قيل: إنّ احتياجات الإنسان تنحصر في الطعام والنّوم والمأوى والإشباع الجنسي. وأضاف البعض: إلاّ أنّ الإنسانَ يحتاج دائماً إلى الرّغبة المُلحّةِ في تحقيق الذاتِ من خلال الفن. وكم من إنسانٍ دفعته هذه الرغبةُ الملحة إلى مُواجهة الآخرين الذين يُحيطون به بكلّ عُنفِ المواجهة. وكم من إنسان آثر السّلامةَ وغادر الحياةَ بهدوء تماماً كما أتاها. وكما يصدقُ هذا الكلامُ على كلّ مبدعٍ، فانّه يكونُ أكثرَ صدقاً بالنسبة للإنسانِ المَسكون بهاجسِ الشعر، حيث يُفتَرَضُ منه أن يكونَ صادقاً، وأن لا يعرفَ الرحمة حين يُقدّمُ نفسَه بكلّ أحاسيسه وكلّ أفكاره وكلّ أعماله، ليراه القارئُ بكُليّته.
الشعرُ عند مثلِ هذا المُبدعِ لا يكونُ حالةَ تَفريغ، أو إعلانَ موقفٍ وإنّما نوعٌ من العبادة والطّهارة والدّفاع عن النفس، وبدونه تُصبحُ الحياةُ لا مُبرّرَ لها. والقصيدةُ عند مثل هذا المُبدعِ لا تكونُ – كما يقول أدونيس: «حاضرةً أمامك كالرّغيف أو كأسَ ماء، وهي ليست شيئاً مُسطّحاً، تراه وتلمسَه وتُحيطُ به دُفْعةً واحدة». وإنّما هي على حَدّ قوله: «عالمٌ ذو أبْعاد، عالمٌ مُتموّجٌ، مُتداخلٌ، كثيفٌ بشفافيّة، عميقٌ يتلألأ، تعيش فيها وتعجز عن القَبض عليها، تقودُك في سَديمٍ من المشاعر والأحاسيس، سَديمٍ يستقّلُ بنظامه الخاص. تغمرُك، وحين تَهُمّ أنْ تحضنَها تفلتُ من بين ذراعيك كالموج».
هكذا انطلقت نداءُ خوري في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، امرأة، شابّةً، متمرّدةً على واقعها الذي رضيت به كزوجة وأمّ وموظفة بنك، لتنكشفَ على عالم شاسعٍ لم تَعْهَدهُ من قبل. انطلقت تدفعُها جذوةٌ مشتعلةٌ تريدُ اكتشافَ العالمِ والمساهمةَ في تَغييره للأفضلِ. تُشهرُ سلاحَها لترميَ به في كلّ الاتّجاهات. وسلاحُها هو الكلمةُ. وغايتُها أنْ تُقدّمَ القصيدةَ المُغايرةَ للمألوف. صوتُها الغريبُ هذا لفت انتباهَ القليلين عندنا، واعتبره البعضُ نَشازا سرعانَ ما يذوبُ ويختفي، لكنّ هذا الصوتَ كان يجدُ له صَداه في الخارج، في عالمنا العربي، ويلتقي بشعر شباب مُتمرّدين خارجين على كلّ أنماط القصيدةِ المعهودةِ، مُتَحَدّين هالاتِ شعر نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش الوارفةَ الظلال. شبابٍ منفتحين على الشعر الغربي كأمجد ناصر وعبده وازن ومحمد متولي وعادل محمود وغيرُهم كثيرون.
خرجت نداء لتُعلنَ بصَمْتِها القويِّ أنّها جاءت لتُقدّمَ جديدا مُغايرا رافضا. وكانت خطوتُها الأولى إلغاءَ الحاجةَ إلى بلاغيّة اللغة، وعمدت إلى تمزيقِ الهالةِ القدسيّةِ عن الكلمة الشعريّة، مُعتبرةً أنّ لكلّ كلمة قُدْسيتَها، وكلُّ مفردة تستطيعُ أنْ تؤدّيَ المرادَ منها، واعتمدت القصيدةَ المتكاملةَ الأجزاءِ المبنيّةَ على تكثيفِ الصّور المتتاليةِ المسْتَغْنِيَةِ عن دَور الإيقاع الذي طغى على القصيدة بعد تحرّرها من قيودها القديمة.
عندما قرأت بعض قصائد نداء خوري التي ضمّها ديوان شعرها الأول (أعلن لك صمتي – 1987) أحسست أنني أقف أمام مثل هذا المُبدع الذي لا يرى في الشعر حالة تفريغ آنيّة أو إعلان موقف، وإنما هو نوع من العبادة والطهارة والدفاع عن النفس بصدق وإخلاص.
تضرّع: لا لا تقتليني
كالزّر في قميص نومِكِ الحريري الأزرق
تضرّع: إنّكِ تشنقيني كالزّر
تشنقين الزّر
وأموت فوق الحرير والرخام
ثم تلد العروة الزّر
فوق الرخام ما أجمل شقائي
أموت وتلدني العروة
الحياة والموت كأتفه الأشياء
مثل الزر المُعلّق والزر المُلقى
فوق الرخام. (أعلن لك صمتي 16)
كلمات عاديّة بسيطة تعتقد للوهلة الأولى أنّها لا تقول لك شيئاً .. لكنّك مع كلّ استزادة في قراءتها تجد نفسك تدخل في سديم من المشاعر والأحاسيس، تغمرك تعيش فيها وتعجز عن القبض عليها. (الزّر) تحوّل ليكون المحور الأساسي والمشهد الكلّي، هو المقتول وهو المولود تماماً كالعاشق الذي يتضرّع كي ترحمه ولا تقتله. وهو يتمنى لو يحدث العكس ويكون مصيره كمصير الزّر في قميص نومها المقتول المشنوق المُلقى فوق الرخام المُعلّق المولود من جديد. وخلال هذا التّمحور حول الزّر يرتسم المشهد الكلي الذي يأخذك إلى متاهات ومتاهات.
هكذا استطاعت نداء خوري أن تخلق الجوّ الشعري، جوّ العبادة والتّطهر من خلال كلمة عرفت كيف تشحنها بكل الدّلالات المُبحرة نحو الأعماق. ومثل هذه القدرة على رسم المشهد بكلمات بسيطة عادية مشحونة بالإيحاءات والأبعاد نجدها في قولها:
يدقّ على بابي
يُخربشُ على بابي
يموء في بابي
إمطارُك الآتي
من السماء إلى السماء. (أعلن لك صمتي 11)
فكلمة (يُخربش) توحي لنا بصورة القط الذي يُداعب برقّة صاحبته ثم كلمة (يموء) التي تُكمّل الصورة للقط الذي يتمسّح بأذيال وراحَتي صاحبته ويتقرّب منها لتعطف عليه وتُقرّبه منها، وتكرار كلمة (بابي) التي تُجسّد المشهد الكامل لهذا القط الذي تمنعه صاحبته من الدخول إلى مخدعها وهو يلح ويموء ويتذلل خلف باب مخدعها علّها ترقّ وتحنّ. الباب لم يعد يعني الباب الذي نعرفه وانّما يصبح العَتَبة المقدّسة التي يتحسّسها ويُداعبها ويتشمّمها هذا العابد المُتيّم لتكون له جواز الدخول إلى المعبد القدسي حيث ربّة الحب وحيث تتوحد سماؤه بسمائها ويكون المطر المُتبادل المُوحّد.
هذا الرسم بالكلمات للحظات الحبّ وهذا الصدق الأخّاذ في التعبير عن إحساس المرأة بمُمارسة الحب يجعلنا نبدأ برفض تلك المقولة التي طُرحَت مرّة، أنّ 95% من شعر الحب عند شعراء الغرب يُصوّر عملية الحب وفقط خمسة بالمائة يدور حول الحب، بينما 95% من شعر الحب عند العرب يدور حول الحب وخمسة بالمائة فقط يصوّر عملية الحب.
رجل الثلج المُتساقط بي
يمتصّني..
حرقة..
ثمّ ينزوي..
رجل من وجع الغيم
تساقط في النهر
رجلُ الثلج اليذوب في خاطري
يتصبّبُ بين النهد والخاصرة
وكاحلي يُذوّبُ السكرَ
في البحيرةِ
شجر يتدفقُ
من أجنحة البط
حصان يمتشق ساقاً
تعلو الهاوية
إلى العُمق
نجدل الليلَ
جسدُنا عصفور
أفرغ الحلقات من أزرارها
تغطّى بالورد
إله القيامة في الكيان
جائعاً
يصحو
يُسند رمحاً، على الخاصرة
رجلُ اللهب ينطفئ. (ثقافة النبيذ 22)
الكلمات في قصائد نداء خوري دافئة وعنيفة ومُتوترة ومُتحرّكة دائماً وترتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعة المضمون. وجرس الكلمات يشع دائماً بالمعنى ويُكسبها جمالاً طبيعياًّ لا تكلّف فيه. وهي تكتفي بأقلّ عدد ممكن من الكلمات والصور ولكنها مُحمّلة بإيحاءات ورُؤى شعرية كثيفة كقولها:
ابتلّ فرائي
وارتعد مخدعي
وصهيل العراء يخبو
في مضجعي (أعلن لك صمتي 12)
ففي هذه الكلمات المعدودة (ابتلّ، ارتعد، صهيل العراء يخبو في مخدعي) رسمت الشاعرة مشهداً كاملاً، وبهذا الصدق والوضوح والبساطة أكدت صدق المقولة بأن الأساس الأول للعملية الشعرية هو الإحساس العميق المُفجّر، وأنّ القصيدة عندها بُنية عضوية مُندمجة الأجزاء ولا يُمكن تفكيكها لأنّها تتداخل وتتقاطع بحيث إنّ كل جزء منها يأخذ معناه من الكل.
ممّا يُسجل لصالح الشاعرة نداء خوري أنّها أوّل مَن نجح في تصوير أحاسيس ومشاعر وخفقان واستجابات وردود فعل جسد المرأة العربية بجرأة وصدق ووضوح. كثيرون من المُبدعين والمُبدعات العرب تعرّضوا للمرأة وحاولوا التعبير عنها وتصويرها، ومنهم مَن كرّس مُعظم إبداعه لذلك مثل الشاعر نزار قباني والكاتبة غادة السمّان ولكن أحداً من كل المبدعين والمُبدعات لم ينجح في التعرّض لجسد المرأة والنجاح في الدخول إلى مساماته والتعبير عن انتفاضاته واستجاباته وسكينته .. وفقط نداء خوري فعلت ذلك.
تفرش
قطع القماش حولها
تفرد المملوك
تمسك طارة، تُغربل..
يترنّح صدرها
يمتلئ حضنها
تترهل..
وتهدأ يداها
ويقشعرّ جسدي. (جديلة الرعد 47)
المشهد البسيط المُتكرر في كل بيت ريفي حتى سنوات قريبة للمرأة التي تقوم بغَربلة البُرغل والحبوب، خلقت منه نداء خوري صورة رائعة لجسد المرأة المُتجاوب مع كلّ حركة، فيداها تُمسكان بطارة الغربال تهزّه، وصدرها يترنّح مع كلّ حركة، وحضنها يمتلئ حيث تصل إلى درجة الاكتفاء فتهدأ يداها ويقشعر الجسد كلّه ويغفو. هذا الإحساس بالجسد، وهذه القُدرة على تصوير أحاسيسه بصدق لا تقتصر على قصيدة واحدة أو على مقاطع متباعدة في قصائد نداء خوري.. وإنما هي ميّزة تختص بها. وهذا الجسد المُتماوج المُثير لا ينحصر في تأثيره على الرجل المُطارد وإنمّا ينتقل ليُحرّك أحاسيس الطريق واللوز:
كانت كلّما مشت
الطريق ظلها
تتعب..
كانت كلّما قفز
الشارع فيها
تُبعد..
طفولتها تينة
يتقطّر الحليبُ منها
كلّما أطعمت فمي..
وكان الليل يُغطّيها
يُشمّر عن فخذها
ينهشه النقيق
ويشربها
وكانت غرغراتُه
تُرعش شجرَ اللوز..
ويصحو نداها.. (جديلة الرعد 42)
وكثيراً ما كان المشهد الكامل للجسد يرتسم بكامله في كلمات معدودة .. كلّ كلمة تكوّن صورةً مُتحركة مُتماوجة تُشكّل مع التي قبلها والتي بعدها المشهد الكامل:
كانت حين تمرّ
يُصفّق الشارعُ
بين ساقَيْها
يتلاشى الغبار في ظلّها
وأرقص. (جديلة الرعد45)
فأيّ امرأة تلك وأيّ مِشية لها حتى تُثير الشارع وتُحرّكه وتجعله يتعمشقها ويرقص بين ساقيها، وترقص هي أيضاً! هكذا تصبح القصيدة عند نداء خوري حركة ومعنى تتوحّد فيها الأشياء والنفس والواقع.
وتتميّز قصائدُ نداء خوري بلغتها التي تختارُها .. وبالمفردات التي تعرفُ كيف تُفْرغُها من شِحْنتها الموروثةِ التّقليديّة، وتملؤها بشِحْنة جديدةٍ تُخرجُها عن إطارِها العاديّ ودلالتِها الشائعةِ، وهي تخترعُ لنفسها لغةً خاصّةً مُتجدّدةً ذاتَ جَرَس موسيقيّ خاصّ، لها إيقاعُها المُتفرّدُ، تُعوّضُ به عن عدم الالتزام بقوانينِ الشّعرِ المُحدِّدَةِ. فموسيقى كلماتِها تنبعُ من تَناغُمٍ داخليّ حَرَكيّ مُتنوّعٍ ومُتلوّن. ولنداء خوري علاقةٌ خاصّةٌ مع مفرداتِ لغتِها، وإحساسُها بها يختلفُ عن إحساسِ الآخرين. فالكلماتُ تكتسبُ في عينيها أحياناً صفاتِ الكائن الحيّ، فلا تكونُ مجرّدَ كلماتٍ مُفرَدَةٍ، وإنمّا تسكنُها عوالمُ كبيرةٌ ورؤى وذكريات، ولغتُها هي لغةُ إيحاءاتٍ تتجاوزُ الواقعَ وتتعدّى مهمّتَها التقليديّةَ المُحدَّدَةَ لتصبحَ لغةَ خَلْقٍ.
يشطفُ المزرابُ
كاحلَ امرأةٍ تلحسُ صحنَ الدّار
تكنُسُ ثوبَها، تتغرْبلُ
وتتّكئُ بدون ظلّ على عصا الراعي. (زنار الريح 10)
فنداء تُحلّ لغة الخَلق مَحلّ لغةِ التّعبير. وصورُها مُركّبةٌ، معقّدةٌ ومُربِكةٌ، والقصيدةُ عندها مُغامرةٌ ومُجازفة.
ينتظرُها سُلّمٌ
ترتفعُ إليه السّيقان
يستلقي يرقبُ دربَ التّبانة
تعلو
لهفتُه
وتعبُر السّيقانُ إلى الثريّا (زنار الريح 11)
واستفادت نداء من الأساطير، ولكنّها عرفت كيف تتعاملُ معها ولا تُثقلُ النصَّ بها. عندما انطلقتْ نداء في مشوارِها الشّعريّ مُصمّمةً على إعلانِ صَمْتِها، لم تلتزمْ ضميرا واحدا من الضّمائر الثلاثة، وإنّما تَنَقّلت بينهم حسبَ مستلزمات الحال. اختارت الضميرَ الغائبَ لتتحدّثَ به، لربّما من رَهبة المواجهةِ والانكشافِ، والخوفِ من رَدّةِ الفعلِ المعادية. لكنّها سرعانَ ما أدركتْ أنّ الكتابةَ لا يمكنُ في نهاية المطافِ إلّا أنْ تبتكرَ مُخاطَبا ما، وأنْ تُوجَّهَ إلى آخر ما،
سأبقى أحاولُ البحثَ
عن قصيدة خاصّةٍ
لأقولَها لكَ
لأقولَ إنّها منكَ
سأبقى أبحثُ بكَ عن قصيدتي الضّائعةِ (جديلة الرعد 39)
ثم اختارت ضميرَ المتكلّم لتتَحرّرَ مع نفسها من كلّ ما هو خارجُها لتتوحّدَ مع الحقيقة المُنطلقةِ .. وقد وصلت نداء في عشقها لذاتها أنْ أعلنتها صريحة:
يتعانقُ الترابُ الذي مضى والذي يأتي
وكلُّه جسدي
وكلّي تراب
أرتسمُ على بطنِ الدّربِ
عائدةً إلى ألمي
مُمجَّدَةً لا إله لي
إلّايَ في جلدي العتيق. (خواتم الملح 70)
ونُلاحظ في إبداعات نداء خوري الأخيرة ميل إلى المقطوعات الشعرية القصيرة التي تطرحُ فيها فكرةً، ولكن مع هذا التّحوّلِ نجدُ أنّ مفرداتِها أخذت تنغلقُ أكثرَ وأكثر على المُتلقّي ممّا يجعلُه يحتاجُ إلى التّعمّقِ أكثرَ وبَذلِ الجَهدِ لمُراودَةِ المعنى ولمسِ الصّورة،
كم منَ الوثنيّةِ
اعتمدتْ بجُرن التّثبيت
وسقوطٌ يُعلي سقوطاً
مذبحةٌ تتساقطُ مذابحاً
يا هذا النومُ النائمُ
تعزفُ لك عينيّ كرنفالَ الغَضبِ.
ومثل:
تتميّعُ بي الطرقاتُ
تُحاولُ مَدامعي استدراكَها
لكنّ الصّدى طحّانٌ يُغبّرُني
وذاكرتي كَنّاس.
هذا التحوّلُ في إبداع نداء خوري يُذكرُنا بالمقولة (أنّ العالمَ الجديدَ الذي يخلقُه الشاعرُ لا وجودَ له إلاّ في القصيدةِ نفسِها، فهو عالمٌ متَحقّقٌ في الشعرِ وبالشعر). القصيدةُ عند نداء بدأتْ تتغلّفُ بإطارٍ منَ العَتْمةِ وتتحرّكُ في عوالمَ غامضةٍ وتعتمدُ على القفزاتِ الجسَديّةِ، ولم يعُد الولوجُ إليها أمراً سهلاً.
العَتمة تُشَلِّحُ الشارعَ حذاءه
تُغطيه وتنامُ فيه
العاصفةُ تُقشّر الشارعَ
مثلَ عرانيس الذرة
الفئرانُ تقضُمُه
غربالاً..
والنجومُ تُغربلُ فيه الليلَ
ويأتي الصبحُ
يُرَقّعُهُ بنِعالٍ مُهترئةٍ.
واقعُ نداء خوي يختلفُ عن واقع الشعراءِ الآخرين الذين آثروا الانزواء داخلَ ذاتهم، ينسِجون العَوالمَ التي يحلُمون بها. نداء خوري خرجتْ من شرنقتِها تحملُ قضيّةً كبيرةً وشعارا كبيرا يُنادي بتَحرير المرأة وبالأحرى، تحرير جسدِ المرأة منَ استعبادِ الرّجلِ والمجتمعِ والدّينِ والرّب. معلنةً "جسدَ المرأة للمرأة" ولا مَنْ يملكُ حقَّ مِلكيّته والتّحكّم به. ولكنّها كانت تَعي واقعَ شعبها والانتهاكاتِ الكثيرةَ التي تُمارَسُ ضدّه خاصّة في الأراضي المحتلة، فرفعت صوتَها معلنةً شجبَها لهذه الممارسات غيرِ الإنسانيّة. لكنّ غضبَ نداء كان بشكل خاصّ تجاه تَحكّم الدّين، أو بالأحرى رجال الدين، بالإنسان، والقيودِ التي يفرضُونها عليه، فأعلنت ثورتَها ضدَّ هذه الممارساتِ وأنّ لكل إنسانٍ اختياراتِه وآلهتَه التي يتّخذُها لنفسه ولا يُمكنُ أن نقبلَ بتحكّمِ الكنيسةِ برقاب الرعيّة.
لا فرقَ بين أرضِ المعارك ومذابحِ المعابدِ
سيّانَ قاتلٌ في الخطيئة وقتيلٌ
سيّان صلاة ُدخان ووعدٌ
حكامٌ كهانٌ وعَهدٌ
لا فرقَ بين أرض المعارك والهياكل
لا فرقَ. معابدٌ وعبيدٌ،
مَذْبحٌ وذبيحةٌ
قمحٌ وحجَر
عنب وحديدٌ.
خطيئةٌ أصليةٌ مقدّسةٌ رسوليّة
ومَغْفرةٌ واحدةٌ جامعةٌ جَمْعيّة. (الخلل63)
يُلزم الوقتُ
انحلالَ معصيةِ المقدّس
عشقٌ محرمٌ عشقٌ حلال
وتبقى المعابدُ المساجدُ
الكنائسُ الكُنسُ
رهنَ السؤال. (95 الخيول)
ما قدّمته نداء خوري حتى اليوم يُؤكّد أصالة موهبتها الشعرية ونجاحها في تقديم الجديد والمُتميّز، إنّها وبحق تُشكل ظاهرة حَداثيّة في الحركة الشعرية الفلسطينية المحلية، ولم يكن اهتمام الأدباء العرب بإنتاجها وطباعة أكثر من ديوان لها في الخارج إلاّ تأكيداً لهذا الجديد الذي تأتي به نداء، ولهذا الجانب المهم المُهمَل في المرأة "انتفاض جسدها" الذي اقتحمته نداء خوري ونجحت في تصويره كأصدق ما تكون.