تصحبنا الباحثة التونسية في تأملاتها الفلسفية لفكرة الموت، وكيف أنها حقيقة يتعامل معها الوعي البشري بشكل خاطئ. وتدعو للتعود على فكرة أنه لا يوجد شيء في الموت، يدعونا إلى الرعب والقلق إزاءه. فالأفكار لا تزعج بقدر ما يزعج وعينا الزائف بها، وهو نتيجة لاستعمالنا السيئ لعقولنا تجاه هذه الأفكار.

أحمق من يقول إنني أخشى الموت!

روضـة المبـادرة

 

كيف يبدأ المرء في التفكير في الموت؟

جلي جدا أنّ الأمر يبدأ من الواقع والحيثية التي يوجد فيها الفرد وقد يكون التفكير نابع من رتابة الزمن وتتالي الصدمات، الأزمات والأحداث التي يشهدها في المرحلة التي وضعت بين قوسين من مسيرة المرء فالإنسان هو الكائن الوحيد الّذي يجب عليه أن يعي أنّه موجود بين قوسين: القوس الأوّل قوس الحياة والقوس الثاني قوس الموت. فوحده هذا الكائن البشري من دون بقية الكائنات يعرف الأمر. لكنّ المشكل هنا هو في مدى استيعابه والاقتناع به. من هنا كان المشكل الأكبر وهو القلق إزاء الموت.

فالموت هو المآل والمصير الجمعي، لكننا كأحياء نتميز بملكة إضافية هي الملكة العاقلة (ملكة العقل) ولمّا كنا نجهل سلعة موتنا، فإنّه بفضل نعمة النسيان التي لئن اعتبرناها نقمة فهي قد تنفعنا حين نجهد أذهاننا في التفكير في الموت. فالنسيان هو الذي يلمّ ويلملم عجزنا وقلقنا إزاء فعالية لا نعرف متى أو كيف سوف نتعرض لها. وفضل النسيان هنا هو حين ننشغل باليومي الذي نحياه، وكأنّنا لن يدركنا الموت أبدا. إنّ معشر الأحياء على ضعف من الإيمان بالقضاء والقدر فنحن شعوب وحضارات لا تؤمن بالموت، بل تؤمن بالحياة لا نخاف الحياة بقدر ما نخاف الموت. لا نريد الموت ونريد الحياة بالرغم من أنهما حالتين وضعيتين يمر بهما الكائن، وبالرغم من أنّ الموت هو القانون البيولوجي والروحي الأكثر يقينية.

فالوعي الذي تتسم به الذات العاقلة لم يدرك بعد فكرة الموت؛ وهو عين ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني كارل يسبرس في مؤلفه (تدريب على المنهج الفلسفي) حين يقول: "الوعي الحيوي المحض وعي يجهل الموت، ولابدّ أن نكون على علم بالموت، حتى يصبح بالنسبة إلينا واقعا." يبقى الموت دوما تلك الوضعية القصوى والمصير الأوحد للبشرية جمعاء، وحتى لمعشر الأحياء. لكن الفرق بين البشر وبقية الأحياء هو أنّ موت البشر هو موت واع مسبقا، مرتبط بالوعي؛ وموت بقية الكائنات الحية هو موت لا واع.

الخوف من الما-قبلي وليس من الما-بعدي:

عادة يكون الخوف انفعالا يصيب المرء حين لا يستحسن، أو يرتعب من شيء ما، لكن الخوف هنا ليس خوفا ذا أساس مادي؛ بل هو خوف أساسه معنوي روحي نفسي. لا يمكن حصره في الخوف من شيء ما، أو حدث أو شخص أو سلطة ما، بل إنّ الخوف أضحى خوفا من الفكرة. وهو الخوف من فكرة الموت لتكون بذلك سلطة الأفكار لها تأثيرها أكثر من سلطة الحس. الخوف من الفكرة هو بالأساس خوف من الغيبي المجرد، و/أو الما-بعدي الميتافيزيقي وبالتالي الما-بعد واقعي أو الما-بعد طبيعي. يصبح إذن الغيبي والميتافيزيقي هو الّذي يبعث فينا هذا الانفعال، القلق، الرعب والهلع وبالتالي تغيب الأتراكسيا. هو خوف ليس تجاه الحاضر الموجود بل من الغائب اللاّ-موجود الآن والموجود في المستقبل.

إنّنا نرتعد أمام الموت والفناء وفقا لعبارة يسبرس، فالطامة الكبرى التي تمثل مصدر قلق فكري وجودي للكائن البشري هي الموت. فهذا الخوف الما- قبلي أي ما- قبل الموت في حدّ ذاته هو الّذي يحكم الانفعال البشري. فمن الحمق أن نخشى الموت لأنّ الخير والشرّ والألم واللّذة كلّها انفعالات تحدث في الحس. والموت في هذه الحالة هو عدم وانعدام الحسّ.

لكنّ القلق الّذي لا يغادرنا إزاء الموت، هو ليس قلق وخوف من الموت في حدّ ذاته، بل هو خوف من لحظة ما - قبل الموت. ذلك أنّ الإنسان قدر عليه أن يكون شقيا في الحياة وليس في الموت. ويقول في هذا السياق المؤسس الرئيسي للأبيقورية أبيقور وذلك في مؤلفه (رسالة إلى مينيسي): "إنّنا نخشى الموت، لا لأنّه يربكنا عندما يحلّ بنا، وإنّما لتألمنا بعد من فكرة كونها آتية يوما ما. إذ لو أنّ أمرا لا يسبب لنا أيّ اضطراب بحضوره فإنّ القلق المقترن بانتظارنا له يغدو دونما أساس. وهكذا فمن بين الشرور التي ترتعد لها فرائصنا يكون أعظمها شأنا هو لا شيء بالنسبة إلينا. إذ طالما نحن على قيد الحياة، فالموت ليس هنا وعندما تكون الموت نكف تماما على أن نكون. "فالبشرية اليوم لابد أن تعود نفسها على أنّ فكرة الموت هي لا شيء؛ وأنّ المخيف ليس الموت في حدّ ذاته، بل ما-قبل الموت. لأنّ الخوف الحقيقي والمنطقي هو الخوف الما-قبلي أي ما-قبل حدث الموت ويسميه كارل يسبرس الاحتضار.

فالخوف والقلق إزاء الاحتضار هو خوف وارتباك وهلع من العذاب الجسدي. لكن الاحتضار ليس الموت بالمعنى النفسي والطبي، لأنّ الاحتضار يمكن أن تعود بعده الحياة، في حين أنّ الموت لا يمكن بعده أن يعود المرء إلى الحياة. وبذلك لا يمكن أن ندعوه كائن حي بل كائن ميّت. إنّ الخوف كائن في الحياة، وليس الفناء. ذلك أنّ الألم والوجع والحزن والبؤس والتعاسة كلّها دوافع للخوف، وتحدث للإنسان الحي وليس الفاني.

إنّ القلق إزاء الموت والزوال ليس له علاج طبي، لأنّه قانون حتمي مدون في دستور بيولوجية كل كائن حي. والطب والعلم قادر على التخفيف من ألم الاحتضار لكنه عاجز من أن يحد من حدوث لحظة الموت. وبالتالي وحدها الفلسفة قادرة على فعل ذلك حين تعلمنا وتجعلنا نتعود على فكرة أنه لا يوجد شيء في الموت، يجعلنا أو يدعونا إلى الرعب والقلق إزاءه. فالأفكار لا تزعج بقدر ما يزعج وعينا الزائف بها، وعدم استيعابنا لمضامينها وهي نتيجة حاسمة لاستعمالنا السيئ لعقولنا تجاه هذه الأفكار. وعليه لابدّ من تجنب التفكير في الموت لأنّ التفكير فيه أمر باطل، لا يفعل سوى أن يزيد في حجم الثقل والتعاسة الّتي يعاني منها البشر.