يقدم الكاتب السوداني هنا ترجمته لمقالين نشرا في صحيفة ألمانية تناولا ما يدور في المشهد السوداني من حراك سياسي وجماهيري معقد، يتسم بالسرعة والتوتر والتبدل السريع لمواقف القوى الداخلية والخارجية الفاعلة فيه. مع إطلالة واسعة على المشهد المصري وتأثيراته المختلفة على ما يدور في المشهد السوداني.

الشعب أقوى أم الدكتاتور؟

تقديم وترجمة حامد فضل الله

 

نشرت الصحيفة الأسبوعية الشهيرة، دي تسايت، التي تصدر من مدينة هامبورج، في عددها الأخير (4 نوفمبر 2021) عدّة مقالات عن الأوضاع العالمية والسياسية الخارجية، نذكر منها ثلاث مقالات: "الشعب أقوى "، "الدكتاتور" و"أفغانستان، ألم تعد موضوعا بالفعل؟" نستعرض هنا بإيجاز شديدٍ مقالين فقط، فهما يرتبطان بعضهما ببعض، أمّا الثالث سوف نقدّمه لاحقاً، فهو بحثٌ موسّعٌ وجدالي. جاء المقال الأوّل، بقلم الكاتبة أندريا بوم، مراسلة الصحيفة من بيروت بالعنوان:

الشعب أقوى، ويقاوم الطريق المصريّ:
لم يفاجأ أحد صبيحة الاثنين 25 أكتوبر في الخرطوم بحضور الجنود. على الأقل رئيس الوزراء، الذي كان الجنرالات يهددونه منذ أيام. اختطف مسلحون عبد الله حمدوك وزوجته منى عبد الله، وقادوهما إلى مكان مجهول. تضرب السيارات العسكرية الشوارع وتغلق الجسور فوق النيل. يبث التلفزيون الحكومي أغانٍ وطنية على حلقات متواصلة، ويُقبض على وزراء. ظهر القائد العام للقوات المسلحة الفريق عبد الفتاح البرهان، أمام الكاميرات، معلنا حالة الطوارئ وحلّ الحكومة المؤقتة برئاسة حمدوك. وبحسب البرهان، كان على الجيش أن يتحرّك "لضمان أمن البلاد". إنّه انقلاب، حتى لو لم يرغب برهان في تسميته كذلك.

يبدو أن الجيش السوداني سار في 25 تشرين الأول (أكتوبر) على "الطريق المصري" ووضع غطاءً قاتلاً على التحول الديمقراطي. البرهان والرئيس المصري وقائد الجيش السابق عبد الفتاح السيسي يتبادلان الثقة. آخر ما يريده السيسي في "جبهته الخلفية"، هو سودان ديمقراطي. كلاهما يتمتع أيضاً بدعم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. كما أنّ الانتخابات الحرّة وحماية الحقوق المدنية وشفافية الحكم، ليس لها مكانٌ في تصورهما عن العالم. ولكن يواجه الجنرال برهان مشكلة: حركة الاحتجاج في السودان أكبر وأكثر تماسكاً وأكثر تنظيماً من المصرية السابقة.

بالكاد بدأ الانقلاب، ليبدأ الطلاب والمعلمون والأطباء والمحامون والتجار وسائقو سيارات الأجرة بالتعبئة. أقامت لجان الأحياء المتاريس. يتم استبدال النشطاء المعتقلين على الفور بآخرين. مئات الآلاف يتجمعون في الشوارع يوم السبت "مسيرة الملايين" بعد الانقلاب العسكري. ليس في الخرطوم فحسب، بل في أم درمان والأبيض وبورتسودان ومدن أخرى. ويهتف الناس: "حمدوك نعيدك" و "لا للحكم العسكري" و "الشعب أقوى". أطلق بعض الجنود والقوات شبه العسكرية النار والغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية. قتل ثلاثة أشخاص على الأقل. لكن حمّام الدم الذي خشيه الكثيرون لم يحدث. تنتشر شائعات مفادها أنّ بعض الضباط يبتعدون عن البرهان. هل الشعب حقا أقوى؟

فالسودان الذي تصدّر عناوين الأخبار لعقود من الزمن بسبب الحروب في دارفور ومناطق أخرى، قد يبدو مثيراً للدهشة، بأنّ السودان بالذات يقود في عام 2018 الحركات الديمقراطية الأفريقية العربية. بعد أشهر من الاحتجاجات الجماهيرية السلمية، أطاح الجنرالات، الذين أصبحوا خائفين من الشعب، بعمر البشير، أحد أقدم الديكتاتوريين في أفريقيا، وعندما أراد الجيش إعلان اكتمال الثورة والسيطرة على البلاد، استمرت الاعتصامات الضخمة والتجمعات الاحتجاجية. لم تسكت موجات الاعتقالات والتعذيب ولا المذبحة التي راح ضحيتها أكثر من مائة قتيل من المتظاهرين في يونيو 2019، مما دفع الجنرالات للاتفاق مع التحالف الواسع لجماعات المعارضة الديمقراطية على "مجلس سيادي" وحكومة انتقالية تقود إلى انتخابات حرّة في عام 2023.

كانت محاسبة المسؤولين عن مذبحة 3 يونيو 2019 جزءاً من الصفقة بين الجنرالات والحركة الديمقراطية، تماماً مثل البحث عن أموال الدولة المفقودة ومحاربة الفساد. سرعان ما ذهب هذا بعيداً جداً بالنسبة للجيش. كانت هناك أدلة تشير إلى ضلوع أفراد من قوات الدعم السريع في مذبحة يونيو 2019. وهذه هي نفس الميليشيات المسؤولة عن النزوح العرقي والمذابح والاغتصاب الجماعي في حرب دارفور. وقائدها، اللواء محمد حمدان دقلو، المعروف باسم "حميدتي" وأصبح ثاني أقوى رجل يرتدي الزي العسكري بعد البرهان. ويقول البعض أيضا: أنه الأقوى.

القوات شبه العسكرية في دارفور والجيش النظامي لا يثقون ببعضهم البعض. لكن التهديد من المعسكر المدني جمع الاثنين معاً في الوقت الحالي. إنهم يخشون أن ينتهي بهم الأمر إلى المحكمة في ظلّ حكومة مدنية منتخبة في السودان. وهم يخشون على ثروتهم. وتعد مناجم الذهب في السودان مصدر دخل غني للجيش وكذلك لقوات الدعم السريع. أسس حميدتي إمبراطورية تجارية تتراوح بين صادرات الذهب وتوفير المرتزقة لمناطق الحروب الأجنبية وتكوين شركات البناء. وكما هو الحال في مصر، يحب ضباط الجيش بعد سن التقاعد الانتقال إلى رئاسة الشركات التي يسيطر عليها الجيش. ولكن في الآونة الأخيرة كان هناك ضغط متزايد على قيادة الجيش لوضع شركاتهم تحت السيطرة المدنية. ولأن الدولة التي نزفت في عهد البشير بحاجة ماسة إلى المال أيضاً.

يبدو أن العسكريين أنفسهم فوجئوا بـ "الثورة الثانية" بعد الانقلاب. حقيقة أن الخبز والسكر والزيت أصبحوا فجأة أرخص في الأيام القليلة الماضية - ربما بفضل المساعدة المالية من الإمارات العربية المتحدة – وهذا لم يساعدهم كثيراً. لقد أخطأ مدبرو الانقلاب مرة أخرى الحسابات "فالشارع لا يمكن شراؤه". إذن، هل ضغط الشارع السلمي أقوى حقاً من ترسانة الجنرالات؟ يبدو حتى الآن، أنهم كانوا حذرين من كل أعمال العنف الوحشية. لكن لديهم استراتيجيات أخرى، على سبيل المثال يمكنهم حشد أنصار نظام البشير، الذين لا يزال بعضهم موجوداً، ضدّ الحركة الديمقراطية وبالتالي إثارة معارك في الشوارع، وسيتم تدمير الطابع اللآعنفي للاحتجاجات ويمكن للجيش أن يتصرف كمنقذ من الحرب الأهلية. تعتمد مثل هذه الاستراتيجية إلى حدّ كبيرٍ، على مدى تحمل البرهان وحميدتي الضغط الدولي عليهما. علق الاتحاد الأفريقي على الفور عضوية السودان بعد الانقلاب، وأدانت الولايات المتحدة الانقلاب وجمدت مساعدات اقتصادية بلغت 700 مليون دولار.

السؤال الحاسم هو ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي تنسيق نهج مشترك - مع فرض عقوبات مستهدفة على الجيش والضغط الكافي على مصر والإمارات العربية المتحدة، الذين لا يريدون أي شروط ديمقراطية في السودان. لكنهم لا يريدون أن يضطروا إلى استيعاب البلد في حالة الانهيار الاقتصادي. ستستمر الاحتجاجات، وقد يبدأ المدنيون والجيش قريباً محاولاتهم الأولى لإجراء محادثات. ومن غير الواضح ما إذا كانت غالبية حركة الاحتجاج سترغب في التفاوض مع البرهان وحميدتي مرة أخرى.

جاء المقال الثاني بقلم ليا فريسا، المحررة بالصحيفة لشؤون الشرق الأوسط بعنوان:

دكتاتور مثاليّ: النظام العسكري المصري يحكم بصرامة غير مسبوقة - ومُلهِم للمقلدين في المنطقة

أعلن اللواء عبد الفتاح السيسي، الرئيس المصري، يوم الأثنين 25 أكتوبر، انتهاء حالة الطوارئ في البلاد. سُمح للشرطة والجيش، لمدة أربع سنوات بمراقبة المواطنين وحتى اعتقالهم بمجرد الاشتباه. لم يعد ذلك الآن ضروريا، يواصل السيسي: مصر أصبحت واحة للاستقرار والأمن في المنطقة. وبداية عهد جديد: الديكتاتورية العسكرية الآن حالة طبيعية وحياة مألوفة. مصر، 100 مليون نسمة، هي أكبر دولة عربية. عندما سقط الدكتاتور هنا في عام 2011، ارتعب أيضاً الطغاة في سوريا وليبيا واليمن. عندما قام الجيش المصري بانقلاب ضد الحكومة المنتخبة تم في عام 2013 تحديد الاتجاه الجديد في المنطقة: ثورة السلطويين المضادة. والسيسي هو مخطط المستقبل لمصر.

في 25 أكتوبر/ تشرين الأول، قبل ساعات قليلة من تغريدة السيسي، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول أيضاَ،  أعلن جنرال آخر حالة الطوارئ في السودان المجاور. بنجاح انقلاب عبد الفتاح برهان سوف يتم تحطيم آخر حركة ديمقراطية بعيدة المدى في العالم العربي. في ليبيا، الحرب لم تنته، لكن من الواضح أن النهاية لن تكون الديمقراطية فحسب، بل أمراء الحرب هم الذين سينتصرون. تم في الجزائر استبدال المستبد القديم ببساطة، بآخر أصغر. تونس، حامل الأمل الديمقراطي، حلّ الرئيس مؤخراً البرلمان وأسس نفسه الحاكم الوحيد. تحافظ الحكومة المصرية على اتصالات جيدة مع كلّ هؤلاء الرجال الأقوياء. هل يتبع انقلاب البرهان نفس السيناريو الذي اتبعه السيسي في عام 2013؟

حوّل السيسي منذ ذلك الحين، مصر إلى ديكتاتورية أكثر صرامة مما عاشته الدولة المصرية، التي تعرف الحكام العسكريين. بالطبع هناك اختلافا بين بطلي الرواية، السيسي والبرهان: قام المصري بانقلاب على حكومة النظام الإسلاموي الاِخواني، التي لم تكن محبوبة، بينما يتعين على البرهان في السودان تشكيل تحالف مع هؤلاء الإسلامويين على وجه التحديد .. لكنه في النهاية يسيطر على الأسلحة مثل السيسي، وكلاهما له نفس الحليف الأجنبي الحاسم: فالإمارات العربية المتحدة من ورائهما. إن الانخفاض المفاجئ في أسعار الخبز والغاز والسكر في السودان يترك تفسيراً واحداً معقولاً أيضاً: شخص ما يضخ الأموال في البلاد. لا يقول المحللون والدبلوماسيون الغربيون علانية هذه الأيام من يشتبهون في أنه وراء ذلك، لكنهم يؤكدون أنه بدون مباركة الخليج والقاهرة،  لم يكن البرهان قادراً على القيام بالانقلاب، ولا حتى على تحمل تكاليفه مالياً.

لقد أوقفت الولايات المتحدة بالفعل المساعدات المالية للسودان. وهذا يتبع نفس السيناريو المصري أيضاً: بعد استلاء السيسي على السلطة أوقف الغرب الدعم المالي في البداية. السبب الوحيد لعدم إفلاس النظام العسكري الجديد هو أنّ دول الخليج حوّلت المليارات مباشرة إلى البنك المركزي المصريّ بين عامي 2013 و 2015. عندما هدد الإفلاس التالي، كان الغرب مستعدًا للتدخل مرّة أخرى، عندما وصل أكثر من مليون لاجئ إلى أوروبا، وكانوا يريدون منع مصر من التفكك أيضاً.

بعد أسبوع من انقلاب البرهان في السودان، من غير الواضح ما إذا كان سينجو بفعلته. كما إنها لعبة خطيرة  للقوى التي تدعمه أيضاً: الاستثمار في نظام البرهان يؤتي ثماره فقط، إذا استأنف الغرب دعمه المالي للسودان على المدى المتوسط. كما في مثال مصر. ولكن كيف يعمل النموذج المصري؟

عندما جاءت الذكرى السنوية العاشرة للثورة في بداية هذا العام،  كان الهدوء مخيفاً في وسط القاهرة. بقي الكثير من الناس في منازلهم. في السنوات السابقة للذكرى السنوية، اجتاحت الشرطة فعلياً وسط المدينة، وسحبت المارة في عربات أقفاص وجمعت الهواتف الذكية. لا حاجه الآن إلى الشرطة. الآلاف من المعارضين رهن الاعتقال والمراقبة ساحقة. لم يعد السيسي بحاجة إلى حالة الطوارئ، لأن الحكومة ببساطة حولت العديد من السلطات الخاصة إلى قوانين. القاهرة، المدينة النموذجية للسلطوية الجديدة، لقد تمّ قطع ممرات ضخمة عبر العاصمة، والطرق السريعة مع عشرة ممرات. يتمّ بناء مدن تابعة جديدة من الرمال، دون الكشف عن هويتها، وحراستها، وفصلها حسب الطبقة الاجتماعية.

في هذا الشكل الجديد من الديكتاتورية، الجيش ليس على رأس الدولة فحسب، بل لقد تغلغل فيها. حتى قبل وصول السيسي إلى السلطة،  كان الجيش منخرطًا في الاقتصاد،  لكن تحت قيادته احتكر السوق عملياً. تدير الشركات العسكرية أعمال الأسمنت، وشركات البناء، والوكالات العقارية، وفي المجمعات السكنية الجديدة تفتح فروعاً لسلسلة من السوبر ماركت الخاصة بالجيش. مصر السيسي مبنية على مبدأ الازدهار: الدولة العسكرية تعزز الاقتصاد بمشاريع كبرى وتوظف مؤقتاً مئات الآلاف من المصريين في العمل. النمو يجذب الاستثمار. بجانب إسرائيل، تمتلك مصر أفضل توقعات نمو في الشرق الأوسط لهذا العام.

يسيطر الجنرالات في السودان منذ سنوات على أجزاء من الاقتصاد أيضاً. إن الدمقرطة ستعرض استغلال الجيش المفرط للدولة للخطر؛ تمامًا مثل المصالح الاقتصادية للقوى الإقليمية المرتبطة بها. بعد أسابيع قليلة من الذكرى العاشرة للثورة، كان السيسي في قلب القاهرة على منصّة عرض ضخمة أمامه تنقل توابيت الفراعنة من المتحف المصري القديم إلى "متحف الحضارة المصرية" الجديد. في هذه اللحظة، يصطف السيسي رمزياً مع ملوك الماضي العظماء، وهو يوجه رسالة للعالم: مصر ليست دولة ما بعد الاستعمار، لكنها أمّة غارقة في التاريخ – والاستبداد مغروس في حمضها النووي.

لكن هناك تحذيرات متزايدة، ومباشرة من قلب النظام، يجلس في أحد أيام أكتوبر، رجل أعمال مصري ثري جداً، شخص استفاد بشكل كبير من المشاريع العسكرية الكبرى، ويقول: "نحن نجلس في مصر كما نحن في تيتانيك، التي تتجه مباشرة إلى الجبل الجليدي بسرعة 100 عقدة. "أولاً وقبل كلّ شيء، كان من الصواب المراهنة على النمو. لكن القيادة العسكرية أصبحت مصابة بجنون العظمة. تتشكل فقاعة ستنفجر حتما، وهو يعتقد الآن أنها ستحدث في غضون سنوات قليلة. ويتزامن هذا التقييم مع مخاوف الخبراء: ديون مصر تتزايد بسرعة والنقد الأجنبي يتضاءل. لقد توقف النظام منذ فترة طويلة عن نشر الأرقام الدقيقة. بعد أسبوع من رفع السيسي حالة الطوارئ،  أصدر قانونًا جديداً: أي شخص يجمع معلومات حول أعمال الجيش يتعرّض الآن للملاحقة القضائية. قد يسيطر المستبدون بالكامل على المنطقة – ولكنها سوف تنهار فجأة.