»للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا» حين نقرأ درويش فإننا نتساءل، كيف يكون للحقيقة وجهان، أبيض أو أسود ثم يكون «الثلج أسود» وهذا ما سيقودنا إلى أن ما تعودنا عليه من حدود فاصلة هو تعودٌ مضلل، وفى كتاب «المجاز السياسى» للدكتور عمار على حسن نجد تفكيكًا لكيفية بناء الحقيقة بأشكال متعددة، وهذا الكتاب جزء من ثلاثية صدر منها أولاً «الخيال السياسى» وثانيًا هذا الكتاب، ويعمل المؤلف على «الفراغ السياسى.
»الحقيقة جوهرة غالية يجب حمايتها بحرس من الأكاذيب» و«من يدفع أجر العازف يحدد نوع اللحن» هاتان المقولتان المستعارتان من حقل الإعلام فى سياق كشف أسباب آليات وسيلة إعلامية، نافذة مهمة على كتاب «المجاز السياسى».
فالكتاب وهو موجه للمشتغلين بالسياسة والمنشغلين بها، يفكك فى أناة وتمكن وموسوعية واقتصاد علاقة المجاز بالسياسة.. إنه لا ينظر إلى الحقيقة بالحدية الرومانسية التى تجعله عاجزًا عن أن يفهم لماذا الثلج أسود أو أحمر، بل بنظر الباحث العلمى الذى يجمع الأضداد، ويستبعد الشوائب، ويكشف جذور الأمور- وسط غابة متشابكة- متتبعًا سيقانها وغصونها.
كتاب عمار على حسن الصادر عن عالم المعرفة، والضام ستة فصول ومسرد مؤهل لأن يكون قاموسًا للمجاز السياسى، والواقع فى ثلاثمائة وست وستين صفحة، يوجه أنظار الكثيرين إلى اللغة الثالثة التى يتحدث بها السياسيون، لا لغة الحقيقة العارية، ولا لغة الكذب والمراوغة، لكنها لغة المجاز، والكتاب ليس مهمًّا فقط لدارسى علم الاجتماع السياسى، وإنما لدارسى العربية عامة وللبلاغيين خاصة، إذ يقدم لهم دليلًا إرشاديًّا للجمع بين البلاغة العربية والغربية.
يبدأ الكتاب بمحاورة سؤال محدد: هل المجاز خاص بالدرس الأدبى؟ وينتهى عبر مسلمات وفرضيات تثبت صحتها الوقائع إلى أن المجاز فى كل شىء، وأننا فى الحقيقة نسبح فى نهر من المجاز حتى فى أبسط جملنا المعيشية، وعن العلاقة بين السياسة والكلام يكشف الكاتب أن السياسة فى جوهرها كلامٌ فما برامجها وخططها وشعاراتها ومساجلاتها إلا كلام، ولن نجد سياسيًّا ناجحًا إلا ولديه بلاغة فى التعبير، بل إن البلاغة من أساسيات السياسى، وأن اللغة سلطة وسلاح وقوة ناعمة يستطيع صاحبها السيطرة على خصومه بأكثر مما تفعله الأسلحة المتطورة، ويكفى أن ننظر إلى الاستعمار اللغوى - إن جاز التعبير - بفرض اللغة الإنجليزية على العالم، وما استتبع ذلك من تبعية فى مختلف المجالات، ومن استحالة ظهور اختراع أو موقع إلكترونى لا يلتزم بهذه اللغة: «لكن الحقيقة تتعدى هذا، إذ ارتبطت سيادة اللغة الإنجليزية بقوة الولايات المتحدة وهيمنتها، التى جاء جانب كبير منها فى ركاب الحضور التقنى والاقتصادى والثقافى الطاغى».
وفى هذا الجزء تحديدًا تتضح وطنية الكاتب واهتمامه بمكانته، فهو يدعو، بعد تشخيص دقيق لأكبر أسباب الهيمنة، إلى الاعتناء بلغتنا: «واللغة العربية، الغنية بالمفردات والتراكيب، هى واحدة من القوة الناعمة فى مسألة التضامن العربى، سواء أخذ شكل الدعوة إلى الوحدة، مثلما كان فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، أو النزول إلى الرضا بالتنسيق ببين الوحدات أو الدول التى تشكل العالم العربى. وفى الحالتين يتم الرهان على العربية فى صناعة الإرث المشترك للعرب، والدفاع عن هويتهم، وتشكيل الوسيلة الأنجع فى التفاهم بين المواطنين العرب من المحيط الأطلسى حتى الخليج العربى، وتوفير الواسطة التى تنتقل بها الأفكار والقيم ويتم بها التعبير عن الاتجاهات».
لا يتورط عمار فى الاصطلاح البلاغى، بل يأخذ منه ما يحتاج إليه ليمزج بين «المجاز» و«السياسة»، ورغم صعوبة المهمة لأن الإرث البلاغى والمحصول النقدى وفيران، فإن الباحث يخرج لنا بأمرين غاية فى الأهمية، الأول هو تعريف المجاز السياسى وبيان آلياته، والثانى هو الكنز المتمثل فى الرحلة إلى هذا التعريف وذاك البيان، ويصل فى نهاية فصله الثانى إلى تعريف المجاز السياسى: «هو كل استعارة أو تشبيه أو مبالغة، تمس لفظا ما يتعلق بالشأن العام والشخصيات والمؤسسات والحركات والكيانات والممارسات والخطابات السياسية، وكل شىء يرتبط بالسلطة السياسية».
سيكون هذا التعريف أشبه بالمسبحة التى ستحركها أنامل عمار، فالاستعارة والتشبيه سيأخذان فصلاً كاملاً، ثم المبالغة، ثم يتجاوز عمار المجاز الشفاهى والمكتوب إلى مجاز الصورة، ثم إلى مجاز بين الكلام والفعل وهو مجاز الصمت.
لماذا يستخدم السياسى الاستعارة؟ وكيف؟ يميل عمار إلى معالجة هذا باستخدام أسلوب «بالتى كانت هى الداء» فيشبه السياسة بالسمكة والاستعارة بالماء، فكما أنه لا حياة لسمكة دون ماء، فلا حياة لاستعارة دون سياسة، ويؤصل للاستعارة عربيًّا وغربيًّا، ثم يذكر أِشهر الاستعارات المستخدمة فى السياسة والدين، ونلحظ هنا أن عمار يوحد بين التشبيه والاستعارة، لأن كليهما قائمٌ على الصورة، ولأن التشبيه لا ينظر له كمبحث منفصل لدى كثيرٍ.
يحتل الدين مكانة كبرى فى الاستعارة السياسية والفلسفية والنفسية فما من مفكر إلا وتعرض له، لذلك يعرض عمار لأربع صور بلاغية لماركس، ونيتشه وفرويد وراسل هى على الترتيب: فـ«الدين أفيون الشعوب» و«الدين ثورة العبيد» و«الدين رغبة نفسية» و«الدين تفكير طفولى»، ثم يقوم بتفكيك كل صورة، ومقارنتها ببقية الصور، وبعد ذلك يعرض لأهم الاستعارات السياسية ومنها: «استعارات الحروب، والنظر للإنسان على أنه آلة، والتعامل مع الدولة على أنها تجسيد، اعتبار كرة القدم راية قومية، اعتبار السياسة رقعة شطرنج...».
ينبه عمار إلى العلاقة بين المبالغة المفرطة من جهة والتطرف والاستبداد من جهة ثانية، فكلاهما من لوازم الآخر، ويفرق بين نوعين من المبالغة ما هو مقبول وما مرفوض، وحده: ألا تنطوى على نفاق أو تضليل أو خداع أو إفراط أو تشنج، وبعد هذا ينطلق إلى عرض حالات المبالغة السياسية وتوظيفها بدءًا من الخطبة ومرورًا بالشعر ومفردات الخطاب المتطرف بالكذب الذى يرى المؤلف: «وانتشار الكذب فى دولة ما قد يدمر كيانها، ويضعف من استقرارها وأمنها الداخلى، مهما تم التذرع بأنه كذب نبيل أو أبيض أو إيثارى. وحتى لو كان الساسة يرون أن الكذب على العالم الخارجى مباح ومتاح، فعليهم أن يدركوا أن هذا النوع من الكذب له ارتداد ضار على الداخل».
الصورة نمطٌ من أنماط المجاز وهنا يفتح المؤلف نافذة جديدة فهو يضم إلى المجاز الرسم والصورة الفوتوغرافية والذهنية، منطلقًا من المثل الصينى المهيمن «الصورة بألف كلمة» إلى الصورة الذهنية وتضاربات الصور المهنية، والتلاعب بالعقول من خلال الصور المختلفة مثل صورة انهيار البرجين فى أحداث سبتمبر.
ينتبه المؤلف إلى عنصر العدم المؤثر، وهو الصمت، ويقوم بتفكيكه على غرار تفكيك تعريف البلاغة: «مطابقة الكلام لمقتضى الحال»، فالحال هنا قد تكون حال القائل أو السامع، ومن هنا يقرأ عمار صمت الحاكم والمعارضة والمحكومين، ولأن هذا الفصل فريدٌ فى مجاله فقد عرف الصمت لغة واصطلاحًا فى مختلف العلوم والعصور، ثم عرَّج على صمت الأديان، وانتقل إلى الصمت السياسى، ثم إلى الصوم السياسى المخيف الذى لا يفهمه المستبدون، ويقدر أهميته السياسيون المهرة، وكأن المؤلف يضىء اللون الأحمر قبل فوات الأوان، كما فعل الشاعر: «أرى تحت الرماد وميض نارٍ.. ويوشك أن يكون لها ضرام»، وبعد ذلك يقدم فى خاتمة الكتاب ما توصل إليه من نتائج.
ويضيف عمار بطريقة مجازية مسردًا لأهم المجازات، مقاومة لضياعها، وبيانًا لدلالاتها، ومنبهًا إلى ضرورة وجود معجم لهذه الاستخدامات، وأرى ضرورة أن يكون هذا المعجم إلكترونيًّا تفاعليًّا يقوم به مجمع لغوى وليته يكون المصرى.
بعد هذه الرحلة مع كتاب عمار علينا أن نتساءل: لماذا قام الكاتب بهذا الجهد؟ ولماذا طاف بين آلاف الصفحات مختلفة اللغات والأفكار والعلوم؟.. يبدو لى أن إخلاص الكاتب لوطنه وعلمه هو الدافع، فهو لا يصدر حكم قيمة بشكل مباشر لكنه فى كل نتيجة علمية يجعلك ترى.. ماذا ترى؟ المجاز ليس كذبًا ولا خداعًا.. إنه جسر بين المبنى والمعنى، بين الرغبة والقدرة، بين الطلب والجواب، بين الحاكم والمحكومين، وعلينا أن نفهم ذلك.
جريدة المصري اليوم