فيلم «رجل وثلاثة أيام» للمخرج جود سعيد الذي يتجدد دائماً، وهو يضع نصب عينيه أهدافاً سينمائية لا يريدها سهلة ولا تقليدية ولا مألوفة ولا مكتملة، بل صعبة وتجريبية وغرائبية وناقصة، النقصان فيها، كلغة سينمائية وفكرية، هو سيناريو الهامش الأوسع الذي تتحرك فيه حياتنا نحو غاياتها، هو سينما التعبير عن ما وراء المشهد، وسر حياة أصبح ما ينقصها هو صورة الحلم.. والفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما.
سماء صافية وسنابل ذهبية
يستهل جود سعيد فيلمه «رجل وثلاثة أيام» بمشهد لبيادر قمح ذهبية حرة وشاسعة، تحت سماء صافية لا وجود فيها لدخان الحرب، في قرية نائية تتشح نساء عائلة فيها بالسواد وأب أسرة ينتظر عودة جثمان ابنه الشهيد، بكل الفخر والثقة والتسليم، كي يواري جثمانه الثرى، فهل كانت هذه البيادر والسماء التي أصبح الوصول إليها صعباً، الحلم أم الواقع أو هي على الأغلب ما بات ينقص حياتنا؟
الفيلم، سيناريو جود سعيد وسماح القتال، لا يسرد ولا يقدم أجوبة جاهزة، بل أسئلة وعلامات استفهام تنتشر في أوصال وجوده، فسينما جود سعيد تريد أن تخلق من واقع قاس ومتغير أملاً لابد منه، لهذا هي تعترف بالشك والقلق والخطأ والخطيئة في محكمة ضمير سينمائي متألم محاولة ابتكار لغة سينمائية مناسبة التعبير عن هذا الواقع، وعلى الرغم من أن «رجل وثلاثة أيام» يستلهم قصة واقعية متكررة، حيث لا يصل الجثمان إلى مثواه قبل أيام أو أسابيع أو أكثر، بسبب السماء والأرض المقطعة بالقنص والإرهاب، إلا أن تجربة الفيلم كلغة سينمائية وفكرية ذات تحولات متفاقمة وتفاصيل مشهدية متناثرة تربطها رؤية، أقرب إلى تقنية قصيدة النثر، هي التي أبدعت عملية تغيير وخلق، للقصة الواقعية، حتى الولادة من جديد.
ولا أستبق الحديث عن نهاية الفيلم إلا أن النهاية هي البداية، وتحت تلك السماء الصافية وبين بيادر القمح يصل الجثمان وتحصل الولادة المزدوجة، حيث يولد طفل الشهيد، ويولد الرجل الذي حمله إلى أرض هذه الولادة.
الموت السوري الحي
يخرج جود سعيد من الرماد والدمار في فيلم «مطر حمص» الأخاذ المشهد، إلى رحابة الأرض السورية البكر، ولكن من خلال برزخ الموت، وكأننا نستعيد هذه الحياة، فقط، من خلال التضحية أو بمعنى الموت، ويختار أهم الأفكار التي تتحكم بالشرق والعالم الإسلامي بل الإنساني وتطرح نفسها الآن بقوة للحوار، وهي العلاقة الحقيقية للموت بالحياة، ولا يناقش المعنى الغيبي أو الديني أو الأصولي المتطرف مباشرة، بل يعيش نقيضه الواقعي الراهن، وهو علاقة الأحياء في الحياة السورية بالأموات ما دام الموت أصبح جزءاً من يومياتهم.
ويختار جود سعيد الميت شهيداً، والحي رجل مسرح يعيش هواجس الخلق الإبداعي وكوابيس الأزمات المركبة التي يعيشها المثقف، خاصة، والإنسان السوري على وجه العموم، لتكون علاقة الحي بالميت أحد مظاهر هذه الحياة التي جعلت «رجل وثلاثة أيام» فيلماً يستلهم خصوصية الواقع السوري لمناقشة علاقة الموت بالحياة فيه، حيث الجنة هي أرض الوطن أولاً، وليس طريق الموت إرهاباً، وأهمية الفيلم ستكون في أسلوب طرحه وزاوية معالجته وصدقيته قبل كل شيء.
تجريبية التطور
يتسلم المخرج المسرحي مجد الذي يعيش أزمة الواقع والإبداع معاً، جثمان ابن خاله الشهيد بيرم، يقوم بدور مجد الممثل المبدع محمد الأحمد الذي أخذ على عاتقه تقديم شخصية وتطورات صعبة، لكن الميت يرافق الحي ثلاثة أيام كانت مسرح تحولات نفسية عميقة في أفكار مجد أخرجته من هواجس الشك الثقافي، وكوابيس الأزمة العامة، فقط، حين يوصل الجثمان إلى أرضه الطاهرة ويكشف أن الميت هو الذي أعاده إلى رحم الولادة الجديدة.
يناقش «رجل وثلاثة أيام» محاور فكرية متعددة وصعبة الطرح، تحتاج إلى صدقية في اللغة والمعالجة السينمائية، ما أعطى إبداع الأسلوب أولوية مضاعفة، وعكس علاقة المخرج جود سعيد بقضية الخلق الفني في واقع سوري استثنائي، حيث المخرج هو الأسلوب والأسلوب مغامرة فنية يعول على خطواتها الجريئة للذهاب إلى اكتشاف السينما والنفس والواقع.. ما يجعل «رجل وثلاثة أيام» تجربة سينمائية جديدة، والتجريبية سيدة الخلق الإبداعي لدى مخرج لا يتخلى عن تطوير أدواته ولا يتوقف في حقل فيلم سابق.
وإن كنت أتوقف عند التجريبية لدى جود سعيد فلأن الثابت والمتحول معاً في أعماله يشهدان على هذا الاختلاف الذي لا يتوقف عند حدود الفكرة ولا يستسلم لأسلوب واحد، وتفيدنا هنا المقارنة بين فيلم «مطر حمص» و««رجل وثلاثة أيام» على الرغم من كون الفيلمين يعرضان لغة سينمائية رفيعة، إلا أن هذا يعكس نوازع جود سعيد الإبداعية المتطلعة إلى تجريبية لا تهدأ قد تكون السبب في استمراريته السينمائية المتطورة في كل فيلم جديد.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنني أتوقف لدى التجريبية أيضاً لأنها المدخل الراهن لابتكار لغة إبداعية تناسب الخوض في ثقافة وطنية مصيرها التلاشي مع الرياح العاصفة إن لم تكن متجددة ومتجذرة في آن، فهواجس التجريب تناسب الخوض المضني في البحث عن جذور الأزمة وحلولها، إنها القدر والرد على من يريد اتهام الفن والفكر السوري الراهن بأنه عابر سيتلاشي مع مرور العاصفة.
رحلة إلى الجذور
يعكس فيلم «رجل وثلاثة أيام» ذلك البحث عن السيرورة والاطمئنان والثقة في عالم لا يساوم على مصير وطنه، من وجهة نظر جديدة، ولا يتوقف عند الضياع والكوابيس والفساد، بل يقوم برحلة واقعية ونفسية بالأحرى خارجية وداخلية طويلة للوصول إلى يقين.
وتشكل بداية الفيلم التي تعرض قرية سورية نائية تلقت نبأ استشهاد ابنها، أصالة الأرض التي كانت دائماً مصدر الرزق الذي جعل سورية تعيش على خيراتها الذاتية، لكن «رجل وثلاثة أيام» يجعل الوصول إليها، كواقع وحلم، رحلة طويلة وصعبة، أولاً من جهة العائلة التي انتظرت وصول جثمان ابنها من دمشق في مطار حميميم ثلاثة أيام ولم يصل لأسباب تتعلق بالإرهاب، وثانياً من جهة ابن خاله مجد فإن الظروف الواقعية والظروف النفسية جعلته أخيراً يستسلم لفكرة دفن جثمان بيرم في مقبرة نجها للشهداء، إلا أن ثلاثة أيام من المواجهة النفسية المضنية والتحولات العميقة وأخيراً الخلاقة جعلت مجد يقترب من يقين خاله –الذي جسد دوره المبدع الكبير عبد اللطيف عبد الحميد- وثقته بأنه سيعيد بيرم إلى أرضه، رحلة ثلاثة أيام من مرافقة الحي للميت هي التي قدمت المقارنة بين الجذور والعاصفة التي يعيشها السوري في أزمته الراهنة، تلك المقارنة التي ابتكرت أسلوباً يخوض في العمق، وهنا يستند جود سعيد إلى أدوات إبداعية مستفيدة من تجريد المسرح وتغريبيته، حيث يعمل مجد ولا يتوانى عن التوسع في غرائبية السينما وهو يعرض مفرزات الأزمة على الإنسان السوري.
ثلاثة أيام مسرحية بجدارة أصبح فيها الجثمان شخصية حية تحاور مجد ومواقفه، كانت ذروة الخط المتصاعد في الفيلم، والمشهدية الجمالية الأبرز التي أدت إلى انفراج طريق الرحلة إلى سلامها في النفس وعلى أرض الوطن.
لكن الفيلم لم يتوقف عند الأسلوب المسرحي فيما رحلة الذات الشخصية للمخرج مجد، بل يتابع إلى الذات العامة بأسلوب غرائبي يرتفع حتى السوريالية حيث نجد رجلاً يرمي نفسه من الطابق الرابع من أجل الحصول على فروج مشوي، والغرائبية أنه يبقى حياً، وتلك هي مأساة الفساد الذي يجعل السوري يعيش الموت حياً كل يوم، ونشاهد كذلك رواية عالية الرمز لبائع كتب جوال يحفر قبره بيده في الحديقة العامة ويطلب من صديقه مجد أن يدفنه هناك يوما ما، ويفعل وهو ينطلق في قمة هواجسه إلى ليل عاصف المعاني ليجده ميتاً، ويدفنه بينما جثمان ابن خاله لا يزال دون دفن، ولعل هذا كان أبرز التحولات في نفس مجد إلى اليقين، ولا بد من الاستفادة هنا بأداء الممثل المبدع عبد المنعم عمايري لدور البائع الذي لم يزد عن بضع دقائق ليقدم بهذا موقفاً سينمائياً كبيراً.
إن رحلة الذات الشخصية القلقة إلى الذات الوطنية الراسخة في فيلم «رجل وثلاثة أيام» جعلت الأسلوب يتوازى مع واقعه، ويدخل مغامرة جريئة تفوق في الحوار والخيال الباطني على الظاهر الخارجي، وبينما كان مجد يجري تدريباته لتقديم مسرحية تحت عنوان «نساء الحرب» كان يريد الطلاق من زوجة أحبها أصيل ولا يجد حوله سوى التخبط في الحوار مع الأصدقاء وتحديد المواقف، وكذلك بعض النساء اللواتي يعشن أزمة الحيرة والضياع، حدثت نقطة التحول الكبرى وهي مواجهة مجد لبيرم، ثم انطلاقه ليوصل الشهيد إلى قريته ما أخرجه من عتمة الكابوس إلى نور اليقين تحت السماء الصافية، حيث يشاهد هناك «نساء الحرب» فعلاً على أرض الواقع، ولن ينسى المشاهد وجه زوجة بيرم حيث لا تطغى غيوم الحزن على جمال الاعتزاز بزوجها والفخر بأنها قدمت الولادة الجديدة لطفل حمل اسم مجد الذي ولد أيضاً من جديد، وهنا يجب الإشادة بالبطولة النسائية الجماعية اللافتة لفريق كان أبرزه: ربا الحلبي، لما الحكيم، علا سعيد. ولا شك أن فيلم «رجل وثلاثة أيام» كان إضافة إبداعية بارزة للمخرج جود سعيد الذي لا يتوقف عند ما سبق، بل سيذهب أيضاً إلى أمام التجربة، هذا هو المبدع الذي لا يرتاح بعد كل فيلم، بل يحمل معاناة أصعب إلى مستويات أعلى من الكشف عن الفن والنفس والواقع وهذا هو أسلوبه الذي يعمل بالتوازي مع تجربة خلق وطني جديد.