كعادته يفتح لنا صاحب «شعرية المكان» آفاقا جديدة في التحليل الأدبي الجدلي الذي يفتح النصوص الأدبية الكبيرة على الفكر والفلسفة. ويقدم لنا من خلال مفهومه للخيال الديناميكي منهجا نقديا يثري النصوص، ويبتعد بالنقد عن تبسيطات التحليل النفسي التي تصور البعض أهميتها، ليدخل به في جدل عميق مع أسئلة الأدب والوجود.

شعرية أحلام التحليق

غاستون باشلار

ترجمة: سعيد بوخليط

 

عند قدمي، لدي أربعة أجنحة لطائر أَلْسيون، اثنان عند الكاحل، أزرقان وأخضران، تعرف كيف ترسم فوق البحر المالح رحلات وعرة (غابريل دانونزيو).

 

تعامل غالبا التحليل النفسي الكلاسيكي مع معرفة الرموز كما لو أن الأخيرة مفاهيم. بل يمكننا القول بأن رموز التحليل النفسي مفاهيم أساسية فيما يتعلق باستقصاء التحليل النفسي. يغدو الرمز مجرد أداة تحليل، ما إن يتم تأويله، وإيجاد دلالته ''اللاواعية''، ويتوقف اعتقادنا في إمكانية الحاجة لدراسته ضمن سياقه ولا أيضا عبر اختلافاته. هكذا، صار حلم التحليق بالنسبة للتحليل النفسي الكلاسيكي، من أكثر الرموز وضوحا، وأحد ''مفاهيم التفسير'' الأكثر شيوعا: إنه يرمز، مثلما يقال، للرغبات الشهوانية. فجأة، تنكشف من خلاله، أسرار بريئة: هكذا، يبدو، بمثابة مؤشر لا يخطئ قط. بما أن حلم التحليق واضح أساسا ومدهش، ومثلما يبدو اعترافه، ظاهريا بريئا جدا، لاتعطله أيّ رقابة، فسيشكل غالبا، بالنسبة لتأويل الأحلام، إحدى أولى الكلمات التي فُكِّكَت رموزها، ثم تلقي ضوءا سريعا على وضعية حالمة برمتها(1).

تمنح منهجية كهذه معنى محددا مرة وإلى الأبد لرمز خاص مما يسمح فعلا بضياع قضايا أخرى. لاسيما قضية الخيال، كما لو أن الخيال مجرد استراحة بلاجدوى لانشغال وجداني مستمر. يفتقد التحليل النفسي الكلاسيكي، من الجانبين على الأقل، إلى واجب الفضول: ل ايأخذ بعين الاعتبار الخاصية الجمالية لحلم التحليق؛ ولامجهودات العقلانية التي تتربص بهذا الحلم الجوهري وتغيّر شكله.

لنقر فعلا، مع التحليل النفسي، بأن اللذة الحالمة تشبع حاجتها خلال تحليقها بالحالم. فكيف سيتلقى هذا الانطباع الأصم، الغامض، المبهم، الصور الرشيقة للتحليق؟ كيف، سيذهب عبر رتابته الجوهرية، نحو الاكتساء بما يثير الإعجاب غاية إضفائه على الحكايات اللانهائية أسفارا ذات أجنحة ؟

ينطوي الجواب على هذين السؤالين، اللذين يبدوان خاصين جدا، على مساهمة في الآن ذاته حول جمالية الحب وكذا عقلنة الأسفار المتخيَّلة. نقف مع السؤال الأول، عند وجهة نظر جديدة بخصوص جمالية تتعلق باللَّطافة. لاتكتمل هذه الجمالية بمجرد وصف مرئي. يدرك جيدا كل برجسوني بأن المسار المنحني بلطف اقتضى انسيابه وفق حركة عذبة وحميمة. هكذا يكشف كل خط لطيف نوعا من التنويم المغناطيسي الخطي: يقود حلم يقظتنا بإعطائه استمرارية ثابتة. لكن أبعد من هذا الحدس التقليدي الخاضع، هناك دائما اندفاع يتحكم في زمام المبادرة.

يوحي الخيال الديناميكي بالبديل الأكثر جنونا، لدى متأمل الخط الرشيق: أنت، أيها الحالم، إنك تعكس قوة رشيقة، استشعرها في ذاتك. تمثَّل ذاتك باعتبارك ذخيرة طاقية، وأنك تمتلك قدرة على التحليق، هل تدرك بأنك تطوي من خلال إرادتك نفسها، أشكالا حلزونية ملفوفة، مثل ورقة فتية لنبات السرخس. أنت رشيق، مع من، بالنسبة لمن، ثم ضد من؟ هل تحليقك خلاص، أم اختطاف؟ هل تبتهج لطيبتك أو قوتك؟ مهارتك أو طبيعتك؟ خينما نحلق، فاللذة جميلة. حلم التحليق بمثابة حلم غاوٍ جذاب. يتراكم حول هذه الموضوع الحب وصوره. وسنرى من خلال دراسته، كيف ينتج الحب صورا.

يلزمنا من أجل معالجة السؤال الثاني، توجيه انتباهنا نحو السهولة التي بحسبها يتعقلن حلم التحليق. خلال مدة الحلم نفسه، يؤول ذكاء الحالم هذا التحليق بلا كلل؛ فتشرحه خطابات مستفيضة يخلقها الحالم عن ذاته. الكائن المحلق، يعلن عن نفسه من خلال حلمه، باعتباره خالقا لتحليقه. هكذا، يتشكل داخل نفسية الحالم، وعي وضاء لدى الإنسان المحلق. مثال رائع من أجل دراسة، ضمن إطار الحلم، البناء المنطقي والموضوعي لصور الحلم. حينما نلاحق حلما محددا جدا كما الشأن بالنسبة لحلم التحليق، ندرك بأن الحلم قد تكون له: "تتمة في الأفكار"، بقدر الإصرار الوجداني لشغفه العاشق. ينبغي لنا منذ الآن، وحتى قبل تقديم براهيننا، الإحساس بأن التحليل النفسي لا يخبر عن كل شيء حين تأكيده على الخاصية الشهوانية للتحليق الحالم. يحتاج هذا التحليق، مثل باقي الرموز النفسية، إلى تأويل متعدد: عاطفي، جمالي، عقلاني وموضوعي.

طبعا، تكشف بدورها التفسيرات ذات الطبيعة العضوية عن عجز أكبر بخصوص اقتفاء مختلف الآثار النفسية لحلم التحليق. ألا ينبغي الاندهاش بأن باحثا موسوعيا في مجال الفولكلور كما الشأن مع بيير سانتيفز يكتفي بتفسيرات من هذا القبيل؟ فقد ارتبط بالنسبة إليه حلم السقوط بـ"انقباضات معوية ذات أعراض قوية" اختُبِرت إبان اليقظة: ''نتدحرج على أدراج السلالم''(2). وقد كتب مع ذلك (ص100) : "طيلة فترة مراهقتي، حينما أستيقظ بين طيات حلم من هذا القبيل (تحليق رائع)، انتابني دائما إحساس بالراحة فيما يتعلق بالتنفس". راحة تقتضي تحليلا نفسيا، وينبغي الوصول من خلال ذلك إلى علم نفس مباشر للخيال. سنكون بدراستنا لحلم التحليق، أمام دليل جديد بخصوص عدم إمكانية تطوير علم نفس الخيال وفق أشكال سكونية، بل يلزمه أن يتهذب بناء على أشكال في سبيلها نحو التحول، عبر إبدائه لكثير من الاهتمام بالمبادئ الديناميكية للتحول. يعتبر علم النفس المنصب على العنصر الهوائي الأقل ''ذرِّية'' من بين المرجعيات النفسية الأربعة التي تدرس الخيال المادي. إنها أساسا تنزع نحو اتجاه. بالضرورة، تمتلك كل صورة هوائية مستقبلا، وتتعلق باتجاه نحو التحليق.

إذا كان باستطاعة حلم، تبيان الخاصية التوجيهية للنفسية، فالأمر يشير تحديدا إلى حلم التحليق. نتيجة خاصيته الجوهرية الحميمة، وليس بقدر حركته المتخيَّلة. هكذا، يخضع حلم التحليق بناء على جوهره، لجدلية الخفة والثقل. بالتالي، يحصل وفق ذلك وحده على نوعين مختلفين جدا: تحليقات خفيفة؛ وأخرى ثقيلة. تتراكم حول هذين الخاصيتين مختلف جدليات الفرح والحزن، الاندفاع والتعب، الفاعلية والسلبية، الأمل والحسرة، الخير والشر. ستجد الوقائع الأكثر شيوعا المتأتية جراء سفر التحليق مع هذه الحالة أو تلك مبادئ علائقية. ما إن يعطى اهتمام للخيال المادي والديناميكي، تكشف قواعد الجوهر المادي والصيرورة النفسية على تفوقها قياسا لقوانين الشكل: تتباين النفسية المتحمسة عن المتعبة ضمن سياق حلم التحليق يبدو ظاهريا رتيبا. سنعود إلى هذه الثنائية الجوهرية للتحليق الحالم حين دراستنا لتنوعه.

قبل بداية هذه الدراسة، لنلاحظ إمكانية أن تترك هذه التجربة الحالمة الخاصة المتمثلة في حلم التحليق، آثارا عميقة على مجرى حياة اليقظة. فبقدر قوة حضوره بين طيات حلم اليقظة، تتقاسمه القصائد بذات الزخم. قد يبدو، حلم التحليق مع التأمل الشارد اليقظ، خاضعا بالمطلق للصور المرئية. تأتي جل صور الكائنات المحلقة كي تخفي ثانية الرمزية المتماثلة التي يراعيها التحليل النفسي. سيكون، بالتالي، ظلما حين الارتياب فقط في تلك اللذة المتوارية خلف بعض التأملات الشاردة، وكذا بعض قصائد التحليق. مادام الأثر الديناميكي للخفة والثقل أكثر عمقا. بحيث يحدد الكائن بزخم أوسع من مجرد كونه رغبة عابرة.

أساسا، يظهر لنا بأن علم نفس للارتقاء التصاعدي الذي نود توضيحه، ملائما أكثر من التحليل النفسي بهدف دراسة استمرارية الحلم وحلم اليقظة. مادام كائننا الحالم واحدا، يواصل خلال نفس اليوم تجربة الليل. أيضا، يلزم علم نفس الارتقاء التصاعدي تأسيس ميتا- شعرية للتحليق تبرهن على القيمة الجمالية لحلم الطيران. بالتأكيد، يستنسخ غالبا الشعراء بعضهم بعضا. هكذا تُستثمر ترسانة من المجازات الجاهزة كي تضع – غالبا عشوائيا- أجنحة في كل مكان. لكننا سنرى تحديدا بأن منهجيتنا، من جانب إحالتها نسقيا على التجربة الليلية، تعتبر الأكثر يقينا من أجل تمييز صورة عميقة عن أخرى سطحية، وكذا الصورة التي تبث حقا فوائدها الديناميكية. أخيرا، أشير إلى إحدى صعوبات مهمتي: أقصد قلة الوثائق المتعلقة بتجربة التحليق الحالمة. مع أنه، حلم متواتر جدا، مشترك جدا، وتقريبا جد واضح.

أكد هربرت سبنسر بأنه: ''ضمن جماعة تتكون من اثنتي عشرة شخصا، فقد أكد ثلاثة بأنه اختبروا خلال حياتهم تجربة تخيل تحليقهم حين نزولهم سلالم درج، حقيقة تجربة واضحة جدا ومثيرة للغاية بحيث تطلعوا صوب الرغبة في استئنافها ثانية خلال فترات اليقظة. هكذا لازالت إحدى تلك الشخصيات تكابد تبعات إصابات ناجمة عن سعيهم ذلك''(3). تكمن هنا بالفعل واقعة عامة جدا. يخلف حلم التحليق ذكرى قابلية التحليق بكثير من السهولة تجعلنا نتفاجأ لكوننا لم نحلق طيلة اليوم. وقد عبر بريا سافاران بشكل لالبس فيه عن الإيمان بحقيقة التحليق: "حلمتُ ذات ليلة أني اكتشفتُ سر التحرر من قواعد الثقل، فأضحى جسدي غير مكترث بصعوده أو نزوله، بوسعي المبادرة إلى الحركة الأولى أو الثانية بذات السهولة وتبعا لإرادتي () وجدتها وضعية لذيذة؛ وربما حلم أشخاص آخرون بوضعية مماثلة؛ لكن الذي أصبح أكثر خصوصية، تذكري خلال تلك اللحظة أني أشرح لنفسي بكيفية واضحة جدا(مثلما تصورت على الأقل) الوسائل التي قادتني إلى هذه النتيجة، وبدت لي هذه الوسائل بسيطة جدا بحيث اندهشت لأني لم أصادفها مبكرا () عندما استيقظتُ، فقدت تماما هذا الجزء التفسيري، لكن النتيجة استمرت معي؛ ومنذئذ تجلت لدي استحالة عدم الاقتناع بأنه آجلا أو عاجلا سيحقق عبقري أكثر حكمة هذا الاكتشاف، ثم بغتة تحدد لدي موعد ذلك"(4).

بدوره أشار جوزيف مايستر إلى نفس القناعة: "تعتبر فئة الشباب، لاسيما المجتهدين منهم، وخاصة أكثر الذين تذوقوا سعادة النجاة من بعض المخاطر، كيانات قوية كي ترتئي خلال فترة نومها بأنها ترتفع نحو الأجواء وتتحرك بإرادة؛ أخبرني شخص صاحب عقل كبير ذات يوم بأنه عاين باستمرار خلال فترة شبابه هذه الأنواع من الأحلام مما دفعه إلى التشكيك في الجاذبية وبأنها ليست معطى طبيعيا بالنسبة للإنسان. فيما يخصني، بوسعي الإقرار لكم بأن التوهم لدي اتسم أحيانا بحضور قوي بحيث استيقظت لثواني معدودة قبل أن أهتدي فعلا إلى رشدي".

أيضا يلزم أن ندرج ضمن سياق التحليق الحالم بعض أحلام المشي المتزحلق، والصعود المتواصل. هكذا تبدو لنا حالة السرد الحالم الذي رواه دينيس ساورات : "جبل ليس وعرا ولا تغطيه صخور، غير أننا نحتناه ببطء خلال فترة طويلة منحنى طويل متصل بكيفية منتظمة جدا لاانزعاج على المستوى الجسدي : بل العكس، يشعرك المكان بمعنى للراحة والقوةعشب نادر جدا في غاية الصغر، والثلج، ثم صخر عار، لكن خاصة رياح قوية أكثر فأكثر. نسير ضد هذه الرياح ونقتفي أثر ممر ينحدر بشكل خفيف جدا، قبل المرور ناحية منحنى أكبر يتجه نحو الأعلى، نعلم تلك الجغرافية سلفا، بالتالي لايشعرنا الوضع بأي خيبة ''(5).

حذفنا بعض الإشارات التي تبدو زائدة. لكن الوحدة الديناميكية للسرد حافظت على تماسكها طيلة أربع صفحات ومكنتنا من اكتشاف البساطة والثقة الكبيرتين للتحليق الحالم. لكن في أغلب الأحيان نتغاضى عنه بين طيات السرد لأننا نعتبره مثل جانب قياسا لحلم أكثر تعقيدا؛ يوجهه باستمرار هاجس عقلاني، بحيث نعتبر هذا التحليق الحالم مجرد وسيلة من أجل بلوغ هدف. ولانتأمله حقا ك: "سفر في الذات''، "سفر مُتَخيل'' لكنه الأكثر واقعية من بين جميع الأسفار، سفر يستثمر ماهيتنا النفسية، ويطبع في العمق صيرورتها الجوهرية. أيضا، وبسبب خلل معاكس، قد تكون الوثائق النفسية حول التحليق الحالم زاخرة بسمات طارئة. يلزم إذن المحلل النفسي للحياة الديناميكية مباشرة خطوات تحليل نفسي خاص كي يجابه في الوقت نفسه المبررات الواضحة جدا وكذا الصور المفرطة في الإثارة.

سنحاول مع قراءتنا هذه، لبعض النصوص، استيعاب المنطلق الديناميكي وكذا تحديد دقيق لحياة حلم التحليق الأولية والعميقة. سنتبنى مع هذه الدراسة وجهة نظر المختص النفسي، بالبحث في التأويلات النفسية لهذه التجربة الليلية. بهذا الخصوص، كرس هافلوك إليس، في كتابه : ''عالم الأحلام''، فصلا تحت عنوان: ''الطيران في الأحلام''، وقد اهتم أساسا بالشروط الفيزيولوجية التي تنتج هذا الحلم النوعي، متحدثا عن: ''وضعنة الارتقاء وكذا الانخفاض الإيقاعي للعضلات التنفسية خلال بعض الأحلام، ربما، انقباض وتمدد عضلات القلب، نتيجة تأثير بعض أنواع الاضطهاد الفيزيائية الخفيفة والمجهولة''(6). لكن النقاش الطويل الذي خاضه لم يدرك جيدا السمة الرائعة - غالبا ناجعة من الناحية النفسية - لحلم التحليق. لم يشرح نقاشه تضاعف صور دقيقة جدا مع الخيال. لنبقى إذن ضمن نطاق المسألة النفسية للصور.

لكي نطرح البعد النفسي للتحليق الحالم، سننطلق من صفحة لصاحبها شارل نوديي. فالسؤال الذي اقترح نوديي عرضه على أكاديمية العلوم إن حدث وأصبح ربما، مثلما يقول: "مشهورا جدا، غنيا بما يكفي، أو سيدا يحظى باحترام وافر مما يمنحه إمكانية الجهر بصوته أمامها'': "لماذا الشخص الذي لم يحلم قط بأنه يسبح عبر الفضاء بواسطة أجنحة، مثل باقي الكائنات المحلقة التي تحيط به، يتخيل ذاته غالبا مرتفعا جراء قوة لينة، على طريقة المنطاد، ولماذا حلم بذلك طويلا قبل اختراع الأخير، مادامت هذه الرؤيا وردت قديما بين طيات مختلف تأويلات الأحلام، إذا لم يكن هذا التنبؤ علامة على واحدة من تطوراته العضوية؟''.

لنخلص أولا هذه الوثيقة من كل أثر للعقلنة. لذلك دعنا نتبصر عمل العقلانية، ونرى كيف يشتغل العقل على الحلم، أو بمصطلحات أخرى، مادامت، مختلف مَلَكاتنا شفافة أمام نفاذ الحلم، لنرى إذن كيف يحلم العقل. لعبت المناطيد، بداية القرن التاسع عشر، أي اللحظة التي تؤرخ لسياق ماكتبه شارل نوديي، نفس الدور التفسيري للطيران بداية القرن العشرين. بفضل المنطاد، والطائرة، توقف التحليق البشري على أن يكون عبثا. حينما تأتى لأحلام من هذا القبيل التبلور، فقد تضاعفت وسائل الطيران بل عدد أحلام التحليق الفعلي، على الأقل عدد أحلام التحليق التي رُوِيت. ينبغي الانتباه، إلى أن البناء المنطقي يتطلع غالبا نحو الاستفادة من تهيئ حالم، بحيث أن بعض المفكرين أحبوا تقديم أحلامهم قي صيغة توقعات ''معقولة''.

تظهر بهذا الخصوص، مدى أهمية دراسة شارل نوديي حول: ''التناسخ البشري والانبعاث". يكمن السبب المركزي في: مادام الكائن الإنساني، يختبر إبان حلمه الليلي الصادق، تجربة التحليق، ومادام الكائن الواعي، بعد سلسلة أبحاث طويلة موضوعية، قد تمكن من إنجاح تجربة المنطاد، ينبغي للفيلسوف العثور على وسيلة تعيد ربط الحلم الباطني بالتجربة الموضوعية. من أجل إقامة هذه العلاقة، وكذا الحلم بصلة من هذا القبيل، يتخيل شارل نوديي ''الكائن المنبعث" الذي سيواصل الإنسان، ويطوره وفق أنواع كائن تحدده خاصيات المنطاد. إن بدا لنا حاليا هذا التوقع شاذا، فلأننا لم نعش جديد المنطاد. هكذا يمثل ذلك المنطاد، غير الأنيق ''كروي"، صورة عتيقة، فاترة، ومفهوم معقلن جدا. موضوع، افتقد حاليا لأيِّ قيمة حالمة كبيرة. لكن لننتقل بتأملنا إلى زمن منطاد الهواء الساخن كي نقيِّم صفحة شارل نوديي. على الرغم من الجانب الذي وجب تخصيصه دائما إلى اللعبة الأدبية حين حديثنا عن نوديي، فلن نتهاون أبدا، بخصوص تلمس ذاك الخيال الصادق المتواري خلف الصور، خيال يلاحق بسذاجة ديناميكية صوره. إنه إذن الإنسان/ المنطاد، الإنسان/ المنبعِث: سيغدو له صدر كبير، واسع وصلب، "هيكل سفينة هوائية''، محلِّقا وقد جعل: "الخلاء وفق مشيئته من خلال كتلته الرئوية الضخمة، ثم يضرب الأرض بقدمه، كما أن غريزة جهازه العضوي المتصاعدة ترشده نحو الإنسان خلال أحلامه''.

إن عقلنة تبدو لنا مفتعلة بكيفية فظَّة، بالتالي، مختصة جدا كي تظهر لنا ارتباط التجربة الحُلُميّة بالواقعية. يعقلن الإنسان إبان الحياة اليقِظة أحلامه وفق مفاهيم الحياة الاعتيادية. يتذكر بإبهام صور الحلم، بل يغيّر شكلها حينما يعبر عنها بلغة تلك الحياة. بحيث لا يدرك، بأن الحلم ضمن صيغته الخالصة، يهتدي بنا مطلقا نحو الخيال المادي وكذا الديناميكي، في المقابل، يفصلنا، عن الخيال الصوري. يمثل أساسا الحلم الأكثر عمقا ظاهرة للسكينة البَصَرية وكذا الشفهية.

يتجلى نوعان كبيران من الأرَقِ: الأرق البصري والشفوي. يحظى النوم برعاية مشتركة بين الليل والصمت؛ فلكي تنام يلزمكَ بالمطلق عدم التحدث أو المشاهدة. ينبغي الاستكانة إلى الحياة الأولية، بمعنى خيال العنصر الخاص بنا. تتخلص هذه الحياة من مقايضة الانطباعات التصويرية المتمثلة في اللغة. بالتأكيد، الصمت والليل مطلقان، لم يكشفا لنا عن كمالهما، حتى في غضون نوم عميق جدا. يلزمنا على الأقل، الإحساس بأن الحياة الحُلُميّة تعتبر بالأحرى أكثر صفاء بحيث تحررنا بامتياز من اضطهاد الأشكال، وتعيدنا إلى جوهر وكذا حياة العنصر الخاص بنا. في خضم هذه الشروط، تجازف كل إضافة لشكل معين، مهما بدا ذلك طبيعيا جدا، بإخفاء حقيقة حُلُميّة، وكذا الانحراف بعمق الحياة الحُلُميّة. هكذا، وأمام حقيقة من هذا القبيل على قدر من الوضوح كما الشأن مع حلم التحليق، يلزم حسب اعتقادنا، كي نخترق ماهيته، تجنب حمولة الصور المرئية ثم الاقتراب إلى أقصى حد من التجربة الضرورية.

إذا كنّا على صواب فيما يتعلق بموضوع الدور التراتبي للخيال المادي قياسا للصوري، يمكننا صياغة التناقض التالي: بخصوص التجربة الديناميكية العميقة للتحليق الحُلُمِي، يمثل الجناح فعلا عقلانية. تحديدا وفيما يتعلق بأصله، قبل انصرافه وجهة عقلانيات خيالية، أشار شارل نوديي Nodier، إلى هذه الحقيقة الكبرى المتمثلة في أن التحليق الحُلُمِي لم يكن قط تحليقا ذا جَنَاح. من ثمة ينبغي بحسبنا، حينما يظهر الجناح مع سرد حول حلم التحليق، الاشتباه في عقلنة لهذا السرد. يمكننا التيقن تقريبا على أنه سرد تلوَّث، سواء نتيجة صور الفكر اليقظ، أو جراء إيحاءات مصدرها الكتب.

طبيعة الجناح في مجملها لاتقدم شيئا للقضية. لا تمنع طبيعية الجناح الموضوعي، أن لا يكون الجناح عنصرا طبيعيا للتحليق الحُلُمِي. إجمالا، يمثل الجناح بالنسبة للأخير، عقلانية سَلَفية. شكَّلت فيما مضى صورة إيكاروس. بمعنى ثان، تلعب هذه الصورة، بالنسبة لشعرية القدامى، نفس الدور الذي يلعبه المنطاد ''الهيكل الهوائي" بين طيات الشعرية العابرة لشارل نوديي، أو الطائرة فيما يتعلق بشعرية غابرييل دانونزيو. لايعرف الشعراء دائما سبيلا كي يظلوا أوفياء إلى أصل إلهامهم ذاته. يتخلون عن الحياة العميقة والبسيطة. يترجمون، الفعل الأصلي، دون قراءته جيدا. مادام الإنسان القديم افتقد إلى حقيقة عقلانية للغاية، بغية ترجمته التحليق الحُلُمِي، بمعنى حقيقة أرساها العقل مثل منطاد أو الطائرة، قوة تمده بإمكانية الالتجاء إلى حقيقة طبيعية. هكذا، بلور صورة الإنسان المحلِّق على نمط الطائر. نطرح إذن كمبدأ، لانحلِّق في عالم الحلم نتيجة امتلاكنا أجنحة، بل نعتقد امتلاكنا لأجنحة، لأننا حلَّقنا. فالأجنحة بمثابة نتائج. مبدأ التحليق الحُلُمِي أكثر عمقا. يجدر بالخيال الهوائي الديناميكي إبرازه ثانية. وقد رفضنا الامتثال لأيِّ عقلانية، نعود إلى التجربة الأساسية للتحليق الحُلُمِي ثم ندرسها ضمن سرديات محض ديناميكية إلى أقصى حد.

سنتناول من خلال صفحات نفس كتاب شارل نوديي وثيقة خالصة جدا استحضرناها سابقا في دراستنا حول خيال الماء(7). سنلاحظ بأنه انطباع واضح جدا يحثَ الحالم كي يختبر التجربة حين يقظته: "حكى لي أحد الفلاسفة الأكثر حذقا وعمقا خلال عصرنا بكونه حلم طيلة ليالي عديدة خلال فترة شبابه(8)، بأنه اكتسب الخاصية الرائعة المتمثلة في قدرته على البقاء متماسكا ومتحركا في الهواء، ولا يمكنه أبدا التخلص من هذا الإحساس دون تكراره للمحاولة عند عبوره جدولا أو حفرة''، أيضا يخبرنا: "هافيلوك إليس (عالَم الأحلام، ص165) بأن رفائيل، الرسام الفرنسي النابغة، شكَّل موضوعا للحلم، فقد شعر كأنه يسبح في الهواء، ويعترف بأنه انطباع مقنع جدا، بحيث انتابه خلال اليقظة، القفز نحو أسفل سريره، متوخيا بالتالي اختبار التجربة''. إنها إذن إحدى النماذج الواضحة جدا، بخصوص اعتقاد تجلى إبان الحياة الليلية، بين طيات حياة الحلم اللاواعية المتجانسة بكيفية مدهشة، يتطلع صوب تأكيدات خلال واضحة النهار. بالنسبة لبعض النفوس، المنتشية بالحُلُمِية، فقد تجلت الأيام بهدف تفسير الليالي.

بوسع تجارب ذوات من هذا القبيل، أن تطرح أمامنا علم نفس الخيال الديناميكي. لذلك نقترح، قصد إرساء علم نفس للخيال، الانطلاق منهجيا من الحلم ثم نكتشف، قبل أشكال الصور، عنصرها وحركتها الحقيقيتين. لذلك نلتمس من قارئنا بذل مجهود كي يرصد ثانية بين طيات تجاربه الليلية عن التحليق الحُلمي وفق مظهره الديناميكي الصرف. سيكتشف حين امتلاكه هذه التجربة، بأن مصدر الانطباع الحُلُمي المهيمن خفَّة جوهرية حقيقية، تتعلق بمجمل الكائن، خفَّة في ذاتها لايعرف الحالم سببها. تثير غالبا دهشة الحالم كما لو أنها جسّدت عطاء مباغتا. تتعبأ خفَّة الكائن مطلقا وفق اندفاع خفيف، سهل، وبسيط: ضربة كَعْب طفيفة على الأرض تثير لدينا الانطباع بحركة محرِّرة. يبدو أن هذه الحركة الجزئية تبعث فينا قوة على الحركة ظلت متوارية إلى أن استلهمناها من الرؤى. يمدنا التحليق الحُلُمِي، مباشرة بعد عودتنا إلى الأرض، باندفاع جديد نستعيد معه حريتنا الهوائية. لايساورنا بهذا الخصوص أيّ قلق. نشعر بذلك جيدا، تسكننا قوة اكتشافنا السر الذي أطلق عنانها. ليست العودة إلى الأرض سقوطا، ما دمنا على يقين بمسألة الليونة. معرفة يمتلكها كل حالم بالتحليق الحُلُمِي. أيضا، ذلك الإحساس الصرف بقفزة لاتتوخى بلوغ قصد أو هدف.

حين عودته إلى الأرض، يتبيّن ثانية الحالِم أو آنتي الجديد Antée، طاقة سهلة، مؤكَّدة، وساحرة. غير أنها لا تستمد حقا من الأرض وثوبها. إذا عملنا غالبا على تأويل أسطورة آنتي باعتبارها أسطورة للأرض الأمومية، فلأن خيال العنصر الأرضي يتسم بكونه قويا وعاما. في المقابل، يعتبر غالبا خيال العنصر الهوائي ضعيفا ومتقنِّعا. ينبغي إذن على المختص النفسي في الخيال المادي والديناميكي، أن يبرز حقا السمات الأسطورية المستمرة في أحلامنا. يبدو، بأن التحليق يقدم لنا دليلا على أن أسطورة آنتي، تعكس بالأحرى أسطورة نوم بدل كونها أسطورة للحياة. تكفي فقط خلال النوم، ضربة قدم كي نستعيد طبيعتنا الأثيرية، وكذا حياتنا المتدفقة. حركة تمثل فعلا مثلما يقول شارل نوديي، أثرا لـ''غريزة'' ترنو نحو التحليق تبقى أو تحيا إبان حياتنا الليلية. نقول عن طيب خاطر بأنها أثر لغريزة الخِفة باعتبارها إحدى غرائز الحياة الأكثر عمقا. تتوخى الدراسة الحالية البحث عبر صفحات، عن ظواهر غريزة الخِفة. يمثل التحليق الحُلُمِي، حسب اعتقادنا، عند أقصى مستويات بساطته، حلما للحياة الغريزية. معطى يفسر سبب تميزه إلى حد ما.

أين يمكننا زرع الأجنحة، حين توخينا تبعا لهذه الشروط، وضمن نطاق الممكن، عقلنة ذكرياتنا الليلية عن السفر الهوائي؟ فلا شيء يسمح لنا إبان تجربتنا الليلية الحميمة كي ننبت أجنحة على أكتافنا. لا يمكن لحالم أن يختبر حلم الأجنحة الخفَّاقة، سوى في خضم حالة تلوث خاصة للخيال. غالبا ما يشكل حلم الأجنحة الخفَّاقة حلما للسقوط. نقاوم الشعور بالدوخة بتحريك السواعد، وقد تبعث هذه الديناميكية أجنحة على الكتف. لكن التحليق الحُلُمِي الطبيعي، الايجابي كما الشأن بالنسبة إلينا ليلا، ليس بتحليق إيقاعي، بل يجسد استمرارية وكذا تاريخ اندفاع، إنه الإبداع السريع للحظة ديناميكية. منذئذ، فالعقلانية الوحيدة، بناء على صورة الأجنحة، والتي بوسعها الاتفاق مع التجربة الديناميكية الأولية، كما تتجلى مع جناح الكَعْب، وكذا جنيحات الزئبق، ثم المسافر الليلي. من ناحية أخرى، ليست جنيحات الزئبق شيئا ثانيا، سوى تجليا لكعب ديناميكي.

لن نتردد قط في جعل هذه الأجنحة الصغيرة – متموقعة ديناميكيا جيدا قصد الترميز عن الحلم الهوائي وبَصَريا دون دلالة واقعية - علامة على صدق الحالم. حينما يدرك شاعر، بواسطة صوره، كيفية الإيحاء بهذه الأجنحة الصغيرة، بوسعنا حينئذ التوفر على ضمانة معينة بأن قصيدته مرتبطة بصورة يعيشها ديناميكيا. إذن ليس نادرا أن نكتشف مع تلك الصور الشعرية زخما معيَّنا لاينتمي قط إلى صور احتشدت نتيجة نزوة. لقد وُهِبت بأكبر الحقائق الشعرية : الحقيقة الحُلُمِية. إنها تثير أحلام يقظة طبيعية. لاشيء يثير الاستغراب بخصوص ماتضمنته الأساطير والحكايات، في كل البيئات، عن أجنحة الكَعْب.

أشار جولز دويم، في أطروحته حول تاريخ التحليق، إلى أنه في منطقة التبت: "يحلق رهبان بوذيون نحو الأعالي بفضل بعض الأحذية المسماة أقداما خفيفة''، ثم يحيل على حكاية الحذاء المحلِّق، المتداولة جدا بين صفحات نصوص الآداب الشعبية الأوروبية والآسيوية. لايوجد أصل آخر(9) لأحذية الأمكنة السبعة (أو أحذية ألف مكان في اللغة الانجليزية). تُطرح المقاربة فطريا من طرف رجل الآداب. كتب فلوبير في عمله: ''رغبة القديس أنطوان في نسختها الأولى ''مايلي: "ها هو الزئبق يا إلهي بقبعته الرِّجالية تحسبا للمطر وكذا أحذية السفر''. لنلاحظ بالمناسبة إلى أيّ حد أضعفت هنا نبرة الهزل حُلُمية الصورة، حُلُمية تجلت أكثر عبر فقرات أخرى من كتاب ''الرغبة''. تكمن عند قدمي الإنسان الحالم قواه المحلِّقة. عموما، وبكيفية مختصرة نسمح لأنفسنا في أبحاثنا عن الميتا-شعرية، كي نحدد هاته الأجنحة في الحذاء باسم أجنحة حُلُمية.

يبدو بأن تلك الخاصية الحُلُمية جدا لأجنحة الحذاء، تتخلص من علوم الآثار القديمة. بناء عليه، استنتج سريعا سالومون رايناخ عنصرا للعقلانية: "تستعيد دائما العقلانية الهيلينية حقوقهاهيرمس رغم كونه إلها : قبل الانطلاق في تحليقه صوب الأجواء، يعمل أولا على ربط كعبيه بأجنحة، يقول فيرجيل''(10). تأويل فيرجيل لا يحل محل علوم الآثار الحُلُمية التي تدرك الشعور الجوهري بالخِفَّة. بالتأكيد، مثل باقي الصور، يمكن أن تضاف الأجنحة الحُلُمية بكيفية مصطنعة، باعتبارها مجرد طلاء، إلى سرد الأحلام المتنوعة جدا. يمكنها ضمن الأعمال الشعرية، التجلي نتيجة نسخة صورة مستقاة من الكتب؛ وقد تكون استعارة بلا جدوى، فقط عادة بلاغية. إذن، بما أنها خاملة، وغير مجدية، فلايمكن لمختص نفساني يرغب في تأمل معطيات الخيال الديناميكي أن يخطئ هذا الأمر. سيدرك باستمرار مثلما ينبغي الكَعْب الديناميكي، في إطار أشكال لا واعية، تنساب خلسة بفضل لاوعي صادق، ومخلص للحُلُمية: هكذا في الفردوس المفقود (ترجمة شاتوبريان)، تحدث جون ميلتون عن مَلاَك من السماء بستِّ أجنحة: "يغطي الزوج الأخير أقدامه، وقد ربط كواعبه بريش مُبَقَّع، لون السماء". يبدو بأن الأجنحة الكبيرة، لاتكفي من أجل التحليق المتخيَّل، بل ينبغي أيضا توفر مَلاَك السماء على أجنحة حالمة. مقابل ذلك، يسمح لنا بحثنا في موضوع الأجنحة الحُلُمية كي ننتقد براءة بعض الوثائق. لنطرح فورا مثالا عن نقد انصب على سرد توارت خلاله الأجنحة الحُلُمية.

من بين ''الأحلام المنتقاة'' لجان بول التي تماثل فعلا، مثلما أشار ألبير بيغان "الأحلام الشعرية''، تتبدى أحلام للتحليق. جان بول، متمرِّنا على إنتاج وتوجيه أحلامه، يشكل أحلام التحليق بالنوم مرة أخرى صباحا. بالتالي، ليست بأحلام منتصف الليل. لقد وصفها بالمصطلحات التالية: "إذن تارة محلِّقا وتارة أخرى صاعدا وفق خط مستقيم، بحيث تضرب السواعد الهواء مثل المجاذيف، يعكس هذا الطيران بالنسبة للدماغ مَغْطسا أثيريا، شهوانيا ومريحا، اللهم في غضون ذلك قد يجعلني دوران سريع جدا لسواعد حلمي تجريب ترَنُّح معين وكذا الخوف من احتقان دماغي. سعيد فعليا، منتشيا بجسدي وفكري، فقد حدث معي الارتفاع بكيفية عمودية نحو السماء المرصَّعة بالنجوم، وأنا ألقي التحية على صرح الكون". "بين طيات يقين حلمي، أتسلق بمطلق قوتي، نتيجة خِفَّة جناح، أسوارا عالية مثل السماء، كي أتملى من الجانب الآخر منظرا فسيحا وهائلا، ظهر بكيفية مباغتة؛ لأنه (أخاطب نفسي إذن)، يلزم الخيال حسب قوانين الفكر ورغبات الحلم، أن يكتشف ثانية جبال ومراعي مختلف فضاء المحيط، ويقوم بذلك خلال كل مرة. أتسلق قمما، كي أندفع نحوها بسعادة".

"في خضم هذه الأحلام المنتقاة، أو نصف/ أحلام، يتجه تفكيري دائما صوب نظريتي عن الحلم. فقد بحثت هناك دائما، إلى جانب المناظر الجميلة (لكن محلِّقا دون توقف، كخاصية مؤكَّدة لحلم انتقائي) عن أشكال رائعة، بهدف معانقتها لسوء الحظ يستمر تحليقي طويلا للبحث عنها. ويحدث لي مخاطبة تلك الأشكال المتجلِّية: "سأستيقظ، ثم تتلاشون''؛ كذلك سأجلس ذات يوم أمام مِرآة، وسأقول مفزوعا: أتوخى معرفة كيف أنا بعينين مغمضتين"(11). ليس بالأمر العسير إثبات حمولة هذا النص الزائدة: ضمن نفس الخط، يتجاهل تآلف بين الأيادي الخفَّاقة وكذا المجاديف، وحدة حلم التحليق الديناميكية. بوسعنا، في إطار حلم أن نضمّ صيغتين، ولا يمكننا الجمع بين قوتين؛ يتكامل الخيال الديناميكي بكيفية مدهشة؛ بالتأكيد لا نخشى قط مع نفس التجربة الليلية "انسدادا دماغيا'' ونحن نعلم بأنها تشكل "لهذا الدماغ حوض استحمام أثيري حقيقي، مثير ومريح". فضلا عن ذلك، لامكان لـ''الدماغ'' بالنسبة للحالم.

من جهة أخرى، تعتبر الغائية المرتبطة بالحلم بناء يوضع لحساب سرد الحلم. لانحلِّق في الحلم، قصد الرحيل صوب السماوات، بل نصعد إليها لأننا نحلق. أخيرا، الوقائع عديدة جدا، ووسائل التحليق الواردة متنوعة للغاية. لقد طمس الوزن الزائد الأجنحة الحُلُمِية. سنقدم مثالا مغايرا يتضمن فقط الأجنحة الحُلُمِية. مثال نستعيره من الحلم الحادي عشر لماريا ريلكه(12)، وثيقة نقية جدا بناء على وجهة نظر الخيال الديناميكي مادام أن مجموع السرد تبلور بالانطلاق من انطباع ديناميكي للخِفَّة: "ثم لاحت طريق. ننزل نحوها معا، بنفس إيقاع ذات الخطى، خطوة تحذو حذو الثانية. تعانق ذراعها كتفي. كان الشارع فسيحا، وفارغا فترة الصباح؛ ينحدر، ثم ينعطف، تحديدا كي ينزع عن خطوة طفل شيئا من ثقلها. ثم يغدو ماشيا كما لو امتلك تحت قدميه أجنحة صغيرة. أتذكر إنها ذكرى، ذات عذوبة! وفق أشكال ساكنة حيث يكمن، يقين بالسعادة، جدّ أبديّ. ألا تمثل، ذكرى هائلة وبغير تاريخ عن الحالة الهوائية، حيث لا شيء يضغط، ثم المادة الكامنة فينا خفيفة على نحو فطري؟ كل شيء يتسامى بنا، ثم نرتفع معه، حتى إبان انحدارنا: "كي تتخلص خطوة طفل كفاية من ثِقلها".

أليست فتوة الخفة هاته سمة عن القوة المؤتَمنة التي تمدنا بإمكانية مغادرة الأرض، وتمنحنا اعتقادا مفاده أننا نصعد طبيعيا مع الهواء وريح وجهة السماء، يجرفنا مباشرة إحساس بسعادة تفوق الوصف. إذا وجدتَ، بين طيات أحلامكَ الديناميكية، حدا أدنى من الانحدار، وتبيَّن لك سبيل طريق ينحدر قليلا، تلاحظ أمره الأنظار، لحظتها ستنبت عند قدميكَ أجنحة صغيرة؛ ويميز كعبكَ قوة محلِّقة، رشيقة، ناعمة، فيتغير بكيفية سريعة وفق حركة بسيطة الهبوط إلى الصعود، ثم السير بالتحليق. هكذا، تختبرُ تجربة: ''أول أطروحة عن الجمالية النيتشوية'' "كل ماهو جيد يعتبر خفيفا، ويركض كل إلهي على إيقاع أقدام ناعمة''(13).

حينما نعبر بالحلم المنحدرات الجميلة ندرك حقا بأن الأحلام تساعد على راحتنا. من أجل مداواة فؤاد مُتْعب، تقترح وصفة طبية علاجا بواسطة التضاريس الأرضية: لقد حددت مجال لائحة متدرجة حول نزهات صحية يجدر بها أن يستعيد معها نظام دورة دموية مضطربة تناغمه. اللاوعي، في تجربته الليلية، وقد صار أخيرا سيِّدا على وحدتنا، يرشدنا بدوره، تبعا لنوع من العلاج بفضل حقول متخيَّلة. فؤادنا، المنهك بمتاعب اليومي، يتعافى ليلا نتيجة حلاوة وعذوبة التحليق الحُلُمي. عندما يُضاف إيقاع خفيف لهذا التحليق، يهدأ إيقاع فؤادنا نفسه. بالتالي، ألا يشعرنا هذا الفؤاد بسعادة التحليق.

نقرأ هذا المقطع، ضمن الأشعار التي كتبها ريلكه إلى السيدة لو ألبير-لازار:

يعبر الإله، قلوبنا التي نبقيها مفتوحة، بأجنحة عند قدميه.

هل تلزم الإشارة بأنه لايمكننا أن نتمثل حقا مقطعا شعريا من هذا القبيل دون المشاركة الهوائية التي نقترحها. أجنحة الزئبق بمثابة أجنحة للتحليق الإنساني. تميزها حميمة عميقة جدا، بوسعنا القول بصددها أنها توطد لدينا خلال ذات الآن التحليق والسماء. يبدو بأننا داخل فضاء محلِّق، أو يتحقق الكون المحلِّق في إطار حميمة كائننا. سنشعر بهذا التحليق المدهش إذا تأملنا القصيدة المأخوذة من مختارات ترجمتها السيدة لو-ألبير لازار:

أتملى، وأنا أعلم بوجودها

إنها، لم تتعلم قط، ذاك السير المشترك من طرف البشر.

بل الارتقاء صوب السماوات

فجأة تتفتح بدايتها

التحليق

لاتسألْ قط

كم من الوقت يستمر إحساسها؛ وكم من الوقت سنعيشها مرة أخرى. إنها سماوات لا مرئية لا يمكن وصفها. سماوات فوق المشهد الداخلي.

مهما كانت الوقائع الحلُمِية قليلة جدا، بالنسبة لروح صادقة كما الشأن مع ريلكه، ، فإنها تمسك بحياة جوهرنا؛ وقد اندرجت ضمن الماضي الديناميكي الطويل لكائننا. ألا تكمن وظيفة التحليق الحُلُمي في تعليمنا كيفية هزم خوفنا من السقوط؟ ألا تنطوي تلك السعادة، على دلالة بخصوص أولى انتصاراتنا ضد هذا الخوف المبدئي؟ أيضا ما الدور الذي لم يكن بوسعه القيام به حيال مواساة- فقيرة ونادرة- روح ريلكه! روح مرهفة الحس نحو سقوط يغدو مدويّا جدا لدبوس فوق أرضية البيت، ثم خشخشة مرعبة لتساقط أوراق الشجر حسب إيقاع السمفونية الحتمية لسقوط كل شيء، مع مفاجأة لطيفة كونه لم يستوعب ضمن أحلامه، كائنات امتلكت أجنحة صغيرة عند أقدامها؟ عندما نتمثَّل حقا إبان أحلامنا العلاقة المتكررة للسقوط خلال التحليق، ندرك كيف أن خوفا قد يصبح سعادة. هنا تكمن حقا نقلة لدى ريلكه. خلاصة، تتأكد بوضوح مع مضمون حلم في غاية العذوبة، كما الشأن مع الحلم الحادي عشر: ''ألا تعلم بأن السعادة في حقيقتها بمثابة رعب لايفزعنا خلاله أيّ شيء؟ نطوي رعبا من البداية إلى النهاية، وهذا تحديدا ما يُنعت بالسعادة. رعب لانعرف فقط أصله. رعب نثق فيه".

إذن، يعكس التحليق الحُلُمي سقوطا بطيئا، لكننا ننهض بيسر ودون تحسر. إنه تآلف بين السقوط والصعود. وحدها روح تمتلك تركيبا مطلقا كما الشأن مع روح ريلكه تعرِف كيفية مراعاة بين طيات السعادة نفسها على رعب يهزمه الفرح. أرواح أكثر انقساما وانفكاكا، ليس لها سوى الذكرى بهدف تجميعها المتناقضات، ثم تعيش الواحدة خلف الثانية، أحدهما علّة للثانية، الحزن والسعادة. هكذا ندين أصلا بالفضل إلى نور كبير مبعثه الحلم يظهر لنا بأن الرعب قد ينتج السعادة. إن شكَّل الفزع من السقوط أولى مخاوفنا، مثلما سنذكر ذلك فيما بعد؛ وجسَّدت مسؤولية أفقنا العمودي إحدى أكبر المسؤوليات الإنسانية- فيزيائيا ومعنويا- فكم يلزم الحلم الذي ينهض بنا، يضفي ديناميكية على استقامتنا، يمطِّط قوس جسدنا من القدمين غاية العنق، يخلِّصنا من ثِقلنا، ويعطينا تجربتنا الهوائية الأولى والوحيدة، أقول كيف لهذا الحلم أن يكون مفيدا، مريحا، رائعا، مؤثرا! ما الذكرى التي يلزمه أن يخلِّفها لدى روح تعرف كيفية ربط حياتها الليلية مع التأمل الشارد الشعري خلال النهار!

يكرر المحللون النفسانيون بأن حلم التحليق يرمز للذة، نتعقبه، مثلما يقول جان بول: ''بهدف معانقة أشكال جميلة''. إذا اقتضى الأمر أن نحب قصد انتشال ذواتنا من الأحزان التي تخنقنا، نعم بوسع حلم التحليق خلال الليل التخفيف من وطأة حب شقي، ويمكنه التعويض عن عشق مستحيل بسعادة ليلية. لكن لحلم التحليق وظائف غير مباشرة بشكل أقل: إنه حقيقة مرتبطة بالليل، معطى ليلي مستقل. حينما نتأمل انطلاقا من واقعية الليل، عشقا نهاريا يشفي غليله التحليق الحُلُمي، فسيتحدد كحالة خاصة للارتفاع نحو الأعالي. بالنسبة لبعض الذوات التي تعيش حياة ليلية قوية، فمعنى الحب لديها يعني أن تحلِّق؛ فالارتفاع الحُلُمي حقيقة نفسية أكثر عمقا، وجوهرية، وبساطة من الحب نفسه. تبدو الحاجة لأن تكون خفيفا، متحرِّرا، ثم تستلهم من الليل حريته الهائلة، مثل قَدَر نفسي، وكذا وظيفة للحياة الليلية العادية، الليل المريح.

لذلك، يلزم أن تحظى التجربة الليلية بخصوص التحليق الحُلُمي، باهتمام من طرف المختصين البيداغوجيين في النوم. لكن هل يتجه تفكيرهم فقط نحو تعليمنا كيفية أن ننام جيدا، وهل تجاوزت في هذا الإطار بعض ملاحظات ألدوس هاكسلي حول تعليم النائم (الهيبنوبيديا) مجرد نزوع حدوس خيالية لكاتب أنكلو- ساكسوني(14). حسب تجربتنا الشخصية، كي ننام جيدا، ينبغي العثور من جديد على العنصر الأساسي المميز للاوعي. أكثر تحديدا، أن ننام بين أحضان العنصر الخاص بكل واحد منا. أفضل أنواع النوم تلك المهدهِدَة ثم التي تمضي بكَ، بحيث يدرك الخيال جيدا أن مصدر الحالتين معا، شيء وليس شخص. نمثّل أثناء النوم، حضور العناصر الكونية؛ بحيث يهدهِدنا الماء، ويحملنا الهواء غاية الأجواء، لحظتها نتنفَّس، بانسجام مع إيقاع نَفَسِنا. نوم نستعيد معه لحظة الطفولة، أو على الأقل النوم الهادئ خلال فترة الشباب، وقد تلقت الحياة الليلية غالبا جدا دعوة وجهة سفر لانهائي.

كتب سيرانو دو بيرجِراك في مقدمة مؤَلَّفِه: ''التاريخ الكوني لأمم وإمبراطوريات الشمس، الإشارة التالية: "إبان أجمل حقبة عمري، أشعر وأنا نائم، بكوني غدوت خفيفا، فأرتفع صوب السحب''. على أساس اكتشافاته سيضع تحديدا تجربة نفسية إيجابية، لأنه ليس في متناولنا سوى الاستحضار الايجابي للتحليق الحُلُمي خلال فترة شبابنا المهووسة؟ أضحت مطروحة آليات المسافر نحو إمبراطوريات الشمس والقمر، عندما درس سيرانو الميكانيكا الديكارتية. مادامت تقدم بدورها ميكانيكا تغلِّف الكائن الحي. لذلك، انطوت كتابات سيرانو على تسلية دون تأثير. فقد سادها ماهو نَزَوِيّ، وبالتالي أضاعت سريعا جدا، جانبا كبيرا من الخيال.

يجدر إذن، بالممارسة الحقيقة لتعليم النائم (الهيبنوبيديا)، مساعدتنا كي نبرز للعلن قوة التحليق الحًلًمِي. ربما الحدوس الجوهرية، بل وبتعبير أكثر فظاظة الحدوس العنصرية المرتبطة بالعنصر، ستقدم لنا ضمن هذا المسار صورا مادية أكثر قوة من الصور حيث تتوافق الأجنحة، العَجَلات، وكذا الرافعات. من الذي لم يشرُد بذهنه طويلا حينما يتملى سماء صيفية فيلاحظ تحليقا مجنَّحا لأعشاب الطرخشقون وكذا القصوان؟ في هذا السياق روى جولز دوهيم، بأنه في بلد البيرو، وبهدف التحليق، يتم الالتجاء إلى تناول: ''حبَّة خفيفة تطفو حين هبوب الرياح''. أيضا، حكى جوزيف مايستر في كتاب (أمسيات سانت بطرسبرغ، طبعة 1836، ص238)، بأن: "الرهبان المصريين يتوقفون عن تناول الطعام خلال فترة تطهيرهم الشرعية، إلا لحوم الدواجن، مادامت الطيور تميزت بكونها أكثر خِفَّة مقارنة مع جل الحيوانات''. لقد تصور عالم طبيعيات عربي (وردت الإشارة عند بوفيتو، مكتبة أيرونوتيكا، إيطاليا) الطائر مثل حيوان خاليا من الدهون: ''لقد خفَّف الله وزن أجسامهم بتخليصها من عدة مكونات كالأسنان، الآذان، البطن، المثانة، فقريات الظهر''.

إذن، نحتاج أساسا من أجل التحليق، إلى جوهر محلِّق أكثر من الأجنحة، وكذا تغذية مجنَّحة. ابتلاع مادة خفيفة أو ندرك ماهية خِفَّة، نفس الحلم الذي يتم التعبير عنه تارة من طرف مادي وكذا مثالي. علاوة على ذلك من المفيد الانتباه إلى ملاحظة ناشر كتاب الليالي: ''من غير المجدي أن يتجه انتباهنا نحو ضرورة تناول هذه العبارة وفق المعنى المبتذل لِلَّحم الخفيف''، بحيث ابتغى الناشر بكل قوة العثور على دلالة مادية لوصفة تستخدم قيما متخيَّلة في غاية البداهة. نعاين هنا مثالا جيدا عن عقلانية تتجاهل الحقيقة النفسية. ستكون لنا أيضا أمثلة متواترة حول هذه الأفكار المادية التي تؤمن بالمشاركة في التحليق عبر المشاركة في طبيعة الريش، إذا اقتفينا تاريخ وقائع محاولات هوائية.

في هذا الإطار، بادر سنة 1507 الراهب الايطالي داميان، المقيم في بلاط اسكتلندي، متوخيا التحليق بواسطة أجنحة مصنوعة من الريش. قفز من أعلى برج، لكنه سقط وتحطمت ساقيه. لقد عزا سقوطه إلى سبب مرده استعمال عيِّنة من ريش الديك حين تحضير الأجنحة. يظهر هذا الريش ''ملاءمته الطبيعية" بالنسبة إلى فِناء الدواجن، رغم وجود نوع آخر من الريش يعتبر هوائيا حقا، بوسعه أن يضمن وحده، تحليقا صوب السماء(برتولد لوفير، ماقبل تاريخ الطيران، شيكاغو، 1928، ص 68).

تبعا لمنهجيتنا الثابتة، المتمثلة في اقتفاء تلك الأمثلة، تبدو معها مادية المساهمة الغذائية وفق صيغة فظة للغاية، من خلال مثال أدبي أكثر، مصقول للغاية، لكنه حسب اعتقادنا، تبلور نفس الصورة. يقترح جون ميلتون في كتابه: ''الفردوس المفقود'' (ترجمة شاتوبريان، ص195)، نوعا من التسامي النباتي يهيئ، طيلة فترة النمو، سلسلة أغذية أثِيرية أكثر فأكثر: "هكذا ينبعث من الجذر بكيفية أكثر خِفّة الساق الخضراء؛ التي تنبثق منها أغصان هوائية أكثر؛ ثم أخيرا العبق الرائع المنطلق من أرواحها العطرة. الورود وثمارها، غذاء الإنسان، المتطايرة حسب سلَّم متدرج، تتنفس أفكارا حيوية، حيوانية، ذهنية؛ وتمنح في الوقت نفسه الحياة والشعور، الخيال والفهم، من هنا تتلقى الروح العقل قد يتأتى للبشر خلال فترة تقاسمهم الملائكة طبيعتها، حينئذ لا يصادفون أمامهم سواء حِمية متعبة ولا تغذية خفيفة جدا. ربما، صارت أجسادكم، فكرا تماما، مع مرور الوقت، نتيجة اقتياتها من هذه الأغذية الجسدية، تتحسَّن بفضل فترات الزمان، ثم تحلِّق مثلنا على أجنحة في الأثير".

قال جيامباتستا فيكوvico : "يمثل كل مجاز أسطورة صغيرة". نلاحظ بأن تعبيرا مجازيا قد يكون أيضا فيزياء، بيولوجيا، بل نظاما غذائيا. يشكل حقا الخيال المادي وسيطا مطاوِعا يوحِّد بين الصور الأدبية والعناصر. بوسعنا حين التعبير ماديا، وضع كل الحياة في قصائد. قصد التدليل على أنَّ تأويلنا للتحليق الحُلُمي، ظاهريا خاصا جدا، بوسعه تقديم تيمة عامة بغية تسليط الضوء على بعض الأعمال، سنفحص سريعا من خلال هذا التصور الدقيق قصيدة بيرسي شيلي.

بالتأكيد، عشِق شيلي، الطبيعة كلها، وتغنى بالنهر والحياة، أفضل من أيِّ شخص آخر. ارتبطت دائما حياته التراجيدية بوجهة المياه. مع ذلك، تبدو لنا السمة الهوائية أكثر عمقا، وإذا وجب الإقرار بصفة معينة بغية تحديد القصيدة سنتفق حتما وببساطة على أنَّ قصيدة شيلي هوائية. لكنها خاصية، لا تكفي في رأينا مهما كانت صحيحة. نود تقديم الدليل بأن شيلي شاعر هوائي، مادي وديناميكي. بالنسبة إليه، كائنات الهواء: الهواء، العِطر، الضوء، كائنات بلا شكل، لها مفعول مباشر: "أستمد انفعالات قوية، من الريح، الضوء، الهواء، أريج وردة''(15). حينما نتأمل عمل شيلي، نفهم كيف أن بعض الذوات ترهف حسها إلى عنف الليونة، ومدى حساسيتها نحو أوزان غير قابلة للوزن، ثم كيف تصبح ديناميكية حين سموها.

أن تنطوي تأملات شيلي الشعرية على ميزة الصدق الحُلُمي وتأكيدنا بهذا الخصوص على كونها مسألة حاسمة شعريا، لذلك سنطرح فعلا على التوالي، دلائل مباشرة وغير مباشرة. لكن لنقدم بداية، قصد تحديد مجال النقاش، صورة توضح بكل بداهة ''الجناح الحُلُمي'' (الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، ص209 ): "من أين أتيتم، بهذا الجموح الكبير والخِفَّة الشديدة؟ لأن أحذية أقدامكم يسكنها وميض، وأجنحتكم عذبة وناعمة مثل الفكر''. هناك انزلاق خفيف للصور التي تفصل الأجنحة عن أحذية الوميض؛ بيد أنه لا يمكنه تكسير وحدة الصورة؛ فالأخيرة متكاملة فعلا، ويكمن العذب والناعم، في حركة، تداعبها يد حالمة، ولا يتعلق الأمر بالجناح أو ريشه. نؤكد ثانية بأن صورة من هذا القبيل ترفض التحديدات المجازية؛ وتدعونا إلى استيعابها على منوال حركة متخيَّلة، بروح مبتهجة. نقول عن طيب خاطر بأنها فعل للروح، وسنفهمها إذا انصرفنا نحو: "ظَبْي، من خلال الاندفاع العالق لركضه السريع، وقد بدا أقل أثيرية وخِفَّة "يضيف شيلي (الجزء الثاني، ص263 )، الذي أثار بمفهومه عن الاندفاع العالق، رموزا هيروغليفية يستعصي على خيال الأشكال تفكيكها. يمنح الخيال الديناميكي المفتاح: يعكس الاندفاع العالق بكيفية دقيقة جدا التحليق الحُلُمي. وحده شاعر بوسعه تأويل شاعر آخر. انطلاقا من هذا الاندفاع العالق الذي يترك لدينا أثر تحليقه، يمكننا الاقتراب من هذه المقاطع الثلاثة للشاعر ماريا ريلكه(16).

حيث لايوجد طريق

حلَّقنا.

ثم لازال القوس ماثلا داخل ذهننا.

آنيا وقد اكتشفنا السمة الأساسية، سنحاول أن ندرس بشكل أكثر تفصيلا الأصول العميقة لقصيدة شيلي. لنتناول، على سبيل الذكر، مسرحيته المعنونة بـ''بروميثيوس المتحرّرِ". سنكتشف فورا هوائية بروميثيوس. إن ارتبط تيتان (أسطورة إغريقية) بقمة الجبال، فمن أجل استيفاء حياة أجواء الهواء. إنه ينزع نحو الأعلى بكل حدة توتر أغلاله، بحيث امتلك أقصى ممكنات تطلعاته الديناميكية. بالتأكيد، انطلاقا من طموحات شيلي الإنسانية، وكذا تأملاته الشاردة الجلية عن إنسانية أكثر سعادة، فقد تبيَّن مع بروميثيوس الكائن الذي يدفع الإنسان كي ينتصب ضد المصير، ثم الآلهة نفسها. مختلف دعاوي شيلي المجتمعية متداولة بين صفحات عمله. لكن وسائل وحركات الخيال مستقلة كليا عن المشاعر المجتمعية. بل نعتقد بأن القوة الشعرية الحقيقية لبروميثيوس المتحرّرِ، لم تستلهم شيئا من الرمزية المجتمعية. يعتبر الخيال كونيا لدى بعض الذوات، أكثر منه اجتماعيا. هكذا الوضع بحسبنا، مع خيال شيلي.

يجسد الآلهة وأنصاف الآلهة بشرا بشكل أقل - صور جلية تقريبا عن هؤلاء البشر- قياسا إلى كونها قوى نفسية ستلعب دورا نحو وجود يحركه مصير نفسي حقيقي. لا نسرع، إذن، بالقول أن الأفراد بمثابة مجرَّدات، مادامت قوة الارتقاء النفسي، كقوة بروميثيوسية بامتياز، ملموسة للغاية. تضاهي عملية نفسية يعرفها شيلي جيدا، ويرغب في التحول بها إلى قارئه. لنتذكر بداية بأن برميثيوس كتب عمله ''بروميثيوس المتحرّرِ": "عند الأطلال الجَبَلية لحمامات كاراكالا، وسط غابات الأزهار ''أمام جسور معلقة في الهواء، تحدث دوخة". سيركز شخص أرضي انتباهه على الأعمدة؛ في حين لن يهتم الهوائي سوى بتلك: "الجسور المعلقة هوائيا". أو بشكل أفضل، لايتأمل شيلي تصاميم الجسور، إذا تجرأنا على قول ذلك، بل ما تبعثه من دوخة. يعيش بكل روحه في وطن هوائي، داخل فضاء ينتمي إلى أعلى المرتفعات. فضاء، أخذ منحى تراجيديا، بسبب دوخته التي نتحداها كي نستمتع بانتصارنا على قهرها.

هكذا، سيجذب الإنسان قيوده بهدف إدراكه عند أيِّ اندفاع سيكون متحررا. غير أنه لاينبغي لنا بهذا الخصوص الانخداع، لأن الحرية تظل الإجراء الايجابي، تميز تفوق حدوس الهواء على الحدس الأرضي والصلب للقيْد. يمثل هذا الدُّوار المهزوم، ثم رعشة اطِّراد الحرية، نفس دلالة الديناميكية البروميثيوسية. منذ المقدمة، انصب تأويل شيلي على معنى نفسي جدا، يلزم إعطاؤه لصوره البروميثيوسية: "لقد استخلصت جانبا كبيرا من الصور التي وظفتها، بالاستناد إلى عمليات للذهن البشري أو أفعال خارجية تعبِّر عنه : شيء نادر جدا في القصيدة الحديثة، وإن حضرت أمثلة كثيرة من هذا القبيل عند دانتي وشكسبير، لاسيما دانتي أكثر من أيِّ شاعر ثان وبنجاح كبير''(17). لقد خضع عمل''بروميثيوس المتحرّرِ" لرعاية من طرف دانتي أليغييري، صاحب النزوع الأكثر عَمُودية قياسا لباقي الشعراء، فقد اكتشف عَمُودية الجنة والنار.

بالنسبة لشيلي، تعكس كل صورة إجراء ينجزه الفكر الإنساني؛ تمتلك مبدأ روحيا داخليا حتى ولو اعتقدناها مجرد تجلٍّ بسيط للعالم الخارجي. أيضا حينما يخبرنا بالآتي: ''القصيدة فن إيمائي''، يلزمنا التقاط ما تهمس به دون أن نراه قط: الحياة الإنسانية العميقة. إنها تومئ بالقوة، أكثر من الحركة. بينما، الحياة التي نراها، والحركة التي نستعرضها، فيكفينا النثر بصددها تعبيرا. وحدها القصائد بوسعها دوما بعث القوى المضمرة للحياة الروحية. إنها حسب تصور شوبنهاور للمفهوم، ظاهرة لهذه القوى النفسية. تمتلك فعلا كل الصور الشعرية إيقاع عملية روحية. لكي نفهم شاعرا حسب تصور شيلي، فلا يتعلق الأمر، بتحليل على طريقة دي كوندياك لـ: "عمليات الذهن البشري"، مثلما قد توحي بذلك قراءة سريعة لمقدمة بروميثيوس المتحرّرِ. مهمة الشاعر تحفيز الصور قليلا حتى يتأكد بأن الذهن البشري أبدعها إنسانيا، وبأنها صور إنسانية، تؤنسن قوى الكون. إذن، لقد اهتدينا نحو الكون الإنساني. ثم، إعادة الإنسان إلى القوى الأولية والعميقة، بدل أن يعيش تجسيما ساذجا. والحال، أن الحياة الروحية اتسمت بإجرائها المهيمن: تتوخى النمو، الارتقاء. تتطلع غريزيا صوب العلو.

نظر شيلي دائما إلى جلِّ الصور الشعرية، باعتبارها عوامل للارتفاع. بمعنى ثان، الصور الشعرية عمليات للذهن البشري في نطاق كونها تمنحنا الخِفَّة، وترفعنا، ثم تحلق بنا. ليس لها إلا محورا للإحالة: المحور العمودي. إنها بالضرورة هوائية. إذا أخفقت صورة شعرية واحدة كي تملأ وظيفة التخفيف تلك، يتحطَّم الشاعر، ويستكين الإنسان إلى عبوديته، ثم يؤلمه القيْد. تستعيد شعرية شيلي، مع اللاوعي المطلق للعبقرية، مسألة تحاشي الأثقال الطارئة ثم تجميعها مختلف أزهار التعالي، ضمن باقة رائعة. تبدو إمكانية أن يقيس بِلَمسة أصبع رهيف، قوة تقويم مختلف السنابل. حين قراءته، نستوعب الدلالة العميقة لعبارة ماسون أورسيل : "تشبه قمم التطور الروحي تلك التحولات الناجمة عن محفزات خارجية''. نلامس العلو المتنامي. هناك، ترسي صور شيلي الديناميكية قِمَم المسار الروحي. نفهم بيسر أن صورا اتجه تركيزها بقوة نحو معاني الارتفاع يمكنها الحصول بسهولة على تقييمات اجتماعية، أخلاقية، بروميثيوسية. غير أنها لم تشكل موضوع بحث؛ وليست هدفا للشاعر. قبل المجازات المجتمعية، تتبدى الصورة الديناميكية مثل قيمة نفسية أولى. لاينطوي حُبّ البشر، وقد تموقعنا من خلاله فوق وجودنا، سوى على مساعدة إضافية بالنسبة لكائن يريد باستمرار أن يحيا في أعلى مناطق وجوده، عند قمم الوجود. هكذا، يحظى الارتفاع المتخيَّل بشتى مجازات السمو الإنساني؛ لكن واقعية الارتفاع النفسية لها اندفاعها الخاص، اندفاعها الذاتي. إنها الواقعية الديناميكية لنفسية هوائية.

لقد درسنا في كتابنا الماء والأحلام، تيمات القَارَب الشعرية. بحيث أوضحنا بأنها حظيت بقوة كبيرة لأنها تتضمن الذكرى اللاواعية لبهجة الهَدْهَدَة، عن مهد اختبر لحظتها الكائن الإنساني بكيفية تامة سعادة لانهائية. أشرنا كذلك، إلى أن قَارَب الحلم، المتمايل فوق الأمواج يغادر بالنسبة لبعض الحالمين الماء دون اكتراث نحو السماء. وحدها نظرية للخيال الديناميكي بوسعها إدراك استمرارية صور من هذا القبيل، ولن تسوِّغ أمرها تلك الواقعية المكتفية بالأشكال، أو معطيات تجربة حياة اليقظة. التحليق الحُلُمي، مجرد تعبير عن مبدأ استمرارية الصور الديناميكية بين الماء والهواء. أيضا، عندما نستوعب الدلالة العميقة لبهجة الهَدْهَدَة، ونقترب بها من عذوبة الأسفار الحالمة، سيبدو السفر الهوائي بمثابة سمو سهل للسفر فوق الأمواج : الكائن المُهَدْهد في مهده، بجوار الأرض، تهدهده الآن أياد أمومية. هكذا، تتحقق أفضلية سعادة الهَدْهَدة: سعادة محمولة. منذئذ، أمكننا بيسر تأويل، جلّ صور السفر الهوائي كصور للنعومة. حينما تمتزج بها اللذة، ستشع بعيدا لذة ناعمة. لا يتألم قط الحالم الهوائي جراء شغف ما، أو تجرفه العواصف وكذا رياح الشمال، أو على الأقل، يشعر دائما برحمة يد وصيَّة وسواعد محتضِنة.

لقد امتطى شيلي، في أغلب الأحيان، زورقا هوائيا، بحيث عاش فعلا بين حضن مَهْدِ الريح. يقول في عمله المعنون بـ''حول روح صغيرة'': ''يشبه زورقنا طائر القَطْرَس بحيث يمثل عشّه فردوسا بعيدا في الشرق الأرجواني؛ ثم نجلس بين أجنحته، بينما يتواصل تحليق الليل والنهار، الإعصار والهدوء''(18). إذا اقتضى الأمر تحقيق تآلف بين الصور من خلال المشاهدة، فسنفقد كل أمل بخصوص الاقتران بين القارب وطائر القَطْرَس ولن ننتبه قط إلى عشٍّ يأخذ حيزا عند أشعة الفجر الأفقية. لكن للخيال الديناميكي قوة أخرى. إنَّ كاتبة مثل جورج ساند تحُول عقلانيتها غالبا دون الحلم، استضافت في كتابها: ''أجنحة الشجاعة"، الطائر الذي يضع بيضه في السحب، وتحتضنه الريح، دون تمثلها الفعلي للصورة، بالتالي إمكانية تحريضنا على التماهي معها، كما فعل شيلي، بالحياة وكذا السفر الهوائيين.(19)

على منوال الزورق، تصبح الجزيرة العائمة - عوالم الجن المتداولة كثيرا عند نفسية مكرَّسة للماء- بالنسبة لنفسية هوائية، جزيرة معلَّقة. تنتقي شعرية شيلي، كموطن فعلي ''جزيرة معلَّقة بين السماء، الهواء، الأرض والبحر، تتهَدْهد في سكينة وصفاء''. نعاين ذلك جيدا، لأن الشاعر يتخيل أو يعيش هَدْهدة مطمئنة فرأى الجزيرة السماوية. تتأتى الرؤية من الحركة، وعندما نعيش الأخيرة، فإنها تشعرنا ببلسم سكينة لا نعرفه قط مع حركة نكتفي بتأملها. كم مرة لم يعثر الشاعر على استرخاء: ''في هذه الجزر الهائمة ذات الندى الهوائي''(ص 249). يقطن شيلي عبر لانهائية السماء، بلاطا أرست دعائمه: " قِطَع يوم بليغ وهادئ"، تغمره: "طبقات من ضوء القمر". حين دراستنا الزواج المتخيَّل بين المضيء والمتسامي، ثم نوضح بأنها نفس : ''عملية الذهن البشري ''التي ترتقي بنا صوب النور والارتفاع، سنعود إلى إرادة البناء الشفافة تلك، وكذا الترسيخ ذي الألوان البرَّاقة، لكل ما نحبه بشغف في الأثير العابر.

من الآن فصاعدا، نتوخى تقديم انطباع مفاده أن الضوء نفسه من يمضي بالحالم ويهَدْهده. تكمن هنا إحدى أدوار، الضوء المفرط، دون ثقب أو بَتْر، بجانب الأشكال الدائرية والمتحركة، بخصوص تسيُّد الخيال الديناميكي. هكذا فالضوء، الأخ الشقيق للظلام، يطوي الأخير بين ذراعيه: "نهارا وليلا، بعيدا، عند أعالي الأبراج والسطوح المرتفعة، تبدو الأرض والمحيط، نائمين وقد احتضن أحدهما الثاني، يحلمان بالأمواج، الورود، السحب، الأشجار، الصخور، ومختلف ما نقرأه في ابتسامتهما وننعته بالحقيقي"(20). تمتزج في الجزيرة المتدلية من السماء، أزهار مختلف العناصر المتخيَّلة : الماء، الأرض، النار، الهواء، نتيجة التحول الهوائي. جزيرة عالقة في السماء، إنها سماء فيزيائية، تمثل أزهارها أفكارا أفلاطونية بالنسبة لأزهار الأرض، بل تعتبر الأكثر واقعية مقارنة مع باقي الأفكار الأفلاطونية، ولم ينتبه إليها شاعر قط.

حين الإصغاء إلى قصائد شيلي، وقد توخينا حقا أن نعيش مثالية الصور الهوائية، يلزمنا إدراك بأنها مثالية تتجاوز كونها مجرد نمذجة مثالية لمشاهد الأرض. لأن الحياة الهوائية تمثل في نهاية المطاف الحياة الفعلية؛ بينما الحياة الأرضية متخيَّلة، حياة شاردة وبعيدة. الأشجار والصخور بمثابة أشياء مترددة، عابرة ومنبطحة. بالتالي، يكمن الموطن الحقيقي للحياة وسط السماء الزرقاء، و''أغذية" العالم رياح وعطور. مثلما أدرك شيلي هذه الصورة لريلكه:

رؤى ملائكة، قمم أشجار ربما

هي جذور، ترتشف السماوات؛

وفي التربة، جذور عميقة لشجرة الزَّان

تبدو لها وقائع صامتة.

(بساتين)

حينما ننام في مكان أعلى قياسا للذي استكان إليه شيلي، ثم نحلم تبعا لكل أنفاس الهواء، حينئذ تتجاوز بلا توقف المرتفعات الضخمة وكذا مستويات البحار، نوم الأرض والمحيط. في خضم لوحات منحنيات النهار والليل، تتهَدْهد معا الأرض والمحيط، بفضل السماء الشاسعة والثابتة، ويرقدان معا بين طيات سعادة مشتركة. تجسّد شعرية شيلي، شعرية ضخامة مُهَدْهدة. العالم عند شيلي مرقد هائل- مرقد كوني- من ثمة، تحلق أحلام باستمرار. أيضا، مرة أخرى، مثلما أشرنا إلى ذلك مرارا في دراساتنا حول الخيال المادي للماء، سنرى ارتقاء انطباعات حالم غاية المستوى الكوني. ربما اتُّهِمنا أننا وظفنا نهجا سهلا للتضخيم وكذا النفخ في الصوت بدل تقديم مبرراتنا بكل بساطة. غير أن المقاربة النفسية للحلم، ستفقد شيئا ما، إذا أوقفنا هذا التضخم والانتفاخ. هل يستحق الحلم تسمية من هذا النوع، إن لم يغير أبعاد العالم؟ هل يمكننا أن ننسب الحلم لشاعر معين إذا لم يتوخى الارتقاء بالعالم؟

يسمو الشاعر الهوائي بالعالم وجهة تلغي كل الحدود، وبوسع لوي كازاميان(21) أن يقول بصدد شيلي، حين تعليقه على كتاب: ''قيتارة الريح": "يتموَّج كليا مع آلاف الأمواج الحسية التي تبعثها الطبيعة، وتنتج ربما، على حبال الكون، هذا النسيم المثالي الذي سيكون في الوقت ذاته روح كل كائن وإلها للجميع". بدون شك، لايحوي أيّ أدب، قصيدة أكثر رحابة، واتساعا ونموا من قصيدة شيلي، أو لكي نتكلم بشكل دقيق جدا، تجسد قصيدة شيلي فضاء فعالا بكيفية عمودية ينمو بالكائنات ويمدها بالقوة حسب معاني الارتفاع. بالتالي، لا يمكننا الولوج إلى فضاء هذه القصيدة بغير المشاركة في صعود، وارتقاء، أو أن نعيش داخله دون التقاط همس دعوة أشعار شيلي: "لقد بزغ يوم جديد فما الوجهة التي تتوخى برفقتي التحليق نحوها؟" (الجزء الثاني، ص273 ).

تسعى دائما، مختلف عناصر شعرية شيلي، إلى مغادرة الأرض نحو السماء. صور تبقى عصيَّة على الفهم بالنسبة لخيال الأشكال، وستظهر هنا وفق شكلها الفوري حينما نفهم النمط الديناميكي المتطابق معها في الخيال المباشر لاندفاعات حقا أولية. كيف يمكننا مثلا أن نفسر بكيفية أخرى صفحات من هذا القبيل(22): "أحبت غالبا تسلق السّلّم الأكثر وعورة للبخار المتخثِّر غاية مرتفع يابسة لبعض السحب التائهة في الهواء، مثل أريون (أسطورة إغريقية) ممتطيا دلفينا، وهو ينشد على امتداد أثير بلا ضفاف؛ دوما اقتفاء لخطى منعطفات الوميض المتعرِّجة، إنه منساب فوق أسطح الريح''. لا تمتلك السماء ضفَّة لأن الارتقاء لايحده عائق. تعتبر كل الخطوط طرقا بالنسبة لهذا النوع من الخيال الديناميكي، وكل إشارات السماء بمثابة نداءات، كما يرتبط طموح الارتقاء بجلِّ مظاهر العَمُودية، حتى أكثرها اندثارا. يمكننا القول حقا، بأن حركة قصيدة شيلي تتضمن صورا هوائية مثل الوثوب الحيوي، حسب برجسون، وتقدم على امتداد مسارها، أشكالا حية. على العكس من كل الصور التي أنجزها الشاعر، يجب أن نضيف إليها الحركة حتى نتمثَّل فعلها الشعري. لذلك، تظل كتلة سحب مجرد سُلَّمٍ إذا رغبنا في تسلقها، وأردنا – من صميم الروح- السفر نحو الأعلى. تصبح الصور غامضة أو بلا طائل، لدى قارئ يرفض الاندفاع الشعري الخاص جدا الذي أبدعها. على العكس، سيجدها الخيال الديناميكي ودِّيا مفعمة بالحياة، بمعنى واضحة ديناميكيا. لأنه بوسعنا الحديث عن وضوح وتميُّز ديناميكيين. يتطابق الاثنان مع حدوس ديناميكية طبيعية وأولى.

حسب نظام الخيال الديناميكي، كل الأشكال مشروطة بالحركة: يتوقف تخيُّلنا لدائرة بالعمل على تقليبها، أو سهم من خلال رؤيته محلِّقا، ولا امرأة إن لم نجعلها تبتسم. حينما يمتد الحدس الشعري نحو الكون، فلأن حياتنا الباطنية أدركت أعظم انتشاءاتها. يمضي بنا كل شيء نحو المرتفعات، السحب، الضوء، السماء، ما دمنا نريد ذلك بكيفية حميمة، ونطوي تحليقا داخلنا. لقد اختبر شيلي(الجزء الثاني، ص 217 ): "غبطة بُخارية لايمكنها أن تشغل محتوىتغمرني شحنة متعة، أشبه بمحيط من الضوء، ويحملني كسحابة مرتدية هواءها الخاص". سنلاحظ، الهواء في السحب، والأخيرة مادة للهواء بل ينطوي السحب في جوهره على مبدأ الحركية الهوائية. ثم إن الحركة ثراء للجوهر الخفيف. من أجل فهم أولية الخيال المادي وكذا الخيال الديناميكي، فلن يقف تأملنا طويلا كي ينطق صورا كما الحال بالنسبة لصور شيلي التي تعكس تبادلا لانهائيا بين مبدأي الخيال المادي والديناميكي. تدرك جيدا مختلف الكائنات الهوائية، بأن المحلِّق ليس سوى جوهرها الخاص، بيسر طبعا، ودون حركة الجناح. "يرتشفون ريح سرعتهم الذاتية"(ص 180- 182). الحركة، خالدة داخلنا أكثر من الجوهر : "بوسع الحركة أن تغيِّر، لكنها تبقى أبدية''.

هل تعكس صورة متحرِّك يمضي به : ''الهواء وفق سرعته الذاتية''، شيئا آخر غير المعاكس للحركة الالتوائية الأرسطية التي لاحظها جان بياجي مع ذهنية الأطفال (العلة الفيزيائية عند الطفل، ص 27)؟ لكن الشاعر يمتلك مفتاحا يتيح له إمكانية أن يزيل عنها في الوقت نفسه كل صبيانية أو سمة نظرية فلسفية. حينما يركن هذا الشاعر للخيال، جسدا وروحا، سيخاطب الحقيقة النفسية الأولى: الصورة. بحيث يبقى في إطار ديناميكية وحياة الصورة. بالتالي، يفقد معناه كل اختزال عقلي وموضوعي. عندما نتمثَّل هذه الصورة صحبة شيلي، سنقتنع بأن الصور لا تشيخ أبدا. ولن يتبدى سوى مبررات صغيرة للكتابة حول أعمار الخيال، رغم أن دراسة ليون برونشفيك حول عصور الذكاء تضمنت سردا واضحا وفق نضج ذهني. إذن، بقدر قولنا بأن الخيال مبدأ شباب دائم، سينعش الفكر وقد أعاد له الصور الديناميكية الأولى.

لا شيء مستعصيا عن هذا الخيال الديناميكي. يقول شيلي مثلا، في كتابه "ساحرة أطلس" (ص 249): "تشعر أحيانا بالسعادة حين صعودها غاية تيارات الهواء العليا التي تحدث دوران الأرض ''ضمن مدارها اليومي"(23)، وتستمد أرواح هذه المناطق، ثم تسمح لها بالانتماء إلى جوقتها''. أرواح، يعني شدوها تأثيرها المادي. تعيش في الهواء، ومن الهواء. بفضل الهواء، تعتبر كل الحياة والحركات ممكنة. تدور الأرض نتيجة نَفَسِ الهواء. تمثل ضخامة الكرة الأرضية، بالنسبة للخيال الديناميكي، كما الشأن مع كل دائرة، مجال حركة الدوران البديعة.

سيثير هذا التأويل الفلكي المتخيَّل ضحك العقلاني؛ بحيث سيطلب من الشاعر تحديدا دقيقا لـ"مدار الأرض اليومي''. في حين، سيتهم عقلاني آخر شعرية ''البخار"عند شيلي بكونها مجرد صياغة لقواعد تمدّد الغازات(24). بهدف دعم شرح من هذا القبيل، يذكِّر وايتهيد بحماسة الحداثي شيلي نحو العلوم الفيزيائية. يعتقد بسهولة النقد الأدبي الكلاسيكي المتلهف لمعطيات واضحة، بفعالية تلك الإحالات إلى العلم. لكن الاعتقاد، بأن نظرية ''تمدّ د الغازات''، قد لعبت دورا ما، بخصوص تحديد شعرية شيلي الهوائية، يعني عدم الانتباه لميزة استقلالية الحلم الشارد الشعري عند شاعر كبير. مثلما جرى الشأن دائما، مع نقد بول دو راول، باعتباره دقيقا جدا ومتنوعا للغاية، يبدو هنا غير ملائم مثل الافتراضات التي طرحها وايتهيد عالم الرياضيات والفيلسوف. إنه مرتبك أمام ''ساحرة أطلس'' التي جسَّدت كائنا مركَّبا قوامه: ''النار، الثلج وكذا العشق السائل". حتما، بوسع بيولوجي، العثور من خلال ذلك على ماينتقده! بينما سيختبر حالم حقيقي على الفور القوة الديناميكية لذاك الخليط. إذا كانت النار تمنح الحياة، ويهب الحب السائل - اكتشاف رائع!- المادة المعشوقة، ويتيح الثلج البياض، الجمال، ثم رؤية القمم. سيمنح الثلج- ثلج هوائي، وثلج القمم-الكائن الناشئ هذا المظهر اللاواقعي، الذي يعكس بالنسبة لشيلي، قمة الحقيقة. وأمام هذه المقاطع الشعرية الرائعة:

Yoked yo it by an amphisbaenic snake

The likeness of those winged steeds

حاول بول دو راول ''فَرْك عينيه"، مؤكدا بأن صفحات على هذا النحو تنهل من التحليل النفسي. ويضيف: "لنضع حدا لهذه المرافعة التي لاترغب سوى في تهدئة وعي الناقد "فهل يعتبر الناقد إذن – اعتراف عجيب- وعيا ينبغي تهدئته؟ بين طيات صفحات أكثر تعاطفا مع عمل شيلي، كتب(25) بول راول بأن أشعاره: "تمثل عضوا أكثر خِفَّة من الهواء، إنها الجناح الذي يسمح باندفاعه ويحمله". ثم أضاف، بأن الأمر يتعلق تحديدا بالنسبة لشيلي في: ''ترجمة حركات الروح أو الروح في حركة".

سنعود إلى الخاصية التركيبية للخيال الديناميكي الذي يحرِّك الروح بأكملها، ونتبيَّن لحظتها بأن انتقال الحركات من روح إلى روح بالحركة كليا، يعكس تحديدا الدرس الكبير للتحليق الحُلُمي، الذي يضفي وحدة مدهشة على تجارب الحلم، كما يهيئ للحالم عالما متجانسا يسمح باختبار، ضمن مشاهد اليوم، تلك الإضاءات الكبرى للحياة الليلية. هكذا تبدو عدم إمكانية أن نحدد بشكل أفضل شعرية شيلي، سوى انطلاقا من كونها تحليقا حالما يصعد غاية أوج الضوء. إن حركة نعيشها بالمطلق خياليا تصاحبها بعفوية موسيقى متخيَّلة. تخلق حركة أثيرية كبرى إيقاعا إلهيا. بالتأكيد، يلزم الفَلَك الفلسفي، كما الأمر بالنسبة للفلك الفيتاغوري، حينما يتأمل التوافق بين أعداد وأزمنة ثورات سماوية، التي تحدث مختلف مجازات الإيقاع؛ لكن التأمل الشعري، إن كان صادقا وعميقا، سيصغي بشكل طبيعي لنفس الإيقاعات. يعتقد الفيلسوف بكونه صادفها ثانية من خلال الأعداد، لأنها فعالة طبيعيا بالنسبة للخيال. كل شاعر حقيقي يتأمل السماء المرصَّعة بالنجوم كما يرهف سمعه لركض الكواكب، ثم''الألحان الهوائية''، الليل، "الليل الهادئ المنساب".

ينبغي قصد تحقيق الإصغاء لكائنات الفضاء اللانهائي، أن نخرس كل ضجيج الأرض؛ مثلما يقتضي السياق - إذا وجب قول ذلك؟- نسيان مختلف الدروس الأسطورية والمدرسية. إذن، سنفهم بأن التأمل يشكل بالضرورة داخلنا قوة مبدعة. نحس بولادة إرادة التأمل، تغدو فورا إرادة تساعد مانتأمله على الحركة. ليست الإرادة والتمثُّل قط بقوتين متنافستين كما الشأن في فلسفة شوبنهار. القصيدة تبلور حقيقي لمعيار جمال الإرادة(26). إنها تعبر عن إرادة الجمال. يمثل كل تأمل عميق، بالضرورة وطبيعيا، نشيدا. تكمن وظيفة هذا النشيد في تجاوز الواقع، ثم التخطيط لعالم رنَّان فيما وراء العالم الأخرس. نظرية شوبنهاور عن القصيدة مفرطة بخصوص تبعيتها لتصور يستحضر جماليات طبيعية. بينما، القصيدة ليست ترجمة لجمال ثابت وأبكم، بل هي فعل نوعي.

ميزت المشهد الرابع لمسرحية ''بروميثيوس المتحرِّر'' إيقاعات متخيَّلة مباشرة، بهذه الإيقاعات الناشئة جراء تفعيل الخيال الديناميكي. عبر فقرات صفحات رائعة، يجمع شيلي أحيانا بين الإيقاع والليل، ومرة أخرى الإيقاع والضوء. مثلا صورة ناي الشتاء، التي حضرت كليا من خلال تجلٍّ جوهري يصل بين صفاء هواء الشتاء وكذا صفاء شدَّته، لكنه فَعَل خيرا، بتسّربه الهادئ إلى الروح المُستلهمة(الجزء الثاني ص 213 ) : "اصغوا أيضا، إلى تلك الإشارات الضمنية الزاخرة بها كل وقفة صامتة، رنَّات مشرقة وفِضِّيَّة، لاذعة مثل الثلج الذي يوقظ ويخترق المعنى ويحيا بين طيات الروح، مثل نجوم تنسلّ فتخترق هواء بلورة الشتاء ثم تتملى البحر''. استرقوا السمع لسِهام ضوء الشتاء المنبثقة عبر كل مكان. يهتز الفضاء بأكمله نتيجة صخب البرد القارس. لافضاء دون موسيقى لأنه لاوجود للتمدّد دون فضاء. الموسيقى مادة متموجة. تنبثق بانثيا Pantéa (الجزء الثاني، ص 223)، من: "تدفق الموسيقي كما لو من حوض مائي متلألئ، بل حوض نور لازَوَرْدِيّ''، وفي بروميثيوس (المقطع الثاني، المشهد الأول) دَوَّت وسط السماوات صعقة القوس الكبيرة: ''اصغوا! إنها الأرواح تتكلم. تدوِّي باستمرار سيولة أجوبة لغتها الهوائية".

بالنسبة للأرضي، يتلاشى كل شيء ويضمحل حين مغادرته الأرض، أما عند الهوائي فإنها تلتئم، وتغدو ثرية حين صعودها. يبدو لنا بأن شيلي الهوائي حقق تطابقا من المفيد جدا مقارنته مع تطابقات بودلير. يتأتى التطابق البودليري نتيجة توافق عميق بين الجواهر المادية؛ بحيث تحققت إحدى أكبر كيميائيات الحواس، من خلال نقط أكثر تكاملا قياسا لخيمياء رامبو. يمثل التطابق البودليري مِفْصَلا قويا للخيال المادي، تنتهي عنده جلّ المواد المتخيَّلة، وكل''العناصر الشعرية''كي تتبادل ثراءها، ثم أن تغذي إحداها الأخرى بمجازات. تطابق شيلي تزامن بين مختلف الصور الديناميكية لخفة شَبَحِية. فإذا كان التطابق البودليري بمثابة سيادة للخيال المادي، سيمثل تطابق شيلي سيادة للخيال الديناميكي. هكذا، تتآلف في إطار ميتا-شعرية شيلي، الخاصيات نتيجة تخفيف حمولتها المتبادل. تتسامى جميعها؛ وتساعد بعضها البعض كي تتسامى وفق مسار تقدم لانهائي.

حينما درس أندريه شوفريون، الطبيعة في قصيدة شيلي، كتب مايلي: "ينعتون شيلي في انجلترا، بكيفية صائبة، شاعر الشعراء. وبالفعل، شكَّلت قصيدته نتاج تقطير مزدوج. إنها تمثل بالنسبة لباقي الشعر ما ينبغي للأخير بلورته على أرض الواقع: قصيدة متطايرة، متقلِّبة، ملتهبة، غير قابلة للتوقع، متأهبة دائما للتسامي، ولا تمتلك جسدا''. وقد ألَّحت سابقا، صفحات أخرى لنفس الكاتب أندريه شوفريون (ص 120)، على هذا التسامي الهوائي: "لقد امتلكت مختلف البيانات الوصفية هذه الخاصية المشتركة والدالة، بحيث يفقد خلالها الموضوع شيئا فشيئا تفاصيله الفردية ومظهره الثابت، جراء الانتقال من مقطع شعري صوب مقطع شعري آخر، غاية أن يصبح طيفا مبهما ومضيئا". يعكس، تلاشي الضوء نمطا لتسامي واضح الخصوصية عند شاعرنا شيلي. ينمو ''عمق'' السماوات مع صمت الليل. ينسجم الكل تبعا لإيقاع هذا الصمت والعمق. تنمحي التناقضات، ثم تصوم عن الكلام تلك الأصوات النشاز. نتيجة التناغم المرئي لعلامات السماء، تخرس داخلنا أصوات أرضية لم تكن تعرف سوى التوجع والتحسر. فجأة، الليل نشيد عظيم؛ ثم تردد قيتارة الملاَك أريل Ariel صدى رومانسية البهجة والسعادة. شيلي، حقا، شاعر سعيد بالهواء والمرتفعات. فقصيدة شيلي، رومانسية للتحليق.

تمنح هذه الرومانسية الهوائية والمحلقة أجنحة إلى كل الأشياء الأرضية. ينتقل اللغز من الجوهر إلى محيطه. يتآمر الجميع قصد إعطاء الكائن المنعزِل حياة كونية. خلال اللحظات التي أُرهف فيها السمع حيال نضج البرقوق، أرى الشمس تداعب الفواكه، وتضفي طلاء ذهبيا على مختلف الأجسام المستديرة، وتصقل كل الخيرات. ترتجُّ أجراس زهرة الحوض، نتيجة انسياب خفيف لمجرى شلاَّل أخضر. يحلق صوت أزرق. ترسل حزمة ورود بلا توقف زغاريد صوب السماء الزرقاء. أتصور شيلي في عمله المعنون بـ''Epipsychidion'' (ص 264) و: "شفتيه، مثل ياقوتة ممتلئة بندى من العسل، يتساقط همس سائل، قطرة قطرة، ينفذ معه صبر شغف الحواس، عذب أيضا بحيث تتوقف الموسيقى الكونية كي تسمعه بانتشاء ''. هكذا حينما تهمس وردة، ويرنّ ناقوس الأزهار عند قمة نظام الإزهرار، حينها تصمت الأرض قاطبة، ثم تتكلم كل السماء. يمتلئ الكون الهوائي بتناغم الألوان. ثم تلوِّن شقائق النعمان ذات الألوان المتنوعة رياح السماء الأربعة. يمتزج اللون بالصوت، العطور، وكذا زمان تتكلم خلاله الورود.

هكذا تبدو الإشكالية تحديدا : وفق أيّة دلالة يلزمنا القول بأن صوتا أضحى هوائيا؟ حينما يكون عند أقصى حدود الصمت، محلِّقا وسط سماء بعيدة، عذبة وكبيرة. يشتغل التناقض من الصغير غاية الكبير. إنه لانهائية صِغر الصوت، ثم استراحة مع تناغم الورود ترجُّ لانهائية كِبر الكون المتكلِّم. نعيش حقا لحظة شيلي (ص 270)، حيث : ''يتحول الضوء إلى حب"، نُهمس بالحب، وقد امتلكت أزهار الزنابق أصواتا مقنعة جدا تعلِّم الحب إلى الكون قاطبة. نسمع خطى ريح ساكن(ص 251 ). نسمع إيقاع المتصل: ''مع حركة مماثلة لفكر هذه الريح التي تجعل خطوتها الناعمة، النوم أكثر عمقا''. نموذج واضح جدا عن التطابقات، التي تشكَّلت في أعلى مناطق الخيال، ربما مستعارة من فيلسوف مجهول (لوي كلود دي سان مارتان) الذي ألَّف كتابا عنوانه : ''إنسان الرغبة''(ص 101): ''ليس أبدا كما جرى الأمر في منزلنا القاتم، حيث لم تكن هناك إمكانية لمقارنة الأصوات سوى بالأصوات، والألوان بالألوان، ثم كل مادة بما يماثلها؛ في حين هنا يتماثل كل شيء". ''يقدم الضوء أصواتا، يلد النغم ضوءا، للألوان حركة لأنها كانت حيَّة، وبدت الأشياء في الوقت ذاته رنَّانة، شفافة ومتحركة جدا كي ينفذ أحدها إلى الثاني، ويجوب بإشراقة كل المدى''.

حينما نتعقب آثار صور بودلير، سننحدر صوب قبو وجهات كي نعثر ثانية على الوحدة داخل العمق والليل. إنها حركة عكسية عند لوي كلود دي سان مارتان، تهتدي بنا نحو وحدة الضوء؛ أكثر تحديدا، التآلف بين الضوء، الرَّنين وكذا الخِفَّة مما يرسم ارتقاء مستقيما. إن الدوران في السماوات على طريقة الشمس، يمثل مجرد إذعان لصورة مرئية، لاندرك معها البعد الجوهري للخِفَّة الإلهية. في المقابل، يتأتى مع الارتقاء المستقيم لـ''قوى المناطق" المكتسَحَة، أن تدعم بـ''أجنحتها"الروح؛ مثلما أمكنها تخليص أنْفَاسها من أدران لازالت عالقة بالروح جراء إدمانها النوم في العالم السفلي: "ثم بعد ذلك، أن يرسم الارتقاء المستقيم، بالأيادي النارية لتلك القوى، الإقرار الأصيل عن مبادرته، حتى ينفتح له سريعا مدخل باب المنطقة الموالية، وقد اختبَرَ هناك تطهيرا ومكافأة جديدين''.

تآلف التطهير والجزاء، ثم عمل خاصيات فيزيائية ومعنوية تبعا لـ''خط الحياة هذا''، يحدد معالم تأمل شارد ديناميكي هوائي. يشكل ثالوث، الشفاف الخفيف وكذا الرنَّان، نوعا من الاستجابة المحدِّدَة للخيال. مثل هذه الاستجابات، الماسكة بين خيوط سمات متخيَّلة، تبلور هندسة مختلف الأمزجة الشعرية. ستكون لنا فرصة العودة إلى مقاربة هذه القضية.

وثائق مأخوذة من عمل في غاية التميّز كما الحال مع شيلي، ستبدو استثنائية جدا، بالتالي لن نكون مهيَّئِين كفاية بخصوص استيعاب استمرار انطباعات التحليق الحالم بين طيات التأمل الشارد اليقظ، إذا اكتفينا فقط باختبار القصيدة وحدها. سيكون حتما مفيدا أن ندرس، بناء على وجهة نظر الخيال الديناميكي، الملاحظات الموضوعية جدا للفكر البشري. لذلك، سنذهب كي نعثر ثانية، بين صفحات أعمال عدة لبلزاك، عن دلائل ذات خاصية نفسية فعلية لـ''التعالي النفسي الذي نعيشه". مثلا يبدو لنا بهذا الخصوص، السرد الذي يحمل عنوان ''المحظورات''(27)، عملا دالا جدا. يظهر من الوهلة الأولى، أن الروائي يقبل ضمن صفحات معينة، صورا جاهزة كليا، ستوصف حتما بكونها مجرد استعارات شفوية. لكن، فجأة يصادف القارئ سمة لا تضلِّل قط، لأنه حين اقتفاء أثرها نشعر بأن خيال بلزاك يواصل انطباعات التحليق الليلي.

إذن، حينما نستعيد تحديدا الصور التي بدت مزيَّفة مع معطيات الملاحظة الأولى، فسنكون مضطرين للاعتراف حقا بأنها تشكل جانبا من تجربة حُلُمية حقيقية. نتمرن على الحلم بالنص، الذي اكتفى النقد الكلاسيكي بفهمه ثم إهماله في نهاية المطاف. هكذا، حينما يخبرنا بلزاك بأن دانتي : "أقرَّ بإمكانية الوصول عبر الإيمان من دائرة نحو أخرى، وقد أمسك بالتوراة في يده، متساميا روحيا بالمادة، كما أضفى بعدا ماديا على الفكر"، إننا لانبدي قط اهتماما بهذه المادة التي ارتقت روحيا أو هذا الفكر المتجسِّد، ويتجلى سريعا جدا كوننا ننسى أن نتخيل. نخسر مكسب خيال مادي يسمح لنا كي نعيش الحقيقة القوية لحالة تشكل عضوية وسطى تقف على مسافة متوازنة بين الفكر والمادة. قد تبدو هذه الوثيقة فقيرة ولفظية. لكن إذا توخينا فعلا حاليا أن نعيش الكلمات، ونفهم حقا بأن دانتي الذي أنعشه بلزاك يتكلم فيزيائيا، ماديا، سنحقق لحظتها تلك الحالة الانتقالية لمتخيَّل فيزيائي بين المائع والمتبلور. فورا، ستتماسك مختلف المجازات وتبدو تلك المرتبطة بالطيران، التحليق، الارتقاء، تخفيف الوزن، كتجارب إيجابية نفسيا.

مثلا، ستتحدث هاته الإشارة، عن التوتر النوعي للتحليق(ص 345 (''توتر متعب نعرض من خلاله قوانا حينما نتوخى الاندفاع، مثل طيور مستعدة للتحليق''. يمكننا، بالتأكيد عدم الالتفات وجهة هذه الملاحظة الديناميكية، وتأمل الأفكار فقط، والإيمان بأن وظيفة المجازات تكمن في الإيحاء بأفكار؛ حينها ستتوارى عن انتباهنا سلسلة ملاحظات نفسية، تتعلق بالمقاربة النفسية لمسألة الإسقاط. بهدف التعبير عن تجربة إرادة الوثوب، وليس الوثوب، يحتاج التحليل النفسي إلى صورة ديناميكية نوعية جدا، في غاية الأهمية، مادامت هي صورة وسيطة بين القفز والتحليق، اللامتواصل والمتواصل. التوتر الذي يلزم بلزاك ترجمته، يمنح استمرارية إلى لحظة للتصميم. إنها وعي بقوة ستؤثر ثم تواصل مجهودا. يمسك بجوهر نفسية التصميم، بل يقف عند نواة التمثُّل والإرادة. يعثر هذا الإسقاط على درسه الأول مع خيال التحليق الديناميكي. فلماذا لاتتحقق إذن استضافته؟لذلك نجد في نفس الصفحة، إحالة واضحة على التحليق الحُلُمي : "كان الزمان عند نهاية اليوم، تحديدا ليلا. أحلِّق، محمولا من لدن مرشدي، تجذبني قوة تماثل تلك التي تبهجنا إبان أحلامنا، داخل دوائر لا تدركها أبصار الأجساد"(28).

يمثل تجلي رغبة التحليق عند عتبة الليل والنهار، علامة على هذا التسامي المركَّب بحيث تقود الخِفَّة إلى الضوء وكذا من الأخير نحو الخِفَّة، كما الشأن بالنسبة لـ"التطابقات'' الشعرية لدى شيلي. يفسر التسامي المركَّب الخاصية المادية وأيضا الديناميكية للهالة التي تحيط بهؤلاء الذين ''يصعدون". سيتناول القارئ الذي ''يفكر'' سرد بلزاك، باعتباره تخيُّلا دون جدوى. لذلك، تسكننا رغبة أن نكون قارئا "يتخيل"، كي نستوعب بالمعنى القوي، أي الفيزيائي، السطور التالية: "إن هالة الإشراقة التي توشِّح جباهنا تنتشل الظلام عن طريقنا كغبار متناثر". لنحيا إذن تطور المجرد نحو الملموس مادام يلزم دائما إحياء الكلمات بواسطة الصور. نزيل عن هامَتِنا غشاوة الظلام، أي نطرد ما يحزن النظرة، ونستبعد الهموم كأنها مجرد رماد، ودخان، بل مثل غموض بعيد جدا.

هكذا، تتجلى هالة الإشراقة مثل تمدّد فيزيائي ناعم وتدريجي. تمدّد فكر يأخذ شيئا فشيئا وعيا بتجليه. في إطار هيمنة المتخيَّل، يحدث الصراع بين الوميض والظِّل الخفيف، ويتم من الغامض إلى الغامض، وكذا السلس فالسلس. الهالة في خضم صيغتها الناشئة، بحيث لازالت لم ترشق بأشعتها، ومنحصرة فقط عند السيطرة على ''غبار متناثر". إنها مادة حركة سعيدة. بهذا الخصوص كتب فيكتور إيميل ميشلي(الجب والسحر، ص68 ) : "يتحرك الجسد الكوكبي ضمن نطاق دائرته مثل سمكة وسط الماء". أيضا، وبكيفية أكثر تجريدا، تحقق الهالة إحدى أشكال النجاح ضد مقاومة الصعود. مقاومة يتقلص مداها تبعا لقدرتنا على الارتقاء، وتختلف كليا عن المقاومة الأرضية التي تزداد بقدر ما نحفر. تعتبر هذه الملاحظة –هل ينبغي الإشارة إليها؟- أكثر دقة وانتظاما في العالم المتخيَّل، قياسا للعالم الواقعي الذي يعيش طوارئ عدة!

بوسع صورة كونية المساهمة في تمجيد الهالة. يتسع الأفق ويستضيء، بالنسبة للذي يرتفع. يشكِّل هذا الأفق لدى الكائن المرتفع عَظَمة هالة الأرض المُتأمَّلة؛ ثم لايهم إن تجلى الارتقاء فيزيائيا أو معنويا. تكون واضحة نظرة من يرى بعيدا، وجهه مُشْرقا، جبهته تشعّ. فيزياء المثالي، فيزياء متماسكة جدا، تقبل التبادل. لكن إذا أردنا حقا، مثلما نقترح، جعل الصور الأدبية، مادية وديناميكية، فليست هناك مجازات بالمعنى التقليدي للمصطلح. ينطوي كل مجاز في ذاته على قوة قابلة للارتداد؛ يمكن لقطبي مجاز بالتناوب لعب دور واقعي أو مثالي. مع هذه الانعكاسات، تأتي العبارات المستهلكة جدا، مثل تحليق للجُمَل، كي تكتسي شيئا من المادة وكذا حركة فعلية. أن نُفَعِّل مجهودا للخيال كي نضع الصور ضمن سياق الحركة ثم نضفي عليها بيسر طابعا ماديا، مادتها الهوائية.

إنّ نصا مثل هذا: "المحظور الكبير"، الذي يقول: "السفر نحو الفضاءات حيث تتمرن الأرواح الهائمة على أجنحة حديثها، وتجعل المستمعين يشعرون باللانهائي وقد انغمست بهم وسط المحيط السماوي. يشرح الطبيب منطقيا الجحيم بمجالات أخرى، ترتِّب حسب نظام معكوس دوائر لامعة، تصبو إلى الله، حيث حَلَّت المكابدة والظلمات محل النور والفكر. تُفهم الأوجاع كالملذات على حد سواء. تكمن مصطلحات المقارنة من خلال تغيرات الحياة الإنسانية، ضمن أبعادها المتعددة فيما يتعلق بالألم والذكاء"(ص، 331)، التفسير كما ورد، حسب اعتقادنا، أخذ منحى فيزيائيا و فيزيولوجيا أكثر منه''منطقيا". تمثل حقا، العذابات وكذا المسرَّات عناصر لعلم الكون. إنها سمات جوهرية لمعرفة بالكون ثنائية ذات خيال أرضي وهوائي. تلامس تجربتنا الخاصة.

يجد التطلع نحو الأعلى دلالة فقيرة جدا مظهريا، لكنها مباشرة، من خلال إحدى طاقات الحلم. فلماذا لا نحيل بهذا الخصوص على الوارد في صفحة بلزاك الأكثر بساطة. إذن ليس المحيط السماوي في اعتقادنا، سوى محيط حياتنا الليلية. فالأخيرة محيط لأننا نطفو داخله. لحظة النوم، ل انستمر جامدين فوق الأرض، بل ننتقل من نوم إلى نوم ثان أكثر عمقا، أو يشرئب قليل من الروح داخلنا وجهة الانبعاث : بالتالي نرتفع. نصعد باستمرار أو ننحدر. يحافظ النوم على ديناميكية عمودية، متأرجحا بين نوم عميق بما يكفي ثم آخر أقل عمقا. أن ننام، يعني ننحدر ونصعد مثل رقَّاص ضغط مرهف الحس بين ثنايا مياه الليل(29). يقبع الليل والنهار، دواخلنا، تحكمهما ضرورة عمودية. إنها أجواء ذات كثافة متباينة بحيث يصعد الحالم وينزل تبعا لثقل آثامه أو جراء تناقص وزنه نتيجة غبطته.

ندرك إذن سعي دانتي، مثلما، يقول بلزاك، كي: "ينتزع من داخل أحشاء الفهم المعنى الحقيقي لكلمة سقوط التي تتضمنها كل اللغات''(ص322 ). فكيف نقول بشكل أفضل بأن تجربة السقوط، صورة أدبية أولى؟ نتحدث بشأنها قبل التفكير فيها؛ بحيث تعكس تجربة بعيدة وحالمة. إنها تسكن حقا "أحشاء" الخيال الديناميكي. الجاذبية قاعدة نفسية إنسانية مباشرة. توجد داخلنا، تشكِّل مصيرا يلزم التغلب عليه، وتطوي المزاج الهوائي، في تأملها الشارد، باعتباره استبصارا لانتصارها. يتابع بلزاك، تأويل دانتي قائلا : ''يبدو بكيفية واضحة أن شغف كل البشر بالارتقاء، والصعود، يعكس طموحا غريزيا، ورؤيا دائمة لمصيرنا''. نشعر فعلا بأنه تصور لايستدعي الطموح الذي يكتنف الأفراد بالتحليق داخل المجتمع، لكنه اشتغل على صورة أصلية تمتلك حياتها الخاصة والمباشرة في الخيال الطبيعي. حتى ولو انطوت هذه الصفحات على حمولة مجازية، فلا تأخذ قوتها الحقيقية إلا إذا فهمناها باعتبارها دروس فيزياء لما هو معنوي، جانب تأتت له سلفا حياة رمزية داخل عناصر المادة. إنها ليست بتعابير مجازية، ثم أكثر من هذا ليست رموزا، بل تبلور حدوسا موحِيَة.

بناء عليه، يمكننا استيعاب ماكتبه خواكيم جاسكي(30): ''هل ستكون الحركة صلاة للمادة، اللغة الوحيد، التي يتكلمها الله أساسا؟الحركة ! يتجلى من خلالها حب الكائنات ضمن نطاق نظامها المجرد، عشق الأشياء. يحرِّك كمالها كل شيء، بحيث تربط الأرض بالسحب، وكذا الأطفال بالطيور". تكمن الحركة الجوهرية بالنسبة لرؤية جاسكي، من خلال تجريدها وإنجازها، في الحركة العمودية التي تربط : ''الأطفال بالطيور''، ويضيف فيما بعد: "ألا يسبح الإله في الهواء قليل الكثافة، عند قمة الروح، مثل الفجر فوق ثلوج تمنح البياض؟''. سنصادف، بلا شك، اعتراضا مفاده أن وثيقة بلزاك التي تحدثنا عنها، تظل بعد كل شيء، وثيقة أدبية، ومجرد استدعاء أدبي لجانب عند دانتي Dante تقليدي جدا، بحيث يمكنه حقا، مهما قلنا بصدده، التحول إلى صورة رمزية.

بكل بداهة، ينبغي الاعتراف حين قراءة دراما بلزاك المعنونة بـ''المحظورات''، بأن ''معارفه'' حول فلسفة العصر الوسيط، وكذا علم الكون عند دانتي، اتسمت بطفولية ملحوظة. لكن تحديدا، إن بدت الموسوعية أكثر ضعفا، فالخيال أكثر أهمية، والصور مباشرة جدا. دانتي المتخيَّل هنا من طرف بلزاك، لا يعكس سوى تجربة نفسية لبلزاك، غير أنها تجربة إيجابية؛ تحمل سمة لاوعي مميز جدا؛ تنبثق من عالَم حُلُمي يتصف بصدق كبير. سنصادف إقرارا بين طيات عمل آخر لبلزاك. وبالتأكيد، يمتثل كليا عمله المعنون بـ"سيرافيتا" إلى موضوعات علم النفس الارتقائي. لقد كتب هذا النص السردي، فيما يبدو، قصد الابتهاج على نحو واع بالارتقاء اللاواعي. إن قارئا حقق استئناسا ديناميكيا صحبة هذا العمل، سيلامس من خلال ذلك مفعول نعمة كبيرة. في هذا الإطار، نعود إلى أوغست ستريندبرغ بروحه المضطربة جدا، إبان مرحلة، وصف إبانها ذاته قائلا: "محكوم علي من طرف القِوى بجحيم غائِطِيّ''، سيعثر بين طيات سيرافيتا على خلاصه(31): "لقد أضحت سيرافيتا بالنسبة إلى أنجيلا، وجعلتني أرتبط ثانية بمصاهرة مع العالم الأخر، إلى درجة أن الحياة تشعرني بالتقزز ويجذبني حنين لايقهر نحو السماء''. بفضل بلزاك اكتشف ستريندبرغ نصوص إيمانويل سفيدنبورغ.

حينما ندرك الصدق المؤثر لأوغست ستريندبرغ، لايمكننا تبخيس القيمة النفسية لنزوعات الارتقاء التي عاينها عبر فقرات سيرافيتا. إنه مقسم بين السماء والأرض. يؤكد بهذا الخصوص: "يحميني صديقاي أورفيلا وسفيدنبورغ، وأتلقى منهما التشجيع وكذا العقاب في نفس الوقت''. شخص كيميائي ورؤيوي، يمتلك حركتين، مما خلق لديه نوعا من الشقاء الديناميكي. شكَّلت غالبا بالنسبة إليه، الوحدة الديناميكية لسيرافيتا ملاذا. سنحاول إبراز هذه الوحدة الديناميكية. خلال لحظة، حيث لا شيء يتيح إمكانية تحديد الخاصية العضوية لوظائف التوجيه، كتب بلزاك في سيرافيتا(32)، التالي: "وحده الإنسان يمتلك إحساسا بالعَمودية وقد تموضع داخل جهاز خاص". شعور ديناميكي يدفع الإنسان كي يحقق باستمرار بعده العمودي، ويمتد نحو الأعلى. تحفِّز الإنسان رغبة أن يبدو عظيما، منتصب القامة.

هنا أيضا، يلزمنا تناول المجاز قريبا جدا قدر الإمكان من الحقيقة النفسية (ص 180): "يكبر سيرافيتوس كاشفا عن هامته، كما لو يرغب في الوثوب". يبدو بأن سيرافيتوس يعكس تحديدا حالة سيرافيتا، الديناميكية والمتسامية. هكذا، تصبح الهامة ذكورية بامتياز. قبل ذلك، فالكائن الذي يتحرر ساعيا إلى "التحليق" يقذف بخصلات شَعْره نحو رياح ركضه. تقدم لنا صفحات بأكملها، كما الشأن مع الصفحة 239، تصورات عن تحليل نفسي دقيق حول سقوط بطولي تعقبه حركة الطبيعية، لتحليق مدحور. سنختبر مرة أخرى، من خلال هذه الحالة المرتبطة بالتحليل النفسي للجناح، بأن الجناح المتخيَّل يأتي بعد التحليق. نتحسس أجنحة لنا عندما لا نبذل مجهودا بهدف التحليق. لكنها تتبدى بسرعة، مثل إشارة على تحقيق الانتصار، هكذا تحدثت مثلا فقرات الصفحة 184، عن تحليل نفسي للتحليق في الجو.

سنكتشف من جهة أخرى حين قراءة هذه الصفحة، بأن الصور الديناميكية التي نعيشها تسيطر على الأخرى التي ندركها بالنظر. لأن هذه الصور المرئية، تظل في العمق، مجرد ذكريات، باهتة ولاينتعش معها الفعل المبدع. شكَّلت الرواية الشعرية سيرافيتا، على غرار رواية بلزاك الأخرى التي تحمل عنوان ''لويس لامبيرت"، قصيدة للإرادة، قصيدة ديناميكية. تتيح بعض التيمات المادية على امتداد العمل، إمكانية بناء صور الارتفاع. هكذا، إبان مشهد عام للنرويج خلال فصل الشتاء، يظهر بالكاد تجلٍّ أولي لبعض الأفراد؛ وأول كلمة إنسانية تلفظها الكاتب أشارت إلى سهم، يعْبُر محلقا السماء البعيدة، بحيث سيجسِّد منذئذ، كلمة محفِّزة، وتلك الصورة الأولى الخلاّقة لصور ثانوية، إذا اقتفينا أثر هذه الصورة كنسق للتحليل، فسينتظم من تلقاء ذاته. على العكس من ذلك، حدوث أي تقصير بخصوص الانتباه إلى هذه الصورة المحفِّزة، فسيجعل ذلك صفحات بأكملها مبهمة، فقيرة، فاترة. تغدو جامدة، لأننا لم نتمكن من معانقة مجراها الحياتي.

تضم صورة السهم بكيفية دقيقة معطيي السرعة والاستقامة. إنها ديناميكية مبدئيا. عندما استلهم الخيال من صورة هذا السهم البسيط المحلِّق في سماء شتوية، بمختلف الانطباعات المحتملة، سيعمل الكاتب على عقلنتها بالتزلُّج، والمتزلِّج، بحيث سنفهم بأن الأخير ينتقل صوب الأفق ''مثل سهم''. لكن الشيء الحقيقي يتحدد بعد الحركة المتخيَّلة. يصف الكاتب شخصيات، انتعلت الزُّحْلوقة، بعد أن شاركهم بفضل الخيال الديناميكي، حركتهم الشبيهة بسهم مستقيم وسريع. نعاين هنا حالة واضحة جدا بخصوص أولوية الديناميكي على حساب الصوري. نصل دائما إلى نفس الخلاصة: تهيئ الحركات المتخيَّلة الأشكال الشعرية، كما تفعل المادة مع الطفرة الحيوية بالنسبة للنظرية البرجسونية.

بالتأكيد، لايتعلق الأمر فقط بصور تمر عابرة أمام الأنظار. ليست كل حركة وبشكل آلي مجرد سيل من الصور. يعتبر السهم الذي ينعش صفحات بلزاك مؤشرا عن حركة ارتقائية. بالتالي، سنفهم دورها في إطار سرد يقتضي من قارئه مشاركة عميقة بخصوص صيرورة الارتقاء. نساهم في ارتقاء متخيَّل تبعا لضرورة حيوية، مثل توسع حيوي في العدم. هكذا ننخرط، بكل كينونتنا، في جدلية اليمِّ وأعالي القمم. اليمِّ وحش، نمِر، شدق مفتوح، غيور من المرعى؛ يبدو حسب قول بلزاك (ص 174)، بأنه : ''يسحق سلفا فريسته ''. يلزم التحليل النفسي للارتقاء، انطلاقا من كونه حسَّا تربويا للصعود، خوض صراع ضد هذا الوحش المتعدد الأشكال. يخاطب سيرافيتوس سيرافيتا المرتجفة باستمرار، ويحثُّها كي ترفع رأسها صوب السماء: "تأمَّلِي بلا خوف فضاءات أكثر رحابة ''، ثم يُظهر لها: "الهالة الزرقاء التي ترسمها بعض السحب وهي تترك فضاء مضيئا فوق رؤوسها''(ص 174 ). "ربما لن ترتجفي قط عند هذا الارتفاع؟ هكذا تغدو الهاويات سحيقة جدا لن تتمكني قط حينئذ من تحديد مدى عمقها؛ لقد خَبِرَت الأفق الذي يوحِّد البحر، وموجة السَّحاب ثم لون السماء''. لنحيا قليلا، ديناميكيا، تسيُّدنا على الهاوية: سيتضح لنا بأنها تفقد ملامحها الأولى ما دمنا بصدد الابتعاد عنها. يلاحظ الكائن خلال صعوده انمحاء جغرافيتها. تتلاشى الهاوية بالنسبة إليه، يغشاها البخار، تسودها غشاوة. أيضا، تسترخي مختلف الصور الحيوانية؛ ولم تعد مجازيا سوى موجة حيوانية.

بفضل مكسب معاكس، يتشكَّل بالنسبة للكائن الذي يصعد، الارتفاع ويتباين مستواه. يخضع الخيال الديناميكي إلى قصدية ذات قوة استثنائية، بحيث يعيش السهم الإنساني اندفاعه، هدفه وسماءه. يدرك الإنسان قوته المتعالية من ثمة الوعي المطلق بمصيره. أكثر تحديدا، يعرف بأنه مادة للأمل، وجوهر طموح. يبدو مع هذه الصور، ملامسة التطلع لأقصى تحديده. مصير يأخذ وجهة مباشرة. إذن الارتقاء المتخيَّل، بمثابة تآلف بين العواطف الديناميكية والصور. نعاين، التئاما طبيعيا جدا بين مختلف تطابقات شيلي، حينما تمخر سيرافيتا الأجواء الهوائية. يمكننا أن نقرأ في الفصل الأخير المعنون ب"صعود العذراء"(ص 348 )، مايلي : "ينجب الضوء النغم، مثلما يصدر الضوء عن النغم، لقد كانت الألوان ضوءا ونَغَما، بينما تبلورت الحركة من خلال كونها حصيلة عددية بارعة للكلام، أخيرا، تجلى كل شيء في ذات الوقت باعتباره رنَّانا، شفافا، متحركا''.

تمثل ثلاثية الرنَّان، الشفاف، والمتحرِّك حسب الأطروحة التي يدافع عنها هذا الكتاب، إنتاجا لإحساس حميمي بخفَّة الوزن، وليس مصدرها العالم الخارجي. يشكل حقا إنجازا، هذا التحول من وضعية كائن ثقيل ومضطرب، نحو آخر خفيف، شفاف، ونابض، بفضل حركة متخيَّلة، وكذا الإصغاء لدروس الخيال الهوائي. بوسعنا حتما، ألا نرى هنا غير مجازات بلا طائل. غير، أن تأويلا تحقيريا للغاية، من هذا القبيل، لا يمكنه الاستناد سوى على قراءة تقبل بلا نقاش صور الأشكال كماهية لحياة المتخيَّل. وبما أن صور الأشكال الهوائية تغدو فقيرة ورخوة حين مقارنتها بالأشكال الأرضية، يصبح إبَّانها الخيال الهوائي متهورا؛ سخر منه بحماس كل الفلاسفة ''الوضعيين"، وكذا واضعي تصاميم الواقع. تصور ينتهي، حينما نعيد حقا للخيال دلالته الديناميكية.

إذا بدت الصور فقيرة في السماء، فالحركات ذاتها حرة. والحال، وحده هذا الشعور بالحرية، يبلور مزيدا من الصور الرائعة مقارنة مع جل ذكريات ''الزمن الضائع''. بل يشكل مبدأ المقاربة النفسية للتصميم، والتي تغمر المستقبل. تتكلم ''الحرية الهوائية''، تضيء، تنتشل. هكذا، ترسم ثالوث، الرنَّان، الشفاف، والمتحرِّك خلال قراءتنا لسيرافيتا، فقد تعمدنا أن نترك جانبا الحقيقة المعنوية الضمنية لصور الارتفاع. بحيث، ينصب هدف عملنا الحالي، على تعيين الشروط النفسية الصرفة لخلاصات متخيَّلة، قدر مانستطيع. يلزم حسب اعتقادنا، لصاحب مرجعية أخلاقية يودُّ الاشتغال على معطياتنا، التأكد من أن الارتفاع في جوانب معينة، ليس فقط تهذيبيا، بل يعتبر أصلا، من الناحية المادية أخلاقيا، إذا صح التعبير. يتجاوز مستوى كونه مجرد رمز. عندما يتم البحث عنه، وتخيّله تبعا لمختلف قوى الخيال باعتباره محرِّك فعاليتنا النفسية، سيكتشف بأن الارتفاع أخلاقي بكيفية حيوية، ماديا وديناميكيا.

حاليا وقد أوضحنا مع نماذج شيلي وبلزاك، تشكّل الصور الشعرية الأكثر تنوعا حول التجربة الحميمة للتحليق الحُلُمي، ثم نستوعب أهمية ملاحظة بلزاك(33): كلمة تحليق، بمثابة كلمة ''حيث يخاطب الجميع الحواس"، بوسعنا التمرن على قراءة مؤشرات عن التحليق المتخيَّل من خلال صور جزئية وعابرة تبدو غالبا فقيرة ومبتذلة. إذا جاء تصورنا صائبا، ينبغي للأبحاث حول الخيال الديناميكي المساهمة كي تتدفق الحياة ثانية، نحو الصورة الباطنية المتوارية بين الكلمات. فالأشكال تُنْهك أكثر من القوى. لذلك، ينبغي لهذا الخيال الديناميكي، العثور مرة أخرى بين طيات كلمات مستهلكة على قوى مختفية. جل الكلمات تخفي فِعْلا. الجملة سلوك، بل مسلك أكثر من ذلك.

يعتبر الخيال الديناميكي بشكل دقيق جدا متحفا للمسالك. بالتالي، علينا تمثُّل تلك المسالك المستلهمة من طرف الشعراء. مثلما قالت فيفيان، في كتاب إدغار كينيت''ميرلان الساحر"(ص 20): "يستحيل أن أصادف غزالا دون محاولة الوثب على أثر خطاه''، فالقارئ الذي لايأبه كي يجعل النصوص مرهفة الحس، سيقرأ دون اهتمام هذه الجملة برؤية مبتذلة ضمن سياق جمل أخرى. لكن، ما السبيل نحو التماهي أساسا مع اللوحات الديناميكية أساسا، والتي جعلت من''ميرلان الساحر"، عملا متينا جدا من الناحية النفسية؟تعود مع ذلك الصورة ''المبتذلة'' بنوع من الإلحاح كي تثير الدهشة. قبل ذلك، كتب كينيت في الجزء الأول(ص326) مايلي : ''فيفيان أخفّ من عنزة، بل ومن طائر"، ثم تقول فيفيان(الجزء الثاني ص 27) : "هناك ساعات أركض خلالها أسرع من الأيل، نحو قمة الجبل، يحملني الأمل. فلنصعد نحو القمم".

إن بدت فيفيان، أخفّ من ظبية وعنزة وكذا الأيل، فلأنها منحت فعالية أكثر إلى تحليق يشارك في هذه الصور، لكنه يحافظ على جوهرها الديناميكي. تحلِّق فيفيان نتيجة اندفاع، بفضل لحظات للخِفَّة مباغتة. تشكِّل هذه الخِفَّة قوة يقظة في عالم ميرلان الساحر. تبعث فيفيان لحظات للتحليق داخل مشاهد طبيعية كسولة، لحظات تحليق ويقظة مميزة جيدا بحيث يمكنها تقديم موضوعات لتمثيل لحظي سيعبر عنها ميتافيزيقي كما يلي : العالم لحظة يقظتي، وتشكيل لملامح صباحي. إذا كانت ديناميكية عمل ميرلان الساحر إيحائية جدا، لأن مضمونه تحديدا يعكس لحظات التحليق تلك، لحظات تحليق إنساني. هكذا، يصبح التحليق الموضوعي للطائر، بالنسبة لكينونتنا، حركة خارجية جدا، وغريبة بما يكفي قياسا لقوانا الحالمة؛ مادام تحليق الطائر يرسم أمامنا رؤية جدّ بانورامية حول كون مُسْتكين إلى إجازة في إطار نظرة جامدة. عندما نستحضر التحليق الحُلُمي، ستبدو فيفيان أكثر صدقا مع سحر الحلم، حين وصفها تأملات شاردة طويلة بصور الحياة اليقظة.

يعيش عباقرة أكثر أرضية، وأقل هوائية، مثلما تبدو لنا عبقرية يوهان غوته، لحظة الوثب، بخشونة واضحة. نسمع، عبر مقاطعهم الشعرية، قرع الحذاء على سطح التربة. تبعا لحدوسهما الأرضية، ستمدّ التربة والأرض بقوة، ذاك الكائن الواثب. اختبر غوته أسطورة آنتي Antée، كما فعل أغلب المختصين في الأسطورة، حسب دلالتها الأرضية. مع ذلك، حضرت سمات هوائية، غير أنها بدت كما لو طُمست: ستكون ديناميكيا تابعة. نقرأ في الجزء الثاني من فاوست (ترجمة، بورشا، ص406)، مايلي: "عبقرية، عارية من الأجنحة، كحيوان دون بهيمية، يقفز فوق تربة الأرض؛ لكن ارتداد مقاومة هذه الأخيرة، يقذف به نحو الهواء، ثم مع الوثبة الثانية والثالثة، يلامس أعلى القُبَّة. تناشده الأم بقلق: "بوسعك أن تقفز، أن تقفز أكثر، تحت رحمة رغبتك، لكن احرص على التحليق". التحليق الحر ''يدافع عنك''. بدوره، ينبهه أبوه الحنون، قائلا: "يكمن في الأرض القوة التي تدفعك نحو الأعلى: يكفي أن يلامس إبهامك الأرض فقط الأرض، وستغدو فجأة معافى مثل آنتي ابن الأرض". بيد أن وعي إفوريون(34) لايكترث بهذا الاغتناء، مادام نزوعه الديناميكي يفوق مستواه المادي، ويعتبر هوائيا أكثر منه أرضيا.

وجود إفوريون مجرد انتشاء بالوثب. يقول (ص 408): "حاليا، اتركني أقفز! دعني أنطُّ! يتجه تطلعي نحو الانطلاق صوب الأجواء الهوائية". كم سنفهم بشكل أفضل، صفحات من هذا القبيل، حينما نعيش نشوة التحليق الحُلُمي، ونتمثَّل ديناميكيا صورة الأجنحة عند الأقدام! حينما يلتطم إفوريون بالأرض، لايمحو سقوطه انتصار الكائن الواثب. يبدو، أنه خلال السقوط، ينقسم إفوريون، وينفصل العنصران المتآلفين ضمن طبيعته كي يعودا إلى أصلهما الخاص بهما (ص 412): "يضمحل فجأة العنصر الجسدي؛ ترتقي الهالَة نحو السماء مثل مُذنَّب، ولا يبقى على الأرض سوى الملابس، المعطف وكذا القيثارة''. يمكننا، من جهة أخرى، أن نتبيَّن مدى خمول هذه الصور الشكلية للهالة والقيتارة. يبدو بأن الشاعر اقتصر بخصوص بحثه على دلالات رمزية، معترفا ضمنيا بأنه أضاع الخاصية الكبرى للخيال الديناميكي العمودي.

ربما أيضا، شكَّل إيقاع دقات القدم على السطح أساسا للإيقاع الموسيقي. لقد لاحظ أندري شايفنر من خلال رقص بدائي، انصهارا لأساطير الأخوَّة بين الأرض وكذا الوثوب النباتي. إحدى أصول الرقص: "أن تكون الأرض، هذه الأمّ، وطء خطوات، ووثبات أكثر ارتفاعا بحيث يقارب علوها نمو النبات: يتعلق الأمر هنا برموز ربيعية، وكذا طقوس للخصوبة - سيكون تقديس الربيع زاخرا بهذا النوع من الوطء الشعائري على التربة - تمنح تلك الخطوات وكذا الوثبات دلالة تعتبر ربما الأولى''. يتوخى الكائن الإنساني، إبان شبابه، اندفاعه، خصوبته، الانبثاق من الأرض. القفز سعادة أولى. كي ننهي ونجمل، نقدم مثالا واضحا جدا، في غاية البساطة، عن استمرارية التأمل الشارد الجامع بين رغبتي أن تصير كبيرا وكذا التحليق. في هذا الإطار، سندرك بأنه داخل الخيال الإنساني، يمثل التحليق ارتقاء بالسمو. نستعير هذا المثال من جون كيتس (قصائد وأشعار، ترجمة. غاليمار، ص93 ):

أرتفعُ على أصابع قدمي صوب قمة ربوة صغيرة

خلال لحظة شعرت بأني خفيف وحر.

فقد اكتست ساقي بحركة مروحة أجنحة زئبقية: هكذا صار قلبي رشيقا،

وانبجست أمام عيني مباهج عدَّة ؛

ثم شرعتُ فورا في تشكيل باقة من الروائع؛

متلألئة، ناعمة، متناغمة ووردية اللون.

باقة ورود من السماء. يلزم الارتقاء بغية قطفها ''بكيفية خفيفة وحرة''. هذان التعبيران المرتبطان جدا تقليديا بحيث ننسى البحث عن الخاصية الاعتيادية لتآلفهما. وحده الخيال الديناميكي بوسعه جعلنا نستوعب هذا الترادف. يتأتى الانطباعان من نفس توجه الخيال الهوائي. وسنلاحظ بأنه توجّه، وكذا سماء لنزوع التحليق الحُلُمي الذي يجذب جلّ الحالمين الهوائيين.

 

هوامش :

 مصدر الدراسة، كتاب غاستون باشلار، المعنون ب : Gaston Bachelard : l' air et les songes ;1943. PP : 27- 78.

1- بالتأكيد، ينطوي تطبيق التحليل النفسي على تباينات دقيقة تضاعف من شأن الترميز. هكذا، وبخصوص الحلم المتعلق بالدرج، القريب جدا في أغلب الأحيان من حلم التحليق، أقر الطبيب روني أليندي بالملاحظة التالية : " يصعد الرجل السلالم (حيوية) والمرأة تنزلها (سلبية). أيضا، أشار أليندي من جهة أخرى إلى العديد من الانعكاسات التي تضفي مزيدا من التنوع على هذا الحلم البسيط جدا.

2-P . Saintyves : En marge de la légende dorée, paris ,1930. P. 93.

 3-Principles of sociology ,troisième édition ,volume 1,page773.

4-Physiologie du gout ,édition,1867,P. 215.

 5-La fin de la peur,p. 82.

6-Le monde des rêves ;p. 171.

(7) شارل نوديي : تأملات شاردة، ص165

(8) جول ميشليه (الطائر، ص 26) : "يمتلك الإنسان حظا وافرا إبان أفضل فترات عمره وكذا أحلام شبابه، كي ينسى ارتباطه بالأرض. هاهو يطير ويحلق".

 (9)تخلَّص أحد السورياليين من تحولات بطيئة، فكتب مايلي : ''فلتذهب أحذية الأمكنة السبعة الشفافة بغية اكتساح العالم''(ليو مالي : حياة وبقاء مصاص الدماء"، دفاتر الشعر، السوريالية مرة أخرى ودائما غشت 1943، ص 17). يسخر النقد الكلاسيكي بتأمله أحذية الدَّركي من الأحذية الشفافة''. بالتالي، يستخف من الخيال الديناميكي الأساسي : كل مايعبر الأجواء، فإنه ديناميكي وهوائي من ناحية جوهره.

(10) سالومون رايناخ : طقوس أساطير وديانات، الجزء الثاني ص 50

(11) أودرها ألبير بيغان : جان بول، انتقاء أحلام، ص 40 .

(12) ماريا ريلكه : شذرات نثرية ص. 191

 (13) نيتشه : حالة فاغنر، ص 14 .

14)) ألدوس هاكسلي : أفضل العوالم، ص 30 .

(15) لوي كازاميان : دراسات في التحليل النفسي الأدبي، ص 82 .

(16) ريلكه : أشعار، ترجمة لو ألبير لازار.

(17) شيلي : أعمال مترجمة، الجزء الثاني ص. 120

(18) شيلي : أعمال مترجمة، الجزء الثاني، ص. 274

(19) بيير غيغين: رهانات كونية، ص. 57

 (20)ربما بنظرات متجسِّدة، يمكننا تأويل تخمينات شوبنهاور التي ادعت بأن الألوان مزيج للضوء و الظلمات.

 (21) لوي كازاميان : دراسات في علم النفس الأدبي، ص 53 .

 (22)شيلي، ترجمة الجزء الثاني، ص 249، "ساحرة أطلس".

(23) هل ينبغي التذكير، بأنه حسب نظرية ديكارت عن نشأة الكون، تمثل مادة السماء مصدر دوران الأرض على نفسها؟دليل على أن حدوس ذهن ساطع لا تختلف كثيرا عن رؤى شاعر.

 (24) ألفريد نورث وايتهيد : العالم والعالم الحديث، ترجمة، ص 116 .

(25) بول دو راول : القصيدة الانجليزية من ويليام وردزورت غاية جون كيتس، ص. 213

(26) بغية تقديم جواب على الاعتراضات التي وُجِّهت إلينا بخصوص توظيف مفهوم"كليانية معيارية الجمال''(Pancalisme)، يلزم التذكير بالمصدر الذي استلهمناه منه ويتمثل في معجم جيمس مارك بلدوين، بحيث سعينا تبعا لهذه المرجعية التأكيد على أن النشاط الجمالي يتطلع وجهة تحويل كل تأمل في الوجود إلى إقرار بكونية الجمال.

 (27)بلزاك، المحظورات، باريس. 1902

(28) ماريكوفسكي، دانتي، ترجمة، ص 449 : "تختلف كليا أجنحة دانتي المتوقدة، أجنحته الداخلية، عن أجنحة ميكانيكية، خارجية، كما الحال بالنسبة لأجنحة ليوناردو دافينتشي وكذا أجنحتنا".

(29) جيرار دو نيرفال، أوريليا، حوزي كورتي ص 84 : "رأيت البارحة حلما لذيذا، كنت وسط برج عميق جدا على المستوى الأرضي، وفي غاية الارتفاع من ناحية العلو، بحيث بدا لي أن كل وجودي يلزمه المضي صعودا ونزولا".

(30) خواكيم جاسكي : نارسيس، ص 199

(31) الجحيم، ترجمة، ص : 117 -118

(32) بلزاك : سيرافيتا، باريس، 1902، ص 299

 (33)بلزاك : لوي لامبرت، ص 5 .

(34) ابن أخيل وهيلين، حسب الأساطير اليونانية(المترجِم)