تضرب المؤلفة بقوة في المسلمات التي نعرفها جميعا عن العائلة المصرية ورسوخ أفرادها وتضامنهم، وتفكك صورة البيت الرمزي وهي تؤرخ لسيرة أسرة مصرية عادية من أسر الطبقة الوسطى عاشت تحولات نصف قرن تمتد من أوائل الستينيات وحتى أواخر التسعينيات لكنها دفعت اعتبارا من السبعينيات الأثمان التي انعكست على أحوال أفرادها.

«أقفاص فارغة» من العفن

سيد محمود

 

أجمل ما في كتاب (أقفاص فارغة/ كتب خان 2022) للشاعرة فاطمة قنديل أنه مكتوب خارج الشعر، لكن القارئ الذى يتصفحه وهو لا يعرف مؤلفته سيصل حتما إلى لحظة يتصالح فيها مع الألم الذى عاشته وهى لحظة شعرية بامتياز.
لا يمكن اعتبار الكتاب سيرة ذاتية خالصة، لأن صاحبته كتبت مشاهد من حياتها بالمسافة الفنية اللازمة للكتابة، فليس الغرض هو التسجيل أو التوثيق وإنما تأمل اللحظات الأكثر رسوخا فى الذاكرة والتى تومض بنارها ونورها.
تكتب قنديل بلغة سردية عادية تشبه الرمال الناعمة، تنجح معها فى سحب القارئ إلى عالمها دون مغريات من أى نوع فلا مجال للاستعارة أو المجاز ولا إفراط فى التخييل لأن البطولة للتجربة وحدها وهى كما تبدو فى الكتاب غنية بقدرتها على الكشف والتعرى.
تبدو الذات الساردة مؤهلة لدفع أثمان هذا الكشف، حتى إن الكتاب يبدو فى المحصلة النهائية بمثابة سجل للإلم لكنه لا يأخذ شكلا شعريا إلا فى الصفحات الأخيرة الحافلة بتمجيد القسوة وتأمل مختلف أفعال الخلاص، فكل من نراهم فى الكتاب يسعون إلى الخلاص الفردى باستثناء الأم.
تضرب المؤلفة بقوة فى المسلمات التى نعرفها جميعا عن العائلة المصرية ورسوخ أفرادها وتضامنهم، وتفكك صورة البيت الرمزى وهى تؤرخ لسيرة أسرة مصرية عادية من أسر الطبقة الوسطى عاشت تحولات نصف قرن تقريبا تمتد من أوائل الستينيات وحتى أواخر التسعينيات لكنها دفعت اعتبارا من السبعينيات الأثمان التى انعكست على أحوال أفرادها ودفعتهم لهجرات متلاحقة بعضها داخلى من السويس إلى القاهرة وبعضها خارجى شمل ألمانيا والخليج.
يشير الكتاب بوضوح إلى أن أكثر آثار الهجرات فداحة جاءت من تعزيز معانى التخلى وفك الروابط التقليدية التى كانت تجسد معنى العائلة.  
فى دواوين فاطمة قنديل الشعرية وأحدثها (بيتى له بابان/ دار العين 2017) يمكن تأمل حضور (البيت) الذى يلعب الدور الرئيسى ويبدو كفضاء مؤهل للدفء الحقيقى ويتعاظم الشعور بهذا المعنى فى هذا النص الشجاع، على الرغم من أن هذا الفضاء يتضاءل فى المكان ويتعرض لأشكال مختلفة من الحصار والانتهاك ويفد إليه غرباء وغزاة تتبدل ملامحهم وتختلف أقنعتهم لكن هدفهم جميعا السطو على (البيت) والتفريط فى المعانى التى يمثلها.
وتبدو لحظة الخروج من هذا البيت بمعنى ما هى لحظة للتخلى عن إرث روحى لكنها فى نفس الوقت وسيلة للانعتاق والتحرر من هذه المتلازمة.
تقرر فاطمة الخروج ولا ترضى بأقل من هزيمة كاملة، لكنها وهى تخرج تقرر ألا تأخذ معها شيئا من الأثاث القديم وتقطع صور أخويها وخطاباتهم وتمحو آثارهما فعليا كى لا تلاحقها أو تراوغها فى البيت الجديد لكنها تُبقى معها صورة وحيدة للأب وصورا عديدة مع أمها وتحمل ملابسها الصالحة وتسلم مفتاح البيت للمالك الجديد.
ما يمكن إدراكه فى المحصلة أن الكاتبة كانت مريضة بهذا البيت لذلك فقد كتبت للتحرر من سطوته على النحو الذى يذكر بما كتبته الناقدة الأمريكية سوزان سونتاج حين قالت إن أشمل وأفضل طريقة للتفكير فى الأمراض هى عدم اللجوء إلى الاستعارة.
بعد أن أنهيت الكتاب تذكرت العنوان البديع الذى اختاره عالم الاجتماع الراحل سيد عويس لمذكراته وهو «التاريخ الذى أحمله على ظهرى» وتساءلت: هل أرادت فاطمة قنديل التخلص من هذا الثقل أو التخلي عنه؟ أم كانت ترغب فى الاحتفاء باللحظات التى صنعها هؤلاء الموتى؟ تجيب فاطمة وهى تحاول أن تفسر لصديقتها رئيفة التى ساندتها فى الرحلة شغفها بالكتابة: «أكتب عن هذا الجذر البعيد لأطيره أوراقا فى الهواء، كى لا يظل يخادعك بأنه شجرة! تكتب عن الجذر المعطوب فقط لكى تتخلص من «عفنه».

 

جريدة الشروق