فن السيرة الذاتية ابداع تبوح به الأقلام ويروي حكاية الراوي من وجهة نظره، وهو من الأصناف الأدبية التي تميزت بأن يقوم الرواي بسرد يومياته أو بعض من فترات حياته، او على شكل اعترافات بأخطاء أو حكايات، وقد ظهر هذا الفن الأدبي بشكل واضح في القرنين الثامن والتاسع عشر رغم انه يعود بأصوله الى عصور قديمة، حيث يشير تاريخ الأدب أن أدب السيرة الذاتية عرف باليونان في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، ويؤكد المؤرخون أن "اعترافات أوغسطين" تعتبر أقدم ما كتب بالسيرة الذاتية، وتطور هذا الصنف من الكتابة الأدبية في بدايات القرن السابع عشر، وفي التاريخ العربي ظهرت السيرة الذاتية من خلال كتب "السِير" ومن خلال الشعر الجاهلي، ومن المتعارف عليه أن فن السيرة الذاتية لا يمكن أن يكون موضوعيا تماما، فالراوي قد يخفي الكثير من ناحية ويضيف أشياء لم تكن فعليا، ولذا كان التعامل مع السير الذاتية بحاجة الى الحذر الشديد وخاصة حين محاولة القراءة النقدية لها إن لم يمتلك المعلومات الدقيقة التي تسمح بالنقد.
لكن في كتاب المهندس نضال لافي المعنون: "باع ارضه ليشتري مقعدا في صفه" نجد رواية السيرة الذاتية لحكاية والده وجده وليس حكايته هو، في قصة تروي حكاية ارادة وصمود في ظل ظروف صعبة، يرويها الابن من باب الوفاء كما سمعها مرارا وتكرارا من والده، فهنا وكما يؤكد الكاتب أن دوره لم يخرج عن إطار الصياغة للقصة، راويا الأحداث كما سمعها وليس كما يراها هو، الكتاب كان له غلاف تقليدي لطفل يحمل كفتي ميزان، احداها تحمل ارضا وأشجارا، والثانية تحمل كتابا وشمعة، والثانية ترجح فالعلم يأتي بالأرض، وقدم للكتاب كل من الروائي د. أحمد رفيق عوض والأستاذ عبد الله ثابت صديق المرحوم، واهداء من الكاتب لروح والده ولكل فلسطيني مثابر ولكل أب وأم فلسطينية ضحوا بعمرهم والغالي والنفيس من اجل ابنائهم.
هي حكاية طفل في العاشرة من عمره فقد والده والمعيل للأسرة نظره خلال حصاد القمح، فكان لزاما على الطفل ان يترك الدراسة ويعمل حراثا لرعاية الأسرة ووالده تحت ضغط الحاجة والفقر، عمل هذا الطفل بالحراثة ورصف الطرق مع العمال في اسوأ الظروف الجوية في البرد القارس، وكان حين يعود لبيته متعبا مرهقا يقرأ في كتاب صديقه ما يقرأه أقرانه بالمدرسة، وبعد عامين من ترك المدرسة وافق والده تحت الحاح الطفل أن يعيده للمدرسة، وعاد الأب الكفيف من جديد للعمل بنقل المواد على حماره رغم عدم امكانيته للرؤيا، ولكن الطفل الذي اكمل دراسته في مدرسة بيت ليد لعدم توفر الصفوف في بلدته رامين، ومنها الى عنبتا كان عليه ان يحضر مقعده معه وإلا لا مكان له بالمدرسة، وهذا يذكرني انني ايضا التحقت بالمدرسة في الأول ابتدائي متأخرا، وكان عليَّ احضار مقعدي معي او لا مكان لي بالمدرسة في أحد أحياء عمَّان، واضطر الاب لبيع قطعة ارض ليشتري لابنه المقعد.
الطفل كبر وأكمل الثانوية في طولكرم والاب الضرير لم يتوقف عن العمل لتأمين الاسرة والطالب، أنهى الطالب لافي دراسته وعين بالتدريس وعاد للمدرسة التي ترك بها مقعده مدرسا، وتنقل بين عدة مدارس تاركا بصمات من نور على طلابه، وكان بارا بوالديه وفك رهن ارض رهنها والده من اجل دراسته وشجرها واعتنى بها، وتزوج وانجب ومارس مهنة التعليم كما رسالة ولم يمارسها كمهنة فقط، وهذا ما دفعه لاكمال دراسته الجامعية، والاستمرار بالتعليم ورعاية طلابه وابنائه ليحصلوا على اعلى الدرجات العلمية، وخدم بلدته رامين مع زملائه وتمكنوا بأقل التكاليف من انارتها بالكهرباء، وخدم مجتمعه واهتم بطلابه واسرته حتى بعد احالته على التقاعد، ومرضه فيما بعد وانتقاله من الحياة الدنيا للآخرة.
حين نقرأ الكتاب قراءة موضوعية نجد أن الكتاب يروي بعض من حكاية الشعب الفلسطيني من خلال حكايات الجد، فالفترة الأولى لمعيشة الجد كانت في ظل الاحتلال البريطاني لفلسطين ودعم العصابات الصهيونية لتهجير الشعب الفلسطيني وإقامة دولة العدوان والاحتلال، مما جعل الشعب الفلسطيني يعيش حياة صعبة في ظل هذه الظروف، وحين نتبع حكايات الجد نلمس ذلك بوضوح، فهو يعمل بالأرض بمواسمها، ويعمل في حيفا أعمال شاقة في مواسم غير مواسم الزراعة ليعيل أسرته، وفي نفس الوقت يشتري بعض من قطع أراض زراعية ليزرعها وتكون له مصدر رزق، ونلاحظ كيف أثرت نكبة فلسطين عليه حيث لم يعد يتمكن من الوصول الى حيفا والداخل الفلسطيني بعد قيام دولة الاحتلال، ولم يتبقى الا الضفة الغربية مع الأردن وقطاع غزة تحت الإدارة المصرية، وبالتالي انحصر عمله بأرضه وفي أعمال شاقة في مناطق مختلفة، وهذا ما زاد من العبء على اكتافه في تأمين العيش لأسرته وأولاده حتى تعرض لاصابة في موسم الحصاد افقدته النظر مما جعله ان يبيع أراض يملكها للعلاج ولكن قدر الله افقده النظر.
هذه المعاناة التي عاشها الجد أنموذجا لمعاناة الشعب الفلسطيني بأكمله الذي فقد أرضه ووطنه وأصبح لاجئا بالخيام في الضفة الغربية وقطاع غزة ودول الجوار العربية، وإن كان الجد بقي في قريته رامين في محافظة طولكرم، فكيف بمن أصبح في الشتات بدون مصدر رزق؟ هنا نرى المفارقة التي في الكتاب وإن لم يجرِ الحديث عنها بشكل مباشر، كون الكتاب اهتم برواية حكاية الجد من ناحية، ومعاناة الأب الذي أجبر على ترك الدراسة طفلا ليعين أسرته بعد أن فقد الجد نظره، فعمل طفلا في ظروف شاقة جدا في مدن بعيدة عن بلدته، في ظروف صعبة من كل النواحي، ماديا ومعنويا ومعيشيا والعمل بمدن بعيدة في ظل ضعف حركة المواصلات، فكانت هنا حكاية أخرى حيث أصر على اكمال تعليمه، مما اضطر الجد رغم فقدانه نظره للعمل بنقل مواد بين القرى على حماره ليوفر لأسرته العيش ولابنه التعليم.
هنا نجد تجربة مختلفة وهي الاصرار على التعليم والعلم والتفوق حتى انهاء الثانوية، والعمل مدرسا في نفس المدرسة التي لم تقبله بدون أن يشتري مقعدا ثمنه خمسة دنانير وهو مبلغ كبير في ظل حالة الفقر، مما اضطر الجد إلى بيع قطعة ارض لتوفير ثمن المقعد لطفله، الذي واصل دراسته بين بلدات عنبتا وطولكرم حيث في ظل انعدام وقلة المواصلات عاش فيها مهتما بالدراسة معانيا الفقر والجوع، منتظرا ارغفة الخبز التي يرسلها له والده الكفيف لتكون قوت حياته، حتى اكمل الثانوية واشتغل مدرسا، وتزوج وبر بوالديه وأكمل الجامعة وأصبح له مكانته الاجتماعية في بلدته والمنطقة بأكملها، وأنموذجا للانسان المكافح الذي جعل العلم بوصلة حياته.
اذا يجب ان ننتبه اننا أمام حكاية رجلين شجاعين وليس واحد، الأب المُهدى لروحه الكتاب، والجد الذي صمد كالطود في ظروف صعبة، حتى فرح أخيرا حين رأى ابنه أستاذا ملتزما بأسرته وأهله وتلاميذه وابناء بلدته، مقدما الكاتب من خلال رواية هذه القصة أنموذجين من نماذج شعبنا الفلسطيني في ظل كل المعاناة التي عاناها، فلم تكن حكاية المرحوم والده كما ارادها، ولكنها حكاية شعب تشرد وتحمل الفقر والجوع والشتات والتشرد، لكن كان التعليم بوصلته فحقق أكبر نسبة متعلمين في الشعوب العربية، وعمل ابناؤه على ازالة الجهل والأمية والتعليم لشعوب عربية كانت تعيش على هامش الحياة، فأشعلوا الاف المشاعل بالتعليم والعلم، وتبقى هذه القصة أنموذج لأجيال قادمة، وأعتقد ان هذه القصة يجب أن توزع على المدارس ليعرف الطلاب بعض من حكايات الآباء والأجداد.. حكاية شعب.
"عمَّان 18/4/2021"