يقدم الناقد السوري دراسته للتحولات الجمالية والرؤية في شعر توفيق أحمد، مبينا قدرته على استيلاد رؤى ودلالات جديدة غير معهودة في التشكيل الجمالي الشعري، خالصا إلى أن الرؤيا عنده هي البنية التأسيسية للقصيدة، التي يزيدها الوعي الجمالي توهجا، وترفدها المهارات الأسلوبية ببنى وصور تفتحها على أفاق خصبة من الرؤى والدلالات.

فاعلية الرؤيا الشعرية وتحولاتها النسقية

في قصائد توفيق أحمد

عـصام شـرتح

 

الشعرية أفق جمالي مفتوح، وحساسية رؤيوية في تشكيل الجملة، برؤية منطقية، ووعي شامل للكثير من القضايا الوجودية، والمؤثرات الجمالية، واستثارة قيمها المرهفة، وحساسيتها الجمالية الخلاقة؛ وهذا يعني أن الشعرية كتلة فواعل جمالية؛ تبث ألقها الجمالي من خلال حساسية الرؤيا الشعرية في اختيار الكلمة، وشاعرية الجملة، وإيقاعاتها المتناغمة إيحاءً، ورؤية، ودلالة؛ واستثارة جمالية خلاقة بمراجعها النصية، وانفساح الرؤية الجمالية. ولهذا تكمن عبقرية الشعراء في مهارتهم الرؤيوية في تعاملهم مع اللغة الشعرية تعاملاً فنياً جمالياً موحياً "في استيلاد الكلمات معاني جديدة لم تكن لها قبل أن توضع في هذه التراكيب التي يختارونها"(1). وهذا يعني أن شعرية الشاعر تنبع من خبرته الجمالية ومهارته اللغوية في استيلاد كلمات جديدة تتضمن شعرية خاصة تبرز من خلال تفاعل الأنساق الشعرية واستثارة قيمها الجمالية. ولهذا يقال عن الشاعر (نبي اللغة) أي المتأمل الجمالي في حياكتها وتشكيلها الجمالي الخلاق المؤثر.

ووفق هذا التصور، يمكن القول: إن الشعرية توليد تشكيلات أسلوبية خلاقة بمؤثراتها الجمالية، وحياكتها النصية الموفقة التي تبرز كقيم جمالية منتجة للدلالات والرؤى الجديدة؛ ذلك أن الشعرية – بالأساس- شاعرية بناء، وتوليف جمالي إيحائي شاعري مموسق؛ ولا تكتمل الرؤية الشعرية في توجهاتها المثيرة إلا بفاعلية الرؤيا الشاعرية في ربط الكلمات، والجمل، وتوليفها بأسلوب مثير غير معتاد، ومن هنا، فالشعرية أو الشاعرية تختلف من قصيدة إلى قصيدة، ومن تجربة شعرية إلى أخرى، تبعاً لفاعلية الرؤى النصية ومثيراتها النصية التي تبرز في الكثير من المفاصل النصية الحساسة التي تثيرها القصائد المبدعة في توجهاتها الجمالية، ومداليلها النصية العميقة. وهذا يعني – باختصار- أن الشعرية توليد جمالي للأنساق الجمالية المثيرة التي تحرك الإحساس الجمالي بالشكل الأسلوبي التناغمي المثير بين دهشة اللقطات الشعرية الآسرة ومتحولاتها النصية الأسلوبية الخلاقة بمنتجاتها النصية التي تبرز على صعيد الصور والتشكيلات النصية الصادمة.

والشاعر الجمالي هو الشاعر الرؤيوي بامتياز، أي هو القادر على استيلاد رؤى ودلالات جديدة غير معهودة في التشكيل الجمالي الشاعري، من خلال فاعلية الرؤيا الشعرية التي ترفع سوية المنظورات الجمالية في تلقي النص الشعري المؤثر؛ وهذا يعني أن غنى الشعرية من غنى المؤثرات الجمالية، وغنى محفزاتها النصية الخلاقة. فكما أن النص الشعري المثير هو كتلة مؤثرات جمالية فإن ما يغني النص الشعري جمالياً ليس فقط الصور الشعرية المبتكرة، وإنما المخيلة الإبداعية المتوهجة، وحساسية الشاعر الجمالية في انتقاء التشكيلات المثيرة، وتحفيز إيقاعاتها الجمالية.

وبمنظورنا: أن الرؤيا الشعرية هي انفتاح رؤيوي معرفي في ترجمة الخبرات والتجارب والانفتاح المعرفي، والاستشراف الوجودي الشامل لطبيعة الحياة والكون، وهي لغة المعرفة الشمولية الشاملة للكثير من القضايا الوجودية، والرؤيا الشعرية هي استشراف رؤيوي فاعل في تشكيل اللغة، وإنتاج الدلالات المنفتحة برؤاها ومداليلها النصية المثيرة. ومن يطلع على تجربة الشاعر توفيق أحمد يلحظ غنى المخيلة الشعرية عند الشاعر، وانفتاح أفقه المعرفي، بلغة شاعرية انسيابية تملك زخمها الإيقاعي الصوتي التقفوي المموسق، وترانيمها اللفظية الموقعة في نسيجها الصوتي المحكم، وحساسيتها الشعرية الراقية في مدها، وإحساسها الجمالي؛ فهي غنية بالمعرفة، والرؤى، والمؤثرات الجمالية الخلاقة بمحفزاتها الجمالية الراقية، لدرجة تجد الكلمة تقود الكلمة في انسجام وتوليف فني محكم، فهو ينسج الكلمات نسجاً انسيابياً رقراقاً تشعر حيالها بالألفة، والتناغم، والانسجام، فالصورة تقود الصورة، في ترابط، وإحكام، وانسجام تام على صعيد المخيلة الإبداعية ومنتجاتها المؤثرة.أي إن شعرية الأحمد شعرية غنائية وهذه الشعرية الغنائية مسرحها عمق التجربة ونضج المخيلة الإبداعية بالصور المثيرة المشتقة من الطبيعة عبر مسرح الحياة الشامل بالمتغيرات والمؤثرات الوجودية.

والسؤال الذي يطرح نفسه على خارطة التداول النقدي في شعرية الأحمد: هل شعريته في قصائده الغنائية المتأخرة كشعريته الغنائية في قصائده الأولى؟ ماهو مصدر اختلاف نبرته الغنائية اليوم عن نبرته الغنائية في قصائده الأولى؟ وهل غنائيته اليوم تنأى عن درامية الأحداث العاصفة التي مرت بها بلادنا في هذه الأزمة؟ هل اختلاف قصائده الغنائية يعكس تحولاً وانقلاباً في شعريته؟

لاشك في أن الغنائية عند الأحمد هي مفتاح الحكم على تجربته ككل؛ فالأحمد شاعر غنائي فني الرؤيا، تقفوي التشكيلات، والموسقة اللفظية من جناس، وتماثلن وتناغم، وانسجام، شاعر ترنيمي التشكيل الجمالي، يحتفي بالإيقاعات الجمالية التشكيلية لقصائده،إذ تجد في غنائيته انسياباً إيقاعياً مموسقاً كالتي تجدها عند الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل، لاسيما في قصائده ذات الشطرين؛ وهذه الإيقاعية دليل حساسية جمالية في تشكيل الإيقاعات الجمالية والعزف على أوتارها الحساسة.

والغنائية – عند الأحمد- ليست إيقاعات صوتية متناغمة ومتآلفة فحسب، وإنما هي انفجار شعوري عاطفي متوهج بالحساسية، والخبرة، والجمال في الانتقاء الأسلوبي لتشكيلاته اللغوية، فهو ينأى بإيقاعية الجمل من الترنيم الصوتي الساكن إلى الصخب الانفعالي الشعوري المتوهج الذي يبث الحالة العاطفية بكل صداها الشعوري الانفعالي، مما يجعل لغته الشعرية تميل إلى الانفعالية في الكثير من المواضع الحساسة في قصائده، بمعنى أدق: إن تحول غنائية قصائده من الترنيم التقفوي الهادئ إلى الصخب الصوتي الانفعالي الحاد جعل قصائده ابنة اللحظة الراهنة الدفاقة بالمشاعر المتوترة إحساساً ورؤية ونتيجة، ولهذا يخطئ من يظن أن الغنائية عند الأحمد انفصالية عن واقع الحياة وتحولاتها الصاخبة، إنها من رؤية الواقع وتحولاته النفسية والشعورية وأزماته الكثيرة.

والسؤال المهم؟ هل كان لتحول غنائيته أثرها السلبي على قصائده أم كان لها أثرها الإيجابي في انتاج لغة جمالية لم تعتدها قصائد الأحمد على مثل هذه الشاكلة من المواربة والتنوع والاختلاف؟ لاشك في أن غنائية الأحمد اليوم غنائية حزينة تلبس بإيقاعات الحالة اليومية، ووقع الأحداث المؤلمة التي مرت بها بلادنا اليوم، فهو ينأى عن الصور الكابوسية المرعبة بالصور الجمالية التي يشكل من خلالها الطبيعة تشكيلاً جمالياً، إذ نلحظ في غنائيته احتفاء بالغاً في تشكيل الطبيعة الجمالية تشكيلاً إبداعياً متوهجاً، ينقل القارئ إلى صور جمالية حية مبثوثة بعين جمالية ومشاهد خلابة يعيدنا إلى  تأمل ما كان من نشوة الطبيعة في استثارتها وخصوبتها الجمالية؛ فهو يعيش حلم الطبيعة ويتنفس من جمالها ورئتها الشعرية لينتج النص الجمالي الذي لا ينفصل على واقعية الحدث رغم هذا الجمال الكاسح في تصويره للمشاهد المشتقة من الطبيعة.

ومن تدقيقنا في لغة الشعر -عند توفيق أحمد- وجدنا أن من مثيراتها التكوينية الحياكة النسقية المحكمة والحساسية الجمالية في الانتقال من رؤية جمالية إلى رؤية؛ فهو شاعر رومانسي يحتفي بالغنائية الجمالية الرومانسية الحالمة؛ بلغة تميل إلى التصوير المكثف، والالتقاط الشاعري المؤثر، فهو شاعر التفاتي الرؤية، يقتنص التشكيلات الرومانسية الصادمة التي تحرك القشعريرة الجمالية في تلقيها، كما في قوله:

"مدهشٌ صوتُكِ الحلو

مثل القصيدةِ طالعة

من  جنونِ الخيالْ

إذا رنَّ في الهاتفِ الخلويّ

تقيمُ العصافيرُ مئذنة ً للندى

ويصيرُ المدى كرنفال"(2).

إن القارئ -هنا- يعجب بهذه الالتفاتات الأسلوبية التشكيلية التي تحتفي بالانزياح الاستعاري، والخلق الجمالي عبر شعرية الصور، ولعبتها الاستثارية الصادمة، كما في قوله:[مدهش صوتك الحلو/ تقيم العصافير مئذنة للندى/ ويصير المدى كرنفال]، فالقارئ هنا ليس أمام صور مبرمجة فنياً، وإنما أمام تشكيلات جمالية تسكن وميض العاطفة، وإشراقاتها التشكيلية، فثمة شعرية في توليف الصورة ومتمماتها، أي ثمة ألعوبة فنية في خلق الاستثارة الجمالية في رسم الموقف الغزلي، والصورة الموحية التي تنبثق عنه، وهذا يعني أن الالية التشكيلية عند توفيق أحمد آلية رؤيوية تترجم أحاسيسه عبر إيقاعية الصور ومتحولها الجمالي المؤثر. فما قوله: [تقيم العصافير مئذنة للندى/ ويصير المدى كرنفال] إلا احتفاء بالغنائية المشتقة من الطبيعة لتأسيس ما هو جمالي ضد بشاعة الوجود، ولقطاته المشوهة للجمال. أي إن احتفاء غنائية الأحمد بالجمالية المشتقة من الطبيعة هو تأسيس للجمال، والتقاط لكل ما يثير الجمال في الطبيعة، والكون، والوجود، ليخلق الشاعر من الطبيعة معادلاً وجودياً للحياة، يبني من خلالها الصور المتوهجة بجمال الطبيعة ولذتها المشهدية.

واللافت ان الغنائية- في قصائد الأحمد- مشبعة بالمتغيرات المشهدية؛ وهذا يعني أن  الالتفات إلى أكثر من صورة، أو مشهد في النسق الشعري الواحد دليل غنى مخيلة الشاعر المشهدية بصور متخيلة بما كان يسترجع من خلالها الصور الموحية التي ترجعه إلى الأزمنة الماضية، ليعيش لحظتها الإبداعية شعراً جمالياً فياضاً برؤاه، ومشاهده الجمالية المتوهجة إحساساً، ولذة، ونشوة. وهذا يعني ان الفكر الجمالي الإبداعي -عند توفيق أحمد- فكر انفتاحي مثير بالتشكيلات المراوغة، والأنساق الرومانسية التي تستثير القارئ في لعبتها الجمالية ، كما في قوله:

"سكرت ُ من الحزن يا حلوتي

أين دراقُ صحوكِ ينهالُ

            فوقَ رمالي!!

مواسمُ عشقي مؤجلة ٌ

والقطارُ إلى شمس عينيك

مرتبكٌ في خطاه/ افتحي الغيمَ لي

كي أعبئ بالبرتقالِ سلالي"(3).

إن القارئ -هنا- أمام  مبتكرات أسلوبية تشكيلية؛ تدخل نطاق التوليف الجمالي الشاعري، في ربط الكلمات، وتحقيق انسيابها الجمالي الآسر، فكل نسق تشكيلي يستثير النسق الآخر، محققاً قيمة جمالية في توليف الأنساق الشعرية؛ لتبرز في تحفيز الرؤية الشعرية، وإنتاجية الصورة: [أين دراق صحوك ينهال فوق رمالي]؛ وكأن الشاعر يبث ألق الحالة العاطفية بمتحولها الجمالي، وإيقاعها الانسيابي الرقراق؛ وهذا يعني أن الرؤية الجمالية الاستثارية رؤية ممانعة في تشكيلاتها النسقية، وإبراز القيمة الجمالية في الأنساق ، كما في هذا التوليف الشاعري الانسيابي الآسر: ( سلالي= رمالي)؛ وهذه الإيقاعية الغنائية، في قصائده ، تكسبها الانسيابية، والرشاقة، والألفة، واللذة الاستثارية في التلقي الجمالي الآسر. وكما قلنا سابقاً ونؤكده الآن:

إن الغنائية – عند الأحمد-  مصدر الكشف عن انفتاح شعريته، وبعد منظورها التأملي الوجودي، ولهذا يعد متحولها الجمالي المشهدي من أكثر متحولاتها المشهدية حدة في الكشف عن اختلاف شعريته الغنائية في قصائده اليوم عما مضى؛ فغنائيته اليوم غنائية مأزومة- إن صح التعبير- في حين أن غنائيته  فيما مضى رهينة شعريتها أو لنقل: رهينة شاعريتها، وقد استطاع الأحمد أن يغير من متحولات قصائده أسلوبياً لتتبع اللحظة الشعورية الراهنة، ومتغيراتها العاصفة في الحياة. وهذا يعني أن المتحول الجمالي الأسلوبي- في قصائده- متحول جمالي رهيف الإحساس، والتحليق الجمالي رغم اعتماد غنائيته المأزومة، فقد بات صوت الاغتراب الجريح يسكن حيز مشاهده وغنائيته الحزينة المتوترة بصخب الحالة وقلقها واغترابها الشعوري الحزين، كما في قوله:

" ياشامُ.. ياوجعاً

تدفقَ من جراحِ بنفسجي

كم مرةً تحت الظلام

عليَّ أن أتحمل الطلقاتِ

من نارِ الصديقِ لتنضجي؟

كم مرةً تحتَ الرصاص

عليكِ ياقديستي

أن تلبسي التابوت

كي تتوهجي؟"(4).

إن القارئ هنا يلحظ الغنائية الحزينة أو المأزومة، لدرجة أن الصور تعبر بوضوح عن إيقاعها الاغترابي الحزين، وكأن  الصورة مدية جارحة في الروح، تأسى على شآم العروبة ماحل بها من نيران الغدر، وهكذا جاءت الصور الاغترابية قمة في التعبير عن إحساس الشاعر المأزوم، ولهذا جاءت غنائيته مأزومة تحمل الكثير من الشجن والحزن والأسى الجارح: [كم مرة تحت الرصاص/ عليك ياقديستي أن تلبسي التابوت/ كي تتوهجي]، ووفق هذا التصور يمكن القول: إن تحول الغنائية من إيقاعها الترسيمي الوصفي الشائق في قصائده السابقة التي تضج بالسكينة والرصانة والإيقاع الهادئ إلى الغنائية المأزومة أو الصاخبة برؤاها المأزومة المتوترة حول الغنائية من طابع الجمال والهدوء والتوازن الفني إلى الغنائية الدرامية المتوترة بصحبها الشعوري المأزوم وأحاسيسها الموجعة، فثمة رؤية  استثارية يلحظها القارئ في هذا الانتقال الأسلوبي  من مثير  الحالة الغنائية اللوحة او المشهد الجمالي عبر التقاط الصور الرومانسية الهادئة فنياً بالمشاهد الرومانسية الشاعرية إلى دراما المشاهد المتوترة ومشاهدها الاغترابية الجارحة.

وهذا الأسلوب الغنائي يبث الشجن في الروح، من خلال عمق الصور الاغترابية المأزومة التي تكشف مرارة الإحساس الشعوري، وغربة الذات وأساها الجارح:

"ابتاه لاترحل فما زالَ الطريق إلى  هناك

يُعتِّقُ السفرَ الطويلْ

أبتاهُ لاترحلْ

ففي الأوطان متسعٌ لفارسها الجميلْ

أبتاهُ لا ترحل،

فإن الجرحَ في برديَّ متقدُ الهديلْ

دع آخر الكلماتِ ترسمني صلاة ً

في كتابِ المستحيلْ"(5).

هنا، تبدو غنائية الشاعر اغترابية مأزومة دلالة على هذا التحول في المفاتيح الشعرية لقصائده ومتغيرها الأسلوبي من قيمة اغترابية مأزومة في إحساسها الشعوري الجارح إلى قيمة أخرى، وهذا التحول في الغنائية انعكس على متحولاتها الأسلوبية الانزياحية ليشكل الأحمد شعريته الجديدة على إيقاع المناورة والمغايرة الأسلوبية في إنتاج جماليتها المسكونة بهاجس المشهد الشعري الدرامي المأزوم، واغترابه المرير الذي يبرز في جدلياته المتوترة وصداها الاغترابي المؤثر:[ فإن الجرح في برديّ متقدُ الهديل]، وهكذا يبني الشاعر رؤيته الجمالية على فاعلية المنظورات الرؤيوية المتغيرة في خلق النص التفاعلي الذي يرصد واقع الحالة الاغترابية المريرة التي يعيشها الشاعر في ظل الأزمة لينقلها للقارئ بإحساس جمالي واغتراب شعوري لحظي كاشف عمق المرارة وفجائعية الشعور الاغترابي المرير الذي يعيشه الشاعر بكل أساه الوجودي وصداه المأزوم.

والملاحظ أن المفاصل الجمالية الحساسة في قصائد توفيق أحمد، تبرز  من خلال شعرية اللغة والإيقاع الجمالي الرشيق في تشكيلها عبر الانزياحات الرومانسية الصادمة ومبتكراتها  النسقية الخلاقة في محفزاتها النصية، التي نوضحها فيما يلي:

1. دهشة المناورات الأسلوبية:
ونقصد بـ(دهشة المناورات الأسلوبية): بلاغة المناورات التشكيلية التي تخلق متعتها من بلاغة التشكيلات النصية الآسرة، ومؤثراتها النصية الخلاقة، التي تثير القارئ من خلال ما تصيبه من استثارات جمالية،وبهذا المقتضى الجمالي يقول رتشاردز" ليس للكلمات في ذاتها صفات أدبية خاصة، ولا توجد كلمة قبيحة أو جميلة في ذاتها، أو من طبيعتها أن تبعث على اللذة، أو عدمها. ولكن لكل كلمة مجال من التأثيرات الممكنة يختلف طبقاً للظروف التي توجد فيها... والتأثير الذي تولده الكلمة فعلاً عبارة عن توفيق بين أحد تأثيراتها الممكنة والظروف الخاصة التي توجد فيها"(6). وهذا يعني أن قيمة الكلمة شعرياً تظهر من خلال المناورة الأسلوبية التي تبرز في السياق الشعري، وترقى جمالياً، ومن أجل هذا تحتفي الشعرية بالجمالية التكوينية التي تبرز شعرية الأنساق وفاعلية الرؤى المقترنة بها، وترتقي الكلمات بمقدار مناورتها وخلخلتها الجمالية.

والشاعر المهم فنياً أو جمالياً هو الذي يحقق المناورات الأسلوبية الكاشفة التي تباغت المتلقي بإيقاعاتها التشكيلية  المراوغة، ومثيراتها الخلاقة، فالقيمة ليست للكلمات في ذاتها، وإنما لشعرية تركيبها،وما تتضمنه من مثيرات فنية استثارية خلاقة بمحفزاتها النصية البليغة، كما في قول الشاعر:

" سكرتُ من الحزنِ يا حلوتي

أين دراق صحوكِ  ينهالُ

فوق رمالي!!

مواسمُ عشقي مؤجلة ٌ

والقطارُ إلى شمس عينيكِ

مرتبكٌ في خطاهُ/ افتحي الغيم لي

كي أعبئ بالبرتقال سلالي"(7).

هنا، يفاجئنا الشاعر أسلوبياً بمناوراته التشكيلية الرومانسية الخلاقة التي تبرز في المناورات الأسلوبية الرومانسية التالية: [دراق صحوك- موسم عشقي مؤجلة- القطار إلى شمس عينيك مرتبك في خطاه]، وهذا المناورات ليست وصفية بقدر ماهي محركة للرؤى الشعرية الغزلية التي تنقل القارئ على فضاء جمالي رؤيوي متحرك الرؤى والمشاهد الشعرية؛ وهكذا، ترسم مناوراته الأسلوبية جمالية تشكيلية غزلية تبرز في نسيج شعوري تعبيري انسيابي شاعري الرؤية، والتعبير؛ مما يدلل على حنكة الشاعر الجمالية، ووعيه الجمالي التشكيلي الذي يستثير الرؤية النصية ومحفزاتها النصية.

واللافت أن قيمة المناورات الأسلوبية جمالياً تتأتى من مهارة الشاعر الأسلوبية، وتحولات الدلالة من قيمة جمالية استثارية إلى  قيمة أخرى تبرز بمتحولاتها الجمالية وحياكتها النصية المراوغة، كما في قوله:

"أحبُّكِ.. كيف تسيرُ الأمورُ

على ما يرامُ إذا لم تكوني معي!!

على ضفةِ الأبدية

أبني من الضوء قصراً

لكي تسكني أضلعي

أنا مثخنٌ بأغاني الرحيل

وكل المحطات تعرفني

لا تقولي وداعاً

خريفُ الغيابِ ثقيلٌ على كاهلي

يعزُّ علي انحنائي لعينيك

لكن حبك حطم سيفي..."(8).

لابد من الإشارة بداية إلى ان المناورات الأسلوبية – في قصائد توفيق أحمد- مناورات تشكيلية انزياحية استثارية الرؤية، والمخيلة، والتشكيل،إذ إن كل نسق أسلوبي يحقق قيمته النصية المباغتة في طريقة تفاعله مع النسق الشعري الآخر، ليحقق  قيمته النصية المؤثرة، كما في سلسلة الانزياحات الخلاقة التالية:[ ضفة الأبدية-أنا مثخنٌ بأغاني الرحيل- خريفُ الغيابِ ثقيلٌ على كاهلي- يعزُّ علي انحنائي لعينيك]،فكل نسق شعري يشكل قيمة جمالية في خلق الاستثارة، والمباغتة، وتفعيل الإحساس الشعوري الغزلي في بث الحالة الرومانسية بكل صداها الشعوري، وحراكها الجمالي.

وصفوة القول: إن المناورات الأسلوبية – في قصائد توفيق احمد- مناورات شاعرية استثارية الرؤيا، بليغة المنظور الجمالي، من خلال حياكتها النصية، ورشاقة الانتقال من مناورة أسلوبية إلى مناورة أكثر متعة واستثارة جمالية، مما يدلل على خبرة جمالية في رسم الصورة الاستثارية الانزياحية البليغة في نسقها الشعري، وحراكها النصي.

2. الانزياح الفني الجمالي:
لاشك في أن الشعر قيم أسلوبية فنية مؤثرة، تبعاً لفاعلية الرؤى الشعرية المؤثرة، وحنكة الشاعر في تنقلاته الأسلوبية  من قيمة أسلوبية جمالية إلى قيمة، وقد كان جان كوهن أول من أطلق هذا المصطلح، بقوله" لغة الشعر لغة انزياح  وتأثير مضاعف تنزاح عن لغة النثر العادي بمقدار انزياحها وتحقيق الشعرية في إيقاعها"(9). والشاعر المهم  إبداعياً هو الذي يحقق قيمة أسلوبية تشكيلية في خلق لذتها، ومتعتها الجمالية من خلال الانزياح عن الأنساق الشعرية المعتادة انزياحات فنية مؤثرة،وبهذا المعنى يقول جابر عصفور:" الشعر تفاعل حس ولغة، وكونه كذلك، يعني أن الشاعر يحاول- دائماً- أن يكتشف طبيعة الانفعالات، والمشاعر الغامضة، والمراوغة التي تؤرقه أثناء التجربة من خلال اللغة، واللغة بهذا المعنى ليست وعاءً للفكر، أو كساءً له، إنها الوسيلة التي تكتشف بها الفكرة الشعرية ذاتها، وتعدل بها من طبيعتها. إنها أداة الشاعر ووسيلته في الاكتشاف، والتحديد والتعريف، ولا يرجع نجاح الشاعر في سيطرته على تجربته وتمكنه منها إلا  إلى قدرته على تكوين علاقات لغوية جديدة، تتكشف من خلال التجربة، ويتحدد بها الفكر ذاته"(10).

والشاعر المهم هو الذي ينزاح بأنساقه التشكيلية درجة فاعلة من الاستثارة، واللذة الجمالية في الانتقال من قيمة جمالية إلى قيمة، حسب درجة وعيه، وتشكيله للكلمات الشعرية المؤثرة في النسق الشعري، وهذا يعني" أن الشاعر يحتضن الكلمات، ويتأملها، ويعيد تشكيلها؛ بل إنه قد يغير من صياغتها، ويحطم من أنسقتها، ونظامها العرفي الثابت، ويخلق لنفسه نظاماً فريداً خاصاً به،وما يحدث نتيجة لذلك، ليس من قبيل الضرورة الشكلية المرتبطة بالوزن؛ وإنما هو الضرورة الملحة النابعة من الرغبة في اكتشاف معنى التجربة وطبيعتها. وبهذا الفهم فإنه لايمكن إدراك لغة الشاعر وفاعليتها، تبعاً لتصورات لغوية عامة لاتضع في اعتبارها فاعلية التجربة الشعرية، وخصوصيتها وفرديتها"(11). وهذا يعني أن الشعرية تتحدد من خلال مهارة الشاعر افبداعية وقدرته على الانزياح بلغته الشعرية عن المألوف والمعتاد من القول الشعري.

وقد ادرك الشاعر توفيق أحمد أهمية الانزياح الفني الجمالي في استثارة الشعرية والتحليق بالمخيلة الشعرية عبر الانزياحات الصادمة درجات من الاستثارة والفاعلية الجمالية، كما في قوله:

" أنا بانتظاركِ لا تجيئي..

بابُ قلبي مقفلٌ ويداي واهنتانِ..

قد يكون خيارنا المجنون أجمل ما يكون

أنا بانتظاركِ..

ملَّ مني الحبرُ، والإسفلتُ، والمتثاقلونَ..

وأرجلُ العجلاتِ... والتبغُ الذي ينداحُ في كل الجهات

وصوتُ حراس المقابر،واحتراق الماء في بابِ المدينة

لاتجيئي إنه الوقتُ الوحيدُ لكي نحدد رحلة أخرى

إلى قمرين من خمرٍ وتينْ

أنا بانتظارك..

ليس عندي شرفة أخرى

ولا وقت لأرمي وردة أخرى

ولا كتبٌ أطرز في ثناياها حماقاتي القديمة"(12).

لابد من الإشارة بداية إلى أن اللعبة الجمالية الانزياحية -في قصائد توفيق أحمد- لعبة مخيلة، وطاقة إيحائية عالية في زخمها الفني الجمالي؛ فرشاقة الوصف والسرد تساعد الصور الشعرية، والانزياحات الفنية ان تؤدي دورها الاستثاري الفاعل في  تحفيز الشعرية والارتقاء بها جمالياً،من خلال الوصف التصويري الانزياحي الذي يبث من خلاله مشاعره الغزلية، واحاسيسه المحمومة بالتوق، والعشق، والتصوف في وصف الحالة الشعورية وترجمتها جمالياً: [بابُ قلبي مقفلٌ/ ويداي واهنتان - ملَّ مني الحبرُ والإسفلتُ والمتثاقلون - وأرجل العجلات .. والتبغ الذي ينداح في كل الجهات]، فهذه التشكيلات الوصفية الشاعرية تدلل على رهافة شاعرية في رسم الحالة الشعورية بكل إيقاعاتها الجمالية وحراكها الشعوري المحموم. ناهيك عن دهشة الانتقالات الشاعرية الانزياحية التي تبرز ولع الشاعر في رسم الحالة الشعورية، واستثارة قيمها الجمالية، كما في قوله: [ولا كتبٌ اطرِّزُ في ثناياها حماقاتي القديمة]؛ وهكذا، يؤسس الشاعر انزياحاته الفنية على جمالية التركيب الشعري الوصفي أو السردي، في الانتقال من صورة إلى صورة، ومن مناورة أسلوبية تشكيلية إلى أخرى، دلالة على أن الشعرية في قصائد توفيق احمد شعرية تكاملية انبثاقية الرؤية ، شاعرية الانتقال من قيمة وصفية سردية إلى قيمة تصويرية مباغتة تكسر بإيقاعها الشاعري رتابة الوصف؛ لتحقق قيمتها الجمالية العليا، وهذا يعني أن البؤرة الانزياحية في قصائده بؤرة شاعرية في اختيار الصورة الانزياحية البليغة عاطفياً في نسقها الشعري، وحراكها الجمالي الشاعري المثير.

والواقع أن شعرية الانزياح ليست ماثلة في قصائد توفيق أحمد في الصياغة الجمالية الأسلوبية فحسب، وإنما بالحراك الرؤيوي الجمالي في تشكيل الصور التي تحمل في طياتها التجربة الشعورية في عمقها وإحساسها الجمالي، وهذا ما جعل غنائيته الشعرية في الآونة الأخيرة غنائية حالمة ، تتوخى الدهشة والتميز في الوصف والتعبير واستثارة الصدمات التشكيلية الآسرة، أي إن اللعبة الجمالية فيها لعبة انزياحية استثارية في اللغة من جهة، وهي ذات قيمة  في تحقيق شاعريتها المميزة في وقعها وإحساسها الجمالي، كما في قوله:

" حبيبة قلبي!!

لقد أذنَ البحرُ

هل تأذنينَ لقلبي الصلاةَ لعينيكِ

يا امرأةً من لهيبٍ وطيبْ

أنا قادمٌ ملء ناري إليكِ

فلا تسأليني عن اسمي

 لقد غاب عني

وضيعته منذ أن وقعتْ

عينُ قلبي عليكِ

وأذكرُ يومَ طوانا

العناقُ

وكيفَ أنايَ نسيتُ

تفاصيلها في يديكِ"(13).

إن القارئ لهذه القصيدة يدرك أن فاعلية الانزياح فنياً أو جمالياً ليست في الصياغة التركيبية الاستثارية للجمل الشاعرية المتوهجة بدلالاتها ورؤاها فحسب، وإنما بالحساسية الجمالية في توليف الجمل الشعرية على مثل هذه الشاكلة من الانسيابية، واللذة في رسم الصور التعبيرية، واستثارة إيقاعاتها الجمالية، كما في هذه الجمل الشاعرية التي تسبح في لذتها، ورشاقة أسلوبها الانزياح الشاعري المثير: [وأذكرُ يوم طوانا العناق/ وكيف أناي نسيتُ تفاصيلها في يديكِ]، هنا، تبدو اللذة ماثلة في التشكيلات النسقية المباغتة في خلق الاستثارة الجمالية في رسم التعابير الشاعرية، واستثارة إيقاعاتها الجمالية الغزلية، وهذا الأسلوب التشكيلي البنائي، دليل فاعلية إيقاعية تشكيلية تخلق متعتها من انسيابها الرومانسي الغزلي المتوهج بالدلالات والصور الشاعرية المتألقة، إيحاءً ،ومعنىً.

وصفوة القول: إن الانزياح الفني الجمالي- في قصائد توفيق أحمد- انزياح شاعري تشكيلي الرؤيا والمخيلة الجمالية، فهذه الخاصية الانزياحية لا تعتمد فقط استثارة التشكيلات الترسيمية المرهفة في أنساقها ودلالاتها الجمالية؛ وإنما تعتمد الرؤيا الجمالية التي تنقل القارئ من لذة واستثارة جمالية إلى لذة أخرى، وكان الشاعر متفرد في عالمه الجمالي ينسج من خلال رؤاه المتوهجة عالماً رومانسياً آسراً يصور الحالة، ويزركشها  ببراعة وإتقان ،بمخيلته الشاعرية في التقاط الجماليات، والتمهيد لها بتأمل، وجمالية، واستثارة مفاجئة صادمة للتوقع، رغم انسيابها الرشيق وحركتها الجمالية المتمردة.

3. الرؤيا الجمالية:

لاشك في أن الرؤيا الجمالية هي محرق كل لذة جمالية استثارية في بنية اللغة الشعرية، لأن النص الشعري الحقيقي كتلة فواعل جمالية في الشكل، والرؤيا، والمؤثرات الجمالية، فالنص الشعري المتوهج برؤاه، هو القادر على استثارة اللذة الجمالية في تلقيه،لاسيما إذا أدركنا أن " أن العمل الأدبي ليس موضوعاً يقف بنفسه، ويقدم الرؤية نفسها لكل قارئ في كل زمان. ليس أثراً باقياً يكشف بطريقة المناجاة الذاتية جوهره السرمدي. وهو يشبه كثيراً التأليف الأوكستري الذي يعزف دائماً رنيناً جديداً بين قرائه، ويحرر النص من مادة الكلمات، ويأتي به إلى وجود معاصر"(14).

ولهذا، يكتسب النص الشعري جوهره الإبداعي من شاعرية الرؤيا الجمالية التي تجعل الشاعر ينماز إبداعياً بأسلوبه الجمالي،  من حيث فاعلية الصور الشعرية الموقعة جمالياً، من خلال الحياكة النصية الاستثارية البليغة، واختيار الإيقاعات الصوتية المنسجمة مع تطلعات الشاعر، وبكارة الأنساق التصويرية الملتهبة بدلالاتها ورؤاها الجمالية، إذ إن الوعي الجمالي وراء مثل هذه التشكيلات الانسيابية الخلاقة التي تجعل الشاعر يتأنق في تشكيلاته اللغوية، تبعاً لمؤثراتها وبناها الجمالية، ولهذا تبقى لغة الشعر" لغة التصوير المكثف، والخيال المتعقل الخلاق. إنها حركة تبدأ من السطح، ثم تتسامى، في الأعالي، أو تغوص في الأعماق. هي العبور من الثبات إلى الحركة والتحول، ومن المحدود إلى اللامحدود. وهي الانطلاق من القيد إلى التحرر منه؛ لكنها تظل السبيل الأمثل لتأليف جمال متكامل العلاقات، متناغم الأصوات"(15). وهذا يعني أن لغة الشاعر بالتوثبات الجمالية في صورها ودلالاتها ورؤاها النصية التي تكتسبها في سياقها النصي.

والشاعر المبدع هو الشاعر المتميز برؤاها وتطلعاته ونظرته الجمالية الرؤيوية للأشياء، تتبعه حساسية اللغة، ورهافة الفن الجمالي التشكيلي في توليفها واستثارتها، تبعاً لفضاء متخيلها الجمالي الاستثاري الخلاق، ومنظور الشاعر الجمالي للأشياء من حوله. ومن يتأمل في الفضاء الجمالي التركيبي الذي تثيره قصائد توفيق أحمد يلحظ لعبتها  الجمالية المثيرة، وحياكة الأنساق الشعرية المتلاحمة الرؤى والدلالات في بث الحالة الشعورية، بكل ألق اللحظة الشعورية الغزلية المتوترة، وحراكها الأسلوبي الخلاق، أو المتوهج جمالياً. وهنا لابد لنا لمعرفة شعرية الرؤيا، ومصدر جماليتها في قصائد توفيق أحمد من طرح التساؤلات المتأججة في مخيلتنا عن مصدر هذه الجمالية، وتنوعها في قصائده؟

هل قصائد توفيق أحمد مسكونة بهاجس التحول، والانزياح الجمالي منذ لبنتها التشكيلية الأولى؟ أم أن انزياحاتها تكوينية مركبة الرؤى والمتخيلات الجمالية؟ أي هل هي لحظية الانزياح أو آنية الفكرة ام أن الشاعر يخطط للقصيدة طويلاً حتى يفرغها على بياض الصفحة الشعرية؟ وهل رؤيته الشعرية انبثاق رؤيوي تشكيلي بنائي في خلق اللعبة الجمالية والتمهيد الشاعري عنها؟

إن  قارئ قصائد توفيق أحمد يدرك أن لعبتها الجمالية لعبة متكاملة في إيقاعاتها الخلاقة ومراميها النصية العميقة، فهو شاعر رؤيوي فنان في رسم الصور، وخلق مؤشراتها الجمالية، ليبني الصور بناءً شاعرياً مركباً، فهو لايقف حيال بلاغة الموضوعات، وإنما يشكل الموضوعات تشكيلاً شاعرياً، فالقيمة ليست في المواضيع والرؤى المطروقة ،وإنما في المتحولات الجمالية في بناء الرؤية الشاعرية، والتعبير الفني الجمالي عنها، فمواضيعه لاقيمة لها إزاء الشعرية المتوهجة التي تضمرها وتثيرها في النص بكل ألق اللحظة الجمالية المتوترة، وبناء العبارة الشاعرية المثيرة التي ترتقي بالنص، وشعريته جمالياً في آن، كما في قوله:

" رمالٌ هو الكونُ

ردي عليهِ لحافَ الندى

واهدمي بيديكِ خرائب هذا المدى

واعبري الآن جسرَ اكتمالك

كل  المدائنِ مهجورةٌ والطريقُ إليها سدى"(16).

إن القارئ هنا أمام نص ملتهب بشعريته من خلال شعرية الرؤيا ،والبلاغة الانزياحية الجمالية في التعبير عنها، وهذا ما يلحظه القارئ منذ البداية من خلال قوله (ردي عليه لحاف الندى) ليخلق شعريته، متنقلاً من قيمة شاعرية إلى قيمة، مبرهناً على رهافة إيقاع الصور، وترسيمها الشاعري المنزاح جمالياً من خلال ألق الحالة الصوفية، المسكونة بالتوهج، والاستثارة، واللذة في ترجمتها شعورياً: [اهدمي بيديك خرائب هذا المدى/ واعبري الآن جسرَ اكتمالك]، فهذا الأسلوب التحفيزي الشاعري، يرتقي بمنظوره الرؤيوي من نسق شعري إلى آخر، حسب حساسية اللحظة الجمالية والتعبير التقني عنها فنياً أو جمالياً.

والواقع أن شاعرية الرؤيا الجمالية – في قصائد توفيق احمد- تتنوع من قصيدة لقصيدة، تبعاً لفاعلية المتغير الأسلوبي الجمالي في التعبير عنها، وحساسيته الجمالية في تصوير الحالة الشعورية، واستثارة  قيمها الجمالية، كما في قوله:

" سرقوا ضحكتي

غير انك ما اخترتِ جسراً

على نهركِ الأزلي سوايْ

مراياكِ لم تكتحل بالخلود

إذا لم تنم في سرير دمي

ويهزُّ لها ساعديْ"(17).

هنا، يدهش الشاعر من الحنكة الجمالية في الانتقال من مثير جمالي إلى آخر، عبر رؤية جمالية خلاقة شاعرية في إيقاعاتها ومتحولاتها الجمالية؛ كما في التشكيلات الجمالية ومتحولاتها الغزلية الخلاقة:[ مراياك لم تكتحل بالخلود/إذا لم تنم في سرير دمي/ ويهز لها ساعدي]، وهذا يعني أن شاعرية الوصف الجمالي التحفيزي الاستثاري أثار الرؤيا الجمالية لتنتقل من مثير جمالي إلى آخر، عبر إيقاعية الترسيم الجمالي للقوافي، وحنكته في الوقوف على القافية الدائرية المركزة التي تبرز شعريتها من خلال تفعيل الجملة المتوهجة بدلالاتها الشعورية، وعمق ما تبثه من إيقاعات جمالية.

واللافت أن شاعرية الرؤيا الجمالية في قصائد توفيق أحمد منزعها حساسية الفن الجمالي في تشكيل الجمل وتوليف العبارات الشاعرية المثيرة في إيقاعاتها الغزلية ومدلولها النصي العميق، فثمة شاعرية في تركيب الجملة وخلق إيقاعاتها النصية الخلاقة بمؤثراتها ورؤاها النصية، كما في قوله:

"أنا نجمةُ الطينِ في غبشِ الخلقِ

قولي لإزميل صمتكِ

أن ينحتَ البرقُ لي قمراً في سماي

فيا امرأة ً دونَ اسمٍ أحبك

إلا على نبعكِ المشتهى لن تطيرَ خطاي"(18).

إن القارئ هنا، يدرك أن الشاعر ينحت الجمل الشعرية الآسرة نحتاً جمالياً مثيراً من خلال حساسية اللغة وشعرية الصورة، والوقوف على مثيرها الجمالي اللفظي والدلالي الموقع على قافية مركزة، ترفع شعرية الحركة الجمالية في القصيدة، وهذا يعني أن شعرية القصيدة في مؤثراتها المتوهجة وبناها الخلاقة وحركتها الجمالية المفتوحة، كما في التناغم الآسر بين القوافي: [سماي= خطاي]، وهذه الالتفاتات التقفوية الدائرية تؤكد اللحمة الجمالية الاستثارية في قصائد توفيق أحمد، وهي التي تجعل القارئ يلحظ أن الغنائية فيها من مغريات البنية التشكيلية الخلاقة التي تشي بها على المستوى الفني؛ وهكذا يمكن القول:

إن الشعرية عند توفيق أحمد شعرية  شعرية بنائية غنائية في إيقاعاتها وحركة قوافيها، فقد غابت عنها الحركة الدرامية لتلبس لبوس الجمالية الشاعرية التي تقترب في إيقاعاتها اللفظية من الغناء، فهي تغني التجربة من محراب الجمال، وتؤسس للجمال من خلال الفن، ولهذا نجد الشعرية ماثلة في قصائده من باب الفن والتأسيس للذة والجمال والتشكيل، وهذه خصيصة الشعر بوصفه فناً جمالياً بامتياز ؛ وليس فقط قولاً شعرياً مستعاداً بوجه ما وطريقة مكرورة  لاقيمة لها فنياً على المستوى الإبداعي.

نتائج أخيرة
1-إن شعرية الرؤيا- في قصائد توفيق أحمد- شعرية بنائية تأسيسية؛ تتأتى من جمالية المنظورات الشعرية، وفاعلية اللغة الانزياحية التي تعتمد بكارة التشكيلات اللغوية الصادمة في علائقها الإسنادية الفنية وبناها العميقة، لدرجة تبدو الجمل الشعرية أيقونات تصويرية رومانسية تثير المخيلة الشعرية من بلاغة إسناداتها ومرجعياتها النصية الفاعلة.

2-إن الحراك الأسلوبي الجمالي- في قصائد توفيق احمد- دليل بلاغة المناورات الأسلوبية  في مواقعها النصية الشاعرية في استثارة الإيقاعات الجمالية، والتلاعب بمؤثراتها النصية الفاعلة على مستوى الرؤيا والدلالة، والمقصدية الإبداعية الراقية.

3-إن تحولات الرؤى الجمالية – في قصائد توفيق أحمد- دليل غنى مخيلته الشعرية بالصور المرهفة التي تحرك القشعريرة النصية في التلقي والتأويل، فهو يمتلك حساسية جمالية راقية في الانتقال من مثير جمالي إلى آخر، تبعاً لفاعلية الرؤى الشعرية، ومتحولها الجمالي الخلاق.

4-إن الوعي الجمالي والحساسية الجمالية – في قصائد توفيق أحمد- وراء الكثير من توهجاتها الإبداعية في الشكل، والأسلوب، والتشكيلات الصادمة؛ فكل نسق جمالي يحرك النسق الجمالي الآخر، ليثير في المتلقي لذة تلقيه جمالياً، وهذا دليل أن الشعرية في قصائده شعرية رؤيا تكاملية في إنتاج الرؤى والتشكيلات الانزياحية الصادمة التي تثير الشعرية من العمق.

5-إن بلاغة الرؤية الشعرية-في  قصائد توفيق أحمد- تتأتى من حنكة الشاعر الأسلوبية، ومهارته اللغوية في الوقوف على الصور الغزلية المتوهجة بدلالاتها المفتوحة ورؤاها النصية الغزلية المحمومة؛ فقصائده تحتفي بالدلالات والرؤى الجمالية المفتوحة بدلالاتها ورؤاها النصية، فلا تجد في قصيدة من قصائده هشاشة الرؤى،أو متشظية الدلالات، عبثية الرؤى،  والمثيرات النصية، الكل في تلاحم وانسجام وترابط فني مثير، من أول كلمة في القصيدة إلى آخر كلمة من دفقاتها الشعورية المحمومة ، بالدلالات والرؤى الجديدة؛ فثمة تكامل فني استثاري في قصائد توفيق  أحمد  يتبدى في هذا الحراك الأسلوبي على مستوى الرؤى والبنى الدالة في قصائده، مما يجعلها قمة في  الفاعلية، والاستثارة والتاثير.

6- إن تحولات الغنائية - في قصائد الأحمد- أكدت على أن أسلوبها الجمالي متحول الرؤى والمؤثرات الجمالية من قيمة جمالية إلى قيمة أخرى، ومن متغير أسلوبي إلى آخر؛ وهذا ما جعل نصه الشعري ذا قيمة  انزياحية لاسيما في حركة الصور والمشاهد الشعرية المتوترة، والتشكيلات الشعرية الصادمة التي برهنت على شعريته الاختلافية ونزوعه إلى تجديد ينابيع لغته الشعرية، بما يحقق فاعلية الاستثارة والتأثير.

الحواشي:

(1)عبد اللطيف، محمد حماسة،1983- النحو والدلالة، مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ط1،ص171.

(2)أحمد، توفيق،2014- الأعمال الشعرية، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، ص454.

(3) المصدر نفسه، ص445.

(4) المصدر نفسه، ص452-453.

(5)المصدر نفسه،ص285.

(6)رتشاردز،1961- مبادئ النقد الأدبي، تر: مصطفى بدوي، ولويس عوض، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، ص190-191.

(7)أحمد، توفيق،2014- الأعمال الشعرية،ص444-445.

(8)المصدر نفسه،ص456.

(9)كوهن، جان،1986- بنية اللغة الشعرية، ص12.

(10)عصفور، جابر،1974- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ص144-145.

(11) المرجع نفسه، ص145.

(12) أحمد، توفيق،2014- الأعمال الشعرية،ص459.

(13) المصدر نفسه،ص455.

(14) نيوتن،1996- نظرية الأدب في القرن العشرين، تر: عيسى العاكوب، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية،ط1،ص534.

(15) الرباعي، عبد القادر،1998- جمالية المعنى الشعري( التشكيل والتأويل)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وزارة الثقافة، عمان، ط1، ص110.

(16)المصدر نفسه،ص441.

(17) المصدر نفسه،ص446.

(18) المصدر نفسه،ص447.