الفلسطينيين من أرضهم، وطردهم من ديارهم، ومنع عودتهم إليها أو مشاركتهم فيها، لكنهم يعملون أيضاً لاستخراج الفلسطينيين الموتى من القبور، وإخراج ما بقي فيها من عظام، وهدم المقامات التي تحمل اسمهم وتحفظ ذكرهم، فحلمهم الدائم أن يجعلوا فلسطين خالصةً لهم وحدهم، فلا يشاركهم فيها أحدٌ من الفلسطينيين سواء كانوا أحياءً فوق الأرض أو أمواتاً تحتها، فهم يحسبون حساب الشهداء ويخافون منهم أكثر، وكأنهم ما زالوا أحياءً يتصدون لهم، وأبطالاً يقاتلونهم، وأشباحاً يطاردونهم، فهم كانوا ولا زالوا يبعثون فيهم القلق، ويزرعون في نفوسهم الخوف، ويهددون وجودهم، ويستهدفون هويتهم المزورة وتاريخهم الكاذب.
صبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي جام غضبها وعنيف سياستها على المقابر المقدسية عموماً، فاستهدفت العديد منها واستولت على أرضها، وما زالت تخطط لتجريف ما بقي منها، ولكنها اختصت بمخططاتها العدوانية ومشاريعها التوسعية، المقبرة اليوسفية الإسلامية، ومقبرتي باب الرحمة ومأمن الله، وبدأت اعتداءاتها بهدم أسوارها، وزحفت نحو قبورها، وصادرت أرضها، ومنعت تمددها وأوقفت الدفن فيها، وأعلنت عن مخططاتها باستخدام أراضيها في المشاريع التهويدية، رغم أنها تعلم أن هذه المقابر تتبع وزارة الأوقاف الأردينة، التي تشرف عليها وتنظم العمل فيها، علماً أنه يوجد في المقبرة اليوسفية الإسلامية، التي يزيد عمرها عن ستمائة عامٍ، مقابر لمئات الشهداء الأردنيين.
ليست قيمة المقبرة اليوسفية الإسلامية، المشادة على أرضٍ مساحتها 4000 متراً مربعاً، في مقام الأموات المدفونين فيها، ولا بالشهداء المنتشرين في رحابها، ولا بصرح الشهيد المشاد في وسطها، وإنما قيمتها في قدمها العميق وتاريخها الممتد لمئاتِ السنين، حيث يعود تاريخ إنشائها إلى الدولة الأيوبية، التي أولت القدس والمسجد الأقصى اهتماماً خاصاً ورعايةً كبيرةً، وحرصت الدول الإسلامية التي سادت بعدها على الاهتمام بها والحفاظ عليها، فقد شكلت لهم هويةً وانتماءً، يزورون فيها أجدادهم، ويجددون العهد معهم، ويؤكدون على البيعة المقدسة التي كانت معقودةً في أعناقهم، ليحفظوا الأمانة، ويصونوا البلاد ويكرموا العباد، ويقيموا العدل بينهم، وينشروا السلام في ربوعهم.
يريد الإسرائيليون بالعدوان على مقابرنا والاعتداء على مقاماتنا، خلع جذور العرب والمسلمين من المدينة المقدسة، ليبنوا مكانها ما يسمونه بــــ"الحدائق الوطنية"، ضمن مشروعاتٍ كبيرة لتوسيع حدود مدينة القدس على حساب حقوق سكانها الفلسطينيين، ولا يرى الاحتلال في انتهاكه لكرامة الأموات ومساسه المهين بمكانة الشهداء ورمزيتهم، أي عيبٍ أو غضاضةٍ، أو عدوانٍ أو مهانةٍ، بينما يقدس أمواته، ويحفظ رفاتهم، ويصون قبورهم، ويتبرك بمقاماتهم، ويحرص على تسوير مقابره وحرستها، والاعتناء بها ونظافتها.
قبورنا في هذه المقابر وغيرها قبورٌ حقيقيةٌ، فيها رفات الآباء والأجداد، والقادة والحكام، والصحابة والصالحين، والشهداء القدامى والمعاصرين، وهم جميعاً معروفون بالأسماء والصفات، ومبينٌ على شواهدها وفي سجلاتها الرسمية، تاريخ وفاتهم وسير حياتهم، بينما يقوم اليهود في المدينة المقدسة وحولها، بحفر قبورٍ وهمية، وبناء مقاماتٍ كاذبةٍ، لا أصل لها ولا رفات فيها، ولعل بعضهم مدفونٌ في أماكن أخرى معروفة ومعلومة، ولكنهم يكذبون ليزوروا التاريخ، ويخدعون أنفسهم وغيرهم بأصالة انتمائهم وقديم وجودهم، رغم يقينهم أن وجودهم طارئ، وملكهم عابرٌ، وتاريخهم في المدينة متقطع، وهو في أغلبه في ظل الدولة الإسلامية ورعايتها.
لا نستخف أبداً بالهجمة الإسرائيلية على مقابرنا العريية والإسلامية، ولا بعدوانهم المقصود على مقاماتنا، فهم يريدون طمس وجودنا، وشطب هويتنا، وإلغاء حاضرنا، ونزعنا من ماضينا، وفصلنا عن تاريخنا، ضمن مخططٍ كبيرٍ وشاملٍ، ومشاريع خطيرة واستراتيجية، لتهويد المدينة المقدسة، وصبغها بالروح التوراتية القديمة، والهوية اليهودية التاريخية، وعليه فلنعلم أننا بدفاعنا عن أمواتنا، وبحفاظنا على رفات ومقابر شهدائنا، إنما ندافع عن حاضرنا ومستقبلنا، ونحمي أنفسنا وأجيالنا، ونصون هويتنا ونحفظ كرامتنا.
تسيفي حوتوبيلي تستحقُ الطردَ
ربما لا يعرف البعض الكثير عن هذه المرأة الحيزبون، وإن كانت شابة، رغم أنها ليست جديدة على السياسة الإسرائيلية، فقد تسلمت على صغر سنها ملفاتٍ كبيرةً، وقامت بمهامٍ عديدةٍ، وأشرفت على سياساتٍ خطيرةٍ، وأصدرت قراراتٍ مؤثرةً، ولعبت في السياسة الإسرائيلية كثيراً، إذ عينت متطرفين أمثالها في مناصب رفيعة، ورشحت متشددين يشبهونها لمهام حساسة، وأقصت من رأت فيهم اعتدالاً ووسطيةً، وأوشت بمن ظنت بهم منافسين عنيدين، واقتربت من المؤثرين الفاعلين، وصادقت أصحاب القرار من السياسيين والأمنيين، واستغلت أنوثتها في التأثير على مسؤولين إسرائيليين كبارٍ، وعلى شخصياتٍ عامةٍ مؤثرةٍ، وهو الأمر الذي قدمها وميزها، وأظهر دورها وميز حضورها، وأهلها للترشح لمهام أخطر ومناصب أكبر.
إنها تسيفي حوتوبيلي، ابنة حزب الليكود الصهيوني المتطرف، وواحدة من أقرب المساعدين لرئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نتنياهو، التي تحظى بثقته ورعايته، وتتمتع بدعمه ومساعدته، فقد كانت مساعدةً له بصفة وزيرة خارجية بالوكالة، تمثله وتنوب عنه، وتتصرف باسمه وتصدر التعليمات بموافقته، وتجهز القرارات الخطيرة له ليصدرها، وتزين المتطرف منها ليتبناها ويوافق عليها، وكانت من قبل نائبةً في الكنيست الإسرائيلي عن حزب الليكود، تتحدث باسمه وتنوب عنه، وتعبر عن مواقفه وتدعو الحكومة للوفاء للناخبين الذين صوتوا لهم ولها بوعودها، وألا تنكفئ عنهم أو تحبط أمالهم وتتخلى عن وعودها لهم.
إنها أشهر الحاقدين، وأشد المتطرفين الإسرائيليين، وأكثرهم سوءاً، وأسودهم قلباً، وأكثرهم عنصرية وفاشية، وأوضحهم سادية، وأشرسهم عدوانية، وهي من أكثرهم جرأةً على الظلم وإقداماً على البغي، ومن أعجلهم قراراً وأسرعهم انفعالاً، ومن أكثرهم تحريضاً وإثارةً، فهي تستعجل "أرض إسرائيل" النقية، الخالصة لليهود وحدهم دون غيرهم، وتصلي لاستعادة الهيكل الثالث وهدم المسجد الأقصى وتقويض أركانه، وإزالة جذوره من الأرض فلا يبقى له فيها أثر، وتعيب على الحكومة جبنها وخوفها، وتعتب عليها ضعفها وخورها، وتدعوها لأن تكون جريئة وحاسمة، وألا تتردد في تنفيذ الأحلام اليهودية والأماني الإسرائيلية.
لا تتردد تسيفي حوتوبيلي في الدعوة إلى قتل الأطفال الفلسطينيين وإبادتهم، فهي ترى أنهم مشاريع إرهاب قادمٍ، وعناصر تخريبٍ مؤكد، وقنابل مؤقتةٍ جاهزة للانفجار في أي لحظةٍ، وتعتقد أنهم سيكونون جنوداً في صفوف أعدائها، يقاتلون كيانها، ويعملون على استئصاله وتفكيكه، وهزيمة شعبه وطرد أهله، وهم يُعبَأون فكرياً وعقائدياً، ويُدَربون نفسياً، ويُهَيأون عقلياً للقيام بهذه المهمة والإشراف على تنفيذها، ولهذا ترى وجوب قتلهم مبكراً، وتحييدهم حكماً، والعمل على استباق أخطارهم سلفاً، وتجنب شرورهم بقتلهم والخلاص منهم، ولا ترى في ذلك جريمة، ولا تعتقد أنها تهمةٌ، بل هي كياسة سياسية ونباهة عقلية، على الحكومة الإسرائيلية أن تتنبه لها وتقوم بها، وإلا اشتد ساعدهم، وقوي بأسهم، وشكلوا خطراً على كيانهم.
يعرفها الإسرائيليون عامةً والفلسطينيون خاصةً عندما كانت تتبجح بآرائها المتطرفة ومفاهيمها العنصرية، ولا تتردد في التعبير عن مواقفها والكشف عن أحلامها، عندما كانت محاميةً تجاهر بمواقفها السياسية، وتتشدد في نظرياتها العقابية، وتدعو القضاء الإسرائيلي إلى التعامل مع "المخربين" الفلسطينيين بقسوةٍ لا رحمة فيها، وشدةٍ لا لين فيها، وأن تكون أحكامهم رادعة وزاجرة لهم ولغيرهم، وتدعو الجيش والشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية لأن تكون حازمةً في قراراتها، عنيفةً في سياساتها، وألا تتردد في قمع كل من يهدد أمن كيانهم، ويستهدف سلامة مستوطنيهم، ويعمد إلى تعكير صفو عيشهم وتهديد حلمهم.
ويذكرونها عندما كانت شخصيةً إعلاميةً تحرض المجتمع الإسرائيلي على المزيد من التطرف، والكثير من التشدد، وقد اشتهرت بإطلالاتها الإعلامية المستفزة، وتصريحاتها النارية ضد المعتقلين خاصةً والفلسطينيين عموماً، إذ ترى إذا لم يقر قانون إعدامهم، وجوب الاستمرار في تعذيب المعتقلين والتشديد عليهم، وعدم منحهم أي امتيازاتٍ تذكر أو الخضوع لشروطهم والنزول عند رغباتهم، وإن هم اعتصموا أو أضربوا، أو اعترضوا وانتفضوا.
تسيفي حوتوبيلي لا تكره الفلسطينيين وحسب، وترفض التفاوض معهم والاعتراف بهم، بل إنها تكره العرب عموماً، وتحقد على المسلمين كلهم، ولا ترى ضرورةً للاتفاق معهم أو التعايش وإياهم، فهم حسب معتقداتها يؤخرون قيام "دولة إسرائيل الكبرى"، ويعترضون على استعادة إسرائيل لأرضها الكاملة، ويرفضون سيطرتها على "جبل الهيكل"، ويريدون الاستمرار في الصلاة في المسجد الأقصى التي تنظم المسيرات لاقتحامه، وتشجع المستوطنين على انتهاك حرمته، وتأكيد حقهم فيه، وتسجيل حضورهم الدائم في باحاته.
لا تكتفي حوتوبيلي بتحريض المجتمع الإسرائيلي على الفلسطينيين، بل اتجهت إلى تحريض المجتمع الدولي كله، ودفع الأمم المتحدة والمؤسسات الأممية للضغط على الفلسطينيين، والموافقة على حصارهم وعقابهم، وطالبت دول العالم بتجريم حملات المقاطعة الدولية ضد كيانها، ومعاقبة رموز حملة BDS الدولية، التي تدعو إلى مقاطعة كيانها ومعاقبته، ودعت دول الاتحاد الأوروبي إلى وقف مساعداتها إلى الفلسطينيين، أو مراقبة تبرعاتها وضبط مساهماتها، لئلا تستخدم في دعم الإرهاب أو التحريض عليه.
ربما أن ما تعرضت له سفيرة الكيان الصهيوني في لندن، المتطرفة اليمينية تسيفي حوتوبيلي أقل بكثيرٍ مما تستحق، وأقل عدلاً مما يليق بها، فهي تستحق ما هو أشد وأقسى، وما هو أوضح وأبلغ، وما هو أوجع وأمضى، فالطرد لا يكفي، والهتاف ضدها لا يجدي، بل قد يليق بها السحق والسحل، والشطب والعزل، فقد بلغ سوؤها الزبى، وطال شرها البشر جميعاً، وعم تطرفها الآفاق، وطغت بأفكارها الشريرة على الإنسانية كلها، حتى غدت عاراً على البشرية، وسبةً في جبين الإنسانية، وبقعةً سوداء في تاريخها، ولعل المجتمع الدولي قد قصر في الرد عليها والتعامل معها، أو تأخر في عقابها وأبطأ في محاسبتها، فهي تستأهل الطرد من الدول، والرجم من الشعوب، واللعن من الأمم.
فإن بادر الشعب وغضب الشباب وثار الطلاب، فإن الحكومات الدولية مطلوبٌ منها الأكثر والأوضح، والأسرعَ والأحدَ موقفاً، فهل نأمل في تغيير مواقفها والتراجع عن انحيازها، والكف عن نصرة الباطل ومساندة المعتدي، أم أننا نأمل في سرابٍ، ونراهن على الوهم، ونرجو الخير من قربةٍ مقطوعةٍ، ونحلم بالعسل من دبابير سوداء، لذعتها قاتلة، وفطرتها سابقة، وسمها زعافٌ.
الأسرى يوحدون صفوفَ الشعبِ ويجمعونَ كلمةَ الأمةِ
آحادٌ في الأمة العربية والإسلامية هم الأسرى والمعتقلون، وإن تجاوزت أعدادهم في السجون والمعتقلات الإسرائيلية الآلاف، إذ يزيد عدد الأسرى الفلسطينيين الذين سبق اعتقالهم مرةً أو مراتٍ عدة، أو أولئك الذين ما زالوا يقبعون في سجونهم الآن، عن المليون أسير من الرجال والنساء والأطفال، إلا أنهم رغم كثرتهم، يبقون أقليةً لا أكثرية، وطلائع المقاومة لا جيشها، وسنا الشعب لا نوره، وبريقه لا وهجه، وعلى الرغم من ذلك، فإن صوتهم الذي يخترق صمم جنود العدو، يملأ الفضاء كله، ويغطي الكون بأسره، ويخترق الآفاق على امتدادها، ويُسمِعُ الجوزاء في عليائها البعيد، ودوماً تنتصر إرادتهم على صخب سلطات السجون، وغطرسة ضباطهم، وحقد أجهزة قمعهم، ومرض نفوسهم وخبث ضمائرهم.
صوتهم بالحق صداحٌ لا تحده الحدود، ولا توقفه السدود، ولا تحول بينه وبين الأمة طول المسافات ولا وَهْم السيادات، ولا محاولات المنع أو مساعي الفصل، فصوتهم ضمير الأمة اليقظ وروحها الأبية، ينطق باسم القضية، ويعبر عن رأي الشعب، وهم خير من ينصح ويسدي، وأفضل من يشير ويستشار، وأصدق من يوجه ويرشد، وأسمى من نرفع إليهم قضايانا، وآخر من يستفيد من آلامنا ويتاجر بأحزاننا، ويوظف همومنا أو يخون دماءنا، أو يفرط في أحلامنا ويتخلى عن أهدافنا.
إنهم نخبةٌ مختارةٌ، وثلةٌ منتقاة، وعصبةٌ منيرة، كالنجوم في كبد سمائنا الملبدة بالغيوم تلمع، وكالقمر في ظلمائنا ينير، تصدح بالحق الأبلج ألسنتهم ولا تخاف، وترفع الصوت المجلجل ولا تتردد، وتعبر بحريتها عن رأيها ولا تتأخر، وتفرض بالمعاناة والألم إرادتها، ولا يصدها عما تريد قهرُ السجان ولا ظلم الجلاد، ولا صمت العبيد ولا عجز القعيد.
إنهم يختلفون عن غيرهم ولا يشبهون سواهم، ويتميزون عن أقرانهم ويتفوقون على لداتهم وأندادهم، رغم أنهم ضعافٌ في البنية وليسوا أقوياء في الجسد، ونحافٌ في الشكل وليسوا أصحاء في البدن، ولكنهم كالجحافل يجتاحون، وكالجيوش يزحفون، وبإرادةٍ كما الفلاذ يصمدون، وبثباتٍ كما الجبال الراسيات يقفون، يرفضون بشمم، ويأبون بكبرياء، ويفرضون مواقفهم بعزة، ويحققون مطالبهم بأنفةٍ، ويتطلعون إلى الحرية والعلياء بأملٍ، ولا يقبلون بفتاتٍ يلقى إليهم، أو بحسناتٍ تدفع لهم، مهما بلغت حاجتهم وعظمت مأساتهم.
الفلسطينيون يعرفون هذه الحقائق عن أسراهم ومعتقليهم، ويميزون بينهم وبين غيرهم من القادة والمسؤولين، من الذين يتقدمون الصفوف، ويظهرون في المناسبات، ويشاهدونهم في الصور، وإن علا صوتهم وصخب كلامهم، وادعوا العفة والصدق، والطهر والشرف، والأمانة والإخلاص، فإن الشعب لا يأبه بهم ولا يهتم، ولا يصغي إليهم ولا يجري معهم، ولا يصدق كلامهم ولا يبني مواقفه على وعودهم، ولا يتوقع خيراً من جعجعتهم ولا طحيناً من هديرهم، لهذا فهم يفضلون عليهم الأسرى والمعتقلين، يصدقونهم ويؤيدونهم، ويقفون معهم ويناضلون من أجلهم، ويتضامنون مع قضاياهم ويتبنون مطالبهم، ويخرجون إلى الشوارع متظاهرين نصرةً لهم، أو معتصمين ضغطاً من أجلهم، فهم يرون أنهم على الحق المبين، ويتمسكون بحبل المقاومة المتين.
الإسرائيليون يحقدون على الأسرى والمعتقلين ويكرهونهم، ويتمنون موتهم أو قتلهم، ويحلمون بالخلاص منهم والقضاء عليهم، ولا يرغبون في أن يخرجوا من سجونهم أحراراً، أو أن يعيشوا بين أهلهم وشعبهم طلقاء، بل يتمنون أن يقضوا كل عمرهم في السجون وفيها يموتون، ويسعون من خلال ممارساتهم معهم وسياساتهم المتبعة ضدهم إلى إذلالهم وقهرهم، وإخضاعهم وقتل روحهم المعنوية، فهم أكثر من يدرك تأثيرهم ويعرف قيمة دورهم، وهم يشعرون بأن تصريحاتهم كالسحر أثرها على شعبهم، الذي ينتفض من أجلهم، ويثور انتقاماً لهم، وانتصاراً لقضيتهم، ولا يبالي بأي تضحياتٍ في سبيلهم.
يدرك العدو الإسرائيلي قيمة الأسير الفلسطيني بحق، ويعرف أنه رغم قيوده والأغلال، والسجون والقضبان، والعزل والحرمان، والحجب والإبعاد، قادرٌ على أن يحرك الشارع الفلسطيني كله، وأن يقود الجماهير الشعبية، وأن يوجهها حيث يريد، فهو إن أعلن إضراباً عن الطعام أو اعتصم واعترض، انتفض الشعب معه، وتضامن مع قضيته، وسخر كل إمكانياته لنصرته.
تقوم سلطات السجون من حينٍ إلى آخر بمداهمة غرف الأسرى وأقسامهم، بحثاً عن أجهزة خلوي ووسائل اتصالٍ أخرى، كما تصادر ما تجده من أوراق ورسائل وكتاباتٍ ومنشوراتٍ، أياً كان نوعها أو مضمونها، فهي تخشى أن تكون أوراق الأسرى رسائل تحريضية، أو دعوات للانتفاضة، أو توجيهات لمجموعاتٍ عسكرية، يشرفون عليها ويتابعون عملها، بعد أن قاموا بتنظيمها وربط حلقاتها ووصل أطرافها، أو أنها مخططاتهم للأيام القادمة، إن كانوا ينوون الإضراب عن الطعام، أو القيام ببعض الأنشطة والفعاليات الاحتجاجية ضد إدارة السجون وممارساتها القمعية بحقهم.
الأسير الفلسطيني لا يملك أبواقاً إعلامية، ولا مؤسساتٍ صحفية، ولا ناطقين باسمه أو معبرين عنه، ولا تلتقيه الصحف أو تسرب أخباره وكالات الأنباء، ذلك أن العدو لا يسمح له بالظهور على شاشات الفضائيات، أو إجراء المقابلات واللقاءات، ولا تقبل أن يعبر عن قضيته، أو أن يبين معاناته، وصورته المنشورة هي صورةٌ قديمة قد تغير شكله بعدها وتبدل، فلا يعرفه كثيرٌ من الناس، ولكنهم يسمعون باسمه، ويفخرون بفعله.
يدرك الأسرى عظم الأمانة التي يحملون، وأهمية الدور الذي يقومون، والرمزية التي يمثلون، فيبدون استعدادهم أكثر لتحمل المزيد من المعاناة إكراماً لشعبهم الذي أولاهم الثقة، وتقديراً لأمتهم التي تتبنى قضاياهم، وتدافع عن حقوقهم، فيخوضون إضراباتٍ عن الطعام قد تطول لأكثر من شهرين، ويغامرون بحياة بعضهم ومستقبل أجسامهم، التي يصيبها التلف والعطب إن لم يستشهد بعضهم خلال فترة الإضراب، لكن هذا المصير المخيف أمام قضيتهم الكبرى يهون، فهم يعتقدون أن الشهادة قد فاتتهم، وأن رفاقاً لهم وإخوة على الدرب قد سبقوهم، فنالوا شرف الشهادة قبلهم، فلماذا منها يهربون، وعنهم يتأخرون، وعن دربهم يحيدون.
أسماء الأسرى العمالقة الأعلام، الذين كان لهم الفضل في تحريك الشعب وإيقاظ الأمة كثيرةٌ، ممن قضوا في السجون عشرات الأعوام، وخاضوا أعظم الإضرابات، وسجلوا أكبر الانتصارات، وصنعوا أكبر الأمجاد، وحققوا أكثر الإنجازات، وكان لهم أعظم الدور في تحريك وسائل الإعلام، وتسليط الضوء على قضاياهم الخاصة وقضية شعبهم العامة، ولهذا سأكتفي بالحديث العام عنهم لأنهم جميعاً أعلامٌ، يستحقون الذكر ويستأهلون المجد، حتى لا نغمط حق أحدهم ولا ننسى آخر، وسنكتفي بالعموم فهم جميعاً أهل الفضل والمنة، وأصحاب السابقة والبدرية، ندين لهم بالحب والوفاء، والتقدير والعرفان، ونسأل الله عز وجل لهم عاجل الحرية والسلامة التامة من كل ضيرٍ وضيمٍ وأذيةٍ.