إلى سناء عون
«لمْ تُتعبْني الحربُ .
بل القصائدُ التي تتحدّثُ عن الحربِ.
لم تُتعبْني المُدُنُ الباردة.
لكنَّها أكلتْ أصابعي تلكَ القصائدُ التي تتحدّثُ عن المُدُنِ الباردة.»
أمي الحبيبة:
هل راقتكِ الزهور التي وضعتها بالأمس على قبركِ ؟ كنت مارًا بجوار المحل فتذكرت أنك تحبين الورود الصفراء، فأقتنيت لك باقة. أمي الغالية، لم تفارقي بالي منذ رحيلكِ. وفي هذه الأيام بالخصوص، أحس أن طيفكِ يتجول معي في الشقة. رحلتِ يا أمي وتركتيني فريسة لهذه الوحدة القاتلة. لقد كنتِ كل شيء في حياتي. كنتِ الشيء الوحيد في حياتي. عند كل نفس يدخل رئتي أقول إنني موجود بفضلكِ ؛ بفضل تلك الأم التي حملتني من الموت إلى الحياة. أتذكر كيف جئنا إلى هنا قبل أن يعم الخراب. عشنا بداية الدمار والجنون، لكننا عرفنا كيف نهرب. قلت: "سنبدأ حياة جديدة في هذه العاصمة." كنت كأنني أدخل عالما جديدا. أمسكت يدي وأنا أجلس بجوارك في الطائرة ، وقلتِ إن كل شيء سيسير على ما يرام. وفي البلاد الجديدة كانت لنا شقة، وكانت لك وظيفة، ودخلت أنا المدرسة . كم كانت رائعة تلك المدرسة ! ابتداءً من مكتب المدير، إلى الأقسام و المراحيض... كل شيء كان جميلا ومختلفا... وأذكر الثلج. الثلج الذي رأيته لأول مرة في حياتي. وصار جزئا من حياتنا الآن. هنا كان باستطاعتكِ أيضا أن تصبحي كاتبة، وأن تكملي مشاريعك الأدبية التي بدأتها هناك. لقد كنت تجمعين بين تربيتي والعمل وكتابتكِ بطريقة فريدة: تستيقظين باكرا لتحضير الإفطار، ترافقينني إلى المدرسة، ثم تذهبين إلى عملكِ ، وفي المساء كنت تعدين العشاء وتراجعين معي الدروس. وفي الليل كنت تكتبين، أحياناً كنت تستمرين في الكتابة إلى الفجر. وفي أيام العطل كنا نذهب إلى المتنزه أو السينما أو نطبخ شيئا...
هنا استطعنا أن نستعيد احساسنا بالحياة...
غلاف أول كتبك كان باللون الأحمر. فرحتكِ لا زالت ملتمعة في ذاكرتي. كتبته بلغتكِ لا بلغة هذه البلاد. اللغة التي قرأت بها أول كتاب في حياتك في سن السابعة. ومع الوقت بدأت تترجم أعمالك، ويرشقك النقاد بمديحهم ، يتحدثون عن تأتير الحكايات الشعبية و النظريات النسوية في كتاباتكِ ... يزورنا أصدقائكِ من الكتاب أو نحن نزورهم، كنت أذهب معك إلى بيوتهم، أو إلى الأمسيات التي كنت تدعين إليها، أجلس على كرسي مغلفا بالخجل والفخر بكونك أمي، أمي تجلس بجانب كتاب هذه البلاد وبلاد أخرى، تقرأين نصوصكِ ، وتتحدثين عن تجربتكِ في الكتابة والأمومة والحياة...
لقد كنا سعيدين، أنا وانتِ وثالثتنا الكتابة. كان يضايقني وجودها في حياتنا. كنت أحسها تبعدكِ عني، وتبعدني عنكِ ، رغم اهتمامك بي. لكنني كنت أفرح لنجاحاتك المتواصلة (من بينها اختيار نصكِ ضمن أفضل النصوص في تاريخ أدب هذه البلاد. ) ، وأقول ان الكتابة هي انتصارها الوحيد...
تجلسين منهمكة أمام الكومبيوتر، أو على أوراقكِ تشربين القهوة وتدخنين وتكتبين...
بجانب الكتابة، كنتُ كل شيء في حياتكِ، لم أعرف يوما شكل أبي! كل ما أخبرني عنه أنه كان وسيما، وسيما بعيون كبيرة، وأنه مات... أنا لا أتذكره جيداً. ربما أحمل له صورة مشوشة. لكنني عندما حاولت تخيله فشلت. لم أكن أملك له أية صورة. قلتِ انكِ أحرقت كل صوره بعد موته. قلتِ أن إخوته طردوك بعد موته. "لكنه كان طيبا، كنت ستحبه كما أحببته أنا..."
رغم النقص الأبوي، كل شيء كان يسير بشكل جيد. كنت أنا أدرس وأنجح، وأستفيد من منحة الدراسة و وجبات المقصف المجانية، وأتجول بدراجتي... وأنت كنت تكتبين، وتكبرين يوما بعد يوم كاتبة مرموقة، حتى انكِ تخليت عن وظيفتك واستطعنا أن نمتلك شقة خاصة، فيها أعدتِ ترتيب كل شيء من جديد. صارت لي غرفة خاصة، وصارت لكِ غرفة يحتلها مكتب ومكتبة. وكانت هنالك نافذة تطل على أرض فارغة جرداء، تتوسطها شجرة. وضعتِ أصيصا هناك كنت تسقينه كل يوم. كان يعجبك الوقوف هناك ، تدخنين وتحتسين شيئا ما. كنت تراقبين تلك الأرض، تتأملينها كأنها تعني لك شيئاً ما. كأنكِ اخترت هذه الشقة فقط لتحدقي من النافذة على تلك الأرض. أعرف أنكِ كنت تخزين إلى"هناك"، بلادكِ الأولى رغم كل شيء. أنا كنت مندمجا"هنا" في"هذه البلاد" ( كما كنت تقولين ).. كان لي أصدقاء ومدرسة وحياة جديدة... "هناك" غير "هنا" . "هناك" يوجد: الفقر ، الحزن، الطيبة، جعقة السير، الأصالة، العيون المتلصصة في الدروب، أناس يغتنون يوما بعد يوم، وأناس يعيشون ويموتون على هامش العالم... و"هنا": التطور، الحضارة، العمل، العزلة ، الناس التي لا تعرف بعضها البعض، الطبيعة المتلونة مثل حرباء... "هناك" غير"هنا". ليس بشر"هنا" ملائكة ، بعضهم يمارس عنصريته على الآخر المختلف... أرى ذلك كل يوم في المترو والسوبر ماركت والتلفاز وعلى الأنترنت... ولا بشر"هناك"ملائكة... لا يوجد ملائكة على الأرض. كلنا بشر في النهاية.. "الملائكة فقط في الكتب المقدسة..." كما تقولين.
أنتِ كنت مسكونة بال"هناك" ، رغم أنك غادرته فهو لم يغادركِ، ظل يسكنكِ، يحتل يقظتك وأحلامكِ، ومن أجله كنت تكتبين.
أمي الغالية، لم ترحلي في سن الشيخوخة، رحلتِ صغيرة، صغيرة جدا، كنت في عز العطاء... كنت تكتبين روايتكِ الجديدة، بالكاد كتبتِ فصلين غير مكتملين... ثم بدأت صحتكِ بالتدهور. كنت أراكِ تذبلين أمام عيني. أراكِ ولا أستطيع فعل أي شيء. أنغمس في الدراسة لكي لا أفكر في الأمر... "أريدك أن تصبح شخصا ناجحا... لقد كبرت الآن يا صغيري..." أحياناً عندما كنت أعود إلى البيت لا أجدكِ. مرات عثرت على مناديل مليئة بالدم، ظننته دم جرح ما... لكنني عندما رأيتك تخفين صور الأشعة السينية فوق الدولاب عرفت أنك مريضة.. ومع الوقت أدركت أنك سترحلين... لذلك كنت أقبلكِ وأعانقكِ باستمرار، وانام بجواركِ رغم أنني كنت في السابعة عشر.. كنت أريد أن أمتلئ بكِ قبل الرحيل...
في ذلك اليوم: عدت باكرا من المدرسة. لم أجدكِ، اختلقت عذرا لغيابكِ وجلست أنتظر.. وعندما طال تأخرك اتصلت بكِ ، فأجابني رجل، وأخبرني أنكِ بخير، وأنك هنا في المستشفى تتلقين العلاج...
قالوا ان الأمر لا يدعو للقلق، وأنك ستتعافين، كنت تكابرين وأنت ممدة على السرير، تبتسمين في وجهي وتستقبلين زوارك. تطلبين مني احضار بعض الكتب لتقرأينها. عندما أزورك كل يوم أحضر لك باقة ورد؛ انه نفس الورد الذي وضعته على قبركِ بالأمس. فرحتِ كثيرا بالباقة وعانقتني. وهكذا صرت أشتري لك كل يوم باقة وأذهب لزيارتكِ. "هلا تفتح الشباك" تطلبين فأفتح الشباك وتنظرين إلى الخارج. "إلى ماذا تنظرين يا أمي؟" ، "أنظر إلى السماء الواسعة، وحدها السماء تستطيع تحمل الأحزان..."
كنت في آخر سنة لي بالثانوية. زرتكِ ذلك العصر. وجدتهم مجتمعين أمام باب الغرفة. وعندما دخلت وجدتك ممدة على السرير. كنتِ ساكنة و وديعة... لم ينل الموت من سمرتكِ. عرفت أنكِ متِ. كنت أدرك ذلك. لم أستطع البكاء، ربما لأنني معك لم أعرف البكاء. كل ما فعلته هو أن قبلت جبينكِ ، كنت أقبل الموت في تلك اللحظة. ثم عانقتك.. وتركتهم يأخذونكِ. تركتِ تخرجين من هذا العالم لتدخلي عالما آخر.
ذهبتِ وتركتيني أواجه مصيري وحدي. كنت أظن أننا سنكمل حياتنا معا، كما اتفقنا. لكنكِ رحلت ، لأجد نفسي وحيدا. كان آخر عام لي في الثانوية. كان علي أن أنجح لأدخل الجامعة. الأساتذة قالوا ان الأمر صعب عليَّ ، لكن يجب أن أحاول، ربما من أجلك. لا أعرف كيف نجحت. كان الأمر مفاجئا لي. لم أستطع حتى زيارة قبركِ لأخبرك بنجاحي. ولم أكن حتى قادرا على الفرح بيني وبين نفسي. لقد كان الألم في نفسي عميقا...
دخلتُ في دوامة من الحزن والكآبة. كنت كالذي فقد روحه فجأة و تُرك لمصيره المجهول. لم أكن أغادر الشقة. لم أتمتع بالصيف. لم أفعل أي شيء. سكون فقط ، سكون طويل، وتفكير طويل... يمتد ويمتد حتى أشعر أنه لانهائي... أدخل في نفق الذكريات القديمة ، الذكريات التي عشناها سويا... كيف كنا نعيش كأن الموت لا يوجد في آخر الطريق...
دخلتُ الجامعة. كان عليَّ أن أنغمس في شيء ما لكي أستطيع نسيانك. كنت أدمج ببطء . بالكاد أحادث بعض الأشخاص. أغلب الأوقات أقضيها في مكتبة الجامعة. هناك تعرفتُ على"صوفيا". لقد كانت المرأة الثانية التي أحببتها بعدكِ . وحدها استطاعت أن تعيد ثقتي بالعالم بعد أن هزها موتكِ. بدأنا نخرج سويا، ونذاكر سويا. نذهب إلى السينما ونجلس في المقاهي، نركب القطار معا، نتحدث في الهاتف وعلى الشات... فتحتُ لها قلبي، و أظن أنها فعلت نفس الشيء. عرفتني لوالديها. شعرت بالغيرة تجاهها لأنها كانت تستطيع أن تقول:"هذه أمي... هذا أبي..." أنا كنت عاجزا عن فعل ذلك.
عندما ضاجعتها للمرة الأولى، كنت كأنني دخلت غابة سحرية. تلك الغابة التي يتحدثون عنها في القصص، الغابة المليئة بالدهشة والتيه والضياع... كانت "صوفيا" غابة ، غابة أدخلها كلما شعرت بالفزع ، و بالرغبة في الموت... كنت أفكر فيكِ وأنا معها، وكيف أنه حتى وقت قريب كنت معي. لم أستطع يوما أن أنساكِ رغم وجود صوفيا بجانبي. كنت أبكِ وأنا معها، أبكِ لأنكِ بعيدة عني، ولأنني مسكون بماضي هو خليط من الأسود والأبيض... هذا أمر بتعبني، ويجعلني أفكر في جدوى حياتي من الأصل. صوفيا لم تستحمل الأمر. رحلتْ ببرود تام . لم تعد ترد على رسائلي و مكالماتي، حذفتني من لائحة الأصدقاء... وفي الجامعة كنت أراها برفقة شاب من جنسيتها... أفقد الأم والحبيبة الأولى معا.
أمي الغالية، تزورينني في أحلامي كثيرا: تمسكين يدي ونتجول في حقول وأراضي ثلجية ومدن معمرة وأخرى طالها الخراب... لكنني أراكِ كثيرا تقفين في الشباك، نفس الشباك الذي كنت تحبين الوقوف فيه، تدخنين وتنظرين إلى الأرض الخاوية التي تتوسطها شجرة. أسألكِ إلى ماذا تنظرين؟ فلا تجيبين. ماذا يعجبك في تلك الأرض وشجرتها؟ فلا تجيبين أيضا. تنظرين فقط، وسيجارتك تحترق ولا تنتهي... أخبرتني أن الموتى يزوروننا في أحلامنا لأنهم يحبوننا، وليأخذونا معهم... جدتي كانت تزورك في أحلامكِ. لا أعرف إن كنت قد حلمت بها في آخر أيامكِ. وأنها أخذتكِ معها، أو أنكِ تزورينني في منامي، وتجلسين معي في تلك الأرض الخاوية، تحت الشجرة الصماء، لتأخذيني إليكِ؟؟؟
عندما تشتد وحدتي أخرج كتبكِ وأقرأها. كل ما كنت أعرفه في السابق هو أنك كاتبة ناجحة. لكن كان عليَّ أن أقرأكِ كي أكتشف كم أنت عظيمة، وكم كان رحيلك خسارة كبيرة. وأنكِ رغم الموت بقيت خالدة في أثركِ... عندما قرأت الرواية التي تركتيها لم أفهم شيئا. ليس للرواية عنوان أو ملخص! بالكاد فصلان غير مكتملين.. كأنها أحجية تحتاج إلى حل... قرأت وقرأت ولم أفهم قصدكِ. لم أفهم الجملة الأولى:"الآن بدأت الرحلة..." ؟؟؟ ما معنى هذا؟ أي رحلة تقصدين: رحلتكِ؟ رحلتي؟ رحلة الإنسان من الحياة إلى الموت؟ كيف يستيقظ أُناس ليبدأوا رحلة، لا نعرف من أين تبدأ وإلى أين نتتهي؟؟؟
فكرتُ في القيام برحلتي الخاصة، رحلتي الكبرى. إلى"هناك" ، إلى البلاد الأولى، بلادكِ وبلاد أبي... لكنني لم أستطع. كنت أعجز عن القيام بالأمر: أجهز الجواز والتأشيرة والتذكرة والحقيبة، وأبدأ رحلتي، رحلتي-بعد كل هذه السنوات- إلى المجهول، رحلتي في البحث عن مبهم، عن شيء سرمدي في داخلي. لكنني لم أقدر. جبنتُ يا أمي، جبنتُ... وخفت أن أفتح باب أسئلة ظللت لسنوات أهرب منها.
أمي الغالية، لا يزال كل شيء كما تركته: الأثاث، أواني المطبخ، سريرك، كتبكِ ومكتبكِ، صورنا على ذاكرة الهاتف، حقيبتكِ الجلدية، علبة سجائركِ و ولاعتكِ البيضاء، وشاحكِ الذي كنتِ تتلفحينه وتكتبين في الليالي الباردة... كل شيء كما تركته: النافذة التي لطالما وقفت فيها تدخنين، لا زالت تطل على تلك الأرض الخاوية التي تتوسطها شجرة تشبه الخازوق... الجو المتقلب في الخارج، الذي أورثني الارتعاش والمرض... التعامل البارد للبشر، العنصرية التي تطفو على السطح بين الفترة والأخرى (قبل أسبوع اعتقلت الشرطة رجلا قتل سيدة أجنبية وقطع جثتها)...
أقف أمام باب المقبرة، لا أقوى على الدخول. أعرف قبركِ جيدا، لكنني أسير بين القبور ، وأقرأ الأسماء وتواريخ الميلاد والوفاة... فوق قبركِ تتراكم باقات الزهور التي أضعها عليه كل أسبوع... تتراكم الباقات ، بعضها يذبل، على قبركِ وعلى قبور آخرين، وبعضها لا يزال يانعا مثل جرحي...
كل شيء لا يزال كما هو، ثابتا لا يتغير، إلا الفراغ في داخلي.
تتعاظم الوحدة في داخلي مثل وباء قاتل...
أمي الغالية، أنا يتيم ووحيد الآن...