الفارق بين السمع والاستماع، يكمن في مدى التعمد، يقف السمع على الحافة السلبية للإرادة، كصورة خام لعمل الأذُن، في علاقة يخضع فيها السامع لخليط الأصوات، من دون اختيار غالباً، وبلامبالاة في أحيان كثيرة. في الطرف الآخر من مقياس الإرادة، يبرز الاستماع، كفعل عمدي ومتأن، يتطلب جهداً وحضوراً للذهن، تُشحذ فيه ولأجله الحواس، في إطار علاقة يمكن لها أن تكون رضائية بين المستمع ومصدر الصوت، أو على الأقل تتضمن اعترافاً من الواحد تجاه الآخر. المسافة بين الاستماع و"التسمّع" (أو التنصّت)، تحكمها علاقة إرادة أيضاً ومعادلة الظهور والاختفاء، "المتسمّع" يتنصّت في الخفاء، إما من باب الخوف أو العكس، أي رغبة في فرض سلطة السمَع على مصدر الصوت من دون إدراكه، فاستراق السمع فعل يتضمن استيلاء على الصوت واستلاب صاحبه.

في كتابه "أصوات الشوارع: الاستماع إلي الحياة اليومية في مصر الحديثة" (بالإنكليزية عن جامعة ستانفورد، 2020)، يؤطر زياد فهمي السمع داخل شبكة من علاقات السلطة، محاولاً كتابة تاريخ مغاير أو أكثر اتساعاً، للحداثة في مصر. فيذكرنا في مقدمته بأن بانوبتيكون بنثام، الذي وضعه فوكو في القلب من نظريته عن السلطة، لم يكن مجرد برج للمراقبة في وسط السجن، بل أيضاً شبكة من المواسير المعدنية الممتدة إلي الزنارين لنقل الأصوات وجمعها. أهمل فوكو ومعاصروه جانب السمع هذا، لصالح استعارة بصرية للسلطة هيمنت بفضلها محورية الصورة على مجالات التحليل والتدوين التاريخي لوقت طويل. لكن، وفي العقدين الماضيين، يفسح المرئي مساحة لطرائق تسعى لاكتشاف الماضي عبر توسط الحواس الأخرى، فماذا لو حاولنا كتابة تاريخ للروائح أو من خلال اللمس أو عبر الأذن؟
يبحث فهمي، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة كورنيل، عن "شهود سماع" لا شهود عيان، ويجدهم في تدوينات الرحالة والمستعمرين والتسجيلات الصوتية ومقالات الصحف ومشاريع القوانين والأدب والمذكرات والمراسيم الحكومية ومحاضر البرلمان. لكن المرئي لا يغيب، فالحواس مترابطة أكثر مما نظن، وتزخر الصور بالأصوات لو دققنا فيها. ولذا يعتمد الكتاب ايضاً في جزء كبير منه على تحليل الصور الفوتوغرافية والأفلام الصامتة، وذلك كله بغية فهم السياسات السمعية وتغيرات الفضاء الصوتي وعناصره في مصر الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
عبر فصوله الستة، يركز الكتاب على الحياة اليومية، لكتابة تاريخ دقيق (ميكرو). لا تعنيه الأحداث التاريخية الكبرى، بل تفاصيله الصغيرة، الأصوات التي تصدرها الخلاخيل في حركة النساء الشوارع، أنواع الأحذية والحفاء والشباشب البلاستيك وكيف أثرت تغيراتها مع الوقت على الخطوات وإيقاعاتها على الأرصفة. عبر تلك المراجعة، يعيد الفصل الأول، "المشي في الشوارع" إحياء أصوات قد تلاشت في الماضي، "يعوض الله" نداء السقايين، الذين اعتمدت عليهم المدن لتزويد بيوتها بالماء قبل تمديد شبكات المياة العامة، "مين هناك!" صيحة عساكر الليل، ونظامها الزمني المنضبط داخل شبكة من الحركة، حيث يعمل الصوت كأداة فرض السيطرة، عبر عمليات التسليم والتسلم بين نداء حارس وآخر، ومن شارع إلى شارع، حتى يتم تغطية الحي كله ببساط أمني مجدول من النداءات ووقع الخطوات وصدى الصوت.
يتفحص الفصل الثاني "إسكات الشوارع"، الخط السمعي للطبقية، متتبعاً الجدل العام في الصحافة والمؤسسات السياسية حول الضوضاء. فبالإضافة لاستعراض مخاوف الطبقة الوسطى الصاعدة من الطبقات الدنيا "عالية الصوت"، يستعرض فهمي محاولات الدولة المستمرة لضبط الأصوات والأجساد، متمثلة في قوانين وتراخيص الباعة الجائلين وتنظيم نداءاتهم ومواعيد عملهم وكذا قوانين مكافحة التشرّد والتسوّل. وفي هذا يكشف لنا الكاتب عمّن يملك حق تعريف حزمة من الأصوات على أنها ضوضاء، وتبعات ذلك على قطاعات من السكان وعلى تنظيم وجودهم وأنشطتهم في الحيز العام والخاص.
بين الفصلين الثالث والرابع، تبرز التكنولوجيا كأحد العوامل الأكثر حسماً في تغيير معالم الفضاء الصوتي للحداثة. فغير التبدلات في الأصوات المنبعثة من المرور والبيوت والمقاهي، بعد مد شبكات الترام في المدن وارتفاع معدلات الملكية الخاصة للسيارات وأجهزة الراديو، يفصل الكتاب الدور الذي لعبه انتشار الإضاءة الكهربائية وأعمدة الإنارة العامة، في تمديد النشاط اليومي لحياة المدينة والريف، وإنتاج أشكال جديدة وجماهيرية من "حياة الليل".
بين الزغاريد وإطلاق المدافع في المناسبات الرسمية، يقوم الكتاب في فصليه الأخيرين، بعقد مقارنة ضمنية بين أصوات الناس العاديين والجوانب السمعية لمراسم الدولة. ففي أصوات الأفراح والجنائز، بعويلها وولولة الندابات مدفوعات الأجر ومزيكة "حسب الله"، يكشف فهمي عن منظومة محكمة من جندرة الأدوار الاجتماعية وعمليات التضامن الأهلي في طقوس الفرح والحزن، وفي المقابل، في أصوات مدفع رمضان والنشيد الملكي ومواكب الموسيقى العسكرية في الشوارع مع مكبرات الصوت التي تذيع الخطب الرسمية ومراسم افتتاح البرلمان، نرى إعلاناً لشرعية السلطة وترسيخها سمعياً. في تلك المقارنة، تتضح ببساطة تراتبية صوتية، تخضع فيها أصوات الطبقات الدنيا للوصم والنبذ وإعادة التنظيم القسري، فيما يحظى ضجيج المؤسسة الرسمية المضخم والمتفجر، بوضعية مبجلة.
يشق "أصوات الشوارع" مسار مختلف للولوج لتاريخ الحداثة، مقدماً محاولة أولى ملهمة وتأسيسية لتدوين تأريخ للحواس في مصر. ما يغفله فهمي في كتابه، هو أصوات الطبيعة وتغيراتها أثناء تفاعلاتها مع الاجتماعي والتقني، فتركيزه يظل مقتصراً على الجانب الثقافي للحياة اليومية. أيضاً، يدفع الميل المحمود لإنصاف الطبقات الدنيا في وجه السلطة، إلى نوع من التمجيد لـ"الضوضاء" الشعبية، من دون اعتبار أو محاولة فحص لخبرة تلك الطبقات في فضائها السمعي، وإمكانية معاناتها هي نفسها داخله أو احتمالية تطلعاتها إلى الهدوء المحرومة منه.

(*) Street Sounds: Listening to Everyday Life in Modern Egypt | Ziad Fahmy (sup.org)

المدن