يرى الناقد المصري أن السارد أصبح، روائيا كان أو كاتبا للقصة القصيرة، يلجأ إلى عمليات هروب، مكانية حينا، وزمانية حينا آخر، فضلا عن الهروب الذاتي، أو الهروب داخل النفس، فلجأ إلى عمليات الاستعارة والتورية، ليقول ما شاء له أن يقول. ومن هنا أصبحت الشعرية، أو الشاعرية، أحد سمات السرد الحديث.

شاعرية القصة القصيرة

شوقي عبدالحميد يحيى

 

أعتقد أنه ليس بجديد القول بتماهي الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية، للحد الذى ظهرت معه نظرية النص، العصى على التحديد، شكلا ومضمونا. خاصة بعد صراع الأولوية- التأثيرية لا التاريخية- . فإن كان المعروف فى الأدب العربى، بأسبقية الشعر على غيره من فنون الأدب، وما أطلق عليه ديوان العرب، جاءت الرواية، فى الزمن الحاضر لتنازعه على العرش، بمساهمة الشعر ذاته فى ذلك، بما اكتنفه من غموض –للقارئ غير المدرب- وتيه فى دهاليز استعاراته، وكناياته، وصوره المتخيلة، ، وتفتيت الزمن، وتحطيم تتابعه المنطقي، وعدم الالتزام بالمكان، بابعاده الهندسية، والذى يصبح معه الإمساك بخيطه، من الصعوبات التى يتوه معها القارئ- غير المدرب-.  لتنتفض الرواية وتجلس على كرسيه، مستخدمة ذات الأصل فيه، باستخدامها جوهر الشعر، من استعارة وكناية وتكثيف وإيحاء وغيرها. فظهر ما يوصف بالشاعرية.  وقد لجأ السرد عموما، إلى تلك الاستخدامات، تخفيا وهروبا من عمليات الملاحقة الأمنية، والقيود الاجتماعية، فى بلداننا العربية –خاصة- . اصبح السارد، روائيا كان أوكاتبا للقصة القصيرة، يلجأ إلى عمليات هروب، مكانية حينا، وزمانية حينا آخر، فضلا عن الهروب الذاتى، أو الهروب  داخل النفس، فلجأ إلى عمليات الاستعارة والتورية، ليقول ما شاء له أن يقول. ومن هنا أصبحت الشعرية، أو الشاعرية، أحد سمات السرد الحديث، فى حين كانت المباشرة، هى ما يسيطر على السرد فى بدايات القرن العشرين- لظروف اجتماعية فرضت وجودها عليه فى تلك الفترة-. لذا اصبح التأويل هو أحد أهم وسائل القراءة للأعمال الإبداعية- بصفة عامة-. وهو ما يمنح النص ذاته حياة فوق حياته، لتعدد القراءات، وبالتالي تعدد وجهات النظر التى تُحيى النص وتمنحه أبعادا جديدة، تختلف باختلاف الزمن، وظروف القراءة.  

ساعد ذلك أيضا اقتناص السرد لخاصية من أهم خصائص الشعر، وهو الذاتية، بمعنى أنه إذا كان الشعر بالدرجة الأكبر، تعبيرا عن مشاعر وأحاسيس الشاعر، فإن السرد قد تخلى عن حياديته، وتحول إلى الذاتية، فأصبح تعبيرا عن مواجهة الذات مع العالم الخارجي، كما أصبح السرد تعبيرا عن وجهة نظر السارد تجاه قضية معينة، تمثلت بغزارة فى السرد فى الفترة الأخيرة –نسبيا- فى التعرض لقضايا الأمة، فكان حتما أن يبحث السارد عن وسيلة يستطيع بها التعبير عن رؤاه، دون أن تطاله يد السلطة أو الرقيب. على أن تلك الشاعرية لم تتوقف فقط عند استخدام اللغة، وإشعاعاتها، وإنما تجاوزها إلى شاعرية الرؤية، المقابلة- الإحالة، وحتى الشخصية،  وباقى عناصر الإبداع، التى لا يصبح الإبداع إبداعا بدونها، وهو ما يتجلى بصورة كبيرة فى الأعمال القصصية- التى نقتصر عليها هنا-  لكل من أحمد أبو خنيجر، حمدى النورج، منتصر القفاش، سعد القرش، فؤاد مرسى، بيتر ما هر الصغيران، محمد إبراهيم طه، طارق جادو، وغيرهم كثير، ممن سنستخدم أحد أعمال بعض منهم فى هذه العجالة، كأنموذج تطبيقى لتلك الرؤية النظرية.

ففى قصة بعنوان "رد قلبى" لحمدى النورج، يصنع العنوان المفارقة التى هى أحد عناصر الشعرية. فالقارئ حين يقرأ العنوان "رد قلبى"، يرتسم فى مخيلته، الإقدام على قراءة قصة رومانسية، غير أنه يفاجأ بأن القصة تسير فى إتجاه آخر، وهو ما يصنع الحركية من البداية، ليدخل فى حوار مع الكاتب. ثم غنه يظل طوا[1]ل القراءة يبحث عن العنوان داخل النص، غير أنه يعود للعنوان، فيجده يلقى بحمولته الدلالية منذ البداية، ويحدد مسيرة القصة، حيث يستدعى (فيلم وليس الرواية) "رد قلبى" فى الأذهان، "الحركة المباركة" فى يوليو 52. إلا انها هنا لا تستدعى تلك الحركة فى حد ذاتها، وإنما تستدعى الحالة (الثورية) التى تمثلها، والتى تعنى ضمنيا التغيير، التى تشير إليها الزوجة فى القصة { قالت إن الحياة بوتيرة واحدة مملة يجب أن نغيرها.اقترحت ثلاثة أيام في فندق ساحلي نتذكر حياتنا الحلوة}، وهو ما يعنى أن الحياة (الآنية) ليست حلوة و حيث يتولد الأمل فى التغيير.

ثم تتبدى الشاعرية فى المسكوت عنه، والمخبأ فى أعماق الكلمات والجمل، وما يجبره على الدخول فى عملية التأويل. فتبدأ القصة بوصف الحالة، فى 25 يناير 2011. بلغة حادة، ومتقطعة، تعكس تلك الحالة، من التوتر، والترقب { غابة كبيرة بلا ملامح. نقطة ضوء تهرب في خوف} حيث الضبابية المنبثقة من (بلا ملامح)، والضوء الخافت الظاهر فى الخلفية (فى خوف). ثم تأتى الجملة التالية ( ذئب يهجم وأنا أقاوم)، لنستحضر حمولة الذئب الدلالية –أيضا- بما يعنيه من اقتناص كل (الحيوانات) أى بطبيعته الشرسة، فضلا عن أن الذئب يعرف بكبر (أذنيه) بالنسبة لجسمه، وهو ما يشير لخاصية التنصت، التى وصمت الحكومة (والحكومات العربية).

ثم تأتى الإشارة إلى الوسيلة التى كانت سلاحا أساسيا فى تلك الثورة الوليدة، وهى (الموبايل). فبعد أن يخبر الإبن بالخير الوفير، الذى سيأتى نتيجة هذا الحلم الوليد، يعده الأب بأن يأتى له بالجديد، كمكافأة { وتواعدنا لو وقع فسوف أشتري له تليفونا جديدا}. وحيث يصبح الإبن – الشباب- هو الفاعل الأصلى لتلك الصحوة. وهو ما (نراه) فى نهاية القصة { لقد تخلى عن مسألة الرزق أصلا . وأطلق في الحارة دخانا من إطارات مشتعلة} وهى الصورة التى رايناها كثيرا فى مرحلة المقامة، التى لم تكن لتمر بسلام، حيث { طاردته سيارات الشرطة والكلاب معها}. و تستدعى الكلاب هنا قول الراحل صلاح عبد الصبور (ومن يربط الكلب العقور ببابه... فكل بلاء الناس من رابط الكلب) لتضع أمامنا الفاعل الأساسى فى عملية مقاومة التغيير. تلك الكلاب التى تنوعت أشكالها، فلم يكن ذلك المرتدى البزة الكاكية، وإنما تعددت صوره بين الظاهر منه، والمخفى، والذين كشفهم ذلك الإبن (الشاب)، الذى يعيش الواقع على أرضه {قال ابني إنه لمح قطيعا من الكلاب يمر من الشارع. وأن السكان تعجبوا من غرابة الشكل والزي}.

 ويلقى الكاتب بمفتاح آخر للولوج إلى عمق رؤيته فى إشارة تكاد تبدو عابرة، رغم ما تضيئه فى الجملة { وأنه شخصيا لم ير مثلها في ناشونال جيوغرافيك أو حتى ديسكفري} حيث لم تكن الإشارة عفوية، إذا ما علمنا أن  المجلة والقناة الشعبية الحاملة لاسم "ناشونال جيوغرافيك  جعلت شعارها مستطيل أصفر. وهو يرمز إلى باب مفتوح لعالم المعرفة. وتم اختياره كاستعارة للشمس التي تشرق فوق العالم بأكمله وهي مصدر الطاقة. كما تعنى ديسكفرى ، الكشف او المكاشفة، لتصف الأمل الذى عليها قامت الثورة.

ثم تأتى الحالة التى اصبحت عليها الثورة، مقسمة بين أشكال، وأجيال المجتمع، فى جملة مُرَكزة الحروف، متسعة الرؤية، والدلالة {أنا في الدولاب والولد في الشارع وزوجتي في المطبخ}. حيث قبع (حزب الكنبة) أو الكبار –سنا- فى الصمت والاستسلام، أو الانتظار، والأم التى آثرت السلامة من البداية، وأنكرت أن (لحوم الفندق) سليمة، وكأنها لا ترى سوءً فى استمرار (مبارك) ومجموعته، بينما الإبن (الشباب). ظلوا فى الشارع، مقاومين ومنتظرين تحقيق الأمل.

رحلة من الأمل ورفض لحوم (الذئب) وغيرها من اللحوم، فقد أصبحت (كل اللحوم فاسدة)، وكأن الحياة (كلها) قد أصبحت فاسدة. لتقف القصة بشموخ ، وإبداع حقيقى، وبصياغة شاعرية، تحمل وراء السطور أكثر مما تحمل من ملفوظها.

وتتميز القصة بالكثافة التى يصعب معها استبعاد أية كلمة، حيث تصبح الكلمة، والجملة، لبنة فى بناء الرؤية الكلية للقصة، وهذا التكثيف يعتبر من أهم خصائص القصة القصيرة، كما تعتبر الحمولات الدلالية أحد عناص الشعرية فيها. فإذا اخذنا مثلا { والتزمت السمت الشبابي بالألوان الصفراء والحمراء والخضراء} حيث تفتح الجملة آفاقا للتعرف على وقع الأحداث النفسىة، وما بثته الوقائع من أمل على الرجل الكبير، وكيف تحول إحساسه وكأن العمر عاد به إلى فتوة الشباب، متناسيا ما قد يكون أصابه من أمراض الكبر. إلا أن هذا لم يكن التغيير (النفسى) المُعبر عن الحركة داخل الشخصية وحده، وإنما يضاف ذلك ذلك التغيير (النفسى –أيضا) الناتج عن التحول فى الإحساس تجاه لحم الذئب. فبعد أن كان لحم الذئب مستساغا، ومحببا له، بما يمكن تأويله بقبول الحياة- رغم عدم طبيعيتها- قبل الحدث (الثورة)، إلى أن اصبح مذاقها (فاسدا)، ليس لحم الذئب فقط، وإنما حتى لحم الخروف فى غير العيد، بما يؤول، بأن الثورة أشعرته بمدى ما كان يستيسغه، ليس طبيعيا. لتصبح الصورة عكسية. فقبل الثورة كان الفساد مستساغا، وبعدها شعر بأن سير الحياة على ما كانت عليه، هو الفساد بعينه.  ثم تأتى المفارقة، أو المواجهة بين ما كان وما هو كائن، فى تلك الجملة شديدة التركيز، واسعة الدلالة، حيث نقرأن أن الكلاب تحاصر البيت، والكلاب( والشرطة) تطارد الإبن فى الشارع، فيأتى{ منها كلب الحاج محمود أبيض اللون القنوع الذي ما رأيته أبدا يأكل إلا العيش . يطوف علينا ساعة الغداء فيأخذ نصيبه ويمشي وهو يهز ذيله انبساطا . وكان يقظا كالساعة قويا كالحربة صديقا كالرغبة}، فكلب الحاج محمود- الذى كان – فى إشارة إلى الماضى، فكان لونه أبيض، وكان يعيش فى سلام، مع الجميع ويرضى بالقليل. ورغم هذا كان كالساعة فى إنضباته، قويا كالحرية التى ينشدها السارد، والتى تُنتزع بالقوة، وصديقا للجميع، مثل تلك الرغبات التى لا تفارق الفرد، والتى لا يمارسها -هذا الفرد- إلا غن كان حرا وقويا. لتعلن الجملة عن الحركية الزمانية. فإذا كانت القصة كلها تنطق بالفردانية، وما هى إلا خواطر الفرد، فالجملة تساهم فى الإحساس بالحركة، رغم سكونها.

 وكذكل تلك الجملة التى انتهت بها القصة { أنا في الدولاب والولد في الشارع وزوجتي في المطبخ} ، وكأنها نهاية التجربة على أرض الواقع، او نهاية الحدث الرئيس فيها، حيث عاد الأب إلى كمونه وتقوقعه وخوفه (داخل الدولاب) حيث الدولاب هو مكان الحفظ، والتخزين. والأم تمارس عملها الطبيعى (فى المطبخ)، والإبن فى الشارع، حيث ينفتح الشارع على، الضياع، والتيه (اللامأوى). وربما إلى طريق المجهول. فضلا عن العنوان ذاته، الذى لم يرد له ذكر مباشر فى القصة، ليضفى الروح، ويضئ رؤية القصة، ويساعد القارئ فى تحديد مساراتها، التى عبرت عن رؤية كلية مفادها، ثورة كانت الأمل. وكانت الخلاص.غير أنه ليس دائما.. كل الأمانى تتحقق.

ولتعلن "رد قلبى" عن كنز إبداعى، يثير الفضول، ويؤجج الرغبة فى قراءة المزيد والمزيد، من تلك الأعمال التى تفتح آفاق الرؤية، وتدفع القارئ لأن يكون مشاركا فى عملية البناء الشعرى، الذى تزخر به القصة.

وفى قصة "حصافة الرمل"[2] لأحمد أبو خنيجر – الذى تميز بسريان عوالم الصحراء، وتحولها إلى الجنة المبتغاه، هروبا من جحيم الوادى، وما اسميناه من قبل "الهروب الاحتجاجى"- والتى لم يتوقف فيها  الكاتب عند شاعرية الرؤية، فقط، حيث  تحولت الصحراء إلى واحة تتهادى فيها النسمات، وتتراقص حول نبع الماء، المتعطش لها تائه الصحراء. فبدل الأوضاع، وتحولت لديه الصحراء إلى الجنة، وتحول الوادى إلى ثعالب وحيات وشياطين، فأسند ظهره إلى الصخرة وراح يعزف مقطوعاته، المتنوعة، على ذات اللحن، لتصنع من عُزلته جنة موفورة العطاء. فهى نغمة جديدة يعزفها أبو خنيجر على لحن الزهد والتصوف، حيث يمتلك الرمل الناعم- الممتد بطول المجموعة- (حصافة) يستطيع بها محو أثر الأقدام، وخيال الإنسان، السائر لا محالة إلى حيث لايبقى منه شئ، أو أثر {أتأملها الآن وأنا أرقب النسائم الخفيفة تعمل جاهدة لردم ما خلفته قدمى من أثر خفيف، فأرى الرمل يقبض على الأثر ويخبئه بعيدا فى ذاكرته شديدة الانفراط..أما الظل الذى يدرك أن وجوده فى هذه الرمال المكشوفة رهن بقاء الأخدود أطول وقت، لكنه فى الختام يستسلم لحصافة الرمل}. فهنا تمت عملية "إنزياح" الإنسان، الذى بمكنته أن يفعل ذلك الفعل، ليحل محله الرمل. فيعطى الرؤية جمالا إبداعيا، ويتوافق مع طبيعة المكان، أو الحدث، وكأنه يستحضر دفئ الإنسان المفقود فى الوادى، ولذا كان اللجوء إلى الصحراء.

 وهنا -أيضا- ينتصر الإحساس على النظر، المحسوس على الملموس، فيصعد السارد حتى يصل إلى قمة سلسلة من الجبال، مشدودا بإحساس وجود الماء، الذى يمنى نفسه بالاستبراد فيه من لهيب الصحراء، واختناق الجسد. مدعوما بهبات النسمات التى يستشعرها، حيث أنبأته طراوة النسمات بوجود نبع الماء المحاط بالأشجار.  غير أن، السراب يلعب لعبته، فلا يجد ماء { غير أن جسدى ما يزال يُكذب ما ترى عيناى، فإحساسه بقرب الماء ما يزال يغمره، تؤكد ذلك النسمات اللينة التى تداعبه... وتحت قدمى كان الماء} لينتصر الإحساس الداخلى، على الموجود الفعلى. ولتنتصر الروح على الجسد، ولينتصر أبو خنيجر فى عالمه الصحراوى، على ضوضاء العاصمة، وصخبها.

وتتنوع عمليات الهروب، المعبر عن اليأس. فى قصة فؤاد مرسى "كباش برباره"[3] والتى اجتمع السارد فيها بصحبة عدد من محاولى الانتحار، إما ببلع شريط كامل من التريتيزول، أو عن طريق فتح أنبوبة الغاز، أو بإلقاء النفس من فوق كوبرى قصر النيل، كانوا جميعا فى رحلة إلى جزيرة برباره، لقضاء يوم كاملٍ، وكان معهم (الرجل) الذى تعمد السارد ألا يحدد له اسما معينا، ليظل منفتحا على المجموع. حيث يذهب معهم إلى تلك الرحلة، مانحا كيسا بلاستيكيا للسارد، يحوى بعض أوراقه التى أراد أن يسعى السارد لنشرها بعد موته، غير أن (كبشا) انقض على الكيس، وفشلت كل محاولات استعادته منه، ليسقط (الرجل) ميتا، بعد أن أتى (الكبش) على كل محتوياته. وكأن فى تلك الأوراق (حياته)، إذا ما تصورنا أن الرجل، أو الإنسان ليس إلا مجرد أوراق، فى نظر (الحكومة)، وبدونها، فهو غير موجود، ولنرجع إلى قصة البداية، لنرى ذات الرؤية. وإذا ما سلمنا بأن "الكبش" هو ذكر القطيع، أو قائده، ليصبح الاستخدام مزدوج الاتجاه، القائد كجهة فوقية، والباقى أفراد القطيع، او (الغنم). فلجوء السارد هنا إلى عملية "الانزياح" بحلول الكبش، محل "الحكومة" أو الدولة، وإحالة الفعل إلى الكبش، كرمز، دفع القارئ هنا إلى التأمل والتدبر، فى فعل الدولة، دون أن تطاله يد الرقيب، وهروب من الصيغة التقريريةـ والإحالة إلى اللغة الإنشائية، أو اللغة الشعرية.

 وقراءة لقصة "المرأة التى علقت الشمس"[4] لبيتر ماهر الصغيران، تتجلى الشاعرية فى مسارات القصة التى قد تبدو مُلغزة، حيث غابت الرؤية بشفافيتها، وراء اللغة بساحرياتها وصورها.

فالمتأمل فى أحوال مصر، منذ خمسينيات القرن الماضى، وعلى إختلاف الجمهوريات المتتابعة، يستطيع أن يجد إشارة واحدة مميزة تجمعها جميعا، وهى التركيز على بناء الحجارة( سواء كانت مصانع، او مبانى على حساب بناء الإنسان ذاته. فتصحرت الحياة، وغابت الخضرة، وغاب الإنسان الحر، المؤمن بالجمال، فغاب وعيه، وأصاب جسده العلة، وعقله التصحر والجمود.

وإن كان التعبير عن ذلك قد استغرق العديد من الروايات، والمسرحيات والمقالات، التى احتلت، ربما ألاف الصفحات، فإن بيتر ماهر الصغيران، قد استطاع أن يعبر عنها فى بعض السطور، صانعا قصة قصيرة، تبتعد كثيرا عن نهجها التقليدى، سواء من حيث الشكل، الذى تحول السرد فيه إلى لغة الشعر، المكثفة، والحافلة بالصور، والمحلقة فى سماء الخيال. أو المضمون، الذى لم يكن له صلة بالمباشرة، أو الخطابية، والمعتمد على الإيحاء والرمز، والاستعارة، والسخرية، بادئا بالعنوان، الذى يعلن حضور الشاعرية، والدعوة إلى التفكير فى النفاذ وراء الظاهر والمكشوف من الكلمات والحروف.

فمن الطبيعى أن يكون العنوان هو أول ما يقرأه القارئ، ويمسك به كضوء كاشف يسير به عبر دهاليز العمل، وآخر ما يفكر فيه الكاتب، مكثفا رؤيته للعمل كله، وكاشفا عن مساره، ورؤيته.

فإذا ما تأملنا العنوان هنا، سنجد أنفسنا أمام حيلة غير واقعية، أو شبه مستحيلة، وهى تعليق الشمس، غير أنها تفتح لنا مسارا يبدأ بتناول الفعل "علقت" وهو ما يعنى أن الفعل (مؤقت)،ولا يعنى الديمومة ، أو الاستمرارية، وبالتالى تصبح عملية تعليق الشمس، عملية مؤقته، يُقصد بها شئ يتخفى وراء الأحداث، أو الحدث، وهو أول صورة لشاعرية القصة، وإعتمادها على الماوراء. والذى يمكن أن نبدأ به من الجملة { كل صباح يفرشون الشمس بساطا ثم يمشون فوقه}. حيث تأخذ الشمس هنا منحا مختلفا عما تعوده السرد العربى، فبينما كانت الشمس توحى بالإضاءة، والنور أو التنوير، فإنها هنا تنحرف عن ذلك التأويل، حيث تكشف الجملة عن ذلك الفراغ الواصلا بهم من الأرض إلى السماء، فلا فرش على الأرض يحميهم من سخوننها، ولا سقف يحميهم من جحيمها. ولتتحول الشمس إلى كل ما يملكونه من متاع الدنيا، لترتسم صورة الفقر والضياع، وغياب المأوى. ولذ ليس لديهم ما ينسجون منه أحلامهم، وآلامهم، إلا اشعة تلك الشمس.، التى اصبحت هى الرمز المهيمن على النص، رغم أنها ليست المؤثر الوحيد لتلك الحالة التى أصبحت عليها تلك المنطقة، من مصر، والتى حددها الكاتب حين ذكر {عند الضفة الشرقية للنيل} والتى قد يصل إليها القارئ المصرى بشئ يسير من البحث والتقصى- والتى قد لا يعجز القارئ غير المصرى فى العثور على مثيلها فيما حوله، خاصة فى البلاد العربية- . فالقارئ المصرى من الممكن أن يدرك أن المنطقة التى تتناولها القصة، هى منطقة "طره الأسمنت، أو المعصرة. تلك التى تقع فيها محاجر مصنع الأسمنت، التى تلقى بحمولتها الترابية التى تؤدى إلى تصحر الصدور، والظروف الطبية الناشرة لأمراض الصدر. كما أن هذه المنطقة تضم بالقرب منها أحد أشهر السجون المصرية "سجن طره" والذى يتواصل مع عناصر القصة فى جزئها الأخير. حيث يمكن تقسيم القصة إلى جزء أول والذى يعمل بمثابة الفَرْشة العامة، أو القاعدة التى يبنى عليها الكاتب تمثاله الآدمى " المرأة" ، أو الغابة التى يخرج منها الإنسان، الذى عاشها، وعايش حيواتها، ليخرج مغموسا بكل صفاتها، والتى تتجلى فى { فى رحلات الزفير والشهيق يستنشقونها، فقد صارت جزءا من صدورهم المتحجرة، حتى إن الدورة الدموية داخلهم تدور فى سكك أخرى خلفها، أمسى الغبار الأبيض من المحجر صديقا يوميا حميما، يشربونه مع السجائر والشاي.. خليطا من أجود أنواع الغبار}، حيث اصبحت تلك الأجواء، تتسرب إلى أنفاسهم، وتسرى فى قنواتهم الهوائية، لتخرج مع الزفير، قبل الشهيق، وكأن تلك الأجواء صُنعت بالأساس داخل رئاتهم، وما أوصل اجسامهم إلى تلك الصورة الكاشفة عن البؤس، والضمور {يتدحرج العرق من الجبين إلى الأسفل، ولا يجد عوائق فى رحلة نزوله سوى بعض البروزات والنتوءات فى أجسادهم}. والتى تنتهى بالسخرية المريرة، { خليطا من أجود أنواع الغبار} وكأن شر البلية ما يُضحك. وكما ذكرنا، ليست الشمس هى ما صنع تلك الحالة، وإنما {بين حين واَخر يهاجم الجوع ويفترس بعض الصبية، بينما يقاوم البعض ويأكل أوراق الشجر والفروع، ولكن ليست كل الفروع تصلح كطعام}. فإذا كانت الشمس من فوقهم، والجوع محيط بهم، فلنا أن نتصور تلك الحالة، التى إستطاع بها بيتر أن يستخرج جمالية القبح، مثلما استطاع أن يُخرج الأمل من وسط ركام اليأس.حيث استخراج الإنبات من مثل تلك الحالة، والتى يضع نقيضها على المستوى الجمعى، متمثلا فى العطاء الفردى، فى مقابل (الفقد) الجمعى {أطفالهم الرضع بتلك الأفواه المفتوحة على مصراعيها، ترضع لبن السرسوب المر الدافئ، عندئذً يتحول كل ثدى إلى مجرى مائى عذب، ينافس النيل ويسير بمحاذاته، لا تصب الأثداء فى البحر كالنيل ولكنها تصب فى البلعوم مباشرةً، فتعزى عن الجوع}. وهنا يأتى فك لغز المرأة { التى جلست القرفصاء خلف بابها لا تعرف هل تندب أم تهذي؟}، فرغم أنها تجلس القرفصاء، تلك الجلسة التى تعنى الضياع، أو العزاء، أو الحيرة، والتى حيرت الراوى فى تفسير حالها، فلا يعرف إن كانت تندب أم تهذى، ليست إلا واحدة من أؤلئك اللائى اعتنين بالجمال حتى اشتهر بينهن، الاعتناء بالفراشات (سبحان الله, كأن الفراشة الواحدة تلون نفسها بنفسها وتختار كل الألوان)، ليس لجمال الألوان فى حد ذاته، وإنما خبأ الكاتب خلفها أنها { تلون نفسها بنفسها وتختار كل الألوان}. ومن هنا تصنع كل المرأة، التى إختارها الكاتب إمرأة، ليس لحبها للجمال، وإنما لقدرتها على العطاء، وأنها مصدر النمو والامتداد، والولادة، فهذه المرأة، رغم كل تلك الظروف القاتمة، القاتلة، قادرة على الإنبات، فعادت معها الشمس إلى طبيعتها، واصبحت مصدر العطاء والحرية، فرسمت المرأة شعاع الشمس على سريرها، وفى مطبخها، فهى أدواتها التى تملكها، و{ لونت الشعاع باللون الأخضر، سألوها عن سبب الأخضر فلم تجب واكتفت بابتسامة باهتة, وإجابة حصرية فى صدرها المشتعل بالدفء: (الشعاع أخضر و كل شىء أخضر.. أنا خضراء..}. وكأنها تقول أنا قادرة على العطاء. وهنا نستحضر "سجن طره"، فترسم المرأة الشمس {رسمت الشمس على عيون حمامتين تطيران، وألقت بالرسمة من الهضبة}. وكأنها تريد أن يطير الورق، الرسم، بالحرية والسلام، اللذان يمثلهما الحمام، غير أنه ليس بالأمانى تتحقق الأحلام { ظناً منها أن الورق يطير دون جناح}، ذلك الأمل الذى لم يفارقها، حتى وهى تموت من تلك الظروف، فكانت وصيتها {(أُدفن إلى جوار ذات الشعاع الأخضر...........(}(الشمس)، التى تحول لهيبها إلى شعاع أخضر، بما يحمله كل من الشعاع والخضرة ، من الحنان، والحنية، و الأمل. حتى نكاد أن نحيل تلك المرأة إلى رمز الأم الكبرى.. مصر. إن أردنا أن ننظرا إلى القصة نظرة كلية، أو جمعية. أو ننظر إليها، على مستوى آخر من القراءة، فنرى فى تلك المرأة، الإنسانة، ابنة مصر التى تتغنى مع الشاعر نور عبد الله، والفنانة ريهام عبد الحكيم:

 بالورقة والقلم خدتيني 100 قلم أنا شوفت فيكي مرمطة وعرفت مين اللي اتظلم. عارفة سواد العسل أهو ده اللي حالك ليه وصل إزاي قوليلي مكملة وكل ده فيكي حصل..

يا بلد معاندة نفسها يا كل حاجة وعكسها إزاي وأنا صبري انتهى لسه بشوف فيكي أمل.

شعرية الرؤية:
بعد أن قدم محمد إبرهيم طه، روايته البديعة "باب الدنيا"[5] والتى وقف فيها على باب القبر، متأملا، فى رحلة خيالية ممتعة، والتى صاغها، بتقنية القصة القصيرة، المُقُنَّعةِ، حيث واظب على ممارسة الرواية دون أن يتوقف عن إبداع القصة القصيرة، فيخطو بنا خطوة أكثر عمقا، فى اقتحام ذلك المجهول خلف الحياة، فكتب قصته القصيرة "خلف الأكمة نساء" . ذلك العنوان الذى يستدعى الآية الكريمة، التى تتحدث عن معجزة السيد المسح ﴿وتُبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى﴾[6]، لنستحضر الآية، ونبحث عن المعنى وراء استخدام كلمتى (الأكمه، والأبرص)حيث يتبين أن الأكمة هى إنسداد الرؤية، وعدم وضوحها. ثم نعلم أن الامتحان –فى الأساس، للحصول على الزمالة الملكية فى (النسا والتوليد)، ففضلا عن أن (النسا والتوليد) هى الممارسة الفعلية التى يمارسها د محمد، إلا انها هنا تأتى كإشارة وإجابة عن سوال ورود كلمة(نساء) تحديدا، بالعنوان. حيث النساء هن المسئولات عن عملية الميلاد والتكاثر، أو التناسل، عبر الزمن، وكأنها إشارة إلى ديمومة العملية على الأرض، التى يؤكدها استمرار الممارسات اليومية، التى يتناولها (الامتحان): { صِحت مرة أخرى كيف لامتحان تحريري في “الزمالة الملكية في النساء والتوليد” أن نجيب فيه عن أسئلة تخص ساعات العمل، وأيام الأجازة، وصافي الدخل وساعات النوم، وآخر مرة ذهبت فيها إلى السينما، وأول علاقة وآخر قُبلة}. وحيث يأتى الإنسان، دون إرادته، نقرأ { وكيف دخلت الخيمة، فقلت لا أذكر على وجه التحديد، لكنني كنت مساقًا مع كثيرين حتى لاحت خيمة في صحراء فأوينا إليها، ولم نعلم بأنه امتحان إلا بعد الدخول}. كما لم يكن إستخدام (الصحراء) مجانيا، حيث تلقى الكلمة بحمولتها الدلالية، وبما تبعثه فى الذهن من الاتساع والمجهول، والترقب، المشوب بالخوف. وكلها تبعث فى النفس رؤية الإنسان للمجهول بعد الموت.

فتبدأ القصة منذ السطر الأول، بإلقاء بعض الإشارت، التى تبدو وكأنها عابرة، وسط جو من الواقعية، حيث { كنت أول من اكتشف أن الامتحان من خارج المنهج، فبدأت الصياح، وتبعني آخرون، وتعجبت كيف يحشرون كل هذا العدد في خيمة واحدة} حيث نتبين أن الامتحان المقصود، لا يخضع لمنهج محدد، وإنما يخضع لخصوصية كل داخل إليه، فكما يأتى الإنسان فردا، يعود فى النهاية فردا، حيث يُحاسب وفق أعماله. خاصة إذا أخذنا فى اعتبارنا الإشارة الثانية {كيف (يحشرون) كل هذا العدد فى خيمة واحدة}. حيث يقفز أمامنا مباشرة (يوم الحشر)، حين يخرج البشر من الأجداث، للوقوف أمام المحكمة الإلهية، فَيُعرضُ عليه عمله.

يتلاعب محمد إبراهيم طه بقارئه، مثلما فعل فى كل أعماله السابقة. فيبدأ بالرؤية الواقعية، التى يستنيم لها القارئ، حين يبدأ قصته ب{ كنت أول من اكتشف أن الامتحان من خارج المنهج، فبدأت الصياح، وتبعني آخرون، وتعجبت كيف يحشرون كل هذا العدد في خيمة واحدة، فجذبني جاري من اليمين، وهمس بأننا في الزحام يمكن أن “نساعد بعض”، وسألني: “مذاكر كويس؟”، فأومأت برأسي، فقال: “حلو”}. فنحن هنا أمام وضع طبيعى ألفناه جميعا فى مراحل التعليم المختلفة. لكنه سرعان ما يخرج بنا عن المقرر، لا بالصيغة التى أتى بها عن إتيان الامتحان من خارج المنهج، لكنه يخرج بنا إلى الحياة الواسعة، خروجا من التجربة الشخصية الفردية للسارد {وحين لم أجد سؤالًا واحدًا من المنهج، صِحت مرة أخرى كيف لامتحان تحريري في “الزمالة الملكية في النساء والتوليد” أن نجيب فيه عن أسئلة تخص ساعات العمل، وأيام الأجازة، وصافي الدخل وساعات النوم، وآخر مرة ذهبت فيها إلى السينما، وأول علاقة وآخر قُبلة} حيث يجئ الامتحان فى ممارسات الإنسان اليومية، فخرج بنا من الفردية إلى الجمعية. ثم يسحبه مجهول إلى مجهول، ليقف أمام محاكمة مجهولة، وبعد الأسئلة يقول رئيس الجلسة {“تفضل”، فرأيت بابًا زجاجيا يشبه الباب الذي دخلت منه، كُتب عليه “العزل”، كان شفافًا، يفتح في الاتجاهين، فلم أعرف إذا كان دخولًا أم خروجًا، لكن الإضاءة كانت أكثر خفوتًا منها في الجهة الأخرى}. حيث العتمة ، أو الضبابية، كامنة فى {الإضاءة كانت أكثر خفوتًا منها في الجهة الأخرى}. فما وراء الحياة أكثر إظلاما، وإبهاما، عما قبلها. وكأن الكاتب يسير بنا فى رحلة الإنسان الأبدية، حيث يعيش فى حياته معرضا، ومتعرضا، لصنوف البشر، إمتدادا من الماضى { الحلاج وبن عربي، وجمال عبد الناصر وسيدك بكتوت، وسيدك مرزوق، والحجاج، وإسحق نيوتن، وآينشتاين}، حيث يعود الكاتب بالزمن إلى الماضى، ليعبرعن الرحلة الممتدة بالإنسان، من الماضى { عن يمينه وعن يساره رجلان ببدلة كاملة وطربوش} و { واستقر بصري على ساعة الجيب المدلاة من صدرية الرئيس}، إلى الحاضر{وعبد الفتاح السيسي}

مثلما استطاع (الطبيب) يوسف إدريس أن يكور رؤية الحياة المنحصرة بين لحظتى الميلاد والموت، فى قصته "العملية الكبرى"[7]، والتى بدأ فيها الطبيب يمارس عمليته مع الممرضة، على السرير المجاور للمريض الذى تصعد روحه، فقد أستطاع (الطبيب) محمد إبراهيم طه، أن يكور الإنسان على مر عصوره، بتاريخه وجغرافيته، ويقف به أمام بوابة الدخول إلى عالم المجهول الأبدى، بواية الامتحان الأكبر الذى يقدم فيه نتائج ممارساته الحياتية. مستخدما تلك الصور الفانتازية، التى تتناسب مع روح الغموض والتكهن، التى تخبئ تلك الرؤية الإنسانية، العمة، وراء روح السخرية وإختلاط الواقع بالخيال { وجمال عبد الناصر وسيدك بكتوت، وسيدك مرزوق، والحجاج، وإسحق نيوتن، وآينشتاين}. ليعلن عن قدرة القصة القصيرة على إستيعاب الحياة بأكملها، وكمون الشعرية فى خلفيتها.

شعرية المفارقة
تتميز قصص طارق جادو بالشفافية، التى تحلق بالقارئ فيما هو مخبوء وراء الظاهر من الكلمات. وتدفعه للتأمل، مصحوبا بالشاعرية المحلقة فى فضاء النص.

كما تتميز تلك القصص، بغياب الفعل – الظاهر- حيث تعتمد على التصوير، الذى يصف الحالة، تاركا لقارئه أن ينسج من ذلك الوصف خيوط (الحكاية)، ويصنع الفعل.

فإذا ما أخذنا قصة "يومية غياب" – على سبيل المثال-  سنقرأ المفتتح الذى يعبر عن حالة الضجر والإظلام المُخَبِئ للأمل .{فى الليل.. أرقب الصباح البعيد..} وكأن الليل ممتد إلى ال(بعيد). فنتعرف على حالة السارد الذى يهيمن عليه كابوس القنوط. فضلا عن إمتداد الزمن وبطئه، البادى فى إتساع اليوم، والذى عبر عنه الكاتب فى تقسيم اليوم إلى ( فى الصباح... إلى الظهر.. عند العصر .. قبل الغروب .. فى المساء) وكأن الزمن يمر ببطئ، فيزيد إحساس السارد بوقعه الثقيل.

وسنكتشف أن الزمان والمكان، قد تماهيا فى عملية الوصف، وأصبح علينا أن ننفذ من بين ستار الكلمات الشفافة، لنعرف أين يكمنان، ولنكتشف أن السارد يقضى فترة التجنيد الإلزامية، يعانى عُقم التدريبات القاصرة على الطوابير {تُرهقنى تدريبات اللياقة}، وحبسة الحرية داخل الأسلاك {إرفع رأسك....كنا نهتف في الشوارع ..يا أخي قد مضى عهد الإذلال ..تنطلق الحناجر } وقلق الشوق للإنطلاق والحرية التى كانت تسمح بالانطلاق فى الشارع والهتاف، على عكس تلك الحالة التى يعيشها فى المعسكر، والتى يزيد من وطئها، تلك الحالة من التفرقة بين الضابط والجنود فنقرأ {فى مواجهتى .. ينتصب القائد، عالقا بأطراف النجوم على كتفيه، ومن المنصة  يتدلى المساعدون، وحدنا .. نُترك فى الميدان.. نتفتت فى الكتائب} ،. وهى الحالة التى تقودنا إلى تحديد الزمن، المخفى عن أعيننا، ولنتبين أننا نعيش فترة ما بعد 67، وقبل 73، بل يمكن أن نحدد تلك السنوات الضبابية التى غابت وغامت فيها الرؤية، وهى السنوات الأولى من سبعينيات تلك الفترة، عندما خبا (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) . لذا نقرأ {في الماضي.... لا صوت كان يعلو على صوت المعركة.. والآن!!}. ويتوقف الكاتب ليترك قارئه يتأمل (الآن)، وفق رؤيته هو، لينفتح النص ويتسع ليشمل كل أركان (الآن). لتتمثل الشاعرية هنا، فى تلك المساحات المتروكة لخيال القارئ، كما تتمثل فى تلك الصور المتراكمة فى التركيبات اللغوية، والمستدعية –أيضا- لخيال القارئ، فى مثل{ ثقيلة .. تمر من فوقي الدقائق الطوال كأنها قطارات الضواحي التي لا تكف عن الصفير ، معلنة عن قدومها البطيء} حيث تجسد الدقائق وبطء مرورها، وأيضا استدعاء تلك الحالة الخارجية، المتمثلة فى صورة قطار الضواحى، وتداعياته التى تنفتح بإتساع القراءة. كما فى تلك الصورة التى تكشف الامتداد الزمنى، بين الخارج والداخل، بين حالة أولئك الجنود – راكبى قطار الضواحى- وحالتهم فى المعسكر{ومحملة بأصحاب الوجـوه المشقـقة والأردية الكالحة وسـحابات الغـبار . هنا لا نتغطى إلا بالحكايات القديمة ، نفردها فوق الساق والبطن والصدر ، نتدفأ ببطولات الماضي ، نسردها كثيرا ً حتى الملل} وكأن أولئك البسطاء يستنجدون من الرمضاء بالنار.

كما تتبدى تلك المساحة المنفتحة، والمتروكة لخيال القارئ، فى استدعاء الأب، فى { لا أدري متىقال أبي : تغيرتْ .

وعبثا ً كنت أريد معرفة المزيد ، لاحقته بالأسئلة ، وكان يهرب مني كعادته ، ثم .. يبسط كل الأشياء . ذكرته بملامحك ، وُعوُدكِ التي حفرتها معي على شجرات التوت .

لكنه أومأ قبل الرحيل :

لم يبق شيء}. ليمكن النظر هنا على أن (الآب) هو الوالد، الذى يخفى الحقيقة عن تغير الحبيبة التى كانت، ولتنفتح الرؤية أيضا على ذلك الجدل الدائم بين الجيلين، جيل الشباب الذى لا يرضيه الواقع، ويُحَمِل الأباء دوما مسئولية ذلك. كما يمكن النظر إليه على أنه السلطة المتمثلة هنا فى الضابط والأومباشى، الذين غرقوا فى الدخان الأزرق، ممثلين للسطة الأعلى { في الركن القصي يخايلني ظل ” الأمباشي ” .. غارقا ً في غيمة زرقاء دخانية، أتابع شهقاته .. وسعاله المصحوب بالضحكات. تسقط في أذني رخات كلماته :

لماذا نفيق إن كنا لن نفعل شيئا}  ,وهو ما يرجع بنا إلى تلك الصورة الذهنية- والحقيقة- التى ارتسمت فى المخيلة العامة، بما كانت عليه القيادة العسكرية قبل 1967. فى ضوء ذلك التماهى بين الحبيبة، القريبة، والمُجَسَدة فى الإنسانة التى من المفترض أنه أحبها، والوطن الذى خان كل الأمنيات، والأحلام  فى 67، وعدم قدرة –ذلك الآب، أوالسلطة- فى منح الإجابة عن سبب التغير، أو سبب الهزيمة.

ثم يريد الكاتب أن يدحض تلك المقولة التى ترى أن السمكة تفسد من رأسها، وليؤكد أنه رغم فساد الرأس، فإن الجسد لم يفسد، فيأتى بفقرة، قد تبدو – فى الظاهر- بأنها دخيلة على النص، بينما تَخًفتْ الرؤية فى الخلفية، لتتضح فى النهاية، فنقرأ { أقول له إن كل الوجبات ماسخة .. مطبوخة بزيت الكافور ، يؤكد لي إنه يفهم ماذا يقصدون ، ويضحك . يقول إن شيئا ً لا يؤثر فيه ، ينفجر الجميع قنبلة من الضحك ، وبعد فترة يتوقفون}. وهى الرؤية التى يكشف عنها فى النهاية حين يقرر{ في المساء

أخلع أردية الخوف .

أتخلص من كل محاولات خداعي .

أقسم أن أقطع ذيل الشك باليقين .

سوف ترين

حين يهبط ظل الليل كثيفا ً على المكان

كيف أذوب مع المتسللين إلى الجبل خلال الأسلاك .

اقتلع جذوري الغريبة من تلك الرمال

قاصدا ً إليك}

;وكأن السارد – الجندى- لا تؤثر فيه حيل وأد الرجولة (زيت الكافور) فيقرر خلع أردية الخوف، والهروب من كل المظاهر الشكلية، هروبا هو الاقتحام والوجود، وليتحول الهروب إلى الوجود، الذى نجح فيه الكاتب فى استخدام الشكل برتابة الزمن، وبذكر أوقات اليوم، بعد أن أصبحت تلك الفترة بما تخللها من ملل وضجر، يأتى الصباح { في الصباح .. يرددون اسمي في كشوف الغياب}. وليصبح الغياب، غياب عن تلك الفترة بما فيها، ومن هنا تنشأ المفارقة.

فإذا كان غياب الرؤية، أو تخفيها، أحد مظاهر الشعرية، فإن الأمر لم يتوقف عندها فقط، وإنما بدى كذلك فى استخدام الكاتب صيغة الأنا، أو الذات- التى هى بالأصل صيغة شعرية- القائمة على الفضفضة، أو البوح، والذى تمكن الكاتب من خلاله التعبير عن الرؤية النفسية  لمرحلة من أشد مراحل التاريخ المصرى قلقا وإضطرابا، فإنه مضى إلى أبعد من ذلك، حين اعتمد الشكل الشعرى فى رسم الكلمات، وتوزيع السطور. فضلا عن شعرية اللغة التى بدت واضحة فى مثل:

{ و كل شيء بينسرق مني

الحب .. والأحلام

والضي م النني ….

وفينك ؟

بيني وبينك أحزان .. ويعدوا

بيني وبينك .. أيام وينقضوا}

 والتى لم يُشر الكاتب إلى غيره. فأصبح لزما قبولها أنه قائلها.

لقد خدمت تلك الشعرية، التى غلفت القصة، شكلا ومضمونا، فى تقبل رسالة التعبير عن فترة ربما مثلت أسى وألما مجتمعيا، ربما حفر فى النفوس البغض والكراهية، وكأنه قد صنع من الشوك ورودا تزين عالمه القصصى، فاستطاع جذب القارئ للقراءة، بل والاستمتاع، الذى هو أهم عناصر الإبداع.. فضلا عن تضافر الشكل والمضمون، فى تلك الكلمات اللاهثة، والجمل المتقطعة، والتى تعكس حالة القلق، والبحث دون الوصل لما يريد { أدور بالرأس دون خوف ، متخذا ً وضع الانتباه ، أبحث عن علم فوق الصاري فلا ألمس غير الهواء . أنتظر الهتاف المزعوم .. ولا يحين . في الأمام يتسمر ” نوباتجية ” الكتائب ، ويرتخون ، يتكاثر الكلام}.

لقد عاد طارق جادو بنا فى "يومية غياب) إلى معايشة تلك الفترة المريرة من حياتنا، كتمت فيها النكسة على صدورنا، فساعد فى التنفيس عنها، وجعلتنا نبحث عن المزيد من إبداعاته، التى ألبس فيها سرده ثوب العصر، على جسد قصة الأمس.

 

[1] - حمدى النورج – قصة "رد قلبى" لم تُنشر فى مجموعة بعد.

[2]   - أحمد أبو خنيجر- متاهة الذئب- مجموعة قصصية – دار الربى للنشر والتوزيع- 2021.

[3] -  فؤاد مرسى – فراغ أبيض بحجم كانئن مختف – سنابل للكتاب-  ط1  2021.

[4] - بيتر ماهر الصغيران. المرأة التى علقت الشمس- من مجموعة "وقت جيد للتحليق"- دارتويا للنشر 1916.

[5] - محمد إبراهيم طه – باب الدنيا – رواية –دار النسيم للنشر والتوزيع – ط 1 – 2017 .

[6] - الآية  110 من سورة المائدة.

[7] - يوسف إدريس .. العملية الكبرى – من مجموعة "النداهة"- 1970.