لنظريات الإعلام ارتباط قديم بالسلطة، حيث تعتبر النظرية السلطوية من أقدم النظريات في الاتصال والصحافة خصوصا. وقد ازدهرت في عهد الديكتاتوريات والأنظمة الملكية. في إطار هذه النظرية تخضع الصحافة بالكامل لسلطة الحكومة وتجرد من حريتها في تداول المعلومات. لم تكن هذه النظرية قادرة بالطبع على تفسير تطور الإعلام في الحياة البشرية، فانضافت إليها نظريات أخرى تعالج بشكل أوسع علاقات الإعلام بالسلطة والمجتمع. tظهرت النظرية الليبرالية كمعاكس للنظرية السلطوية بإبعاد الحكومات تماما عن سلطات الإعلام ففتحت الطريق واسعا للصحافة لتحوز سلطة كاملة منفصلة عن السلطة السياسية.
مع التطور في الأفكار والواقع، أصبح الإعلام بالمفهوم الديمقراطيّ القائم على فكرة فصل السلطات بمثابة السلطة الرابعة بعد السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، إلا أن الإعلام أصبح سلطة منفصلة ومنافسة لهذه السلطات في كثير من الأحيان. ولهذا أصبحت سلطة الأعلام على درجة كبيرة من التأثير لدرجة التنافس الحاد لامتلاكها والسيطرة عليها، خصوصا مع دخول البشرية في عصر المعلوماتية ومجتمع الشبكات.
سلطة أصحاب المصلحة
بات الإعلام يُعرف بالسلطة الرابعة، ولكن الإعلام كما يقول مانويل كاستلزManuel Castells ليس سلطة رابعة بل هو أهم من ذلك بكثير: إنه ساحة صنع السلطة، حيث يشكل الإعلام الساحة التي تتقرر فيها علاقات السلطة بين الفاعلين السياسيين والقوى الاجتماعية الأخرى المتنافسة. كان التحليل الوظيفيّ يرى في وسائل الإعلام آليات تنظيمية ضبطية لكن هذه النظرة كما يرى أرمان ماتيلار Armand Mattelart قد تعرضت لقراءات نقدية باعتبار أن هذه الوسائل أصبحت أدوات للسيطرة وتشكل مصدرا للعنف الرمزي.
ولهذا نجد مثلا أن مفهوم السلطة الرابعة الذي تدافع عنه النظرية الليبرالية يفقد تأثيره إذا طالعناه بمنظور النظرية النقدية، وبالأخص الاقتصاد السياسيّ النقديّ للإعلام. فالسلطة التي يتم منحها للإعلام في العلن عن طريق تشريع القوانين، تُؤخذ منه في الخفاء عن طريق قوانين السوق واحتكار الملكية ومراكمة رأس المال.
يرى نعوم تشومسكي Noam Chomsky أن المفهوم الواقعي للليبرالية الديمقراطية يمنع عامة الناس من إدارة وسائل الإعلام لصالحهم، ويبقيهم دائما تحت السيطرة. وهكذا فإن المفهوم الواقعي للنظرية الليبرالية يناقض مفهومها حول السلطة الرابعة. ولهذا فإن السلطة الرابعة لن تكون سوى سلطة نافذة في يد مالكي شركات الإعلام والاتصالات الكبرى التي تتحكم في قطاع الإعلام والاتصالات في العالم.
حسب الإطار النظريّ للاقتصاد السياسي للإعلام فإن مفهوم السلطة الرابعة سيكون محكوما ومقيدا بمفاهيم أخرى مثل الاحتكار والتكثيف والشركات العابرة للقارات وغيرها من المفاهيم المرتبطة بحركة رأس المال الجديد. إن أقرب مثال على التلاعب بمفهوم السلطة الرابعة يتمثل في استغلال الشركات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي لبيانات المشتركين (فيسبوك وتويتر كمثال) للتأثير في نتائج الانتخابات العامة كما حدث في الانتخابات الرئاسية عام 2016م في الولايات المتحدة الأمريكية.
يعتقد غراهام مردوخ Graham Murdock أن تحويل الإعلام كسلطة مستقلة في المجتمع الديمقراطي أصبح مرتبطا أكثر من أي شيء آخر بتحليل التحول الأوسع للرأسمالية المعاصرة نحو سياسات السوق النيوليبرالية وانعكاساته المتعددة على تنظيم السلطة الاقتصادية والرمزية. ويشكك مردوخ في قدرة شركات الإعلام والاتصال على منح السلطة للناس، ويرى أن شركات الإنترنت باتت تنتهك مبادئ العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الحداثة الغربية كالحرية والمساواة والمشاركة، يرى مردوخ أن الثورة الديمقراطية التي شكلت حجر الزاوية السياسي للحداثة الغربية قد وعدت بوضع حد لممارسة السلطة التعسفية، فلم يعد الناس خاضعين لملوك أو أباطرة، إنهم يخضعون لسلطتهم دون منازع. كان عليهم أن يصبحوا مواطنين، أحرارا متساوين في مجتمع أخلاقي مشترك، مع الحق في المشاركة في تحديد القوانين والقواعد التي وافقوا بموجبها على الحكم، لكن شركات الإنترنت كما يقول مردوخ بدأت تتخلى عن هذا العقد الاجتماعيّ: أولا من خلال تمثيل مستخدمي الإنترنت بلا هوادة كمستهلكين، وخلط الحرية مع الخيارات التي يتم اتخاذها في السوق. هذا الاتجاه يقوض باستمرار إصرار المواطنة على أن تحقيق الذات يحمل التزاما بالمساهمة في جودة الموارد الجماعية التي توفر الدعم المادي والاجتماعي والثقافي الضروري للوكالة الشخصية. ثانياً: في ظل عدم وجود قيود تنظيمية فعالة، قامت بتصميم بورصة مالية غير متماثلة أبدا، تهدف إلى تعزيز الأرباح الخاصة وليس المصالح المشتركة، وتعمل على الحد من النقاش العام حول ممارسة السلطة الاقتصادية.
تعدد السلطة الإعلامية
أصبح مفهوم سلطة الإعلام في الوقت الحالي يتوافق بشكل كبير مع أفكار ميشيل فوكو Michel Foucault حول تفتت السلطة حيث لا تحتكر سلطة الإعلام بنية فوقية ممثلة في دولة أو حكومة، فقد بات بمساعدة التقنية الحديثة بإمكان الفرد العادي تأسيس سلطته الخاصة ومشاركة التأثير عبرها. إن المفهوم الواسع للسلطة عند ميشيل فوكو يمنح السلطة بعدا اتصاليا لأنه قائم على العلاقات لا على الذوات، ولأن تعددية السلطة في المجتمع تقتضي الاتصال والتفاعل بين مكوناتها، ولهذا فإن مفهوم الخطاب عند فوكو يظل ملازما لمفهومه عن السلطة كذلك. كما باتت سلطة الإعلام أيضا تتوافق مع أفكار بيير بورديو Pierre Bourdieu حول الحقل خصوصا حقل السلطة، والرأسمال بأشكاله المتنوعة المادية والرمزية وقدرة الفرد على امتلاك واستخدام وتحويل رؤوس أمواله إلى سلطات ومكاسب، ليدخل في وفاق أو صراع مع بقية الحائزين على الرأسمال سواء كانوا ينتمون إلى بنية فوقية أو تحتية. وبالنسبة لبورديو فإن الإعلام يعتبر أحد أشكال التجليات الواضحة لمفهومه حول السلطة الرمزية والعنف الرمزي، فقد قدم انتقادات شديدة للسلطة الرمزية والعنف الرمزي الذي أصبح يتشكل في بنية وسائل الاتصال الجماهيري وخصوصا التلفاز.
امتدادا لأفكار ميشيل فوكو حول تعددية السلطة في المجتمع، يضيف مانويل كاستلز للتعددية في السلطة صفة أخرى هي التشابك، حيث يقوم النظام السياسي برمته على سلطة متشابكة موزعة على مستويات مختلفة من العلاقة بين الدولة والمجتمع. يستخدم مانويل كاستلز مفهوم (مجتمع الشبكات) للتعامل مع التغيرات الجذرية التي حدثت للعالم بسبب تكنولوجيا الاتصال. ويعتقد كاستلز أن مجتمع الشبكات بدأ يأخذ نصيبه من السلطة التي كانت محتكرة قديما في أطر محددة، مثلما يشير ألفين توفلر Alvin Toffler إلى تحوّل السلطة في عصر المعلومات.
بظهور مجتمع الشبكات، وتعدد السلطة الاعلامية ازداد التنافس على حيازة السلطة الرمزية. في ظل ظروف الحداثة الرأسمالية يعتقد غراهام مردوخ أن وسائل الإعلام الجماهيرية أصبحت الساحات الرئيسية التي تدور فيها الصراعات على السلطة، وهو ما أسماها بـ"صراعات السيطرة على الشروط ".
نظرية للتفسير والتحدي
يصف مانويل كاستلز تحوّل السلطة في مجتمع الشبكات بأنه تحوّل من ملكية وسائل الانتاج إلى ملكية وسائل الاتصال. فملاّك شبكات شركات الاعلام العالمي متعدد الوسائط هم بالتأكيد من أصحاب السلطة في مجتمع الشبكات. حيث يقوم هولاء الملاّك بالتحكم بشبكات الاتصال عن طريق البرمجة وتحويل البشر إلى جمهور وتحقيق مصالح وأرباح وتأثير من خلال تصميم محتوى ثقافة الجمهور وفق استراتيجياتهم الاقتصادية. لكن كرستيان فوكس Christian Fuchs ينتقد كاستلز في نظرته السوداوية لمجتمع الشبكات، يرى فوكس أن كاستلز يركز كثيرا على سلطة وهيمنة مجتمع الشبكات وينسى إمكانات التواصل والتعاون يمكن أن يخلقها هذا المجتمع الجديد. ويقول فوكس إن مفهوم كاستلز لوسائل التواصل الاجتماعي يفتقر إلى استخدام نظريات اجتماعية تصوّر مفهوم السلطة والحكم الذاتي والمجتمع والاشتراكية والرأسمالية. يرى فوكس أن هناك حاجة ماسة إلى نظرية نقدية للإعلام الاجتماعيّ والمجتمع، لتقديم بديل قائم على فكرة المجتمع التعاونيّ والديمقراطية التشاركية والملكية الجماعية.
تبدو نظرية مجتمع الشبكات مرحلة متقدمة في سلسلة تطور علاقات الاتصال بالسلطة والمجتمع، كما تبدو في ذات الوقت كتجلّي لأكثر من اتجاه: فهي من جانب نظرية لتفسير واقع الإعلام الجديد وعلاقته بالسلطة الرمزية النهائية لشركات الاتصال الكبرى في استثمارها واحتكارها لرأسمالها الاقتصاديّ والرمزيّ، ومن جانب آخر فهي نظرية لتحدّي الواقع الذي تسيطر عليه الشركات الكبرى، عن طريق توسيع سلطات وإمكانات الأفراد الاتصالية.
باحث وصحفي سوداني
المراجع
أرمان و ميشال ماتلار، تاريخ نظريات الإتصال، ترجمة لعياضي ورابح، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005
ألفين توفلر، تحول السلطة: المعرفة والثورة والعنف على أعتاب القرن الحادي والعشرين، ترجمة ليلى الريدي،: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007
بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007
مانويل كاستلز، سلطة الاتصال، ترجمة وتقديم محمد حرفوش، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014
ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2004
Chiristian Fuchs,(2014). Social media: acritical introduction. London: Sage.
Graham Murdoch, (2017).Communication, crisis and control: economies, ecologies and technologies of digital times. Journal of Medijska istraživanja: znanstveno-stručni časopis za novinarstvo i medije, 23(2), 17-34.
Noam Chomsky, (2011). Profet over people: neoliberalism and global order. Damascus. The Syrian General Organization of Books.